الباحث:
جو ستورك الناشط السياسي الأمريكي و نائب المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة هيومن رايتس ووتش، وهو أيضا خبير في قضايا حقوق الإنسان بالمنطقة، نشرها في الفصلية الدولية “Social Research”، الصادرة عن مطبوعات جامعة جون هوبكنز، عدد 4 يونيو 2019. وقام بترجمة الورقة مركز المسار للدراسات الإنسانية.
لا يمكن تقديم ملخص موجز لسجل مصر المؤسف في مجال حقوق الإنسان في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي أفضل مما جاء في “مذكرة التسويغ” المصاحبة لإلغاء وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” القيود المفروضة على التمويل العسكري الأمريكي لمصر لأسباب تتعلق بحقوق الإنسان، إذ ذكرت أن ” المناخ العام لحقوق الإنسان في مصر يواصل التدهور”، ثم ذكرت بعدها الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري والتعذيب والوفاة أثناء الاحتجاز، وكذلك القيود المتزايدة على حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات والحق في التجمع السلمي.
فتحت انتفاضة 2011 في مصر آفاقًا واسعة لحرية التعبير والتجمع وتكوين الجمعيات كانت موصدة لعقود، وشعر الناس بحرية التعبير عن آرائهم دون خشية الاعتقال أو المقاضاة، وانتقدت وسائل الإعلام الحكومةَ بحدّة غير مسبوقة، وكذلك كان بإمكان المواطنين تنظيم إضرابات واحتجاجات دون أن تفرقهم الشرطة بوحشية، رغم حدوث بعض الصدامات، وخرجت الجماعات التي كانت محظورة قبلًا مثل جماعة الإخوان المسلمين للعمل في العلن، كما كان ثمة انتخابات حرة ونزيهة للرئيس والبرلمان.
لكن حكومة السيسي، ومن قبله حكومة الرئيس المؤقت المدعوم من الجيش، نقضت هذه المكتسبات على نحو ممنهج، بتعاون متحمس من القضاء في غالب الأحيان. وقد لخص السيسي غايته حين قال في مؤتمر في 5 نوفمبر 2018 ” بعد كل الجهود التي بذلناها، كل أملنا هو أن نرجع إلى ما كنا عليه قبل 2011″.
وقطعًا، فإن السيسي قد عاد بمصر خمسة عقود إلى الخلف في مجال حقوق الإنسان من خلال قمع سياسي عنيف وشامل لم يسبق له مثيل منذ أسوأ أيام حكم الرئيس جمال عبد الناصر في الستينيات.
هذا جزء من مسار إقليمي شمل العديد من البلدان التي دمرتها النزاعات المسلحة وتوطيد الحكم الاستبدادي. ولكن هذه ليست القصة بأكملها؛ فالأداء الاقتصادي كان عمومًا ضعيفًا للغاية، ولم تُمحَ التجربة الحديثة للثورة من الأذهان بعد. وكذلك في جميع البلدان العربية التي شهدت انتفاضات شعبية بدأت في 2010-2011، وقد كانت الانتهاكات الصارخة و الممنهجة لحقوق الإنسان هي ما أشعل فتيل هذه الانتفاضات.
في مصر، كانت الشرارة هي التعذيب ووحشية الشرطة واسعة النطاق. وبينما كنت أكتب هذه الصفحات في 2012، وصفت العملية الانتقالية التي يديرها الجيش في أعقاب رحيل حسني مبارك بأنها” يشوبها الكثير من الشك” فيما يخص حقوق الإنسان، لكنني كنت مفرط التفاؤل حين توقعت أن أصعب النزاعات في ظل جماعة الإخوان المسلمين سوف تتعلق بحرية التعبير والاعتقاد الديني وحقوق المرأة. وكانت الدراسات الاستقصائية تظهر الدعم الشعبي للحقوق الديمقراطية ومبدأ المساءلة.
لكن الانقلاب العسكري الذي أطاح بمرسي بعد عام واحد فقط، بدعم شعبي “كبير” حينئذ، كان إيذانًا ببدء مستوى من القمع أشد وطأة مما كان عليه في العقود الثلاثة لحكم مبارك.
