المحتويات |
---|
مقدمة المترجم |
مقدمة الباحث |
المسار التاريخي.. أوجه مختلفة لدور العسكر في السياسة العربية |
تأسيس الجمهوريات |
الجيش كضامن للوضع القائم |
انتفاضات 2011.. كيف عادت الجيوش إلى واجهة السياسة؟ |
لغز 2011 ودور الجيوش |
رعاية عسكرية لمرحلة انتقالية فوضوية |
هل كان الجيش هو اللاعب الحاسم في معظم الحالات؟ |
تجدد نزعة العسكرة بعد 2011 |
صعود النزعة العسكرية وضعف الأداء السياسي للعسكريين |
الجيوش وتجدد الحروب الأهلية وسط فوضى إقليمية |
مقدمة المترجم
لعبت الجيوش العربية أدورًا مهمة إبان ثورات الربيع العربي، حيث ساهمت إلى حد بعيد في تشكيل المشهد السياسي بصورته الراهنة. ورغم ذلك، فإن هذه الأدوار امتازت بالتباين من بلد لآخر، فمن هذه الجيوش مَن قمع التظاهرات بشكل مباشر، ومنها مَن التف على الثورات ثم وأدها، ومنها مَن تعرض للانقسام والاقتتال الداخلي.
لكن في جميع تلك السيناريوهات كانت الجيوش العربية جزءًا أساسيًا من المعادلة، ساهمت بقوة في تشكيل مشهد ما بعد الربيع العربي.
وفي هذا السياق، أصدرت دار النشر البريطانية “روتليدج”، في 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، كتابًا بعنوان: “دليل روتليدج لدول وأنظمة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا“، أشرف عليه أستاذ العلاقات الدولية وسياسات الشرق الأوسط في “جامعة سانت أندروز” الأسكتلندية، ريموند هينبوش، والمحاضرة في العلاقات الدولية في الجامعة نفسها، ياسمين غني، بمشاركة باحثين آخرين.
وقد آثرنا في “مركز المسار للدراسات الإنسانية”، انتقاء وترجمة فصل من الكتاب بعنوان “الجيوش في الدول العربية”، للباحث السياسي الفرنسي، فيليب دروز فنسنت؛ وذلك لأهميته.
ففي هذا الفصل، استعرض “فنسنت” دور الجيوش العربية في الساحة السياسية بدءًا من لحظة تأسيس الدول العربية، مرورًا بتعاون تلك الجيوش مع أنظمة استبدادية استمرت لعقود وكونت شبكات نفوذ من خارج القوات المسلحة، وصولًا إلى دور الجيوش إبان ثورات الربيع العربي ومآلاته.
ويرى الباحث الفرنسي أن الجيوش العربية اكتسبت نفوذًا واسعًا داخل الدول في لحظات تاريخية مفصلية، يرجع بها إلى لحظة التحرر من الاستعمار الخارجي. ففي تلك الحقبة أصبحت القاعدة هي وجود أنظمة تعتمد في وجودها على الجيوش بشكل أساسي.
لكن مع استقرار الحكم لبعض الحكام المستبدين، كحسني مبارك في مصر، ومعمر القذافي في ليبيا، أصبح الدور السياسي للجيوش أقل بروزًا، واتخذت الأنظمة عدة استراتيجيات لمنع انقلاب القوات المسلحة عليها.
لكن هذه الجيوش -في الوقت نفسه- كانت مستفيدة من وجود تلك الأنظمة، بسبب المصالح التي تربط الطرفين. كما أنها احتفظت باستقلالها في بعض المساحات عن الأنظمة، وامتلكت “فيتو” على بعض قراراتها.
وبالتالي، فإن انزواء دور الجيوش في خلفية المشهد آنذاك، لا يعني أن الأنظمة الاستبدادية نجحت في ترويضها، بقدر ما يعني أن الوضع كان نوعًا من المصلحة المشتركة بين الطرفين، حسب الباحث.
ومن هذا المنطلق، يفسر الكاتب العودة القوية للجيوش إلى صدارة المشهد بعد ثورات الربيع العربي. إذ أن هذا النفوذ الذي تمتعت به القوات المسلحة في الدول العربية -حتى إبان الأنظمة الاستبدادية التي قامت عليها ثورات الربيع العربي- ساعدها في التأثير بقوة على المشهد السياسي بعد عام 2011.
وبهذا يرى الكاتب أن الجيوش لم تعد في خلفية المشهد، كما كانت خلال العقود الأخيرة، بل هي الآن في الصدارة مثلما كان الأمر إبان تأسيس الجمهوريات العربية المعاصرة، لكن وضعها الآن أسوأ من الخمسينيات.
ويعتقد الباحث أن الجيوش باتت في وضع جديد، ليست مهيأة فيه على الإطلاق للنجاح في ممارسة السياسة، كما أنها لا تمتلك برنامجًا للنهضة بالبلدان التي تسيطر عليها. ولذلك، فهي تحاول استخدام علاقاتها الخارجية للاستمرار في السلطة، هذا بجانب خلق شعور عام بأن البلاد في حالة طوارئ، ما يستدعي قبضة قوية للدولة.
وفيما يلي ترجمة هذا الفصل من الكتاب، بتصرف يسير، بما يجعل المعنى أكثر وضوحًا للقارئ العربي، على أمل أن تشكل الترجمة إضافة للباحثين والمهتمين، في فهم أعمق للأدوار المختلفة التي اضطلعت بها الجيوش العربية، خلال العقود الماضية، وحتى الآن.
مقدمة الباحث
تعتمد الأنظمة الاستبدادية حول العالم على توسيع دائرة الاستقطاب وخداع الشعوب. كما أنها تعتمد بشكل أساسي على القمع، أو على الأقل التهديد باستخدامه، ومن هنا بالتحديد يكمن سبب علاقتها العضوية بالقوات المسلحة. والعالم العربي، الذي يتميز بثبات واستمرارية الأنظمة المستبدة، ليس استثناءً لذلك.
وبعد عام 2011، أدت الانتفاضات العربية إلى زيادة مفاجئة في اهتمام الباحثين بدور الجيوش في الساحة السياسية، حيث اهتم بذلك الطلاب الذين يدرسون الأنظمة العربية، وأولئك الذين يبحثون في قضايا التحول الديمقراطي.
كان هذا الاهتمام موجودًا أيضًا خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، غير أنه تناقص في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ففي تلك الفترة، ركز معظم الباحثين على موضوعات أخرى.
منها ما إذا كانت الأنظمة الحاكمة تتجه نحو الانفتاح على المستويين السياسي والاقتصادي، كما كان هناك تركيز خاص على ما إذا كان الإسلاميون ديمقراطيين أم لا، فضلًا عن دراسة قوى المعارضة في الدول العربية، والأشكال التي تتخذها في فعلها السياسي.
ورغم ذلك، كانت هناك دومًا تلك القناعة، وهي أن الجيوش تشكّل دعامة أساسية للأنظمة الاستبدادية في المنطقة العربية، تستخدمها الأنظمة كخيار أخير.
وفي الواقع، لعبت قرارات الضباط العرب دورًا حاسمًا في تحديد نتائج الحركات الاحتجاجية في بلدانهم إبان الربيع العربي. ومع ذلك، فإن مشاركة الجيوش في الإطاحة ببعض الأنظمة في 2011، لم تكن مجرد انقلابات عسكرية، بل كانت أيضًا استجابة لموجة ضخمة من النشاط المدني في الشوارع.
وقد لعب الجيش دورًا جوهريًا في تحديد مسارات الفترة الانتقالية، ولذلك نجد هذا التباين بين ما جرى في كل من مصر وتونس، على سبيل المثال.
وبعد عام 2011، ركز الباحثون على ما إذا كان الجيش -بوصفه طرفًا في المعادلة التي شكلت نتائج الانتفاضات- قد سُحب سحبًا إلى الشأن السياسي على غير رغبة منه؛ مدفوعًا في ذلك بـ”أخطاء” الحكام السابقين، أم أنه لاعب نشط يهدف إلى عرقلة عملية الانتقال الديمقراطي.
