ألوغ(أولغ) بك[1]
( 790هـ-1388م / 853هـ/1449م)[2]
أرى أن الأقرب إلى أن يكون مجدد هذا القرن هو “ألوغ بك”، لأنه كان ملكا يمثِّل في ملكه عصر المأمون في العباسيين، ويحاول أن يجدد ما أبلاه المسلمون في هذا القرن من العلوم، ولهذا يكون أحق من غيره بأن يكون مجدد هذا القرن ، وتكون دراسة حياته فيه أولى من غيره[3].
من هو أولغ بك؟
هو ألوغ بك بن القآن معين الدين شاه رخ بن تيمور لنك . ولد سنة 790هـ = 1388م[4]،وقد شغف منذ صغره بالعلوم الفلسفية، ولاسيما العلوم الرياضية، فدرسها على من بقي مشتغلا بها من العلماء في دولتهم، مثل موسى باشا المعروف بقاضي زاده الرُّومي، فقرأ عليه ألوغ بك كتبا كثيرة حتى برع فيها، وصار العلماء يقصدونه لأخذها عنه، كالمولى علي القوشجي، وصفه صاحب كتاب – شذرات الذهب[5]– بأنه كان فريد دهره ووحيد عصره في العلوم العقلية والهيئة والهندسة، وطوسيِّ زمانه فيها،حنفي المذهب؛ لأنه كان فيها صاحب علم غزير ، وفضل جم، واطلاع كبير، وباع واسع، وهذا إلى مشاركة جيدة إلى الغاية في فقه الحنفية والألين- أصل الفقه وأصول العقائد- والمعاني والبيان والعربية والتاريخ وأيام الناس. سأل بعض حاشيته ما تقول الناس عني ، وألحَّ عليه، فقال: يقولون:إنك ما تحفظ القرآن الكريم. فدخل من وقته وحفظه في أقل من ستة أشهر حفظا متقنا.
إسهاماته في الفلك:
عندما ظهرت على “ألوغ بك” علامات النجابة والذكاء، ولاّه أبوه شاه رخ إمارة “تركستان”- وقيل ” سمرقند” – وهو في سن العشرين، جعل “ألوغ بك” من سمرقند مركزًا لإمارته، وظلت كذلك نحو 39 عامًا، كان فيها يقرِّب إليه العلماء ويجالسهم، ويكثر من برهم وتعظيمهم، وقد أراد أن ينشئ مرصدا عظيما بسمرقند، فجمع له علماء هذا الفن من كل الأقطار، وأغدق عليهم الأموال، وأجزل لهم الرواتب الكثيرة، حتى رحل إليه علماء الهيئة والهندسة من البلاد البعيدة، وهرع إليه كل صاحب فضيلة، وهو مع هذا يتلفت إلى من يسمع به من العلماء في الأقطار ، ويرسل في طلب من يسمع به، وكان الذي حمله على بناء هذا المرصد أنه أراد رصد الكواكب ، فرأى خللا في أرصاد المتقدمين ، فأراد أن يبني مرصدا أتقن من كل ما سبقه من الأرصاد، وأن يختار له من العلماء من يصل به إلى هذه الغاية من الإتقان، وقد ولى أمره في ابتداء بنائه غياث الدين جمشيد، وكان من مهرة العلم ، فلبث في ولايته قليلا ثم مات، فاختار لولايته موسى باشا المعروف بقاضي زاده الرومي، فلبث في ولايته إلى أن مات قبل إتمامه ؛ فاختار لولايته المولى المعروف بعلي القوشجي، فمكث واليا عليه حتى أتمه. وهذا المرصد هو المعروف بـــ “زيج كور كاني” (زيج جديد سلطاني) الزيج الجديد لألوغ بك، ويمتاز، بأنه أحسن الأزياج(الجداول الفلكية) وأقربها إلى الصحة[6].
إشادة العلماء به:
هذا وقد أشاد العلماء العرب وغيرهم، بجهوده القيمة؛ فأثنى عليه “حاجي خليفة”في كتابه “كشف الظنون”، وقال عنه المستشرق “سيديو”: “إن أعمال ألوغ بك الفلكية كانت تتمة ضرورية للأعمال الفلكية المأثورة عن العرب والمسلمين”.
إسهاماته في الرياضيات :
من هنا، برع ” ألوغ بك”[7] في علوم الرياضيات ولا سيما الهندسة وحساب المثلثات، وساعدت الجداول التي أنشأها في جيوب الزوايا وظلالها، على تقدم علم الفلك كثيرًا.