عام مرسي
كانت رئاسة مرسي محفوفة بالصراع السياسي مع الجيش وأجهزة الأمن والقضاء؛ فقبل وقت قصير من توليه منصبه، أبطلت المحكمة الدستورية الانتخابات البرلمانية التي هيمن عليها مرشحو الإخوان، وأصدرت اللجنة العليا للقوات المسلحة “مرسومًا دستوريًا” منحت لنفسها السلطة التشريعية بموجبه.
وفي 5 أغسطس 2012، بعد أسابيع قليلة من تولي مرسي الرئاسة، هاجم مسلحون نقطتي تفتيش عسكريتين في شمال سيناء بالقرب من الحدود مع غزة وإسرائيل، وهو ما أسفر عن مقتل 16 جنديًا، وردّ مرسي بإقالة وزير الدفاع عنوة مستبدلًا به الجنرال السيسي، كما أقال رئيس الاستخبارات العسكرية، وطرد بعض كبار الضباط الآخرين. كما اقترح مرسي تشريعًا يقضي بخفض سن التقاعد، بقصد تخليص القضاء من القضاة كبار السن ممن يُعتَبرون معادين لأجندة الإخوان. وكذلك أصدر “إعلانًا دستوريًا” في نوفمبر 2012 يتضمن قرارات وتعديلات تشريعية صادرة عن الرئاسة تجعله في مأمن من “الطعن القانوني بأي طريق أو أمام أي جهة” لحين سن الدستور الجديد وإجراء الانتخابات البرلمانية الجديدة.
شهدت ولاية مرسي اشتباكات بين المؤيدين والمعارضين. ففي أوائل ديسمبر 2012، أسفرت المصادمات خارج القصر الرئاسي عن مقتل 10 أشخاص، واحتجز أعضاء جماعة الإخوان العديد من المحتجين كرهائن لبعض الوقت-وعندما علّق مرسي قائلًا بأن المعتقلين “اعترفوا” بأنهم “مجرمون مستأجرون”- منح مصداقية لمزاعم تعرض المحتجين للإيذاء الجسدي.
وفي يونيو 2013، في قرية على مقربة من القاهرة، قادت أشهر خطابات الكراهية المعادية للشيعة -من قبل شيوخ السلفيين-إلى القتل الغوغائي لأربعة رجال شيعيين، ووجه مرسي دعوة روتينية لإجراء تحقيق، لكنه أخفق في التأكيد على حق الشيعة في مصر في ممارسة دينهم. كما أقصى المجتمع المسيحي القبطي العصبي عندما رفض دعوة لحضور حفل عيد الميلاد في يناير 2013.
لم يكن لمرسي سيطرة تذكر على قوات الشرطة العدوانية للغاية، وهي التي لجأت في كثير من الأحيان إلى استخدام القوة المميتة بإفراط وانعدام للكفاءة. ففي يناير 2013 ، اندلعت أعمال عنف في شوارع بورسعيد بعدما قضت محكمة بالإعدام على 21 شخصًا فيما يتصل بجرائم قتل جرت أثناء إحدى مباريات كرة القدم قبل عام سبق. ثم واصلت الشرطة إطلاق النار بعد انحسار التهديد ضدهم، وأعادت الكرّة خلال اليومين التاليين، لتصل حصيلة القتلى إلى 50 قتيلًا.
