انقلاب السودان.. المقدمات والمواقف والمآلات المحتملة

إعداد: وحدة الرصد والتحليل

انقلاب السودان.. المقدمات والمواقف والمآلات المحتملة

مقدمة

في مشهدٍ لم يعد غريبًا على ثورات الربيع العربي، خرج رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أوَّل “عبدالفتاح البرهان”، ليُعلِن الانقلاب على شركائه في المرحلة الانتقاليَّة، ويَحل جميع المؤسَّسَات المنبثقة عنها، ويَعتقل قيادات المكون المدني الذي كان من المنتظر أن يتسلم السلطة في السودان وفق الاتفاق الذي وقعه العسكر والمدنيُّون الذين مثلهم ائتلاف “قوى إعلان الحريَّة والتغيير” الذي قاد الاحتجاجات التي انتهت بالإطاحة بحكم “عمر البشير”.

وإذا كانت المقدمات تفضي إلى النتائج، فإن المقدمات التي سبقت هذا الانقلاب العسكري كانت تنذر بوقوعه، وذلك بعد أن رأينا التجربة المصريَّة تتكرر على أرض السودان، حينما قام العسكر بتوريط المدنيّين في مشاكل لا تنتهي، وشوَّهوا صورتهم أمام الشعب، وحمَّلوهم مسؤوليَّة تردِّي الأوضاع بسبب الانقسامات فيما بينهم والصراع على المناصب، ثم قدَّموا أنفسهم في صورة المنقذ الذي يريد حماية الثورة وتجنيب البلاد الحرب الأهليَّة من خلال الانقلاب وتسلم السلطة.

الخلافات بين المكونيْن العسكري والمدني

بعد عاميْن من بداية المرحلة الانتقاليَّة، وقبيل نقل السلطة إلى المدنيّين، تفجَّرت الأزمات بين المكونيْن العسكري والمدني في حكم السودان، جَرَّاء خلافات شديدة على قضايا مهمَّة، على رأسها مستقبل المرحلة الانتقاليَّة التي أراد العسكر اختصارها والذهاب إلى انتخابات مبكرة، في حين طالب حمدوك بمدّها لأربع سنوات. وتردِّي الأوضاع العامَّة، واتهام العسكر للقوى السياسية بعدم الاكتراث بمشكلات المواطنين السودانيّين. واتهام “قوى الحريَّة والتغيير” للعسكريّين بمحاولة النكوص على مسار التحوُّل المدني الديموقراطي. والانقسام والتشظي وتبني مشروعات فرديَّة، حيث شددت القيادات العسكريَّة السودانيَّة على وجود خلافات عميقة داخل قوى إعلان الحريَّة والتغيير تسببت في تدهور الأوضاع في البلاد. والتهديد المباشر بحشد الأنصار والمؤيدين في الشارع من كلا الجانبيْن[1].

وكانت ذروة التصعيد في شرق السودان، حيث جَرَت عمليَّة إغلاق عقدت المشهد السياسي والاقتصادي، وأربكت حسابات الحكومة المركزيَّة، بسبب انقطاع السلع الإستراتيجيَّة التي تصل من موانئ البحر الأحمر إلى العاصمة الخرطوم، وبقيَّة الولايات. ثم أعلن الجيش في 21 سبتمبر/أيلول عن إحباط محاولة انقلابيَّة قام بها ضبّاط ومدنيون مرتبطون بنظام الرئيس “عمر البشير”. وهي المحاولة التي تعرّض بعدها المكون المدني لحملة انتقادات شديدة اللهجة من جانب العسكر، حيث اتهم رئيس مجلس السيادة السوداني، “عبدالفتاح البرهان”، القوى السياسيَّة بأنها كانت سببًا فيها، وقال إن “القوى السياسيَّة انشغلت بالصراع على السلطة والمناصب”، وإن “شعارات الثورة، من الحريَّة والعدالة، ضاعت وسط خلافات القوى السياسيَّة”. وأضاف أن سبب تدهور الأوضاع الاقتصاديَّة الأساسي هو “الصراع على السلطة بين مكونات الحكومة الانتقاليَّة من المدنيّين”. وكَرَّر “حميدتي”، النائب الأوَّل لرئيس مجلس السيادة، الاتهامات نفسها للسياسيّين، قائلًا إنهم “أهملوا المواطن في معاشه وخدماته الأساسيَّة”[2].