وفي الحقيقة، فإن هذه الأسئلة تكشف مدى ضآلة ما يُعرف عن الجيوش العربية. ولذا، أزعم -في هذا الفصل- أن دراسة المسار التاريخي، وبالتحديد من الخمسينيات إلى الستينيات، تلعب دورًا حاسمًا في فهم الأدوار السياسية للجيوش العربية. هذا مع تأكيدي أن دراسة نطاق وعمق هذه الأدوار تتسم بالتعقيد؛ لأنها تتخذ عدة أشكال متغيرة يجب أن تُفهم من خلالها.
وبشكل أدق، أرى هنا أن دور الجيوش بعد السبعينيات قد تغير، مع صعود نظم استبدادية قوية، استمرت في السلطة لعقود، حيث كان دورها أقل بروزًا بشكل أو بآخر. غير أن انتفاضات 2011 أدخلت بعض التغييرات الوليدة.
فبعد تلك الانتفاضات، شهدنا عودة الجيوش العربية مرة أخرى لتلعب بعض الأدوار السياسية المحورية، حيث أُلقى بها في المعترك السياسي في أوقات عصيبة تتسم بالاضطراب، الأمر الذي عرّضها لضغوطات كبيرة.
والمحصلة النهائية هي وجود نزعة عسكرية غير مستقرة ومعقدة في العالم العربي.
المسار التاريخي.. أوجه مختلفة لدور العسكر في السياسة العربية
تأسيس الجمهوريات
إن أي محاولة لفهم دور الجيوش في العالم العربي يجب أن تعود إلى عدة لحظات تاريخية مفصلية. فقد كانت الجيوش العربية في قلب عملية بناء الدولة والأمة بعد الاستقلال وانتهاء الحقبة الاستعمارية، مع انتشار استيلاء العسكر على الحكومات في الدول العربية، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
فقد أنشأت الجيوش أنظمة جمهورية جديدة في كل من مصر عام 1952، وليبيا عام 1969، و”شمال” اليمن عام 1962، والعراق عام 1958، وسوريا عام 1963.
وفي هذه السنوات التأسيسية، اكتسب “الرجال الذين يمتطون صهوات الجياد” (يقصد العسكريين) أدوارًا سياسية بارزة.
وبعد إنهاء الاستعمار، كانت بعض البلدان العربية في يد قادة مدنيين، لكنهم لم يحظوا بشعبية كبيرة، حيث عملوا في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة على المستوى الداخلي، وبيئة أمنية غير آمنة على المستوى الخارجي، وهنا أقصد في المقام الأول، الصراع العربي-الإسرائيلي.
هذه الصورة مهدت الطريق لصعود الضباط إلى الساحة السياسية من خلال الانقلابات. وعلى هذا، جاء الضباط -الذين سموا أنفسهم بـ”الضباط الأحرار”- في كل من مصر، وسوريا، وليبيا، والعراق، واليمن، إلى السلطة بأجندة راديكالية، تهدف للتحول السياسي والاقتصادي.
كان هؤلاء الضباط متأثرين بالأفكار التنموية الاشتراكية، وذلك في سياق من القومية العربية (الناصرية والبعثية)، ومعاداة الإمبريالية.
في تلك الفترة، كانت القوات المسلحة محركًا رئيسيًا للتغيير، الذي اعتبرته ضروريًا في سياق أداء دورها الوظيفي، كمدافع عن الدولة. وأصبحت القاعدة هي وجود أنظمة تعتمد في وجودها على الجيوش، مثل نظام جمال عبد الناصر في مصر، ونظام حزب البعث في سوريا والعراق، والنظام الجزائري بعد عام 1962، ونظام معمر القذافي في ليبيا بعد 1969.
حتى إن بعض الأنظمة الملكية، وتحديدًا تلك التي تختلف تركيبتها الجينية عن الجمهوريات “الثورية”، مثل المغرب والأردن، اعتمدت بشكل كبير على الجيوش. بل إن بعض الملوك -مثل الملك حسين، ثم عبد الله الثاني في الأردن- كانت لديهم خلفية عسكرية قوية.
بالمقابل، قلصت دول الخليج من حجم جيوشها أو أبقتها كما هي محدودة الحجم، على الرغم من التهديدات الأمنية التي تحدق بها من دول مثل إيران والعراق؛ وذلك بهدف التخفيف من مخاطر تسييس السلك العسكري.
وكان الوجه الآخر المباشر لمثل هذا الخيار العقلاني هو اعتمادهم على الحماية العسكرية الأمريكية، سواء عبر إقامة قواعد عسكرية أو على الأقل وجود معدات عسكرية متمركزة بشكل استباقي في البلاد. هذا بالإضافة إلى تجنيد المرتزقة، أو الاستعانة بمصادر خارجية لتوفير الأمن، كالوحدات الدورية التي تأتي من دول عربية أخرى، كما كان في الأردن.
وفي جميع الملكيات، كان صعود الضباط الأمراء -أي أفراد الأُسر المالكة ذوي الخلفية العسكرية- وسيلة لربط الدائرة العسكرية الصغيرة والفاعلة بالسلالة الملكية.
والجدير بالذكر أن الأدبيات العامة التي تناولت تلك الفترة ركزت على دراسة التنظيمات العسكرية والأنظمة التي أنشأتها والانقلابات التي جرت في تلك الحقبة. كما أنها تقدم مفاتيح رئيسية لفهم دور الجيوش العربية في الساحة السياسية.
وترتكز تلك الأدبيات على ربط سلوك الجيوش -ولا سيما التدخل في الشأن السياسي- بسماته المؤسسية مثل تفوقه التنظيمي الحديث، وروافعه المجتمعية كالعلويين والسنة في سوريا، والسنة في العراق.
الجيش كضامن للوضع القائم
ومع ذلك، فإن الأدبيات القديمة حول دور الجيوش في السياسة، ليست كافية لفهم البعد العسكري في السياسة العربية بشكل كامل.
فإذا ما نظرنا سنجد أن العالم العربي يختلف كثيرًا عن مناطق أخرى حول العالم، كأمريكا اللاتينية، المنطقة الفعلية التي تلعب فيها الجيوش أدوارًا سياسة.
إذ أن جيوش أمريكا اللاتينية تتبع الطريقة الكلاسيكية في الانقلابات، إذ تستولي على السلطة، ثم تخرج من السياسة إلى الثكنات. وهكذا، تناوبت كل من الانقلابات في أمريكا اللاتينية مع الحكومات المنتخبة، مما أتاح إرثًا من استمرار الحكم المدني، أو المقاومة السياسية على الأقل، ثم العودة للظهور. ولم تتحول الحكومات العسكرية في أمريكا اللاتينية إلى أنظمة استبدادية معقدة، ربما باستثناء شيلي وفنزويلا.
وفي المقابل، فإن الأنظمة في العالم العربي مختلفة تمامًا، إذ أن الحكام العسكريين لم يؤسسوا أنظمة عسكرية كاملة، لكنهم كانوا أكثر ميلًا إلى بناء أنظمة أمنية ومخابراتية، وهي أنظمة قائمة على أساس السيطرة الحصرية للسلطة التنفيذية على أجهزة الدولة.
فمن ناحية، كان جهاز الشرطة هو الركيزة الأساسية لتسيير شؤون الحكم، مع انتشار رجال الشرطة في الأماكن العامة، وإشراف الأجهزة الأمنية على مجموعة واسعة من المجالات -التي تقع ضمن الاختصاص الإداري في الأنظمة الديمقراطية- هذا فضلًا عن دور البوليس السياسي في مطاردة المعارضين.
وفي هذا السياق، تظل القوات المسلحة في خلفية المشهد، كدعامة قادرة على تهديد الخصوم، يفترض أن تتحرك لإنقاذ النظام في حالة الضرورة.