أظهرت هذه الأحداث وغيرها، بما في ذلك حالات الوفاة أثناء الاحتجاز، الحاجة الماسة لإصلاح قطاع الأمن، وهو تحد لم يتصد له مرسي مطلقًا باستثناء إعادة تسمية شكلية لوحدة مباحث أمن الدولة في وزارة الداخلية. وقد رفض النشر العلني للتقرير الذي تلقاه في ديسمبر 2012 من لجنة تقصي الحقائق الرسمية التي عينها للنظر في انتهاكات الجيش والشرطة خلال انتفاضة 2011 ، وأيضا خلال 17 شهراً من الحكم العسكري الذي أعقب ذلك ، ولم يتخذ إجراءات بشأنه. لكن بعض أقسام التقرير سُرِّبَت إلى وسائل الإعلام المصرية والدولية وزعمت أن المؤسسة العسكرية هي المسؤولة عن حالات الاختفاء والتعذيب والقتل خلال هذه الفترة. وبدلاً من إجراء إصلاحات، أكد المدعي العام طلعت عبد الله أن التقرير يخلو من أي دليل يربط الجيش بتلك الفظائع المزعومة ، وأعرب وزير الدفاع السيسي عن أمله بأنه كان يجب “أن يفكر الجميع جيدًا قبل أن يسيئوا للجيش”، وكذلك وجه مرسي تحذيرًا من “التشهير” بالجيش. لكن أيًا من ذلك لم يحمِ مرسى من انقلاب الجيش الذي أطاح به في أوائل يوليو2013.
وقال وزير داخلية مرسي إن الشرطة لن تحمي مقرات جماعة الإخوان المسلمين، وهي التي شهدت اشتباكات وأسوأ أعمال عنف في الأيام السابقة على الانقلاب. وأيضا، تعرضت عشرات النساء للاغتصاب واعتداءات جنسية أخرى في ميدان التحرير أثناء الاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للإخوان المسلمين في الفترة من 30 يونيو إلى 2 يوليو 2013.
دماء في الشوارع
اندلعت اشتباكات مميتة بين مؤيدي مرسي ومعارضيه، وبينهم وبين قوات الأمن في جميع أنحاء البلاد عقب الانقلاب مباشرة؛ ففي 8 يوليو 2013، قتل الجيش والشرطة 51 شخصًا أثناء تفريقهم لمظاهرة سلمية خارج مقر الحرس الجمهوري، كما وقع مالايقل عن 74 شخصًا ضحايًا لإطلاق نار فتاك امتد لحوالي 6 ساعات بدءًا من الواحدة صباحًا بالقرب من اعتصام الإخوان في رابعة العدوية في يوم27 يوليو، عقب أيام قليلة من توجيه السيسي دعوة للتظاهرات لإعطائه ” الأمر والتفويض اللازميْن لمواجهة الإرهاب المحتمل”. وفي أوائل أغسطس، أعلن وزير الداخلية عن عودة كبار ظباط أمن الدولة القدامي لعملهم الذين هُمِّشوا فيه بعد ثورة 2011.
أما الحادث الأخطر – وهو واحدة من أسوأ المذابح التي ارتكبتها قوات الأمن في التاريخ الحديث في أي مكان- فوقع في 14 أغسطس 2013، عندما لجأت قوات الجيش والشرطة إلى القوة المهلكة على نطاق واسع لإنهاء الاعتصامات المؤيدة للإخوان في ميداني رابعة العدوية والنهضة. وبلغت حصيلة القتلى في رابعة وخمس حوادث أخرى موثقة بين 5 يوليو و16 أغسطس هي 1.165 شخصا على الأقل، مع احتمال تجاوز العدد الحقيقي لذلك بالمئات حسب هيومن رايتس ووتش. كما هدد البلطجية ذوي الملابس المدنية أهالي الضحايا الثكالي الذي ذهبوا لمشرحة القاهرة المركزية للمطالبة بجثث أحبائهم.
وبعد مرور أكثر من خمس سنوات، لم يُحاسب أي ضابط على ما يمكن اعتباره جرائم ضد الإنسانية في حين انتهت محاكمة 734 شخصا من متظاهري رابعة في أغسطس 2018- بعدما استغرقت خمس سنوات- إلى الحكم بالإعدام على 75 شخصًا، وبالسجن المؤبد على 47 شخصًا، وبالسجن لخمس عشرة سنة على 374 آخرين. كما ظل 215 شخصًا رهن الاعتقال رغم الحكم عليهم بخمس سنوات وانقضائها بالفعل، لعدم استطاعتهم دفع غرامات تصل إلى عشرات الملايين من الجنيهات تعويضًا لتسببهم في أضرار مزعومة للممتلكات العامة والخاصة.