الانقلاب على المرحلة الانتقاليَّة

في 25 أكتوبر/تشرين الأوَّل، أعلنت وزارة الثقافة والإعلام السودانيَّة قيام قوى عسكريَّة باعتقال أغلب أعضاء مجلس الوزراء والمدنيّين من أعضاء مجلس السيادة. ثم قالت الوزارة في بيان لها على صفحتها على الفيسبوك إنه “بعد رفضه تأييد الانقلاب، قوَّة من الجيش تعتقل رئيس الوزراء حمدوك”. وقالت أيضًا إن حمدوك يتعرّض لضغوطٍ لدعم انقلاب، لكنه يرفض ذلك، وحَث الناس على مواصلة الاحتجاجات السلميَّة “للدفاع عن الثورة”[3].

وبعد ساعاتٍ من عمليَّات الاعتقال، خرج البرهان، ليُعلِن حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، وحَلّ مجلس السيادة الانتقالي والحكومة، وإنهاء تكليف الولاة، وتجميد عمل لجنة إزالة التمكين. وأكَّد البرهان الالتزام بالوثيقة الدستوريَّة مع تعليق بعض المواد فيها، متعهدًا بإشراك الشباب في برلمان ثوري يراقب أداءها. وأرجع سبب هذه الإجراءات إلى “الخلافات بين الساسة والطموح والتحريض”، معتبرًا أن “ما تمر به البلاد الآن يهدد أمن الأمَّة”. وتعهد البرهان بتشكيل حكومة كفاءات تدير المرحلة الانتقاليَّة في البلاد. وقال إن القوَّات المسلحة استجابت لمطالب الشعب، لاستشعارها الخطر، ما دفعها لاتخاذ قرار بتصحيح مسار الثورة[4].

وفي اليوم التالي، أصدر البرهان قرارًا بحل اللجان التسييرية في كلّ مؤسَّسَات الدولة وفي النقابات واتحاد المهنيين والاتحاد العام لأصحاب العمل القومي، وهي اللجان التي تشكلت بغرض إنهاء تمكين المحسوبين على نظام البشير ومحاربة الفساد واسترداد الأموال[5].

رد الفعل الشعبي

خرجت أعداد غفيرة من الشعب السوداني إلى الشوراع بمجرد الإعلان عن القرارات التي اتخذها الجيش السوداني، وتظاهر المحتجون في أنحاء متفرقة من العاصمة الخرطوم وبقيَّة ولايات البلاد. ورَدد المتظاهرون هتافات تطالب بالحكم المدني، وإلغاء قرارات قائد الجيش، وعودة حكومة حمدوك. كما أشعل المتظاهرون إطارات السيارات، وقطعوا بها طرق رئيسة في الخرطوم، وقاموا بوضع المتاريس في الشوارع الرئيسة بالمدن السودانيَّة، لمنع مركبات الجيش والشرطة من العبور، وهي ممارسات استخدمها المتظاهرون في ثورة ديسمبر، ونجحت في إرباك المشهد الداخلي، وأجبرت الجيش على التدخل وإزاحة عمر البشير عن الحكم.

واستجابة لدعوات الإضراب، أعلن العاملون في قطاعات عديدة الدخول في إضرابات والانتظام في حركة عصيان مدني شامل ومفتوح، رفضًا للانقلاب وحتى يتم تسليم السلطة للمكون المدني.

وفي مقابل رفض الشارع السوداني الجارف لإجراءات الجيش، هناك شارع آخر، هو الشارع الذي قصده حميدتي حينما هدد بإخراج شارع في مقابل شارع. ويتكون الشارع الموازي من الطبقة التي تكونت خلال السنتين الماضيتيْن من أنصار العسكر والساخطين على حكومة حمدوك بسبب تردِّي الأوضاع المعيشيَّة.

