المحتويات |
---|
مقدمة |
السياسة الخارجية: استمرار مسار التقارب |
الاقتصاد التركي: احتمالية تغيير السياسات |
وزير الداخلية الجديد: استمرار جهود حل أزمة اللاجئين |
مقدمة
بعد انقضاء السباق الانتخابي الأصعب في تركيا منذ عقود، اتجهت الأنظار إلى أجندة الحكومة التركية الخمس سنوات القادمة، التي تسعى الإدارة التركية، بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان، لتحقيقها. هذا فضلًا عن المشكلات والملفات المستمرة منذ سنوات، والتي شكلت ضغطًا خلال الحملات الانتخابية على التحالف الحاكم، كالملف الاقتصادي.
وفي 3 يونيو/ تموز 2023، أعلن الرئيس أردوغان حكومته الجديدة، المكونة من 17 وزيرًا، اثنين منهما فقط كانا في الحكومة الماضية، وهما وزير الصحة فخر الدين قوجة، ووزير الثقافة والسياحة محمد نوري أرصوي.[1] وفي منصب نائب الرئيس، جاء الاختيار على جودت يلماز، الاقتصادي الذي شغل منصب نائب رئيس الوزراء في عهد أحمد داوود أوغلو. كما وقع الاختيار على إبراهيم قالن، المتحدث باسم الرئاسة وكبير مستشاريها ليشغل منصب رئيس الاستخبارات، وعلى الاقتصادية، حفيظة غاية أركان، لرئاسة البنك المركزي.
وفي المقابل، أصبح كل الوزراء في الحكومة السابقة، بالإضافة إلى النائب السابق لرئيس الجمهورية، فؤاد أوقطاي، نوابًا في البرلمان. وترأس معظمهم لجانًا في البرلمان في نفس تخصصاتهم الوزارية، كوزير النقل السابق عادل قره إسماعيل أوغلو، ووزير البيئة مراد كوروم، ووزير الداخلية السابق سليمان صويلو، ووزير الصناعة والتكنولوجيا السابق مصطفى فارانك، ووزير التجارة السابق محمد موش، ووزير الدفاع السابق، خلوصي أكار، وغيرهم.[2]
وبالتأكيد، فإن هناك دلالات للأسماء التي اختارها الرئيس أردوغان في إدارته الجديدة، إذ أنها تساعد في استشراف توجهات الحكومة الجديدة، والملفات التي ستركز عليها. وسنحاول في هذه الورقة استعراض أهم الأسماء التي حوتها هذه الحكومة ودلالات ذلك، مع التركيز على السياسة الخارجية والاقتصادية والداخلية.
السياسة الخارجية: استمرار مسار التقارب
تزايد الاهتمام العربي -خلال العقد الماضي على وجه الخصوص- بالسياسة الخارجية لتركيا، وباتت المواقف التركية مؤثرة في العديد من الملفات المعقدة في المنطقة العربية. ومن هذا المنطلق، كانت هناك متابعة عربية مكثفة لاسم وزير الخارجية التركي الجديد، هاكان فيدان، في محاولة لفهم سياسات الحكومة التركية في بعض القضايا الإقليمية خلال الفترة المقبلة، وإذا ما كانت ستشهد أي تحولات.
ملامح سياسة تركيا تجاه دول الإقليم
وبالحديث عن التحولات في السياسة الخارجية لتركيا، فإنها قد شهدت بالفعل تدويرًا للزوايا منذ عامين ونيف، مع وجود موجة تقارب بين الأطراف المتنازعة في الإقليم بشكل عام. إذ اتخذت أنقرة عدة مسارات تقارب مع كل من مصر، والسعودية، والإمارات، ونظام بشار الأسد، والكيان الصهيوني، وحتى على الساحة الليبية أبدت تركيا انفتاحًا على قوى الشرق الليبي، وإن كان دعمها مستمرًا لحكومة طرابلس.
وقد قطعت تركيا شوطًا معتبرًا في كل مسار من هذه المسارات، مع اختلاف درجة التقدم في كل منها. فمع مصر، تبادل وزيرا خارجية البلدين الزيارات، واجتمع أردوغان بقائد الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، لمدة نحو 45 دقيقة، في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، خلال حفل افتتاح كأس العالم في قطر. كما أجرى السيسي مع أردوغان مكالمة هاتفية، بعد الزلزال الذي وقع في 6 فبراير/ شباط 2023، لأول مرة بين الطرفين.[3]
ومع كل من السعودية والإمارات، اتخذ مسار التقارب وتيرة أسرع، حيث زار أردوغان كلا البلدين، واستقبل أيضًا ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، والرئيس الإماراتي، محمد بن زايد. كذلك، عاد البلدان للعمل على تطوير العلاقات الاقتصادية مع تركيا. إذ وجّه مجلس الوزراء السعودي بتشجيع الاستثمار المباشر مع تركيا،[4] وأعرب وكيل وزير الاستثمار السعودي، بدر البدر، عن اعتقاده بأن استثمارات بلاده مع تركيا ستتضاعف ثلاث مرات خلال السنوات القادمة.[5]
أما مع نظام بشار الأسد، فقد التقى وزير الخارجية التركية حينها، مولود تشاووش أوغلو، مع وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، للمرة الأولى منذ عام 2011. واحتضنت العاصمة الروسية، موسكو، هذا اللقاء، بحضور وزيري خارجية كل من روسيا وإيران.[6] وقبل ذلك، شهدت موسكو أيضًا لقاء لوزراء دفاع ورؤساء استخبارات كل من تركيا وروسيا والنظام السوري. وعلاوة على ذلك، تحدث الرئيس أردوغان علانية عن احتمالية لقائه ببشار الأسد.[7] وبهذه الخطوات، تقدمت العلاقات بين الجانبين من التواصل الاستخباري إلى التواصل الدبلوماسي.
ومع الكيان الصهيوني، جرت لقاءات بين الرئيس أردوغان وكل من رئيس الكيان الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، ورئيس وزرائه السابق، يائير لابيد. ورغم أن العلاقات لم تشهد تقدمًا واضحًا منذ عودة بنيامين نتنياهو، إلى رئاسة الحكومة، إلا أن الطرفين حافظا على ما وصلا إليه من التهدئة، رغم السجالات والخلافات الكبيرة التي شهدتها العلاقات التركية-الإسرائيلية خلال العقد الماضي، مع وجود نتنياهو على رأس الحكومة. وقد تعرض مسار التقارب مع الكيان الصهيوني لعدة اختبارات، منها جولات تصعيد بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة في غزة،[8] وكذلك اعتقال مواطنة تركية من المسجد الأقصى،[9] إلا أن الطرفين تعاملا مع هذه الاختبارات بقدر من الدبلوماسية، سمح لهما بتجاوزها.