شهد صيف عام 2013 هجمات طائفية متصاعدة ضد المسيحيين والكنائس، ازدادت في الأيام التالية للانقلاب العسكري ، وفي أعقاب مذبحة رابعة. وتلت الهجمات أسابيع من مزاعم أنصار جماعة الإخوان المسلمين بأن المسيحيين متورطين في الإطاحة بمرسي. وألقت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، التي وثقت الهجمات، باللائمة على “الكراهية للأقباط التي أثارها بعض القادة الإسلاميين” ، و “الاستجابة الضعيفة” من قبل الدولة.
وبعد عمليات القتل الجماعي في الفترة من يوليو إلى أغسطس 2013، قادت اشتباكات أخرى إلى مقتل متظاهرين سلميين وإصابتهم، كما شهدت هذه الفترة أعمال عنف من جانب معارضي الحكومة أيضًا، تمثلت معظمها في قنابل صغيرة استهدفت المؤسسات الأمنية. و في 30 يونيو 2015، اعتدى مهاجمون على موكب المدعي العام هشام بركات و قتلوه.
لكن الهجمات الأكثر دموية ضد الحكومة وقعت في شبه جزيرة سيناء، وتبنت جماعة أنصار بيت المقدس، التي أعلنت نفسها لاحقًا مقاطعة سيناء التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، مسؤولية ألف هجمة، غير الهجمات الأخرى مجهولة الفاعلين، واستهدف معظمها قوات الأمن أو المنشآت العسكرية.
ووفقًا لمعهد “التحرير” في واشنطن؛ أعلنت مقاطعة سيناء مسؤوليتها عن 955 هجمة ، أودت بحياة 588 ضابط أمن و329 مدنيًا ، وذلك بين نوفمبر 2014 وأكتوبر 2016. وكانت شبه جزيرة سيناء مركزًا أيضًا لعمليات مكافحة الإرهاب المصرية، التي أسفرت عن مقتل 7100 شخصٍ ، واعتقال أكثر من 27000 شخصٍ حتى يناير 2018.
وفي أواخر عام 2016، بدأت المجموعة في استهداف نسبة متزايدة من المدنيين، بدوافع طائفية غالبًا. وتسببت التفجيرات الانتحارية في الكنائس، تلك التي تبنتها الدولة الإسلامية، في مقتل ما لا يقل عن 25 شخصًا في القاهرة في 11 ديسمبر 2016، و 45 شخصًا في طنطا والإسكندرية في 9 أبريل 2017. كما قادت سلسلة من جرائم القتل في يناير وفبراير 2017 في شمال سيناء إلى فرار مئات المسيحيين منها، وكان أعنف هجوم لتنظيم الدولة الإسلامية هو الهجوم على مسجد صوفي في قرية الروضة شمال سيناء في 24 نوفمبر 2017، الذي قتل فيه 311 شخصًا.
وكان الجديد بالنسبة لمصر أيضًا حالات الإعدام “المُقَنَّع” خارج نطاق القضاء ، لتبدو كأنها تبادل إطلاق نار، لأشخاص محتجزين بالفعل؛ ففي 1 يوليو 2015 ، قتلت قوات الأمن تسعة من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في شقة بالقاهرة ، بعدما زعمت أنها ألقت القبض عليهم فقط في البداية؛ في حين قال الأقارب إن قوات الأمن ألقت القبض على الرجال ، وأخذت بصماتهم وعذبتهم قبل إطلاق النار عليهم. وفي يناير 2017 ، أعدمت قوات الأمن في سيناء ما بين أربعة وعشرة رجال، احتُجِز بعضهم وأُخفوا قسراً قبل أشهر. وأظهرت مقاطع الفيديو الهاتفية للمشهد عمليات الإعدام التي نُظمت لاحقًا في فيديو رسمي لتبدو كأنها تبادل لإطلاق النار.