مواقف القوى السياسيَّة الداخليَّة

دَعت أحزاب وكيانات وتجمعات نقابيَّة سودانيَّة الشعب السوداني إلى العصيان المدني والتظاهر رفضًا لخطوة قائد الجيش، وللمطالبة باستعادة الحكومة الانتقاليَّة المدنيَّة، وتحقيق مطالب الثورة الشعبيَّة.

بادرت “قوى الحريَّة والتغيير” إلى إدانة الانقلاب العسكري، ودَعت الشعب للخروج إلى الشارع والعصيان المدني الشامل، كما ندد “تجمع المهنيّين السودانيّين” بالانقلاب، وذكر في بيان له أن “القرارات الرعناء لقائد الجيش ستزيد من ضراوة المقاومة ووحدة الشارع”[6].

وفي السياق نفسِه، دَعَا “حزب الأمة القومي” الشعب السوداني، إلى “الخروج للشوارع دفاعًا عن الديمقراطيَّة”، وأعلن الحزب الشيوعي السوداني رفضه لـ”الانقلاب العسكري”، مطالبًا السودانيّين بـ”الخروج للشوارع وكسر قانون الطوارئ”.

وعلى الجانب الآخر، وافق أنصار مجموعة “الميثاق الوطني” المنشقة عن تحالف “قوى الحريَّة والتغيير” على الإجراءات، ورفضوا وصفها بالانقلاب، واعتبروها خطوة للمحافظة على الوحدة الوطنيَّة، واتهموا رفاقهم في قوى الحريَّة والتغيير بالتسبُّب فيما حدث، بما أحدثوه من احتقان.

موقف الدول العربيَّة والقوى الدوليَّة

بَدَت المواقف العربيَّة وكأنها صدرت عن مصدر واحد، فقد اتفقت كلها على أن الحكومات العربيَّة تراقب الأوضاع بقلق واهتمام، وتدعو إلى احتواء الموقف وعدم التصعيد من جميع الأطراف، وتطالب الفرقاء في السودان بضبط النفس والتهدئة وعدم التصعيد، وتغليب الحكمة والعمل لمصلحة الشعب السوداني. ولم تدن الدول العربيَّة الانقلاب العسكري. وفيما عدا البيان القطري[7]، لم تذكر البيانات العربيَّة شيئًا عن العودة إلى المسار الديمقراطي، وكأنها تدعو إلى الرضا بالأمر الواقع.

وقد أكّدت تقارير صحفيَّة عديدة وجود تأييد عربي للانقلاب، فقد ذكرت صحيفة “تلغراف” البريطانيَّة في تقرير لها أن الانقلاب في السودان قد حظي بدعم من الحلفاء الإقليميّين في مصر والإمارات[8]. كما ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكيَّة أن الانقلاب الذي جرى في السودان تقف وراءه مصر ودول خليجيَّة[9].

وعلى المستوى الأفريقي، قرّر مجلس السلم والأمن بالاتحاد الأفريقي تعليق مشاركة السودان في جميع الأنشطة حتى عودة السلطة التي يقودها المدنيّون، واعتبر أن إجراءات البرهان تهدد بعرقلة تقدم العمليَّة الانتقاليَّة، وإغراق السودان في دوامة عنف[10].

وإذا انتقلنا إلى القوى الغربيَّة، فسنجد أن أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا قد أدانوا الانقلاب العسكري، وأعلنت أمريكا تعليق مساعدات بقيمة 700 مليون دولار كانت تستهدف دعم الانتقال الديمقراطي بالسودان.

ومن جانبها، رفضت روسيا وَصْف ما حدث في السودان بالانقلاب، وفشل مجلس الأمن في اتخاذ موقف قوي في هذا الشأن بسبب اعتراض روسيا على تضمين بيان المجلس أيَّ إدانة لإجراءات الجيش السوداني[11].

أمَّا فيما يَخصُّ إسرائيل، فقد ذكرت صحيفة “جيروزاليم بوست” أن الانقلاب العسكري مثير للقلق لدى إسرائيل، لأنه يمكن أن يؤثر في مسار التطبيع الذي بدأته الخرطوم مع تل أبيب. وأشارت “يديعوت أحرونوت” إلى أن الجناح العسكري في السودان هو الأكثر تأييدًا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل[12].