هل تستمر موجة التقارب؟
هذه الموجة من التقارب كانت مدفوعة جزئيًا بالانتخابات التركية، ورغبة أردوغان في سحب هذه الأوراق من يد المعارضة، التي كانت تتهمه بتفويت مصالح قومية لتركيا بسبب توتر علاقاته مع تلك الأطراف. ولذلك، اعتقد بعض المهتمين بسياسات تركيا الإقليمية أنه مع انتهاء الانتخابات ستعود تركيا لتتبع سياسة أكثر حدة مع الدول السابق ذكرها.
وربما هذا الاعتقاد هو ما دفع البعض للادعاء بأن تركيا أنهت مسار تطبيع علاقاتها مع نظام الأسد بعد الانتخابات مباشرة، اعتمادًا على تصريح من الرئاسة التركية. ففي 29 مايو/ أيار 2023، أي صبيحة يوم الانتخابات، صرح المتحدث السابق باسم الرئاسة التركية، رئيس الاستخبارات الحالي، إبراهيم قالن، لصحيفة “خبر تورك” التركية، أنه “لا يوجد خطط لعقد لقاء بين أردوغان والأسد على المدى القريب”. غير أن هذا التصريح لا يدلل على تحول في السياسة الخارجية التركية تجاه الأسد، وربما أوضح إشارة على ذلك، هو ما ذكره “قالن” للصحيفة نفسها من أن عقد مثل هذا اللقاء “غير مستبعد”، ويعتمد على الخطوات التي سيتخذها النظام السوري.[10]
لكن هناك عدة أسباب تؤكد استمرار السياسة الخارجية التركية، في خطوطها العريضة على أقل تقدير. السبب الأول هو أن كلًا من هاكان فيدان الذي تسلم حقيبة الخارجية، وإبراهيم قالن الذي عُين رئيسًا لجهاز الاستخبارات، لعبا دورًا مهمًا مع الرئيس أردوغان في رسم ملامح السياسة الخارجية لتركيا خلال السنوات الأخيرة. فقد لعب فيدان دورًا رئيسيًا في موجة المصالحات التي بدأتها تركيا قبل نحو عامين، وكثيرًا ما أكد أردوغان على أن جهاز الاستخبارات كان مكلفًا بالتواصل مع عدة دول، كان لدى تركيا توترات معها.[11]
كذلك، فإن وزير الخارجية التركي الجديد كان موجودًا بشخصه تقريبًا في كل مناقشة محورية في السياسة الخارجية التركية على مدى السنوات القليلة الماضية. فعلى سبيل المثال، نجد أنه كان حاضرًا في أول لقاء وزاري مع نظام الأسد، بجانب وزير الدفاع، وفي زيارات أردوغان إلى السعودية[12] والإمارات،[13] وفي جل الاجتماعات التي عُقدت في تركيا تقريبًا مع وفود من دول المنطقة.
بل إن “فيدان” أجرى زيارات بمفرده إلى بعض الدول، التقى خلالها قادة سياسيين، رغم أن هذا ليس طبيعيًا وفقًا للأعراف الدبلوماسية بين الدول. فنجد أنه حين كان رئيسًا للاستخبارات أجرى زيارة بمفرده إلى ليبيا التقى خلالها برئيس الوزراء الليبي، عبد الحميد الدبيبة، بحضور وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، ووزيري الدولة لشؤون مجلس الوزراء عادل جمعة، والاتصال والشؤون السياسية وليد اللافي. كما التقى أيضًا رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا، خالد المشري، ورئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي. وهذه كلها لقاءات مع مسؤولين سياسيين.[14]
علاوة على ذلك، أجرى فيدان زيارة إلى السودان، في 17 يناير/ كانون الثاني 2023، عقد فيها لقاءين، أحدهما مع رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، والآخر مع قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي).[15]
هذه اللقاءات السياسية التي حضرها “فيدان” مع غيره من المسؤولين الأتراك أو بنفسه، تدلل على أن الرجل يعد أحد أبرز الفاعلين في السياسة الخارجية لتركيا، إن لم يكن المسؤول الأول عن بعض الملفات، كالملف الليبي مثلًا.
وبالنظر إلى إبراهيم قالن، نجد أنه كان بمثابة مستشار الأمن القومي للرئيس أردوغان، حيث كان منخرطًا في العديد من الملفات المعقدة، وخاصة الملف السوري، كما نجده حاضرًا في جل اللقاءات والمباحثات مع قادة الدول الأوروبية والمسؤولين الأمريكيين والمسؤولين الروس.
علاوة على ذلك، كان “قالن” مسؤول التواصل مع مستشاري الأمن القومي الأمريكي، سواء مَن كان منهم في إدارة الرئيس الأسبق، دونالد ترامب، كمستشار الأمن القومي الشهير الذي أقاله ترامب فيما بعد، جون بولتون،[16] أو المستشار الحالي للأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان.[17] وكما هو معلوم، فإن التواصل بين مستشاري الأمن القومي يتضمن -بجانب اللقاءات الأمريكية-التركية- القضايا الإشكالية في دول الشرق الأوسط، والدور التركي حيالها. وعلى هذا، فإن كلا الرجلين، هاكان وقالن، كانا فاعلين بالأساس في رسم السياسات الخارجية لتركيا، بما في ذلك سياسة التقارب الأخيرة.
وإن كان هناك من دور لوزير الدفاع التركي في وضع السياسات الخارجية لتركيا بخصوص بعض الملفات، كالملف السوري، فنجد أن وزير الدفاع الجديد، يشار غولر، كان يشغل منصب رئيس أركان الجيش، وهو الذي شارك وأشرف على العمليات العسكرية التركية الأربع في شمال سوريا منذ عام 2016 وحتى عام 2020، حيث كان قائدًا للقوات البرية وقت عمليتي “درع الفرات” عام 2016، و”غصن الزيتون” عام 2018، ثم رئيسًا للأركان من عام 2018، وأشرف على عمليتي “نبع السلام” في شمال شرقي سوريا، و”درع الربيع” في إدلب عام 2020.[18]
وعلى هذا، يمكن القول إن الخطوط العريضة للسياسة الخارجية التركية لن تتغير، حيث من المتوقع أن تستمر تركيا في مسار التقارب الذي رسمته مع الأطراف التي ذكرناها في هذا التقرير.
وبالطبع، فإن أسباب ذلك لا ترجع فقط إلى اختيار فيدان وقالن وغولر، بل إن الإدارة التركية بشكل عام، وعلى رأسها أردوغان، باتت ترى أن المسار السابق الذي كان أكثر حدة، لم يعد مناسبًا في هذه المرحلة، التي تتجه فيها المنطقة برمتها نحو تهدئة الخلافات بشكل أو بآخر.