ولم تتخذ السلطات أية خطوات لمحاسبة أي من الضباط أو المسؤولين عن عمليات القتل الجماعي للمتظاهرين في عام 2013 ، وكذلك برّأت المحاكم عمومًا الضباطَ القلائل المتهمين في عمليات قتل عام 2011. (وفقًا لتقرير EIPR في أوائل عام 2013 ، وُجِّهت الاتهامات إلى 186 من ضباط الشرطة فيما يخص عمليات القتل التي جرت عام 2011، أُدين منهم ثلاثة ضباط فقط من ذوي الرتب الدنيا ، وحُكم عليهم بالسجن).
وفي هذا قالت هبة مرايف الباحثة في حقوق الإنسان : “لقد حاول المسؤولون محو هذا التاريخ من الفظائع بالتباطؤ في التحقيقات ، حتى أتت الدماء المسفوكة الجديدة وغطّت على ذكريات القديمة وجعلتها باهتة”.
وفي 3 يوليو 2018، وافق مجلس النواب المصري على القانون 61/2018، الذي ينظم معاملة بعض كبار قادة القوات المسلحة، ويمنح الضباط العسكريين رفيعي المستوى مزايا وحقوق الوزراء الحاليين، من بين أمور أخرى تحميهم من المقاضاة بسبب الأعمال ارتكبت أثناء تأدية عملهم في الفترة ما بين تولي المجلس الأعلى للقوات المسلحة السلطة في فبراير 2011 حتى يناير 2016، عندما انعقد مجلس النواب للمرة الأولى. وكانت مسودة سابقة للقانون قد خصصت الفترة بين 3 يوليو 2013 و 8 يونيو 2014، وهو ما يشير بوضوح إلى أن الغرض منه هو تكريس الحصانة و الإفلات من العقاب بسبب عمليات تفريق المتظاهرين القاتلة في أعقاب الانقلاب العسكري.
اعتقالات ومحاكمات واختفاءات
تضمن القمع الذي أعقب انقلاب 2013 عمليات احتجاز واعتقال جماعية ومحاكمات جائرة ممنهجة انطوى بعضها على أحكام بالإعدام ضد مئات الأشخاص في وقت واحد. وكان المستهدفون الرئيسيون هم أعضاء الإخوان الفعليين أو المشتبه في عضويتهم، وأنصارهم، والمتعاطفين معهم. وقد أخبر مسؤولو الأمن وكالة أسوشيتيد برس في مارس 2014 أنهم سجنوا 16000 شخص على مدار الأشهر الثمانية الماضية، وقدّر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، بصورة موثوقة، أن الرقم الفعلي تجاوز 21000 شخص، بمن فيهم معظم كبار قادة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة وكثير من قادة المستوى المتوسط أيضًا. وفي 25 ديسمبر 2013، صدر قانون يعتبر جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية ويجرِّم جميع أنشطتها وجمعياتها تقريبًا – وكان “الانتماء لمنظمة محظورة” بمثابة جملة شاملة لمسوغات الاعتقال. وقدّر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في شهر مايو أنه بحلول ذلك الوقت كان مجموع السجناء 41000 سجين. و كان لدى السيسي تفسير جاهز نقلته جريدة الشروق عنه قائلًا: “عندما يسألني الأجانب عن المعتقلين في مصر، جوابي هو: لم يكن لدينا خيار. كان علينا أن نحتجز من انتهكوا القوانين، وإلا كان البديل قتلهم”.
تزايدت وتيرة الاعتقالات ذات الدوافع السياسية في عام 2018؛ ففي يناير، أعلن رئيس أركان الجيش المتقاعد سامي عنان أنه سيخوض الانتخابات الرئاسية في مارس، فزجّ به السيسي في السجن. وفي فبراير، اعتقلت السلطات عبد المنعم أبو الفتوح، أحد مرشحي الرئاسة في عام 2011، وأعضاء من حزبه “مصر القوية”، بزعم أن المقابلات الإعلامية لأبو الفتوح “أثارت الفوضى وعدم الاستقرار”عبر دعوته إلى مقاطعة الانتخابات، كما وضعت المحكمة أبو الفتوح على “قائمة الإرهاب” الوطنية. وشملت الاعتقالات اللاحقة شعراء ومخرجي أفلام وممثلين وكتاب مسرحيين وراقصة ، بعدما أعلن السيسي أن إهانة الجيش أو الشرطة هي “خيانة عظمى”.
