تداعيات مقتل قاسم السليماني والسيناريوهات المفتوحة
استهدفت غارات أمريكية موكبا يضم كلا من الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني وأبو مهدي المهندس نائب رئيس الحشد الشعبي العراقي، وقد تضاربت الأنباء – لم يصدر أي تصريح رسمي لنفيها أو إثباتها حتى كتابة هذه السطور – حول مقتل نعيم قاسم نائب رئيس حزب الله اللبناني.
جميع المستهدفين في الغارة يمثلون أذرعا مهمة لإيران، فالمستهدف الأول الجنرال قاسم سليماني هو قائد فيلق القدس الإيراني التابع للحرس الثوري الإيراني، ويُعهد إلى الفيلق تنفيذ جميع العمليات الخاصة خارج إيران، وقد وصفت “واشنطن بوست” السليماني بأنه “من أهم صناع القرار في السياسة الخارجية الإيرانية”، والثاني هو رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي الذراع الأبرز لإيران في العراق، والثالث نائب لرئيس الذراع العسكري الأقوى والأبرز لإيران في المنطقة العربية، حزب الله اللبناني. تعد هذه الضربة نقطة تحول كبيرة في العلاقات الإيرانية – الأمريكية التي اتسمت بالشد والجذب الهادئين غير المتهورين في السنوات الأخيرة.
وضعت هذه الغارة إيران في موقف معقد للغاية، فهي أمام خيارين لا ثالث لهما: تصعيد تام ضد مصالح أمريكا في الشرق الأوسط وهو ما قد يسفر عن حرب شاملة غير معلومة عواقبها للطرفين، ولكن المؤكد أن مسرحها والمتضرر الأكبر فيها هي البلاد العربية، وإما سكوت أو رد ضعيف لا يتناسب مع حجم الصفعة التي تلقتها إيران، وهو ما سيؤثر على الصورة النمطية التي تريد إيران تصديرها للعالم عن نفسها بأنها قوة عسكرية إقليمية تتعامل بندية مع الولايات المتحدة والقوى الكبرى.
ويبدو أن الحراك الشعبي في العراق ولبنان يقع في بؤرة اهتمام الأطراف المتصارعة جميعها، فإيران وحلفاؤها المستهدفون كانت لهم أيادٍ طولى في قمع الاحتجاجات الشعبية وتثبيت أركان الحكومات في الدول المذكورة، وفي المقابل دأبت إيران على اتهام الولايات المتحدة بأنها خلف الاحتجاجات الشعبية، كما يبدو أن الولايات المتحدة تريد اللعب على وتر دعم الحراك الشعبي العراقي ضد التسلط الإيراني، يشير إلى ذلك تغريدة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو عقب العملية أن الشعب العراقي مسرور بمقتل الجنرال السليماني وأن العراقيين يرقصون فرحا بالحرية بعد مقتله على حد قوله.
ردود الأفعال
أعلن البنتاجون في بيان له عقب العملية أن عملية الاغتيال كانت بتوجيهات من الرئيس الأمريكي ترامب، وذكر أن العملية كانت “دفاعية” تهدف لردع الخطط الإيرانية الهجومية المستقبلية، واتهم البيانُ السليمانيَّ بأنه كان يعمل على تطوير خطط لاستهداف دبلوماسيين وموظفين أمريكيين في العراق، كما ذكر أيضا أن عملية اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد ظهر يوم الثلاثاء الموافق 31 ديسمبر 2019 كانت بإيعاز وموافقة منه، كما قال وزير الدفاع الأمريكي أن قواعد اللعبة تغيرت، وأن بلاده مستعدة للقيام بكل ما من شأنه الحفاظ على المصالح الأمريكية وشركائها في المنطقة، وصرح وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو بأن واشنطن ملتزمة بوقف التصعيد مع إيران، كما علق ترامب في أول تغريدة له عقب العملية قائلا: “إيران لم تفز مطلقا في الحرب، لكنها لم تخسر في المفاوضات”.
ومن الجانب الإيراني أعلن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي أن انتقاما شديدا ينتظر قتلة السليماني، وأن محبي السليماني يتنادون للثأر لدمائه، كما توعد حسن نصر الله، قائد حزب الله اللبناني، بالثأر والانتقام وإكمال مسيرة المقاومة على حد قوله، في الوقت الذي تداعت فيه الهيئات الشيعية المسلحة سواء ضمن تشكيلات الحشد الشعبي أو ضمن ما يعرف بفصائل المقاومة الإسلامية وأصدرت البيانات والتصريحات متضامنة مع الموقف الإيراني معلنين استعدادهم لضرب المصالح الأمريكية في المنطقة، في الوقت الذي تعالت فيه أصوات نواب وتكتلات داخل مجلس الشعب لتمرير مشروع قرار يقضي بدعوة الحكومة العراقية للقوات الأمريكية بمغادرة العراق، كما غرد وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف قائلا أن استهداف واشنطن للجنرال السليماني – قائد القوات الأكثر فاعلية وتأثيرا في قتال المجموعات الإرهابية مثل داعش والنصرة والقاعدة وغيرهم – هو أمر خطير وتصرف أحمق، وأن واشنطن تتحمل مسئولية جميع عواقب مغامراتها المارقة.