وقد لعب الجيش مثل هذا الدور في مصر عام 1986، عندما قام الأمن المركزي بأعمال شغب، وفي 1996-1997 لدعم القوات شبه العسكرية ضد الاحتجاجات والعمليات التي شنها الجماعة الإسلامية آنذاك. كما حدث ذلك أيضًا في سوريا أعوام 1974-1982، خلال الحرب الأهلية بين نظام حافظ الأسد وجماعة الإخوان المسلمين، وفي الأردن بعد أعمال الشغب عام 1996 في “الكرك”، وعام 1998 في “معان”.
علاوة على ذلك، لعب الجيش السعودي الدور ذاته في مناسبات عدة؛ لدعم الحرس الوطني شبه العسكري ضد أعمال الشغب في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط، والتي يقطنها الشيعة.
وفي تلك الحالات، تحوّلت الجيوش العربية من مُحرِّك للتغيير، إلى ضامن للوضع القائم، الذي احتلت فيه مكانة متميزة.
ومن ناحية أخرى، اتخذت الأنظمة مسارها الخاص بعيدًا عن الجيش، حيث بُنيت على أساس شبكات أُسَرية، أي “عصبية جديدة”، إذا ما أردنا تحديث المصطلح الذي صكه ابن خلدون ليناسب عصر الدول القومية.
ويرتبط بهذه الشبكات الأُسرية كبار البيروقراطيين، والكوادر الشرطية، والرفاق الحزبيين، والنخب السياسية، والرأسماليين المقربين، والإعلاميين، والنخب الاجتماعية كالدُعاة، وكبار ضباط القوات المسلحة. وكل فئة من هذه الفئات لها مكانتها عند الحاكم والدائرة المقربة منه.
وقد أظهرت هذه الشبكات قدرتها على توجيه سياسات الدولة والتلاعب بالمجتمعات، من خلال انفتاح سياسي جزئي، فكانت تَعقد انتخابات، لكن دون تمكين الشعب من الاختيار بشكل حقيقي، هذا فضلًا عن انفتاحها الاقتصادي، الذي طبقته بشكل انتقائي.
وحدث اتجاه مماثل في الملكيات النفطية، التي تتمتع بتدفقات مالية ضخمة، تسيطر عليها الأسر الحاكمة، وتوزعها من خلال أجهزتها الحكومية المتوسعة بشكل مفرط.
وهكذا، صمدت الأنظمة العربية في السلطة لعقود، على الرغم من افتقارها للشرعية ومصادر الدعم الموثوقة. ولكن ينبغي ألا نخلط هنا بين الاستمرارية والاستقرار، فما نقصده هنا هو الاستمرارية فقط.
ونتيجة لذلك، تلاشى دور الجيش في الخلفية، واختفى دوره من المشهد، وكأن الاستبداد قد “روضه”، في نوع من السيطرة السلطوية الفوقية على القوات المسلحة.
وفي هذا السياق، استعرضت معظم التحليلات استراتيجيات طورتها الأنظمة العربية لـ”منع الانقلاب” عليها، مؤكدة أن هذه الاستراتيجيات كانت سببًا في استمرارية تلك الأنظمة.
وتضمنت تلك الاستراتيجيات مراقبة عمليات التجنيد والترقيات عن كثب، حيث جعلتها الأنظمة إما لصالح موالين لها، أو لجماعات من قواعدها الاجتماعية “الطبيعية”، كالعلويين في سوريا بالنسبة لنظام الأسد، والسنة في العراق في عهد صدام حسين، والبدو وسكان الشرق الريفيين في الأردن، والنجديين في السعودية، والشماليين في اليمن، والقادمين من سرت وبني وليد في ليبيا.
وفي بعض الحالات، تشكلت قوات شبه عسكرية قوية، موازنة للجيش النظامي، كالحرس الوطني في السعودية، والحرس الجمهوري في العراق واليمن وسوريا وبدرجة أقل في مصر، وفي ليبيا كانت هناك الألوية الأمنية. وتولت المخابرات الحربية أدوارًا بارزة في الرقابة الداخلية على السلك العسكري.
وهكذا تغيرت الجيوش العربية كثيرًا بعد السبعينيات، مع صعود أنظمة استبدادية مستدامة، حيث أصبحت الجيوش وكـأنها قطاعات مغلقة وصناديق سوداء، وخفُت بريقها في الشأن السياسي العام. وكانت هذه سمة جديدة على الجيوش العربية نستطيع أن ندلل عليها بتضاؤل عدد الانقلابات في تلك الحقبة.
ولا ينبغي فهم المسألة على أن ما حدث هو مجرد سيطرة من الأنظمة الاستبدادية على الجيوش، لأن تلك الجيوش نفسها تكيفت أيضًا مع الوضع الاستبدادي حينها، واستفادت منه. فقد كان الجيش في الواقع جزءًا لا يتجزأ من النظام السياسي، أكثر من كونه جهازًا روضه النظام المستبد.
كما كان الجيش جزءًا حيويًا من بيروقراطية الدولة، وتواجد في العديد من الأبعاد والتقاطعات داخل الدولة، مع النظام نفسه، والمجتمع المدني، والشأن الاقتصادي، والنسيج الثقافي. وقد تباينت أهمية هذه الأبعاد من حالة لأخرى، حيث كان دور الجيش -في بعضها- يخضع لإدارة مباشرة من النظام، والبعض الآخر كان يتمتع فيه الجيش باستقلالية.
وفي معظم الحالات، أعيد تحديث الجيش لإضفاء الطابع الاحترافي عليه، باعتباره جزءًا من الجهاز البيروقراطي الدولة، وذلك في تناقض حاد مع فترة الستينيات، التي كان التسييس فيها سائدًا في السلك العسكري.
وهكذا، أصبحت الجيوش المصرية والسورية واليمنية عبارة عن فيالق ضخمة مبنية على الحس المهني، والبيروقراطية المتضخمة، مع وجود ضباط يتمتعون بامتيازات استثنائية، لدرجة أن بعضهم تورط في الفساد.
وكان أحد الاستثناءات هو الجيش التونسي الذي -على الرغم من تحديثه- فقد ظل صغير الحجم، وضعيف التمويل. كما كانت ليبيا أكثر استثناءً، حيث لم ينظم القذافي الجيش بشكل ممنهج. وذلك يرجع إلى استراتيجية القذافي نفسه الهادفة لضمان تفوقه الحصري، بعد أن وصل إلى السلطة من خلال الجيش، وعانى من محاولات انقلابية كان منشؤها السلك العسكري.
وعلى الرغم من إعادة إضفاء الطابع الاحترافي على الجيوش، إلا أنها حافظت على علاقة وثيقة بالدولة، ليس فقط كمؤسسة حكومية تحتكر استخدام القوة الخشنة، ولكن أيضًا كتجسيد لبعض الأساطير عن تأسيس الدولة.
ففي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تباهى الضباط بكونهم روادًا للتحديث، وبأنهم يتمتعون برؤية قومية وحس من الانضباط والتنظيم، وذلك في انسجام مع وجهات نظر بعض منظري التحديث مثل صامويل هنتنغتون (1968).
ورغم ثبوت أن هذه الفكرة ما هي إلا وهم، إلا أن بعض الأفكار ظلت سائدة بين المجتمعات والضباط على حد سواء. بحيث كانوا ينظرون إلى الجيش باعتباره المؤسس للأنظمة السياسية الجديدة التي يعيشون في ظلها، أو على الأقل باعتباره جهة تضطلع بدور له خصوصيته في الحفاظ على وحدة الدولة وتطويرها. وعلى الرغم من اختلاف جيشي مصر وتونس، إلا أنهما اشتركا في النظرة ذاتها.
وينبغي هنا ألا نشبّه هذا بدور الجيش في بعض البلدان، التي تعمل فيها المؤسسة العسكرية كوصي على الأيديولوجية الرسمية للدولة، كما كان في حالة الكمالية للجيش التركي، قبل صعود حزب العدالة والتنمية عام 2002. ولكن التشابه بين الجيش التركي والجيوش العربية هنا يكمن في شعورهم بسيادتهم على دولهم.