وعلى الأغلب، فإن فوز الرئيس أردوغان بالرئاسة، بالإضافة إلى نيل تحالفه أغلبية البرلمان، سيعطيه هامشًا أكبر للمناورة، وسيعزز من موقف إدارته في المفاوضات مع بعض الأطراف الإقليمية، باعتبار أنه تمكن من اجتياز الانتخابات بنجاح رغم صعوبتها، وأنه أصبح واقعًا لمدة خمس سنوات أخرى. فيمكن للرئيس التركي أن يمارس ضغطًا أكبر على نظام الأسد -على سبيل المثال- للتفاعل إيجابيًا معه فيما يخص مكافحة حزب العمال الكردستاني، أو أزمة اللاجئين. لكن من المتوقع أن يتوقف تأثير الانتخابات عند هذه النقطة، وألا يمتد للانقلاب كليةً على مسارات التقارب.
وما حدث في الأيام القليلة الماضية ربما يوضح شيئًا من ذلك، فقد استقبل أردوغان الرئيس الإماراتي، ورئيس الوزراء الليبي،[19] كذلك تلقى مكالمة هاتفية من ولي العهد السعودي،[20] وأخرى من رئيس الكيان الإسرائيلي لتهنئته بالفوز في الانتخابات.[21] كما هنأ نتنياهو أردوغان كذلك، في اتصال هاتفي، واتفقا على “مواصلة تعزيز العلاقات” بين الجانبين.[22] ونقلت تقارير إعلامية عبرية أنه يسعى لعقد لقاء مع الرئيس أردوغان، في محاولة للسيطرة على التوترات الداخلية من خلال الخطوات التي يتخذها على صعيد السياسة الخارجية، بعدما واجه صعوبة بسبب الإصلاح القضائي المثير للجدل الذي دفع بآلاف الأشخاص إلى الشوارع في إسرائيل.[23]
كذلك أجرى السيسي مكالمة هاتفية مع أردوغان اتفقا فيها على إعادة السفراء. وكشف القائم بأعمال السفارة التركية في القاهرة، صالح موتلو شن، أن أردوغان بعث بدعوة رسمية للسيسي لزيارة تركيا. وقالت قناة “إن تي في” التركية، إنه من المتوقع أن يُجري السيسي زيارة لتركيا بعد فترة وجيزة من عيد الأضحى.[24]
وعلى الساحة السورية، صرح المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط ودول أفريقيا، نائب وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف، بأن هناك لقاء يجمع نواب وزراء خارجية روسيا وسوريا وتركيا وإيران، سيعقد في 21 يونيو/ حزيران 2023، في أستانا. وأضاف أن “مسودة خريطة الطريق الروسية جاهزة، مهمتنا هي المناقشة مع شركائنا والمضي قدما في هذا العمل، نأمل أن يسمح لنا الاجتماع في أستانا بإحراز تقدم جاد”.[25]
وإجمالًا، يمكن القول إن الخطوط العريضة للسياسة التركية الخارجية ستستمر كما كانت خلال العامين الماضيين؛ لأن أسباب التقارب وحلحلة الخلافات مع دول المنطقة لا زالت قائمة، كما أن أصحاب القرار في السياسة الخارجية التركية ما زالوا حاضرين وإن تبدلت مواقعهم، بل إن أحدهم، وهو “فيدان”، أصبح وزير الخارجية، وهذا أدعى أن تستمر السياسة الخارجية بلا تغيير كبير يطرأ عليها.
ورغم ذلك، فإن المحتمل -والطبيعي أيضًا- أن يتسارع مسار التقارب مع دولة في الإقليم ويتباطأ مع أخرى، كما يمكن أن تزداد مجالات التعاون مع دولة وتقل مع أخرى، بل ربما تحدث أزمات محدودة لسبب أو لآخر. لكن المرجح أن لدى تركيا رغبة في استمرار اتباع سياسة خارجية ترمي للهدوء وإيجاد مساحات تعاون مشتركة. ولذلك سيظل الخطاب التركي تجاه بلدان المنطقة -التي ذُكرت في هذا المحور- هادئًا وبناءً.
الاقتصاد التركي: احتمالية تغيير السياسات
يعاني الاقتصاد التركي من أزمة تضخم حادة منذ عدة سنوات، حيث وصل التضخم السنوي إلى أعلى مستوى له في 24 عامًا، متجاوزًا 85 بالمئة رسميًا، خلال عام 2022، قبل أن يتراجع. كذلك، فقدت الليرة أكثر من 90 بالمئة من قيمتها في العقد الماضي بعد سلسلة من الانهيارات، كانت الأسوأ في أواخر عام 2021.[26] وسجلت أدنى مستوياتها على الإطلاق مؤخرًا، بوصولها لنحو 23.5 ليرة تركية مقابل الدولار الواحد.
هذه الأزمة الاقتصادية ربما كانت سببًا في ذهاب الرئيس أردوغان إلى جولة ثانية من الانتخابات الرئاسية لأول مرة في تاريخه السياسي، وتاريخ تركيا بشكل عام. كما أنها ربما أسهمت في انخفاض نسبة التصويت لحزب العدالة والتنمية في البرلمان، من 42.6 في انتخابات عام 2018، إلى 35.6 في الانتخابات الأخيرة.
في هذا السياق، كان هناك اهتمام واسع في الداخل التركي باحتمالية أن يغير أردوغان سياسته الاقتصادية التي تعتمد على خفض نسبة الفائدة، على اعتبار أنها سبب ارتفاع التضخم. ولذلك، قبيل الانتخابات، كانت هناك تغطية واسعة للقاء مغلق عقده الرئيس التركي مع وزير المالية السابق ونائب رئيس الوزراء بين عامي 2009 و2018، محمد شيمشك، باعتبار أن هذا الأخير من دعاة الاقتصاد التقليدي، ويحظى بتقدير كبير من قبل الأسواق المالية.