ثم يكون التجديد الروتيني المتكرر لأوامر الاحتجاز رهن المحاكمة (الحبس الاحتياطي) الذي يُبقي الآلاف في السجن دون تهمة لشهور وسنوات في حين كانت حالتهم “قيد التحقيق”، وغالباً ما يكون ذلك بتهم واهية تعوزها الأدلة، ومثال على ذلك: علا القرضاوي وزوجها حسام خلف، اللذين قُبض عليهما بتهمة زائفة هي تمويل جماعة الإخوان المسلمين، وأمضيا 500 يوم (حتى منتصف نوفمبر 2018) في سجون منفصلة، وغالبًا في الحبس الانفرادي، وكان سجنهما يتجدد تلقائيًا كل 45 يومًا. بزعم استمرار “التحقيقات”.
وعلى الرغم من أن قانون الإجراءات الجنائية يضع حدًا للحبس الاحتياطي أقصاه سنتين، فإن السلطات غالبًا ما تتجاهل هذا القانون. وفي يوليو 2014، أقرت وزارة الداخلية بأن 7389 من المعتقلين ظلوا رهن الحبس الاحتياطي بسبب الاضطرابات التالية للانقلاب في العام السابق، وقد جمعت صحيفة مصرية تقارير وزارة الداخلية للأشهر الخمسة الأولى من عام 2015 ، وقدّرت إجمالي عمليات الاعتقال في تلك الفترة بما يقرب من 4000 حالة.
وحتى عندما كانت الاتهامات جادة، فإن المحاكمات لم تكن كذلك. إذ غالبًا ما حوكم مئات المدعى عليهم معًا وأُدينوا جماعياً، دون بذل أدنى جهد لإثبات ارتكاب الجرم فرديًا. ففي 22 مارس 2014، حكم القاضي سعيد يوسف على 529 شخصًا بالإعدام فيما يتعلق بالهجوم على مركز للشرطة – وهو حكم فج لدرجة أن المدعي العام هشام بركات بدأ إجراءات الاستئناف، معربًا عن قلقه من “الإدارة السليمة للعدالة”، كما أوصى نفس القاضي في 28 أبريل بإعدام 683 شخصًا فيما يتعلق بهجوم منفصل آخر على مركز للشرطة، وأكد 37 حكما من أحكام الإعدام السابقة، وكذلك صدر الحكم الثالث بالإعدام الجماعي في 2 ديسمبر 2014، عندما حكم القاضي ناجي شحاتة على جميع المتهمين الذين بلغ عددهم 188 شخصا بالإعدام فيما يتعلق بهجوم على الشرطة في محافظة الجيزة.
وفي يونيو 2016، كانت تبرئة 22 محتجًا اعتقلو قبل شهرين استثناءً بارزًا لما أصبح بمثابة إجراء روتيني للمحكمة، وهو الإدانة ، استنادًا إلى شهادة ضابط الأمن فقط. ففي تلك الحالة، لم يتمكن ضابط الأمن الوطني من الإجابة على أسئلة القاضي بشأن المسؤولية الجنائية لكل واحد من المدعى عليهم. واعتبارًا من أواخر نوفمبر 2018، أصبح عدد أحكام الإعدام التي نُفِّذَت 32 حكمًا، كما أصدرت المحاكم العسكرية والمدنية ما لا يقل عن 581 حكمًا بالإعدام في خلال الأشهر الـ11 ذاتها، وشملت قضايا جنائية “عادية” وكذلك قضايا ذات أبعاد سياسية، تضمنت بدورها متهمين زعموا تعذيبهم أثناء فترات “إخفائهم” من جانب قوات الأمن.