وفي تلك المرحلة، كان الجيش -وخاصة في رتبه العليا- مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالأنظمة الحاكمة، واختلف شكل هذه العلاقة من حالة لأخرى.
فمثًلا هناك النموذج المصري، الذي عمل فيه عدد قليل من كبار الضباط (المجلس الأعلى للقوات المسلحة ومحمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع الدائم في عهد الرئيس محمد حسني مبارك) كوسطاء أو “ممثلين” عن السلك العسكري لدى النظام.
أما في سوريا، فقد توغل نظام الأسد بعمق في القوات المسلحة، من خلال ضخ ممنهج للضباط العلويين والأقليات في المناصب الرئيسية.
كذلك استند التجنيد بشكل عام -في تلك المرحلة- على الأداء المهني وليس على السياسة، وكانت المحسوبية في هذا السياق محدودة كما في مصر. وفي بعض البلدان، كان الضباط مرتبطين بالنظام برباط الدم والطائفة والعرق، كما في سوريا والعراق واليمن.
ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في مثل هذه التوصيفات التي تؤكد على الكفاءة فقط كمعيار في التجنيد. ففي مصر، استندت الترقيات فيما فوق الرتب المتوسطة، على الولاء الصارم، والخمول السياسي التام، مع وضع الضباط المتنافسين في نوع من “لعبة الانتظار” لتسلق الرتب، والوصول إلى المناصب العالية والمجزية.
ومن جانبه، أظهر العراق في عهد صدام حسين نموذجًا آخر، حيث إن حزب البعث العراقي -على عكس السوري- روض الجيش عبر نشر مفوضين سياسيين في كل مكان. فقد كان صدام حسين ناشطًا مدنيًا في الأساس، رغم أنه صعد إلى السلطة مع اللواء حسن البكر، الرئيس الرابع للعراق.
وكان الاستثناء الوحيد هو الجيش التونسي الصغير، الذي تجنب السياسة، مدفوعًا بإحساس قوي بمهنيته. واستمر ذلك حتى في عهد “بن علي” نفسه، الذي كان ضابطًا في الجيش، لكنه سرعان ما تحول إلى رجل أمن واستخبارات. فقد بدأ بن علي مسيرته كضابط في المدفعية، لكنه تحول سريعًا إلى مناصب أمنية، كرئاسة المخابرات العسكرية، ثم ترأس بعد ذلك الجهاز القمعي في وزارة الداخلية.
وكانت الجيوش على وجه التحديد مرتبطة بالمجتمع، خصوصًا تلك التي قامت على التجنيد الإجباري. علاوة على ذلك، كان ضباط الصف في معظم الجيوش العربية أقرب إلى الرتب الدنيا، وبعيدين عن عالم الامتيازات الذي يعيش فيه أصحاب الرتب العليا.
لكن الضباط نأوا بأنفسهم عن المجتمع العادي، حيث تغيرت طريقة الوصول إلى الرتب العسكرية كثيرًا، مع تحول السلك العسكري إلى عالم مغلق. فلو كان على ناصر أو عامر أو السادات أو مبارك أو طنطاوي دخول الأكاديمية العسكرية في العقد الأول من القرن الحالي، لوجدوا أن الأمر بات أصعب مما كان عليه عندما دخلوها في زمنهم.
وقد جمعت الجيوش ثروة من موارد دولهم، على الرغم من انتهاء الحروب العربية-الإسرائيلية (سواء بتوقيع اتفاقات سلام أم لا). كما كونت شبكات للثروة والامتيازات والنفوذ.
وفي الحالة المصرية، كان التعدي على موارد الدولة بمثابة إمبراطورية اقتصادية ضخمة، عبر الشركات العسكرية التي تغامر بدخول الأسواق المدنية. علاوة على ذلك، نجد الضباط السابقين، الذين يتقاعدون في سن صغيرة في أوقات السلم، يعملون بشكل مكثف في الاقتصاد والجهاز البيروقراطي للدولة، بتسهيلات من الجيش المصري.
وفي سوريا، كانت الصورة عبارة عن مزيج من التحالفات المصلحية بين كبار الضباط والرأسماليين المقربين من النظام. ومع ذلك، ظل الجيش في سوريا يمثل قناة نسبية للحراك الاجتماعي، لا سيما في الريف. فقد كان الجيش السوري جزءًا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والثقافي العام للبلاد، كما أنه كان قادرًا -في بعض الحالات- على الاحتفاظ ببعض الشرعية الخاصة به، مع عدم استعداء النظام.
وعززت الجيوش العربية مكانتها الرمزية، كمدافع عن قومية البلاد، وكمؤسسات تسمو على التحزبات السياسية، وتخلو من النوازع الطائفية، أو كـ”مصانع رجال”، على حد التعبير المصري.
وقد استتبع ذلك اعتقاد الضباط في أنفسهم بأنهم حماة سيادة البلاد ضد أعداء الخارج وتهديدات الداخل على حد سواء.
هذه الأدوار لم تكن تتُرجَم تلقائيًا على أنها أدوار سياسية في ذلك الوقت. وسمح هذا الموقف -متعدد الأبعاد- للجيوش العربية بالبقاء خلف الكواليس في حالة خمول سياسي لعقود من الزمن في ظل الأنظمة الاستبدادية الدائمة، بينما كانت في الوقت نفسه ركيزة محورية وطرفًا أساسيًا، تربطه مصالح بالنظام.
لكن أولئك الذين يركزون على الانقلابات بالمعنى الكلاسيكي قد فاتتهم مجموعة كاملة من الأساليب أو القنوات التي يمكن للجيش من خلالها التأثير على السلطة التنفيذية.
وشمل ذلك العديد من المساحات التي كان الجيش يتحرك فيها باستقلالية، ونطاقات عدة تقع تحت سيطرته، وامتلاكه لـ”فيتو” في بعض عمليات صنع القرار، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي.
وبهذا نرى أن الجيوش العربية وإن لم يكن لها دور سياسي بارز خلال الأنظمة التي قامت عليها انتفاضات الربيع العربي، إلا أنها كانت تتمتع بنفوذ جوهري واستقلالية في بعض المساحات. ووجهة النظر هذه هي التي ستوضح لنا كيف انتقلت الجيوش العربية بسرعة من كونها خاملة سياسية وخلف الكواليس، إلى لعبها لأدوار فاعلة وحاسمة في عام 2011.
انتفاضات 2011.. كيف عادت الجيوش إلى واجهة السياسة؟
كان المحرك الملحوظ والحاسم في عملية التغيير عام 2011، هو التعبئة المدنية المفاجئة والواسعة النطاق، في الميادين العامة. فقد تمركزت التعبئة الجماهيرية في أماكن لها رمزيتها وحساسيتها القصوى بالنسبة للأنظمة الاستبدادية، التي تحرص على جعل المجتمعات تتصرف “كما لو” أنها تتقبل هذه الأنظمة وتعتبر وجودها طبيعيًا، ولو ظاهريًا.
وعلى الرغم من أن انهيار الأنظمة كان نتيجة للضغط الذي مارسته الحشود المدنية الضخمة، إلا أن دور الجيش وتدخله المؤسسي كان مهمًا أيضًا، مع عودته لتنفيذ انقلابات في بعض البلدان.
وهذا المزيج المعقد من سياسة الشارع وسياسات العسكر كان في صميم انتفاضات 2011.
لغز 2011 ودور الجيوش
يستعرض معظم الباحثين دور الجيوش إبان انتفاضات عام 2011، بأن قادة الجيش كانوا عند مفترق طرق، وعليهم اتخاذ قرار، إما بـ”إطلاق النار أو عدم إطلاق النار” على المتظاهرين. وكان الجيش في تلك الحالة لاعبًا، يتميز بأن له تسلسلًا هرميًا قويًا، ومن ثم، فإن قرار الجيش كان حاسمًا في تحديد مسار الأحداث.