إشارات متضاربة حول سياسات الفائدة
وبالفعل، جاء اختيار أردوغان لشيمشك، كوزير للمالية، كما اختار كذلك، حفيظة أركان كرئيسة للبنك المركزي، بعد ترشيح شيمشك لها، حسب ما كشف عنه الرئيس التركي.[27] لكن يظل السؤال يفرض نفسه حول المساحة التي سيسمح فيها أردوغان للفريق الاقتصادي الجديد بالتحرك، وبشكل أكثر تحديدًا: هل سيقبل أردوغان برفع معدلات الفائدة إذا عزم الفريق الجديد على ذلك؟
يبدو للوهلة الأولى أن هناك تحركًا في موقف أردوغان الصارم من زيادة سعر الفائدة، إذ تدل عدة إشارات على ذلك. الإشارة الأولى هي أن شيمشك لم يكن ليقبل بتولي حقيبة المالية، في حال استمرار أردوغان على نفس الدرجة من الصرامة ضد الفائدة. فبعد لقائه بأردوغان قبل الانتخابات، وبالتحديد في 20 مارس/ آذار 2023، كتب شيمشك على حسابه في تويتر أنه يشكر الرئيس على استضافته، لكنه لا ينوي أن ينشط في العمل السياسي؛ بسبب ارتباطه بأعمال في المؤسسات المالية خارج تركيا.[28]
وقد يُفهم من هذا التصريح أن الوزير الجديد، وحتى قُبيل إطلاق الحملات الانتخابية، لم يكن يرغب في الانضمام لإدارة الرئيس أردوغان، ربما لشكّه في أن يتمكن من تنفيذ سياساته، التي تتعارض مع الرؤية الاقتصادية لأردوغان. أما وقد أصبح وزيرًا بالفعل، فإن هذه إشارة على تحرك موقف أردوغان -بشكل أو بآخر- من مسألة الفائدة.
أما الإشارة الثانية، فهي اختيار حفيظة أركان في رئاسة البنك المركزي، وهي التي تمتلك رؤية مشابهة للتي لدى شيمشك، بحكم خلفيتها في العمل في مؤسسات تتبنى النهج الاقتصادي التقليدي كمصرف “فيرست ريبابلك” الأمريكي، هذا فضلًا عن أن شيمشك التقى بأركان قبل تعيينها، ورشحها للرئيس، ثم هنأها بعدما اختيرت رسميًا للمنصب، قائلًا إنه “يثق بعلمها وخبرتها”.[29] إذ تُعد هذه الخطوة بمثابة دعم لشيمشك نفسه.
والإشارة الثالثة فهي تعيين جودت يلماز، نائبًا للرئيس، وهو اقتصادي يأتي من نفس الخلفية العلمية أيضًا. أما الإشارة الرابعة فهي تصريحات الرئيس التركي نفسه، الذي قال إنه “وافق” على التعديلات التي اقترحها معاونوه الجدد، وتعهدات شيمشك بالعودة إلى سياسات اقتصادية “عقلانية”، وفق وصفه.[30]
وقد أكد ذلك ما نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني عن ثلاثة مصادر مطلعة على اجتماع أردوغان بشيمشك قبل تسلمه منصبه، أن أردوغان وافق على منح شيمشك الصلاحية لفعل كل ما يطلبه لإصلاح الاقتصاد. وقالت المصادر إنه “خلال الاجتماع -الذي استمر ساعتين ونصف- عرض الخبير الاقتصادي جميع البيانات التي بحوزته عن الاقتصاد التركي، وبالانتقال من نقطة إلى أخرى، أعطى للرئيس صورة شاملة عن الحالة الاقتصادية في البلاد”.[31]
وكشفت المصادر أن العرض التقديمي لشيمشك جعل أردوغان يشعر بعدم الارتياح، وكشف الموقع عن أن شيمشك تلقى عشرات الاتصالات من شخصيات وزارية ونيابية سابقة وحالية لتشجيعه على قبول عرض أردوغان ليكون وزيرًا بالحكومة. وأخبرت المصادر أن شيمشك اقترح على أردوغان إطارًا زمنيًا مدته 18 شهرًا، حيث سيرفع تدريجيًا أسعار الفائدة من 8.5 إلى 25 بالمئة، وقد وافق أردوغان على مطالبه.[32]
لكن في المقابل، صرح أردوغان أنه متمسك بموقفه من النموذج الاقتصادي المتمثل بأن خفض أسعار الفائدة يساهم في خفض التضخم، مستشهدًا بأنه “خلال فترة حكمه عندما كان رئيسًا للوزراء، خفض التضخم إلى خانة الآحاد، وقد كانت أسعار الفائدة عند 4.6 بالمئة، والتضخم عند 6.2 بالمئة”، مشيرًا أنه فعل ذلك مع “شيمشك” عندما كان وزيرًا للمالية قبل ذلك.[33]
كما أشفعه أردوغان بتصريح آخر أشد لهجة، قائلًا: “يجب ألا يتوهم أي أحد بأن رئيس الجمهورية سيغيّر بشكل كبير سياسته تجاه الفائدة. فقد عملنا سابقًا بفكرة “الفائدة هي السبب والتضخم هو النتيجة”، والآن أنا أعمل بالفكرة نفسها، ومقتنع أننا سننجح بتحقيق أهدافنا من خلال تطبيقها”.[34]
وفي غضون ذلك، نجد تقارير تتحدث عن ارتفاع كبير في معدلات الفائدة، مثل جريدة “فاينانشال تايمز” البريطانية، التي توقعت رفع الفائدة إلى 17 بالمئة، في الاجتماع الأول للبنك المركزي التركي تحت الإدارة الاقتصادية الجديدة.[35] بينما رفع بنك “جيه بي مورغان” الأميركي هذه التوقعات لتصل إلى 25 بالمئة، مضيفًا أنه يتوقع أن يصل سعر الفائدة في تركيا بنهاية عام 2023 إلى 30 بالمئة.[36]
والصورة الكلية حاليًا تشي بأن الفريق الاقتصادي الجديد ليس كسابقه، لا في التوجهات ولا في ثقل الأسماء على المستوى العالمي، وفي ذلك إشارة إلى تغيرات كبيرة في السياسة الاقتصادية. لكن وجود أردوغان على رأس هذا الفريق، مع تصريحه بأنه ما زال على موقفه بشأن ارتباط الفائدة بالتضخم، مؤشر في الاتجاه المضاد.
ضغط الملف الاقتصادي
بالتوازي مع ذلك، فإن الواقع الاقتصادي ضاغط على الرئيس بشكل واضح، وربما لولا ذلك لم يكن ليقرر التحدث إلى شيمشك لساعات ويوافق على ترشيحاته. فالانتخابات الأخيرة، وإن انتصر فيها أردوغان، إلا أن ذلك جاء في الجولة الثانية ضد مرشح أضعف من بعض قيادات المعارضة الآخرين، الذين كانت أسماؤهم مطروحة لمنافسة أردوغان.