إسهاماته في مجال العمارة:
وبالإضافة إلى إسهاماته الفلكية، فقد كان معماريًّا ذا ذوق فني دفعه إلى العناية بالبناء؛ فشيد “الخانقاه” -وهي بيت ينزل فيه المتصوفة – التي تميزت بأعلى قبة في العالم آنذاك، و”مسجد ألوغ بك” المسمى بالمسجد “المقطَّع”؛ وسمي بذلك الاسم، لأنه مزخرف من الداخل بالخشب المقطَّع اللون على النمط الصيني، كما شيد مسجد “شاه زنده”، والقصر ذا الأربعين عمودًا المعقودة بأبراج أربعة شاهقة، والمزين بصف من عمد المرمر، وابتنى قاعة العرش أو “الكرسي خانه”، وشيد “جيني خانه”، ونقش حوائطه بالصور أحد الفنانين الصينيين البارعين الذين أعجب بهم “ألوغ بك”.
إسهاماته في علوم الشريعة والأدب:
وكان “ألوغ بك” شغوفًا بالشعر، محبًّا للشعراء، حيث اتخذ أحدهم شاعرًا له. كما عني بالتاريخ وألف كتابًا في تاريخ أبناء “جنكيز خان” الأربعة، بعنوان “أوغلولرأربع جنكيزي”، والظاهر أنه قد ضاع، وكما قال “لوبوفات”: “لو بقي لكان جليل القيمة”.
فضلاً عن ذلك كله، فقد كان “ألوغ بك” فقيهًا دينيًّا، انكبّ على دراسة القرآن الكريم وحفظه، وجوّده بالقراءات السبع. وقد تحققت أمنية أجداده؛ حيث أصبحت سمرقند مركزًا للحضارة الإسلامية في عهد “ألوغ بك”، تجمع الكثيرين من علماء الفلك والرياضيات والأدب، أمثال: “جمشيد”، و”قاضي زاده رومي”، والشاعر “عصمت البخاري” و”طاهر الأبيوردي”، و”رستم الخورياني”، وغيرهم[8].
وفاته:
وكان له ابن يسمى عبد اللطيف، فطلب منه أن يوليه هراة فلم يجبه إلى ولايتها، وولاه بلخ بدلها ، فذهب إليها وهو كاره لولايتها، وكان ألوغ بك مسيكا لايغدق على أمرائه وحاشيته، كما كان يفعل غيره من الملوك الذين لايبالون بمصلحة رعاياهم ولايتحرجون من إنفاق أموالهم على حاشيتهم، فكرهه الأمراء ورجال الحاشية، وكتبوا إلى ابنه عبد اللطيف يطلبون منه الخروج عليه، وكان في نفسه من هذا ما في نفوسهم، فانتهزها فرصة، وأعلن الخروج على أبيه ، فخرج أبوه لقتاله بجيش عظيم ، ولكن أمراءه خانوه حين التقى جيشه بجيش ابنه، فانضم كثير منهم إلى ابنه بمن معه من جيشه، وتركوا ألوغ بك في جماعة قليلة العدد ، فانهزم من ابنه في “شاهر خيه”. وولَّى على وجهه ، وتولى ابنه الملك من بعده. وتوفي “أولغ بك” أو ” ألوغ بك” سنة 853هـ/1449م.
فهذا الملك العظيم أولى بأن يكون مجدد هذا القرن(التاسع) ، بفضل ما فعله مما كان يجري في أوربا من النهضة العلمية، وكان جديرا بأن يسير بالمسلمين في طريق النهضة أيضا، لو وجد من يبني على أساسه بينهم كما وجدت أوربا، ولكنا تخلفنا بعده، ولم نجد من يتابع النهوض في هذه العلوم[9].
الهوامش:
[1] بعض الباحثين(الصفصافي أحمد القطوري) يسميه : ” أولغ بك” . انظر: موقع مجلة حراء، العدد 40/السنة التاسعة/(يناير-فبراير) 2014م. https://hiragate.com .
[2] هناك من ذكر أن تاريخ ميلاده: 796هـ-1393م . وليس هناك خلاف على تاريخ وفاته.
[3] د. عبد المتعال الصعيدي.المجددون في الإسلام. ص 254.
[4] انظر: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع لشمس الدين السّخاوي. دار الجيل- بيروت. 7/265.
[5] شذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن عماد (الإمام شهاب الدين أبي الفلاح) . تحقيق محمود الأرناؤوط. دار ابن كثير- بيروت. 1406/1985.
[6] المجددون في الإسلام . 254.
[7] يستعمل الباحث اسم ” أولغ” ، بدلا من ” ألوغ”.
[8] الصفصافي أحمد القطوري، مرجع سابق.
[9] المجددون في الإسلام. ص 256.