وفي بعض الحالات، قرر قادة الجيش الامتناع عن استخدام العنف وقوته الثقيلة في سحق الاحتجاجات، ثم سهلوا رحيل بعض الأنظمة، كما في تونس ومصر. وفي حالات أخرى، دخل الجيش في دورة من العنف ضد الاحتجاجات قصيرة ومكثفة كما في البحرين، أو انهار داخليًا كما في ليبيا، أو انقسم إلى نصفين كما في اليمن، أو انجر إلى دوامة القمع كما في سوريا.
هؤلاء الباحثون الذين ينحون هذا المنحى من التفسير، يدعمون وجهات نظرهم بأمثلة إما بفترات تاريخية سابقة، أو ببلدان أخرى كان على جيوشها أن تأخذ قرارًا في هذا المفترق، إما بالانخراط في قمع المحتجين أو التملص منه.
لكن هذه الأمثلة تنكر أهمية وخصوصية احتجاجات 2011، فهي تصنفها في فئة أوسع، تحت عنوان: “القمع ضد المدنيين”، وتفشل في تقدير مدى اختلاف الحركات الجماهيرية في عام 2011 عن غيرها من الأحداث التي حدثت في البلدان ذاتها، كأعمال الشغب بسبب أزمة الغذاء في السبعينيات والثمانينيات في مصر، وبعض التمردات التي قادها جهاديون، أو حتى اندلاع الحرب الأهلية الأولى في سوريا (1976-1982).
لكن الذي تتميز به انتفاضات 2011 هو أن التعبئة الاجتماعية المدنية الضخمة أحدثت فارقًا ضخمًا، باعتبارها عابرة للطبقات والقطاعات، وتفتقر إلى القيادة المتماسكة، وغير عنيفة إلى حد كبير، أو على الأقل لم تستخدم درجة العنف ذاتها التي تستخدمها الأنظمة.
لقد استهدفت تلك الجموع -بشكل مباشر- الأنظمة وتماسكها، وواجهت ردود فعل شديدة العنف وغير متكافئة من قِبل قوات الأمن، التي استخدمت القناصة والذخيرة الحية والأسلحة الحربية ضد المحتجين.
ومارست هذه الانتفاضات ضغطًا شديدًا على الأنظمة وشبكات المصالح المرتبطة بها، بحيث أصبحت جميعها مشوشة وخارج حدود عملها الطبيعي. وبمجرد أن أثبتت الشرطة، والقوات شبه العسكرية، أو قوات مكافحة الشغب، أنها غير قادرة على احتواء الاحتجاجات واختفت من الشوارع بعد محاولات شرسة لقمع الاحتجاجات، تردد صدى هذا الضغط على الجيش.
وقدمت الجيوش، خلال الانتفاضات العربية، تباينًا في ردود فعلها، لكنها كانت مصدر إرباك في تلك اللحظة للأنظمة، التي طبقت جميعها في الماضي استراتيجيات لمنع الانقلابات عليها.
وبالحديث عن قرار الجيش -إن كان ثمة قرار- فإنه قد يوصف بشكل أكثر دقة على أنه عملية معقدة، سُحبت بموجبها القوات المسلحة إلى السياسة الجماهيرية.
والجدير بالذكر أنه لا تزال هناك خلافات حول ما إذا كان “مبارك” أو “بن علي” قد أعطيا أوامر صريحة للجيش بإطلاق النار على الحشود، هذا بخلاف نشر الوحدات العسكرية التي كانت مؤشرًا -في حد ذاته- على الرغبة في القمع، أو على الأقل تخويف الجماهير.
وهنا ينبغي أن ننوه على أن الأعداد الضخمة التي خرجت للشوارع خلقت نوعًا من التقارب بين الجيش والمطالبين بتغيير النظام، خاصة في ظل حالات الجيوش القائمة على التجنيد الإجباري. حيث كان القمع يعني توجيه البنادق إلى أبناء البلد وتشويه سمعة الجيش، من أجل حكام غير شرعيين، في وقت تنتشر فيه على نطاق واسع، الهواتف الذكية، التي يمكنها توثيق قمع الجيش للمتظاهرين حال حدوثه.
ويمكن القول إن أبعاد دور العسكريين في السياسة العربية التي لخصناها أعلاه، قد لعبت دورًا حاسمًا في تفسير ردود الفعل المتباينة للجيوش العربية من الربيع العربي. ولهذا لا نتفق مع مَن يعتبرون أن الأمر كان مجرد قرار عسكري بقمع المظاهرات من عدمه.
ففي خضم الضغط الجماهيري في تلك الفترة، جاءت ردود فعل الجيوش العربية مختلفة، اعتمادًا على عدة عوامل، تتلخص في: قدرة كل جيش على التماسك الداخلي، ومدى بعده أو قربه من النظام الحاكم، ومصالحه الاقتصادية المرتبطة بالنظام بأكمله، ومدى شعور كل جيش بسيادته على الدولة.
رعاية عسكرية لمرحلة انتقالية فوضوية
- مدى التماسك الداخلي للجيوش
كان الهدف الرئيسي للجيوش العربية خلال انتفاضات الربيع العربي هو البقاء واقفة على قدميها وسط انهيار المؤسسات الاستبدادية الأخرى، تحت ضغط الاحتجاجات المدنية العارمة.
إن السرديات التي تركز على الاختلافات في ردود الفعل بين الرتب العليا والدنيا في الجيوش العربية، قد تساهم في فهم الواقع، لكن يمكن القول إن الجيوش العربية عندما فقدت تماسكها -في كل من ليبيا، واليمن ، وسوريا إلى حد ما- فإنها لم تنقسم وفقًا للاختلافات الطبقية أو الهرمية.
ففي مصر، بذل كبار الضباط في المجلس العسكري جهدًا كبيرًا للحفاظ على وحدة الجيش ضد كل الصعاب والضغوطات، مستخدمًا في ذلك الترغيب كتوزيع الحوافز والمكافآت، والترهيب كوسائل التأديب.
وكانت قيادة الجيش حينها على اتصال دائم بالرتب الوسطى. ولذا، كان هناك عدد قليل من الضباط الذين أعلنوا دعمهم للاحتجاجات ضد مبارك. وفي الوقت نفسه، ظل الجيش المصري مترددًا في موقفه، وسمح لمبارك -على ما يبدو- ببعض الوقت لمحاولة تنفيذ بعض الإصلاحات، قبل الإطاحة به.
أما في سوريا، فمهما كانت استراتيجيات منع الانقلابات التي طبقها حافظ الأسد والضباط العلويين المقربين منه، فلا يمكن اعتبارها من المسلمات في عهد ابنه بشار. ففي عام 2011، فقد النظام السيطرة إلى حد بعيد، ولم يتمكن من استخدام جيشه في القمع باستثناء الوحدات اللصيقة ببشار، كالفرقة الرابعة، وفرق القوات الخاصة.
والجدير بالذكر أن النظام السوري عامل جيشه بوحشية -تمامًا كما عامل المتظاهرين المدنيين السلميين- وذلك لاستعادة السيطرة الكاملة وزرع الخوف داخل السلك العسكري.
أما الاستخدام المكثف للجيش السوري في القمع، ثم في الحرب بعد ذلك، فقد جاء بعد “إضفاء الطابع الأمني” عليه، بحيث يبدو كجهاز أمني داخلي.
وفي المقابل، شكل المنشقون العمود الفقري والنواة الأولى للتمرد المسلح (الجيش السوري الحر). وكان عددهم كبيرًا، وانحدر معظمهم من الريف السني، خاصة أولئك الذين انشقوا بين عامي 2011 و2012.
وفي اليمن، انقسم الجيش إلى نصفين. فمن ناحية، انضم اللواء علي محسن الأحمر وبعض القادة من الشمال إلى جانب المحتجين. هذا بالإضافة إلى عائلة الأحمر، التي كانت منخرطة في الجيش والأمن، وجميعهم كانوا من أركان نظام صالح.