كما أنه بالرغم من أن حزب العدالة والتنمية، ما زال الحزب الأكثر شعبية، إلا أنه خسر نحو 6 بالمئة من أصواته التي حازها عام 2018، ونحو 13 بالمئة إذا ما قارنا بما حاز عليه في انتخابات عام 2015، وهذه نسبة كبيرة بطبيعة الحال. ويبدو أن هذه الأصوات التي ابتعدت عن “العدالة والتنمية” ذهبت لحلفائه، خاصة الحركة القومية وحزب الرفاه الجديد، ولولا ذلك لربما مُني التحالف الحاكم بخسارة في الانتخابات البرلمانية.
وعلى هذا، فإن هذا المسار التنازلي في نسبة التصويت للحزب الحاكم، يدق ناقوس خطر لدى القيادة التركية، ويدفعها للتفاعل مع رسائل الشارع. ويبدو أن قيادة الحزب تلحظ هذا المنحنى الهابط في مستويات التصويت له، حيث قال متحدث حزب العدالة والتنمية، عمر تشيليك، عشية الجولة الأولى: “سنصغي مرة أخرى لمواطنينا، وسنسمع مطالبهم ونتحرك وفقا لها”.[37]
كذلك، فإن البلاد أمام استحقاق انتخابي مهم، في 31 مارس/ آذار 2024، يتمثل في انتخابات البلديات. ويولي الحزب الحاكم، وأردوغان شخصيًا، أهمية كبيرة لهذه الانتخابات، ولذلك أكد على “أهمية كسب الانتخابات المحلية عام 2024″، في أول خطاب له بعد فوزه بالانتخابات.[38]
وقد أظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية تراجع معدلات التصويت للرئيس أردوغان في أكبر مدينتين بالبلاد، اسطنبول وأنقرة، حيث خسر في كليهما، وفي الجولتين، لصالح منافسه الرئيسي، كمال كليتشدار أوغلو. ففي اسطنبول حاز كليتشدار أوغلو 48.6 بالمئة، في الجولة الأولى، بحصوله على 4 مليون و928 ألف صوت، بينما حاز أردوغان 46.7 بالمئة، بحصوله على 4 مليون و738 ألف صوت.[39]
ورغم أن المرشح الثالث، سنان أوغان، الذي حصل على 4.5 بالمئة في اسطنبول، أعلن تأييده للرئيس أردوغان، إلا أن تقدم كليتشدار أوغلو في الولاية المحورية قد استمر في الجولة الثانية، بحصوله على 51.8 بالمئة، بواقع 5 مليون و121 ألف صوت، مقابل 48.2 بالمئة لأردوغان بواقع 4 مليون و768 ألف صوت.
وفي أنقرة، نجد أن كليتشدار أوغلو حاز في الجولة الأولى على 47.3 بالمئة، بواقع مليون و824 ألف صوت، مقابل 46 بالمئة لأردوغان، بواقع مليون و772 ألف صوت. وفي الجولة الثانية، حاز كليتشدار أوغلو على 51.2 بالمئة، بحصوله على مليون و909 ألف صوت، مقابل 48.8 لأردوغان، بحصوله على مليون و817 ألف صوت. هذا مع الأخذ في الاعتبار أن أوغان حصل في الجولة الأولى على 6.4 بالمئة من الأصوات في أنقرة، بواقع ربع مليون صوت تقريبًا.
والجدير بالذكر أن هذه هي المرة الأولى التي يخسر فيها أردوغان -شخصيًا- أيًا من المدينتين، فقد حاز الأغلبية في كليهما في انتخابات 2014 ثم انتخابات 2018.
وما يهمنا هنا هو أن معظم استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات أظهرت أن الاقتصاد هو المشكلة الأولى التي تعاني منها البلاد، وهذا متوقع بالنظر إلى غلاء أسعار المعيشة بشكل كبير خلال السنتين الماضيتين، ما يعني أن الحالة الاقتصادية كانت سببًا في الأصوات التي خسرها الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة. وإذا ما نظرنا إلى المدن الكبيرة، كاسطنبول وأنقرة، سنجد أنها الأكثر معاناة من الأزمة الاقتصادية.
إذ ذكرت تقارير أن أسعار المنازل قد ارتفعت في إسطنبول بنسبة 138 بالمئة خلال عام 2022،[40] وأن أسعار إيجارات المنازل قد تضاعفت ثلاثة أو أربعة أضعاف خلال عام واحد فقط،[41] وقفزت أسعار الإيجارات بنسبة 168.4 في المئة خلال عام واحد في أنقرة، بحسب دراسة أجراها مركز البحوث الاقتصادية والاجتماعية (BETAM) في جامعة بهتشه شهير التركية.[42]
وبالتالي، فإنه بدون تحقيق إنجاز اقتصادي، ستصبح مهمة الحزب الحاكم في استرجاع المدن الكبرى في انتخابات البلديات بعد نحو 9 أشهر، أكثر صعوبة. هذا فضلًا عن أن استمرار الأزمة الاقتصادية من شأنه أن يؤثر سلبًا على تجربة “العدالة والتنمية” بشكل عام، خصوصًا في ظل هذا المنحنى الهابط في عدد الأصوات، من انتخابات لأخرى.
ولذلك، فإن الواقع ممثلًا في الأرقام الاقتصادية، والأرقام الانتخابية، يدفع الرئيس أردوغان للسعي لحل أزمة التضخم، حتى وإن اضطر لتعديل نموذجه الاقتصادي. ومن المنتظر اتضاح الصورة حول مستقبل الاقتصاد التركي بشكل أكبر، بعد اجتماع البنك المركزي التركي في 22 يونيو/ حزيران الجاري.
وزير الداخلية الجديد: استمرار جهود حل أزمة اللاجئين
من الأسماء التي حازت اهتمامًا عربيًا أيضًا كان وزير الداخلية الجديد، علي يرلي قايا، الذي تولى الوزارة خلفًا لسليمان صويلو، من منطلق أن وزارة الداخلية هي الجهة المخولة بإدارة ملف اللاجئين والمهاجرين. وزاد اهتمام اللاجئين باسم وزير الداخلية الجديد، نظرًا لأنهم كانوا في قلب الحملات الانتخابية، بل ربما كانت السردية الأساسية والوعد الرئيسي الذي قدمه كليتشدار أوغلو قبل الجولة الثانية هو ترحيل اللاجئين السوريين.
وساهم الضغط في هذا الملف على الحكومة التركية إلى التأكيد على أنها تعمل على إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، عبر إعداد منازل في المناطق التي تسيطر عليها تركيا في الشمال السوري، بدعم قطري.[43] كذلك، فقد كانت النظرة لـ”صويلو” إيجابية بالنسبة للعديد من اللاجئين المقيمين في تركيا، ولذلك كان هناك ترقب لاسم الوزير الجديد لمعرفة توجهات الحكومة حيال هذا الملف في الفترة المقبلة.