مآلات الأمور في السودان

رغم صعوبة التنبؤ بمآلات الأمور في ظِلّ الإجراءات التي أعلنها البرهان، وتوالي ردود الأفعال الداخليَّة والإقليميَّة والدوليَّة، فإن ثمَّة سيناريوهات يمكن للأحدث في السودان أن تسير وفق أحدها، وهي كما يلي:

وهو نجاح الانقلاب العسكري، من خلال تمسَّك الجيش السوداني بالإجراءات التي اتخذها، واستنساخ التجربة الانقلابيَّة في مصر، وذلك عن طريق تكليف رئيس وزراء مدني موالٍ للعسكر بتشكيل الوزراة، وتقديمه للشعب السوداني والمجتمع الدولي بوصفه حاكمًا مدنيًّا للدولة، لنفي صفة الانقلاب العسكري عن الوضع القائم، والاعتماد على عامل الوقت في تهدئة الشارع السوداني، والنجاح في تجاوز أيّ تبعات مستقبليَّة للاتقلاب، من جانب الشعب والقوى السياسيَّة المعارضة، أو من جانب القوى الدوليَّة، ثم الذهاب إلى انتخابات يفوز بها مرشح عسكري، ينتقل الحكم بعدها إلى العسكر من خلال رئيس ذي خلفيَّة عسكريَّة.

ويَعتمد نجاح هذا السيناريو على الدعم السياسي والاقتصادي العربي، والخليجي بشكل خاص، لإقناع أمريكا والغرب بتخفيف الضغوط على العسكر، وعدم وَصْف إجراءاتهم بالانقلاب العسكري، والرضا بالخطوات الشكليَّة لإعادة الحياة المدنيَّة، والتعامل مع القيادة الجديدة. وقد يكون لإسرائيل دور مؤثر في هذا الأمر حال حصولها على تأكيدات من العسكر بالمضي قدمًا في عمليَّة التطبيع بعد تمكنهم من السيطرة على مقاليد الحكم. هذا من الناحية السياسيَّة، أمَّا من الناحية الاقتصاديَّة، فإن الخليج يمكن أن يلعب دورًا مهمًّا في تثبيت الوضع الحالي عن طريق تقديم مساعدات ماليَّة كبيرة تخفف على الخرطوم آثار العقوبات الماليَّة المنتظرة من جانب القوى الدوليَّة، وتُحدِث نوعًا من التغيير الذي يُخفف من الصعوبات المعيشيَّة التي يُعاني منها المواطن السوداني وتزيد من مساحة الرضا الشعبي عن إجراءات العسكر، خاصَّة وأن دول محور الثورة المضادة، وفي القلب منها السعوديَّة والإمارات ومصر، لا ترغب في رؤية تجربة ديمقراطيَّة مدنيَّة في السودان أو أيّ دولة عربيَّة أخرى، وهو ما سَيجعلها تدفع في هذا الاتجاه.

وهو نجاح المكون المدني في إفشال مخططات العسكر، والعودة إلى المسار المنصوص عليه في الوثيقة الدستوريَّة، ونقل السلطة إلى المدنيّين في الموعد المحدد، أو في موعد يتم التوافق عليه، وذلك عن طريق التظاهر والاعتصام والعصيان المدني، ووقوف القوى الدوليَّة الفاعلة، وعلى رأسها أمريكا، في صف المدنيّين، خاصَّة وأن المكون المدني السوداني لا ينتمي إلى التيَّار الإسلامي الذي تجاهلت أمريكا والغرب الانقلاب على ممثليه في مصر وتونس.

ويعتمد نجاح هذا السيناريو على تصاعد حِدَّة الغضب الشعبي، ونجاح المحتجين في الضغط على الجيش السوداني من خلال المظاهرات والاعتصامات، وتنفيذ عصيان مدني واسع النطاق، يُعطّل حركة الدولة، ويُصِيب مفاصلها بالشلل، ويَزيد من التوتر والاضطرابات والمشاكل الاقتصاديَّة التي يَصعب على الجيش مواجهتها، الأمر الذي يمكن أن يدفعه للعودة إلى استئناف المرحلة الانتقاليَّة.