السيناريوهات المتوقعة
التصعيد الإيراني الأمريكي:
من الواضح أن التصريحات الأمريكية التي أعقبت العملية هي في جُلها تصريحات تبريرية دفاعية متحفظة، ليس فيها رغبة باستكمال التصعيد ضد إيران، وهذا يتناسب مع السياسة الأمريكية الحالية الرامية إلى تقليص التواجد العسكري الأمريكي في المناطق الملتهبة كما حدث في أفغانستان وسوريا خلال العام المنصرم. كما أن تغريدة الرئيس ترامب “إيران لم تفز مطلقا في الحرب، لكنها لم تخسر في المفاوضات” تحمل بين طياتها تهديد وتهدئة، فالتهديد في تحذير إيران بمغبة الدخول في حرب مباشرة مع الولايات المتحدة، فإيران ستخسر هذه الحرب على حد قول ترامب، والتهدئة تكمن في الدعوة الضمنية لإيران بالجلوس على طاولة الحوار للتفاوض، فهي المعركة التي لم تخسر فيها إيران مطلقا على حد قوله. وفي خطوة احترازية، أعلنت واشنطن إرسال نحو 750 مقاتل إلى الشرق الأوسط هذا الأسبوع، كما صرح بعض المسؤولين الأمريكيين لرويترز باحتمالية إرسال 3000 مقاتل إضافيين، مما يعني تأهبها واستعدادها لأي تصعيد على الأرض، حتى لو لم ترغب هي في استمرار التصعيد.
في الوقت ذاته فإن ردود أفعال الإيرانيين وحلفائهم هي ردود هجومية متصاعدة تتوعد أمريكا بالثأر والانتقام واستكمال مسيرة الجنرال الراحل، تعد هذه الردود الإيرانية طبيعية في ظل الصفعة القوية التي تلقوها على حين غرة، وهي متناسبة كذلك مع السياسة الإيرانية في السنوات الأخيرة، سياسة إبراز العضلات والتدخلات العسكرية بالوكالة في عدة بلدان عربية مثل سوريا ولبنان واليمن والعراق، وكذلك في السعودية من خلال استهداف أرامكو. كما يدعم هذا التصعيدَ نفوذُ إيران وتأثيرها على عدة مناطق ومصالح أمريكية حيوية في الشرق الأوسط، حيث باتت إيران اليوم قادرة على التأثير في المصالح الأمريكية في الخليج العربي، ومضيقي هرمز وباب المندب، والقواعد والقوات الأمريكية في العراق.
إذن، في الوقت الذي تسعى فيه تصريحات المسئوليين الأمريكيين للتهدئة وعدم التصعيد الشامل، تتصاعد تصريحات الإيرانيين وحلفاؤهم بشكل كبير، إلا أن هذا التصعيد الكلامي – حتى اللحظة – لم يتخطّ مرحلة الخطابات الانفعالية، فبعد مرور أكثر من 24 ساعة حتى الآن لم يحدث أي رد فعل على الأرض. وفي الوقت ذاته، لن يسمح الإيرانيون بهدم صورتهم التي يحاولون رسمها عن أنفسهم منذ سنوات وكلفتهم الكثير من الأرواح والأموال.
وعليه يُتوقع أن المسألة ستؤول في نهايتها إلى تصعيد ما من قبل الإيرانيين وحلفاءهم حفظا لماء وجوههم، قد يكون التصعيد عن طريق استهداف “محدود” خلال الأيام القادمة لمصالح أمريكية في مناطق النفوذ الإيراني في عمليات انتقامية محدودة، ولكنها لن ترقى في النهاية إلى حرب شاملة بأي حال من الأحوال.
وفي حالة أقدم البرلمان على اعتبار القوات الأمريكية الموجودة هي قوات احتلال، فإن العراق قد يكون أمام شكل جديد من أشكال المقاومة ضد احتلال أمريكي جديد للعراق.
التأثير على حراك الشعوب في العراق ولبنان:
يتوقع البعض أن قوات الحشد الشعبي ستتأثر سلبا بمقتل الجنرالين السليماني والمهندس، وهو ما سيصب في النهاية لصالح الحراك الشعبي في العراق. ومع الاتفاق أن الميليشيات العسكرية الشيعية ستتأثر سلبا بمقتل الجنرالين، وأن هذا التأثر سيؤثر سلبا في صراعهم مع القوات الأمريكية، إلا أن الأثر لن يكون بالغا إلى الحد الذي يؤثر على الحراك الشعبي الداخلي، ففي خطوة استباقية سريعة تهدف إلى ترتيب البيت الداخلي، أعلن خامنئي تعيين “إسماعيل قاني” قائدا لقوات فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، يذكر أن قاني كان نائبا للجنرال السليماني، مما يرجح أن الوضع لن يتغير كثيرا، وأن قاني قادرٌ على لملمة الأوضاع بشكل سريع كونه كان لصيقا بالسليماني في مطبخ العمليات منذ وقت طويل. كما أن قوات الحشد الشعبي العراقية لن تتأثر كثيرا بمقتل نائبها، فما زال رئيس الحركة فالح الفياض قائما على رأس قواته والتي يقدر عددها بنحو أكثر من 100 ألف مقاتل. وبالتالي، فيتوقع أن الحراك الداخلي لن يتأثر كثيرا بالتوترات الأخيرة، هذا بفرض صحة ما ذكر أعلاه بأن التصعيد الإيراني ضد واشنطن لن يرقى إلى حرب شاملة على الأراضي العراقية.
كذلك الحال بالنسبة للحراك اللبناني، فقوات حزب الله موجودة بقوة لن تتأثر عمليا بمقتل الجنرالين، وبالتالي سيبقى نفوذها قائما وبقوة في الداخل اللبناني.