مَن علي يرلي قايا؟
يبدو أن وزير الداخلية التركي الجديد يمتلك سيرة ذاتية قوية، فقد كان آخر مناصبه أن عُيّن واليًا على أكبر مدن البلاد من حيث عدد السكان، اسطنبول، منذ 26 أكتوبر / تشرين الأول 2018، واستمر في هذا المنصب بذلك 5 سنوات، وهي المدة الأطول له واليًا.[44]
وقبل ذلك، صدر قرار في شهر مايو/ أيار 2015، بتعينه واليًا لولاية غازي عنتاب. وقد جاء هذا التعيين في وقت حساس ومتوتر، فالولاية الحدودية مع سوريا كانت في مواجهة تحدي التنظيمات الانفصالية المسلحة، التي نفذت عددًا من التفجيرات في المدن التركية في ذلك الوقت، ومنها تفجيرات غازي عنتاب 2016.
وقبل ذلك، وبالتحديد في عام 2007، عُيّن يرلي كايا واليًا لولاية شرناق جنوب شرق تركيا، ومكث في منصبه 3 سنوات في شرناق، ليجري تعينيه واليًا لمحافظة أغري في أقصى شرق تركيا على الحدود مع إيران، واستمر في العمل حتى 2012. ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب انتقل من ولاية أغري إلى ولاية تكيرداغ عام 2013، التي استمر بالعمل فيها حتى 2015.
كما أنه ليس غريبًا على وزارة الداخلية، ففي 1990، بدأ بالعمل في وزارة الداخلية في منصب “قائم مقام”، متنقلًا ما بين أقضية “فلاحية” في ولاية قيصري وسط تركيا، و”حلوان” في ولاية شانلي أورفة جنوب شرق تركيا، و”صاري كايا” في ولاية يوزغات وسط تركيا. وفي 2003، عُيّن معاونًا للشؤون القانونية في وزارة الداخلية.[45]
وبالنظر إلى الملف الذي قد يكون الأهم بالنسبة العرب، وهو ملف اللاجئين والمهاجرين، نجد أن الوزير الجديد ليس بعيدًا عنه بتاتًا، بل كان فاعلًا في إدارة هذا الملف منذ سنوات، باعتباره كان واليًا على اسطنبول، وقبل ذلك ولاية غازي عنتاب، المعروفة بوجود تجمع كبير من اللاجئين السوريين فيها، يقارب نصف مليون سوري، وفق الإحصائيات التركية الرسمية.[46]
كما أنه أثناء خدمته في غازي عنتاب، شهدت الولاية نزوح السوريين بأعداد كبيرة، من مدينة حلب على وجه الخصوص عامي 2015 و2016، ما يعني أنه كان مسؤولًا مهمًا في الفترة التي شهدت طفرة في أعداد اللاجئين في تركيا. ثم أشرف بنفسه بعد ذلك على تقليل أعداد اللاجئين في مدينة اسطنبول، وملاحقة المهاجرين غير الشرعيين، بعد خسارة الحزب الحاكم لانتخابات البلديات عام 2019. وبالتالي، فإن وزير الداخلية الجديد، منذ بداية تدفق اللاجئين وحتى الآن، شخص منخرط في هذا الملف، باختلاف توجهات الحكومة فيه، من انفتاح كامل لها في البداية، إلى محاولاتها للتنظيم وضبط الأمور بعد ذلك.
علاوة على ذلك، فإن الـ5 سنوات التي قضاها “يرلي كايا” في ولاية اسطنبول، مكنته من معرفة مطالب الجاليات العربية المقيمة بها، وأحوال اللاجئين والمهاجرين فيها ومشكلاتهم. إذ التقى “يرلي كايا” بالعديد من مسؤولي تلك الجاليات خلال فترة خدمته في اسطنبول، مثل قادة الائتلاف الوطني السوري،[47] ومسؤولي الجمعيات السورية الأهلية، كما التقى بمسؤولين حكوميين كالقنصل العراقي العام، وغيره.[48]
سياسة الوزير الجديد تجاه اللاجئين والمهاجرين
تتيح لنا السيرة الذاتية لـ”يرلي كايا” معرفة الصورة الكلية لموقفه من المهاجرين واللاجئين. وبشكل عام يبدو أن وزير الداخلية التركي الجديد له موقف “منفتح” على وجود الأجانب في تركيا بشكل عام، لكنه في الوقت نفسه يتسم بالصرامة في تنفيذ توجهات الدولة حيال هذا الملف.
فعلى سبيل المثال، قال يرلي كايا، في لقاء صحفي معه عام 2019: “تركيا هي سفينة نوح للسوريين، دولتنا فتحت حدودها ومائدتها لهم، ولم تتردد في تقاسم خبزها معهم. ولا يوجد أدنى تغيير في موقفنا ونظرتنا وحبنا لضيوفنا السوريين”. وفي المقابلة ذاتها، رد يرلي كايا على الإجراءات التنظيمية التي اتخذت في اسطنبول مثل إعادة السوريين إلى الولايات الأخرى التي من المفترض أن يقيموا فيها بدلًا من اسطنبول، قائلًا: “نحن مؤتمنون على هؤلاء الأشخاص، فهم ضيوفنا. وأكبر رغبة لنا هي إنهاء الحرب في سوريا، وتأمين بيئة سلام دائم، وإعادة ضيوفنا بأمان إلى وطنهم. وتلك الإجراءات التي نتخذها هي تدابير لضمان السلام الاجتماعي والأمن”.[49]
وإذا ما نظرنا إلى القرارات والسياسات التي أصدرها أو نفذها “يرلي كايا”، خلال مهام منصبه كوالٍ على اسطنبول، سنجد أنها تؤكد أنه لا يتوانى عن تنفيذ سياسات الحكومة تجاه اللاجئين والمهاجرين في تحجيم وجودهم في الولاية، لكنه في الوقت نفسه يحاول فعل ذلك بأقل الخسائر الممكنة، وبالتنسيق مع اللاجئين أنفسهم.
فعلى سبيل المثال، حذر “يرلي كايا” السوريين المقيمين في الولاية بطريقة غير قانونية – ممن لديهم بطاقات حماية مؤقتة تابعة للولايات الأخرى– من البقاء في إسطنبول.[50]
وذكر “يرلي كايا”، في يناير/ كانون الثاني 2020، أنّه وبالتعاون مع وزارة الداخلية، بدأوا بالتشديد على كل من يقيم في الولاية بصورة مخالفة، قائلًا: “نعمل فيما يخص الهجرة غير الشرعية. فكل من ليس له قيد، ومن ليس لديه وثيقة إقامة –من الأجانب غير السوريين– سيُرحّل للدولة التي أتى منها. وحتى الآن قمنا بتثبيت 15 ألف مهاجر غير شرعي، وبالتالي أرسلناهم مع أول طائرة إلى بلادهم”.