وهو جلوس العسكر والمدنيّين إلى طاولة المفاوضات للبحث عن حَلّ للأزمة بوساطة إقليميَّة أو دوليَّة، والوصول إلى صيغة جديدة للتعاون بينهما، قد تقوم على استئناف المرحلة الانتقاليَّة وفق خارطة طريق جديدة، وهو ما قد يُعِيد بعض الهدوء الهش والمؤقت إلى الشارع السوداني والمشهد السياسي.

وقد تكون عودة حمدوك للمشهد مرَّة أخرى، من خلال تكوين وزارة جديدة من التكنوقراط، ولا تقوم على المحاصصة الحزبيَّة، هي المخرج المناسب في ظِلّ هذا السيناريو، ولكن على أساس توافقات جديدة، تتجاوز الخلافات السابقة بين الطرفيْن، وتستبعد بعض الشخصيَّات التي لا يرغب العسكر في التعاون معها ويتهمها بالتحريض على القوَّات المسلحة. خاصَّة وأن البرهان لم يُغلِق باب التعاون مع حمدوك، وهو ما يمكن أن نستشفه من نفيه ما تردد عن احتجاز رئيس الوزراء، وأنه موجود معه في منزله للحفاظ على سلامته، مع تأكيده على أنه تمَّ اختطاف مبادرة رئيس الوزراء من مجموعة معيَّنة، وإشادته بتعاون حمدوك مع المكون العسكري، بقوله: “لم نر منه إلَّا الانضباط وكل الخير، وسَيعود لبيته عندما يزول التهديد”، واتهامه للقوى السياسيَّة بأنها كانت تكبله، وأنه كان يستشعر الخطر[13].

ويعتمد نجاح هذا السيناريو على وجود رغبة إقليميَّة ودوليَّة صادقة للوساطة، تصحبها ضغوط قويَّة على الطرفيْن المدني والعسكري للدخول في مفاوضات حول شراكة جديدة، والقبول بما يترتب على هذه المفاوضات من اتفاقات، حفاظًا على استقرار السودان. خاصَّة وأن الدخول في مفاوضات في ظِل الوضع الحالي سوف يتطلب تنازلات من كلا الطرفيْن، وقد تكون هذه التنازلات أكثر من الجانب المدني الذي يحاول العسكر إقصاءه من المشهد.

وهو انزلاق السودان إلى حالة من الفوضى التي يمكن أن تعم البلاد حال تمسُّك الجيش بما اتخذه من إجراءات، وتمسُّك المكون المدني برفض هذه الإجراءات، واستمرار الشعب السوداني في التظاهر وتحدي سلطة الجيش، وهو ما قد يَدفع العسكر إلى استخدام القوَّة المفرطة في التعامل مع المحتجين، والتوسُّع في سياسة الاعتقال، وسقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، الأمر الذي سوف يشعل الشارع السوداني. وقد تستغل الجماعات الانفصاليَّة والفصائل المسلحة في دارفور وكردفان هذه الأوضاع لإحداث حالةٍ من القلاقل والاضطرابات وإدخال البلاد في دوامة الانفلات الأمني. في ظِل هذه الأوضاع، قد نرى انقلابًا جديدًا على البرهان ورفاقه من داخل الجيش السوداني، وهو ما يمكن أن يُدخل البلاد في مرحلة من عدم الاستقرار. وتزداد فرص مثل هذا الانقلاب المحتمل في ظل حالات التمرد والانقلاب التي تشير إلى وجود قدر من غياب السيطرة على المستويات الوسطى والقاعديَّة داخل المؤسَّسَة العسكريَّة والهيئات التابعة[14].

وبعد استعراض السيناريوهات المختلفة، يَظل السيناريو الأوَّل هو الأقرب إلى الوقوع على ضوء المعطيات التالية:

غير أن الشعب السوداني يَظل فاعلًا مؤثرًا ومهمًّا في المشهد السياسي، طالما تمسَّك بمكتسباته التي انتزعها بعد الثورة على نظام عمر البشير. وقد يؤدِّي خروج المتظاهرين إلى الشوراع بكثافة والتعامل معهم بعنف مفرط إلى فشل مخططات العسكر، وإجباره على العودة إلى التفاهم مع المدنيّين، لأنه سَينزع عن نفسِه – حال اتساع رقعة المظاهرات المعارضة له، وسقوط عدد كبير من القتلى – غطاء الشرعيَّة التي يدعيها، وهو “الاستجابة لمطالب الشعب”. وفي هذه الحالة، يمكن أن تضغط القوى الدوليَّة على العسكر لوقف ممارساته والعودة إلى المسار الانتقالي.