ومن ناحية أخرى، بقيت الوحدات التي يسيطر عليها مباشرة أفراد من عائلة الرئيس صالح موالية له.
هذا الانقسام أضعف موقف النظام اليمني، وقلص قدرته على استخدام القوة الخشنة، وأطلق حالة من الجمود، استمرت إلى أن قدّم “مجلس التعاون الخليجي” خطته التي مثلت مخرجًا من الأزمة. فحينها، لم يعد صالح قادرًا على المماطلة.
وفي المقابل، نجد ليبيا، التي تشظى فيها الجيش، مع بقاء بعض الوحدات على ولائها للقذافي خاصة في غرب وجنوب البلاد، وانشقاق الوحدات الشرقية في بنغازي بشكل جماعي خلف وزير الداخلية عبد الفتاح يونس، في سياق حرب أهلية متصاعدة، أججها التدخل الخارجي.
- مدى قرب الجيوش من الأنظمة الحاكمة
وهناك عامل آخر ساهم في تشكيل المشهد في 2011 وهو مدى قرب أو بُعد الجيوش من الأنظمة. فقد جاء سلوك الجيوش العربية تجاه الربيع العربي متغيرًا، اعتمادًا على ما إذا ما كانت تتمتع ببعض الاستقلالية عن النظام، أو ما إذا كانت مهمَلة كما في تونس وليبيا، أو ما إذا كانت تتمتع بإدارة مؤسسية شبه ذاتية، كما في مصر.
وفي المقابل، مثلت سوريا مثالًا مضادًا، فقد اخترقت الأجهزة الأمنية الجيش، في ظل علاقة بين الجيش وجهاز الشرطة تتسم بالتشعب والتعقيد. إذ تستمد الأجهزة الأمنية (المخابرات) مواردها من الجيش، بشكل أكبر بكثير مما يوجد في الدول العربية الأخرى. كما يستخدم النظام السوري موارد الجيش لدعم وتجهيز العديد من القوات الأمنية، والحرس الرئاسي، والقوات الخاصة.
- مدى تشابك مصالح الجيوش مع الأنظمة
وعلى نفس القدر من الأهمية في تفسير سلوك الجيوش في تلك الفترة، يأتي مستوى المصالح التي تراكمت لدى كل جيش في ظل عقود من الحكم الاستبدادي.
فعلى سبيل المثال، تميزت مصر بما يسمى “اقتصاد الجيش”، إلى جانب اليمن، التي كانت فيها المصالح التي تجمع الجيش بالنظام، أقل تنظيمًا وأكثر انتشارًا في الوقت نفسه.
فمباشرة، وبعد أن سهلت سقوط مبارك، أشارت القوات المسلحة المصرية -التي تتميز بضخامة حجمها- إلى رغبتها القوية في “حماية امتيازاتها”، تلك العبارة التي تُفهم بمعناها الفضفاض للغاية. وبنبرة تهديدية، صرح جنرالات مصر أن “الجيش خط أحمر”.
وحارب الجيش المصري بقوة لحماية مصالحه وامتيازاته واستقلاليته، مع محاولة جادة لترسيخ ذلك في النصوص الدستورية. وقد حاول المجلس العسكري تنفيذ هذا الهدف في عدة محطات، بدءًا بما يسمى بـ”المبادئ فوق الدستورية”، ومرورًا بتوجيه عملية كتابة الدستور، إلى الإشراف على الجمعية التأسيسية في 2011 و2012، وليس انتهاءًا بالصوت القوي للممثلين العسكريين في النقاشات الدستورية في 2012-2014.
أما في اليمن، فقد أدى الانقسام بين القادة العسكريين للجيش إلى نزاعات محدودة، حيث كان لدى قادة الجانبين -رغم اختلافهما- اتفاق ضمني للحفاظ على الجيش. وبدروهم، حمى كبار القادة اليمنيين مجموعة كاملة من المصالح المرتبطة بالجيش، كشبكات المحسوبية، وصفقات الأراضي، وحصة الجيش من الواردات.
وعلى الجانب الآخر، كانت تونس وليبيا أمثلة معاكسة، مع وجود جيوش صغيرة، لديها فقر في الموارد، وقليل من المصالح التجارية.
- نظرة الجيش لنفسه وللدولة
وأخيرًا، كان مدى شعور الجيش بسيادته على الدولة عاملًا مهمًا في تحديد سلوكه في 2011. ويمثل هذا الشعور نوعًا من الشرعية التي يستقل بها الجيش بعيدًا عن باقي مؤسسات الدولة. ولم يختفِ هذا الشعور بتاتًا، لكنه كان كامنًا خلال عقود الاستبداد التي سبقت الربيع العربي، ثم أحدث فارقًا مع انهيار الأنظمة الاستبدادية عام 2011.
هذه السردية -التي يعتبر الجيش فيها نفسه الدعامة الأساسية للدولة أو للجمهورية الجديدة، أو قناعته بأنه يجسد الإرادة الوطنية- ظهرت بأشكال مختلفة تمامًا في دول الربيع العربي.
ففي تونس، هناك جيش يلتزم بالشرعية إلى حد بعيد، مع العلم بأن صغر حجمه ونقص قدراته لعبا دورًا مهمًا في هذا التوجه.
أما في مصر، فهناك شعور بين النخب العسكرية بأنهم يملكون البلاد. ومن خلال اللعب على عنصر كهذا، تمكن الضباط من إعادة إضفاء الشرعية على الجيش، تحت الشعار الشعبي الشهير: “الجيش والشعب يد واحدة”.
شعور الجيش هذا بأنه يملك شرعية مستقلة كان مفقودًا في ليبيا، وإلى حد ما في اليمن. وبالمقابل، فإن الجيش البحريني هو جيش الأسرة الحاكمة، لذلك كان مصطفًا تمامًا مع نظام خليفة، ومع البروباجندا التي صدرها، والتي وصف فيها المظاهرات الشعبية بأنها مؤامرات شيعية أجنبية ضد البلاد.
هل كان الجيش هو اللاعب الحاسم في معظم الحالات؟
أوضحت الأبعاد المختلفة لاشتباك الجيوش مع الأحداث، ومواجهتها لضغط الاحتجاجات الجماهيرية، أن هناك اختلافًا في تعاطيها مع الأحداث، سواء في حالة الانهيار، أو الانتقال من نظام لآخر.
لكن المشهد لم يكن مستقرًا كما تختزله بعض التصورات، التي تقول إن الأمر كان مجرد قرار عسكري بقمع المتظاهرين من عدمه.
ففي اليمن وليبيا ومصر وتونس في الفترة 2011-2013، أُلقي بالجيوش العربية في وضع جديد غير مستقر ومبهم للغاية، مع انهيار الأنظمة أو تفككها تحت ضغط المظاهرات الشعبية، التي تمتعت حينذاك بالاستمرارية وبروح المقاومة.
والمُلاحَظ أن الفترات الانتقالية في العالم العربي أكثر فوضوية مما كانت عليه في الحالات التاريخية الأخرى، في أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية.
فقد اعتمدت التحولات في الحالات غير العربية على فصائل داخل بنية النظام نفسه، رأت أن تكلفة دعم رأس النظام باهظة للغاية. ولذا، احتضنوا أجزاء من المعارضة واعتبروا الديمقراطية أهون الشرّين، ومن ثم انخرطوا في “اتفاقيات” انتقالية.
أما العالم العربي عام 2011، فلم تكن فيه الأنظمة مستعدة للتخلي عن السلطة. وكانت الجيوش العربية -أعني تلك التي حافظت على تماسكها- مختلفة عن جيوش أمريكا اللاتينية، التي أُضعفت، بفعل الهزائم العسكرية في مغامراتها الخارجية، أو بسبب تجاربها الفاشلة بعد حكم البلاد بشكل مباشر.