وفي الشهر نفسه، قال “يرلي كايا” بأن الدوريات التابعة للولاية زارت أماكن العمل السورية والتركية، وعُثر على 30 ألف شخص سوري يعملون بدون تصاريح عمل. كما أكد أنه “ستتم مكافحة الهجرة غير الشرعية بشكل كامل دون توقف”، لافتًا إلى أن “السوريين غير المسجلين من 8 سنوات، بعد التدقيق بالهويات في الأماكن العامة، يتم نقلهم إلى المخيم في كيلس (جنوبي تركيا)، وهناك يخيرون بين الولايات المفتوحة للتسجيل، ونجدد الدعوة للسوريين بالعودة للولايات المسجلين فيها”.[51]
وبالتوازي مع تنفيذ تلك السياسات نجد “يرلي كايا” يلتقي بجمعيات سورية ويحاول التماهي مع بعض مطالبها، التي لا تمس بجوهر السياسة العامة للدولة في تنظيم حضور الأجانب في تركيا بشكل أقوى. حيث وافق والي اسطنبول، عام 2019، على إعطاء تسهيلات إدارية للسوريين الذين يتعين عليهم ترك اسطنبول، من ذلك تكفل ولاية اسطنبول بنقل هذه الأسر في حافلات تابعة لها مع أثاث بيوتهم، تجاوبًا مع مطالب جمعيات سورية.[52]
كما أن “يرلي كايا” أكد لهذه الجمعيات بأنه “لن يكون هناك أي ترحيل إلى سوريا، سواء لمخالفين أو غير مسجلين”، موضحًا أن المخالفين الذين احتُجزوا في مراكز الترحيل المؤقتة، سيُنقلوا إلى ولاياتهم. وغير المسجلين سينقلون إلى مخيمات لتسجيلهم، ثم تحويلهم إلى الولايات التي يرغبون بها ماعدا ولايتي اسطنبول وانطاليا.
كما نجد أن الولاية أصدرت قرارًا في أغسطس/ آب 2019، باستثناء الطلاب في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة، والذين تلقوا التعليم في إسطنبول ما بين 2018 و2019، وعوائلهم، من النقل لولاية أخرى إذا ما كانوا غير مسجلين في اسطنبول. وجاء من من ضمن الفئات المستثناة أيضًا الأفراد المسجلين في الولايات الأخرى من الذين لا تزال عوائلهم مقيمة في إسطنبول، واليتامى الذين فقدوا أحد والديهم ويعيشون تحت حماية أقربائهم، والطلاب الجامعيين الذين يتلقون تعليمهم في الجامعات الموجودة في إسطنبول، آخذين بعين الاعتبار الجوانب الإنسانية.[53]
وعلى هذا، فإن وزير الداخلية الجديد تتمثل سياسته تجاه ملف اللاجئين والمهاجرين في تقليل أعداد اللاجئين، وضبط أوضاعهم وتقنينها، لكن في الوقت نفسه بالتفاهم مع هذه الفئات، وترك مساحة للحالات الإنسانية وتسهيل الإجراءات بشكل أو بآخر.
ومع الأخذ في الاعتبار أن ملف اللاجئين والمهاجرين ترسخ خلال الانتخابات الماضية كأحد المشكلات في الساحة السياسية التركية، فإنه من المتوقع أن تستمر الحكومة في الإجراءات التي بدأتها بالفعل من تنظيم وجود اللاجئين، وتأكيد وجودهم في الولايات المخصصة لهم، ورفض استقبال مزيد من المهاجرين عبر رفض الإقامات السياحية، ورفض تجديد بعضها، والتضييق على بعض أنواع الإقامات التي كانت تمنحها الدولة بشكل استثنائي لبعض الأجانب المقيمين على أراضيها.
ولكي تتلافى الجاليات العربية بعض الآثار السلبية لهذه السياسة، على المؤسسات غير الحكومية المهتمة بشأن اللاجئين والمهاجرين في تركيا السعي للتواصل مع الإدارات التركية المعنية ووزارة الداخلية، ويبدو أن هناك مساحة لذلك لدى وزير الداخلية التركي الجديد.
المصادر
[1] الأناضول، الرئيس أردوغان يعلن التشكيلة الحكومية الجديدة، 3 يونيو/ حزيران 2023
[2] Haber 7, TBMM Komisyon Başkanları belli oldu… İşte eski bakanların yeni görevleri, 15 Haziran 2023
[3] CNN عربي، في أول اتصال بينهما.. السيسي معزيا أردوغان في ضحايا الزلزال: نتضامن مع تركيا ونعرض المساعدة، 07 فبراير/ شباط 2023
[4] TRT عربي، مجلس الوزراء السعودي يوجّه بتشجيع الاستثمار المباشر مع تركيا، 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022
[5] يني شفق، أنقرة.. اقتصاديون أتراك وسعوديون يبحثون التعاون الاستثماري، 22 يونيو/ حزيران 2022
[6] العربي الجديد، وزيرا الخارجية التركي والسوري يلتقيان الأربعاء للمرة الأولى منذ 2011، 9 مايو/ أيار 2023
[7] DW، أردوغان: بدأنا عملية ثلاثية وقد أجتمع مع الأسد من أجل السلام، 4 يناير/ كانون الثاني 2023
[8] الأناضول، تركيا تدين هجمات إسرائيل على غزة وتصفها بـ”الدنيئة”، 9 مايو/ أيار 2023
[9] وكالة شهاب، بطريقة همجية – اعتقال شابة تركية وموظف أوقاف من الأقصى، 25 أبريل/ نيسان 2023
[10] جريدة المدن، الرئاسة التركية: لا موعد للقاء الأسد وأردوغان، 29 مايو/ أيار 2023
[11] ترك برس، تواصل استخباراتي بين تركيا ومصر.. ماذا وراء تصريح أردوغان؟، 16 أغسطس/ آب 2020
[12] الأناضول، أردوغان يصل جدة السعودية في زيارة رسمية، 28 أبريل/ نيسان 2022
[13] الأناضول، أردوغان يصل أبو ظبي للتعزية برئيس الإمارات الراحل، 17 مايو/ أيار 2022
[14] Doğruhaber، “هاكان فيدان” يزور ليبيا ويلتقي مسؤولين ليبيين في طرابلس، 18 يناير/ كانون الأول 2023
[15] CNN، رئيس المخابرات التركية يزور السودان..والبرهان وحميدتي يصفان العلاقات مع أنقرة بـ”الأزلية”، 17 يناير/ كانون الثاني 2023
[16] ديلي صباح، قالن يبلغ بولتون انزعاج أنقرة من تعليق دورها في برنامج إف-35، 18 يوليو/ تموز 2019