خاتمة

لا شك أن الانقلاب السوداني هو حلقة من حلقات الصراع بين محور الثورة المضادة من ناحيةٍ، وثورات الربيع العربي من ناحيةٍ أخرى، وسوف يمثل – حال نجاحه واستيلاء العسكر على السلطة – هزيمة أخرى تضاف إلى سلسلة الهزائم التي مني بها معسكر الثورة. ولكن المؤسف هو أن التجربة السودانيَّة لم يتعظ أصحابها من التجارب السابقة، رغم رؤية القاصي والداني للسيناريو المصري وهو يُطبَّق بحذافيره في السودان، ومع ذلك كرَّروا نفس الأخطاء التي أوصلتهم إلى هذا الانقلاب “المنتظر”، وانخدعوا بوعود العسكر رغم معرفتهم بما يدبرونه لإفشال تجربتهم، وظنوا أن الجيش سوف يتنازل عن مصالحه ويسلم لهم السلطة، حتى إن حمدوك قال بعد الإعلان عن انقلاب سبتمبر/أيلول، إن “الجيش السوداني الذي حَمَى الثوَّار أمام القيادة لا ينقلب. مَن ينقلبون ويَدعون للانقلاب هم ضد الانتقال المدني، وهم بالضرورة فلول”.


[1] مركز الإمارات للسياسات، الأزمة السياسية في السودان ومآلات المرحلة الانتقالية، 5 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3vNaNCa

[2] BBC عربي، البرهان وحميدتي يتهمان قوى سياسية بالمسؤولية عن محاولة الانقلاب في السودان، 22 سبتمبر/أيلول 2021، https://bbc.in/3Gr6CRC

[3] BBC عربي، الانقلاب في السودان: عبدالفتاح البرهان يحل مجلسي السيادة والوزراء ويعلن حالة الطوارىء، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bbc.in/3GlM10X

[4] Sputnik عربي، البرهان يفرض الطوارئ في السودان ويحل مجلسي السيادة والوزراء، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3GuJiSL

[5] الجزيرة، السودان.. البرهان يحل كافة اللجان التسييرية في النقابات والاتحادات المهنية، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3Ck5Q69

[6]  CNNعربية، السودان.. القوى المدنية تدعو إلى عصيان مدني لمواجهة الانقلاب العسكري، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://cnn.it/3mu6SHD

[7] RT عربي، المواقف العربية والعالمية تجاه “انقلاب” الجيش السوداني على حكومة حمدوك، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/2XXTodG

[8] The Telegraph, Sudan’s coup is an act of defiance towards the UK and US, 26-10-2021, https://bit.ly/3mkv4vF

[9] Washington Post, Behind power grabs in Sudan and Tunisia, the shadow of Gulf monarchies, 27-10-2021, https://wapo.st/3EfC6Iq

[10] الجزيرة، مواقف متباينة في الداخل.. الاتحاد الأفريقي يعلق عضوية السودان، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/2XTrWOb

[11] الجزيرة، مكتفيا بالتعبير عن القلق.. مجلس الأمن يتجه لعدم إدانة “انقلاب” السودان، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3mjRWLZ

[12] وكالة الأناضول، عقب التطورات الأخيرة…تساؤلات في إسرائيل عن مصير التطبيع مع السودان، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3moo4OG

[13] الجزيرة، البرهان: حمدوك معي في البيت وتحركنا لوأد الفتنة ولن نسمح لأي مجموعة أيديولوجية بالسيطرة على البلاد، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3Ej0Q2q

[14] مركز الإمارات للسياسات، الأزمة السياسية في السودان ومآلات المرحلة الانتقالية، 5 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3vNaNCa

Exit mobile version