كما كانت الجيوش العربية مختلفة أيضًا عن جيوش أوروبا الشرقية، التي لها تقاليد سيطرة حزبية مدنية في ظل الأنظمة الشيوعية، ومن ثم فقد كانت الجيوش العربية أكثر استقلالية في تحقيق مصالحها الخاصة.
وعلى هذا، خرج الجيش المصري من انتفاضة 2011، كلاعب منتصر، مدعوم بشعار “الجيش والشعب يد واحدة”. كان كبار الجنرالات في المجلس العسكري المصري متخوفين من احتمالات التغيير السريع وغير المنضبط في مصر، وزعموا أنهم يدعمون الديمقراطية، لكنهم في الوقت نفسه، لم يتركوا أي هامش مناورة للمدنيين لبناء عملية انتقالية.
فقد سعى جنرالات الجيش المصري لتشكيل المشهد، وقمعوا نشطاء المجتمع المدني، وأرهقوا أنفسهم في سعيهم لممارسة السلطة المباشرة، خلال عامي 2011 و2012، إلى درجة تعريض مصالح الجيش بأكملها للخطر.
ثم صعد الإخوان إلى منصب الرئاسة، وظلوا فيه مدة عام واحد، إلى أن عاود الجيش التدخل.
وبالمثل، تحول القادة اليمنيون الكبار في الجيش وقطاع الأمن إلى ما يسمى أمراء الحرب أو المخربين، إذ استخدموا سيطرتهم على وحدات الجيش للضغط على العملية الانتقالية.
وفي حالة واحدة فقط، تونس، ومن خلال الدفاع عن المصالح العسكرية ببراعة -خاصة في مواجهة وزارة الداخلية الضخمة- سلم الجيش الصغير السلطة بسرعة إلى المدنيين، لتحقيق أهداف الثورة، ولإجراء الانتخابات وبناء المؤسسات.
وفي بعض الحالات، أدى انهيار النظام إلى انهيار الدولة، لا سيما في حالات التدخل الخارجي مثل ليبيا. وبالتأكيد، فإن دور الجيش كان مهمًا، في ظل انشقاق وحدات كاملة في بنغازي، ووجود ضباط حاليين وسابقين أعلنوا ولاءهم للمجلس الوطني الانتقالي الثوري.
لكن طغت على المشهد الليبي ديناميكيات الحرب وظهور ما يسمى بـ”الألوية الثورية”، أي الميليشيات المكونة من المدنيين، من السكان المحليين في المدن أو الأحياء، وكذلك النشطاء الإسلاميون والسلفيون. فقد نهبت هذه الفئات الترسانة الليبية الضخمة، التي راكمها القذافي على مدى سنوات.
صحيح أن ليبيا لم يكن لها جيش قوي، لكن كان لديها مخزون هائل من الأسلحة، التي أصبحت في يد القوى الاجتماعية خلال الحرب الأهلية، وذلك عبر الألوية الثورية كما أشرنا.
كذلك، فإن اليمن كانت على وشك الانهيار في 2014-2015، مع الانقلاب العسكري لجماعة الحوثي، ثم الحرب الإقليمية التي شنتها السعودية والإمارات.
تجدد نزعة العسكرة بعد 2011
بشرت الانتفاضات العربية بالتغيير، لكنها شهدت أيضًا تعزيزًا للجيوش أو الميليشيات الفاعلة الأخرى، سواء كجزء فاعل في أنظمة ما بعد عام 2011، أو كمعرقلين للعملية الانتقالية، باستثناء تونس.
ففي هذه الحالة الأخيرة، كانت المشكلة المتكررة هي الإصلاح شبه المستحيل لوزارة الداخلية الضخمة، والتي تناظر في هذه الحالة الجيوش المتضخمة بشكل مفرط، في سوريا واليمن ومصر.
وفي العالم العربي وبشكل مختلف تمامًا عن المناطق الأخرى من العالم، كأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا وحتى إفريقيا، ظلت المناقشات حول “إصلاح القطاع الأمني” أو “السيطرة الديمقراطية على القوات المسلحة” أمرًا عبثيًا.
ولا يكمن جوهر التفسير هنا في الدور المهم، الذي تلعبه الجيوش عادةً أثناء التحولات فحسب، بل أيضًا في العسكرة الراسخة التي ظهرت علنًا بعد انتفاضات 2011. فالجيوش في العالم العربي، لم تكن بارزة سياسيًا قبل عام 2011، لكنها كانت تمتلك نفوذًا متجذرًا في مساحات تختص بها.
والأهم من ذلك، أن هذا البعد العسكري لم تضعف مكانته، حيث لم يُدرج الجيش تحت المؤسسات السياسية المدنية، التي ولدت عام 2011، بحيث يكون للمدنيين سلطة على العسكريين.
والجدير بالذكر أن أحد المقدمات الأساسية لتجديد العلاقات المدنية العسكرية هو حتمية وجود نظام سياسي فاعل، يُخضع قضايا العسكريين للمداولات والقرارات السياسية المدنية.
لكن ذلك لم يتحقق في مصر في 2012-2013، حيث غلب الاستقطاب، في شكل معادلة مفادها: “الإخوان المسلمون مقابل الآخرين”. وسيطر هذا الاستقطاب على كل شيء، تاركًا مساحات للجيوب التي تمثل الثورة المضادة، والتي حرضها الجيش واستغلها فيما بعد.
وفي حالات أخرى، عرقلت الميليشيات -أو القادة الأمنيين والعسكريين الذين تحولوا إلى أمراء حرب- المؤسسات السياسية المنشأة حديثًا، كما في ليبيا واليمن، ناهيك عن اندلاع حربًا أهلية في سوريا.
صعود النزعة العسكرية وضعف الأداء السياسي للعسكريين
يوضح المسار المصري بعد عام 2013 العسكرة المتجددة للدولة ونقاط الضعف المتأصلة في هذا المسار.
والجدير بالذكر هنا أن الحديث عن الدولة العميقة -أو ما يطلق عليها في تركيا “الدولة الموازية”- والتي هي عبارة عن آلة منظمة وغامضة تتلاعب بمؤسسات الدولة- يجب أن يؤخذ بحذر.
ذلك أن الأمر الذي كان حاسمًا بالفعل في عام 2013، هو تطور تحركات الضباط -الذين قادوا الجيش بعد الثورة – تجاه جماعة الإخوان المسلمين. ومن بينهم وزير الدفاع، عبد الفتاح السيسي. حيث طور هؤلاء الضباط موقفهم من كونهم مراقبين نشطين للمشهد ذوي نفوذ واسع، إلى كونهم الداعين إلى بناء ائتلاف جديد للإطاحة بالرئيس.
كان هذا انقلابًا، لكن لم يكن لينجح لولا استخدام الحشود الجماهيرية والتلاعب بها، مثل “حركة تمرد”. وكان الجيش المصري قادرًا على وضع بضعة مجموعات رئيسية حوله، وموضعة نفسه على أنه ضامن لتوازن هذا التحالف، مع استطاعته توجيه هذا التحالف غير المتجانس.
وكانت الواجهة السياسية لهذا التحالف -على الأقل لبضعة أشهر- مكونة من بعض الأحزاب السلفية، وبعض الأحزاب العلمانية، وبعض شباب الثورة، والمؤسسات الدينية (الأزهر والكنيسة القبطية)، الذين اجتمعوا معًا في حدث في غاية الغرابة بكل تأكيد.
اصطفت تلك الأطراف مع مؤسسات الدولة، كالشرطة، والقضاء، ووسائل الإعلام (العامة والخاصة)، وبعض رجال الأعمال، تحت إشراف الجيش.
وهنا، ولأول مرة منذ عام 1967، كان الجيش أو جزء منه (المخابرات الحربية) في طليعة مرحلة جديدة من عسكرة السلطة. صحيح أن الجيش في عهد مبارك كان ركيزة أساسية، لكن نظام مبارك كان أعلى سلطة منه.