[17] ديلي صباح، قالن يلتقي مسؤولين أمريكيين في واشنطن، 15 مارس/ آذار 2023
[18] الشرق الأوسط، لا توقعات بتغيير في نهج تركيا إزاء التعامل مع الملف السوري، 6 يونيو/ حزيران 2023
[19] وكالة سبوتنيك، الرئيسان التركي والإماراتي يشاهدان نهائي دوري أبطال أوروبا في ستاد أتاتورك بإسطنبول، 10 يونيو/ حزيران 2023
[20] CNN، محمد بن سلمان يهنئ أردوغان بمناسبة إعادة انتخابه: نتمنى لكم التوفيق، 31 مايو/ أيار 2023
[21] الأناضول، هرتسوغ يهنئ أردوغان بفوزه في الانتخابات الرئاسية، 28 مايو/ أيار 2023
[22] وكالة سبوتنيك الروسية، نتنياهو يتحدث مع أردوغان ويتفقان على مواصلة تعزيز العلاقات بين بلديهما، 30 مايو/ أيار 2023
[23] يني شفق، إعلام إسرائيلي: نتنياهو يسعى جاهدًا لعقد لقاء مع الرئيس أردوغان، 16 يونيو/ حزيران 2023
[24] المشهد، لقاء متوقع بعد عيد الأضحى.. إردوغان يدعو السيسي لزيارة تركيا، 16 يونيو/ حزيران 2023
[25] وكالة سبوتنيك الروسية، بوغدانوف يؤكد انعقاد اجتماع روسي تركي سوري إيراني في أستانا يوم 21 يونيو الجاري، 14 يونيو/ حزيران 2023
[26] Middle East Eye, Turkey: Erdogan announces new cabinet, signals turn in economic policy, 3 June 2023
[27] عربي 21، أردوغان يؤكد دعمه لشيمشك ورئيسة البنك المركزي.. ماذا قال عن أسعار الفائدة؟، 14 يونيو/ حزيران 2023
[28] الحساب الرسمي لوزير المالية التركي محمد شيمشك، تصريح حول لقائه بالرئيس أردوغان، 20 مارس/ آذار 2023
[29] الحساب الرسمي لوزير المالية التركي محمد شيمشك، تصريح حول تعيين رئيسة البنك المركزي، 9 يونيو/ حزيران 2023
[30] Financial Times, Turkey’s new finance minister pledges return to ‘rational’ economic policy, Jun 4, 2023
[31] Middle East Eye, Turkey: How Mehmet Simsek convinced Erdogan to drop his low interest rate policy, 13 June 2023
[32] المصدر نفسه
[33] عربي 21، أردوغان يؤكد دعمه لشيمشك ورئيسة البنك المركزي.. ماذا قال عن أسعار الفائدة؟، 14 يونيو/ حزيران 2023
[34] أنباء تركيا، الرئيس أردوغان: يجب ألا يتوهم أي أحد بأن رئيس الجمهورية سيغيّر بشكل كبير سياسته تجاه الفائدة، 14 يونيو/ حزيران 2023
[35] Financial Times, Turkey expected to double rates to 17% as new finance team fights to fix economy, 16 June 2023
[36] الجزيرة، “جيه بي مورغان” يتوقع رفع أسعار الفائدة في تركيا إلى 25%، 12 يونيو/ حزيران 2023
[37] أخبار تركيا، متحدث حزب العدالة والتنمية عمر تشيليك: سنصغي مرة أخرى لمواطنينا وسنسمع مطالبهم ونتحرك وفقا لها، مايو/ أيار 2023
[38] الجزيرة، خسرها “العدالة والتنمية” في انتخابات 2019.. كيف يخطط أردوغان لاستعادة بلدية إسطنبول الكبرى؟، 2 يونيو/ حزيران 2023
[39] كل نتائج الانتخابات التي وردت في هذا التقرير مصدرها صحيفة “يني شفق التركية، التي ترصد نتائج الانتخابات والاستفتاءات في تركيا اعتمادًا على الأرقام الرسمية للجنة العليا للانتخابات.
[40] الشرق اقتصاد، إسطنبول محاصرة بين أزمة الإسكان وأخطار الزلازل، 14 مايو/ أيار 2023
[41] سكاي نيوز عربية، ارتفاع إيجارات المنازل في إسطنبول.. معضلة تؤرق المستأجرين، 9 يناير/ كانون الثاني 2023
[42] تلفزيون سوريا، كم بلغ معدل زيادة الإيجارات في تركيا.. تعرف إلى النسبة الجديدة، 5 ديسمبر/ كانون الأول 2022
[43] تلفزيون سوريا، أردوغان: لن نعيد السوريين قسراً وبدأنا ببناء منازل لمليون لاجئ بدعم قطري، 26 مايو/ أيار 2023
[44] TRT عربي، ثلاثة عقود من العمل الحكومي.. تعرَّف وزير الداخلية التركي الجديد، 4 يونيو/ حزيران 2023
[45] المصدر نفسه
[46] Haberler, Hangi ilimizde kaç Suriyeli var? Göç İdaresi Başkanlığı resmi rakamları yayınladı, 7 Mayıs 2022
[47] الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، رئيس الائتلاف الوطني والأمين العام يقومان بزيارة إلى والي إسطنبول، 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2020
[48] الموقع الرسمي لوزارة الخارجية العراقية، القنصل العراقي العام يلتقي والي اسطنبول ويؤكّد؛ مستمرون في تقديم الخدمة لابناء الجالية الكريمة، 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2022
[49] Sabah, İstanbul Valisi Yerlikaya: ‘Suriyeli misafirlerimize sevgimizde en ufak bir değişiklik yok’, 5 Ağustos 2019
[50] صحيفة حبر، أكثر من 97 ألف سوري غادروا إسطنبول خلال 2019، 4 يناير/ كانون الثاني 2020
[51] عربي بوست، مدير أمن إسطنبول وواليها يوضحان من هم السوريون المستثنون من قرارات الترحيل إلى الولايات الأخرى، 27 أغسطس/ آب 2019
https://cutit.app/bzLfI ، https://bit.ly/3JGJqSH
[52] شبكة وطن، قرارات هامة من والي إسطنبول للمخالفين في إسطنبول، 29 يوليو/ تموز 2023
[53] عربي بوست، مدير أمن إسطنبول وواليها يوضحان من هم السوريون المستثنون من قرارات الترحيل إلى الولايات الأخرى، 27 أغسطس/ آب 2019