ومنذ عام 2013، أصبح الجيش في دائرة الضوء، كما يبرز ذلك في العديد من المشاريع الاقتصادية، مثل مشروع المليون وحدة سكنية، ومحطات توليد الكهرباء في أسيوط ودمياط، وقناة السويس الجديدة.
وهذا وضع جديد على جيش ليس مهيأ على الإطلاق لممارسة السياسة، ولذلك ظهرت التوترات داخله، حتى إن هناك شائعات عن محاولات للانقلاب.
ومن ناحية أخرى، فإن الجيش لم يكن لديه برنامج حقيقي سوى قوله للمصريين: “اتبعوني”، وهذا ما صرح به السيسي مرارًا من أنه ترشح للرئاسة دون أي برنامج أو هوية حزبية. هذا فضلًا عن إظهار السيسي عدم اهتمام بتأسيس حزب جديد أو بناء مؤسسات حكومية، مفضلًا إخضاع كل شيء للجيش.
وأخيرًا، أظهر السيسي قبضة قمعية قوية، بدءًا بـ”مذبحة رابعة”، التي جرت ضد اعتصام جماعة الإخوان المسلمين في أغسطس/ آب 2013، مرورًا بموجة غير مسبوقة من الاعتقالات السياسية، وإطلاق العنان للأجهزة الأمنية ضد المعارضين، غالبًا بلا رابط، على عكس الحال في عهد مبارك، وليس انتهاءًا بإصدار أحكام جماعية قاسية ضد الإخوان المسلمين وجميع النشطاء المعارضين.
كل ذلك يحدث في سياق من الدعاية الإعلامية -الصادرة عن الوسائل الحكومية والخاصة- والتي تغذي أجواء الاستقطاب، وتغرس الخوف بروايات المؤامرة، وتجريم كل أشكال المعارضة.
لكن النظام المصري في سباق مع الزمن، وليس لديه شعور بمهمة محددة كما كان في الخمسينات.
وعلى الرغم من هذه الأسس الضعيفة لنظام السيسي وشرعيته، إلا أن هناك عوامل جديدة تعادل بقوة هذه الضعف. وتتمحور تلك العوامل حول خلق شعور عام بأن البلاد في حالة طوارئ، ما يستدعي قبضة قوية للدولة.
ويشمل ذلك: انتقال داعش من سوريا والعراق إلى ليبيا وسيناء، ما يمثل خطرًا رئيسيًا ضد الجيش، وظهور أحد أقوى أفرع تنظيم القاعدة في اليمن، وعنف بعض الجهاديين وخاصة التمرد المتزايد في سيناء، والحرب الأهلية في سوريا، ووجود دول فاشلة في المنطقة مثل ليبيا واليمن، ووجود خطاب طائفي جديد بين السنة والشيعة، ممثلًا في السعودية وإيران.
هذه العوامل أدت إلى مستوى غير عادي وغير مسبوق من الاضطرابات الإقليمية، التي تركت مجالًا لاستراتيجيات “الضبط والربط” التي يطبقها نظام السيسي.
علاوة على ذلك، فإن النظام المصري أعاد تشكيل علاقاته الإقليمية والدولية، لتشمل شراكات تدعم تلك المرحلة الجديدة من الاستبداد. إذ تأتي علاقاته مع روسيا لتحقيق التوازن مع الشريك الأمريكي الذي لا غنى عنه، وعلاقاته مع السعودية والإمارات كمصدرين للتمويل.
الجيوش و تجدد الحروب الأهلية وسط فوضى إقليمية
وبالمثل، نصب فلول الجيش أنفسهم كمدافعين عن شكل من أشكال القانون والنظام، في العمليات الانتقالية الفاشلة، في بلدان عربية كاليمن وليبيا.
ففي اليمن، حاول القادة إعادة تشكيل وحداتهم في سياق تصاعد الميليشيات القبلية والمناطقية. وامتازت هذه المرحلة بتوسع تنظيم القاعدة وتأسيسه لمناطق سيطرة خاصة به، بالإضافة إلى التدخلات العسكرية الإقليمية من السعودية والإمارات لدعم الرئيس الجديد، عبد ربه منصور هادي، الذي كان جنرالًا سابقًا في جنوب اليمن.
وفي خطوة أخرى، في أبريل/ نيسان 2016، عُين الجنرال الخبير بأوضاع الشمال اليمني، علي محسن الأحمر، نائبًا لقائد القوات المسلحة اليمنية، الموالية للرئيس هادي.
ومع ذلك، كان الجيش اليمني غارقًا بشكل كبير في حالة من التشرذم، التي تعكس حالة الدولة ككل.
وفي ليبيا ما بعد 2011، التي سادتها الفوضى، كانت الميليشيات التي يقودها المدنيون، وكتائب الثوار، تحاكي الجيش النظامي أو الشرطة، حيث تُسجَّل رسميًا لدى الدولة، وتدفع الحكومة رواتب لمعظمها، عبر وزارة الدفاع أو الداخلية، مع حفاظ هذه الكتائب على استقلاليتها التشغيلية الكاملة.
وفي بنغازي في مايو/ أيار 2014، حاول القائد السابق للعمليات في تشاد تحت حكم القذافي، والذي نُفي بعد ذلك إلى الولايات المتحدة، الجنرال خليفة حفتر، أن يصعد إلى الواجهة من خلال “عملية الكرامة” ضد المجموعات الإسلامية المسلحة، مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية، تخللتها تدخلات إقليمية.
وفي أبريل/ نيسان 2019، بعد هجوم في الجنوب (الغني بالنفط)، أرسل حفتر قواته غربًا لمحاولة الاستيلاء على طرابلس من حكومة الوفاق الوطني.
وفي كلتا الحالتين، طغت القوى المتنافسة الأخرى، سواء كانت المجموعات المسلحة أو القاعدة أو داعش، على الجهات العسكرية النشطة أو المتقاعدة. ولذلك لم تؤثر بشكل حاسم على اللعبة السياسية.
وفي سوريا، لا يزال الجيش يمثل لغزًا حتى وقت كتابة هذه الورقة. ففي سياق عسكرة الانتفاضة، والحرب الأهلية التي تلتها، فقد الجيش جزءًا من قوته البشرية (حوالي الثلثين)، مع حدوث انشقاقات فردية، وإن لم يكن لوحدات كاملة.
وكما أشرنا، فإن النظام السوري عامل الجيش بوحشية، وحوله لجهاز أمن (داخلي)، مع تصعيد ضباط علويين جدد، وضباط سنة مهمشين من غير المنشقين، وإعادة تشكيل الوحدات، وتعديل توازناتها من حيث القوة البشرية، من خلال ظهور قوات الدفاع الوطني السورية المؤيدة للأسد، وميليشيات شيعية جندتها إيران، سواء من العراق أو أفغانستان.
وفي سياق الحرب، استمر الجيش السوري في أداء دوره، كقناة لتوفير الأسلحة وتقديم التدريب للميليشيات، وكمستفيد من المساعدة الروسية، التي أثبتت أهميتها بشكل حاسم بعد تدخل موسكو، في سبتمبر/ أيلول 2015.
وإذا كان الاتجاه الأساسي لحقبة ما بعد 2011 هو إما أن الأنظمة -في معظم الحالات- تمكنت من تفادي آثار الثورات المدنية، أو أن الانتفاضات الضخمة فتحت مسارات مختلفة، قد يكون منها الردة عن الثورات وإعادة تأكيد الاستبداد، إلا الجيش ليس لديه التأهيل السياسي، ليكون لاعبًا حاسمًا في تلك البيئات، التي فاقت في تعقيدها بكثير ما واجهته الأنظمة العربية في خمسينيات القرن الماضي.
ومع ذلك، فإن الجيوش العربية ما زالت تحتفظ بدورها؛ بسبب الأبعاد العسكرية التأسيسية في سياسات الدول العربية، التي سلطنا الضوء على جذورها وتاريخها في بداية الفصل.