رغم تأهُّب المحاكم الجنائية العادية الواضح لإجراء محاكمات زائفة وإدانة دون أدلة؛ وسّع السيسي – في أكتوبر 2014 – من نطاق دور المحاكم العسكرية إذ وجّه ممثلي الادعاء العام للدولة لأن يُحيلوا جميع الجرائم المزعومة التي تنطوي على “مرافق عامة وحيوية”، بما في ذلك مرافق نقل الكهرباء وخطوط الأنابيب والطرق والجسور، إلى نظرائهم العسكريين. (جُدّد هذا المرسوم ذو السنتين لمدة خمس سنوات إضافية).
وبعد ثلاثة أسابيع؛ وجد خمسة من طلاب جامعة الأزهر أنفسهم أمام محكمة عسكرية بتهمة التهديد بالعنف ضمن احتجاجات مناهضة للحكومة في الجامعة، بعدما قضت محكمة جنائية في القاهرة بعدم الاختصاص. واستخدم المدّعون المرسومَ بأثر رجعي في بعض الحالات، بما فيها حالات أفرجت عنها المحاكم العادية بكفالة. وبحلول يناير 2018، كان قد أحيل للمدعين العسكريين قضايا لما يربو على 15000 مدني، منهم أطفال. وفي إحدى الحالات، أصدرت محكمة عسكرية في القاهرة حكماً بالسجن المؤبد على صبي يبلغ من العمر ثلاث سنوات عن طريق الخطأ بعدما أخفق ممثلو الادّعاء العام في حذف اسمه من القضية.
ووثقت التنسيقية المصرية للحقوق والحريات 912 حالة من ضحايا الاختفاء القسري خلال العام من أغسطس 2015 إلى أغسطس 2016 ، لم يعاود 52 منهم الظهور حتى وقت صدور التقرير. وكانت التقارير الواردة حول حالات الاختفاء القسري من الكثرة ، حتى إنها دفعت بالمجلس القومي لحقوق الإنسان – شبه الرسمي- ليدعو وزارة الداخلية علنًا إلى اتباع متطلبات قانون الإجراءات الجنائية لتقديم المشتبه بهم إلى السلطات القضائية دون تأخير.
وكان من أبشع حالات الاختفاء القسري حالة طالب الدكتوراه الإيطالي الذي يدرس النقابات المصرية “جوليو ريجيني”، الذي اختفى وسط القاهرة في يناير 2016 ثم وُجدت جثته على طريق القاهرة -الإسكندرية السريع، وأظهر تشريح للجثة أنه تعرض للضرب الوحشي والحرق والطعن على مدار أربعة أيام قبل أن يكسر معذبوه رقبته. وقال مسؤولو المخابرات الأمريكية لاحقًا إن لديهم “دليلًا دامغًا” على اختطاف مسؤولي الأمن المصري لريجيني وتعذيبه وقتله. وفي 29 نوفمبر 2018 ، ذكرت وسائل الإعلام الإيطالية أن ممثلي الادعاء العام بروما، الذين يشعرون بالإحباط بسبب عدم التعاون المصري في التحقيق المشترك، أضافوا أسماء خمسة مسؤولين أمنيين مصريين إلى قائمة المشتبه بهم، منهم اثنان من ضباط الأمن الوطني، بعد رفض مصر استجواب أي من مسؤولي الأمن فيما يتعلق بالقضية مدعيةً عدم توفر أدلة كافية تبرر مقاضاتهم.
في 3 يوليو 2017، قضت المحكمة الإدارية العليا – آخذة في اعتبارها وقائع اختفاء الطبيبة أسماء خلف بمحافظة أسيوط في أبريل 2014- بإلزام وزارة الداخلية بالكشف عن مكان الأشخاص المحتجزين، وهل هم على قيد الحياة أم لا. لكن يبدو أن الحكم لم يكن له تأثير يذكر على سلوك الدولة.
إذ “أخفت” السلطات 230 شخصًا على الأقل بين أغسطس 2017 وأغسطس 2018، وفقًا لحملة “أوقفوا الاختفاء القسري” ومقرها القاهرة. وكانت من بين القضايا ذات الدلالة الرمزية قضية “إبراهيم متولي”، وهو محام ومؤسس لجمعية عائلات المختفين، اعتقلته السلطات في 10 سبتمبر 2017 عندما كان على وشك الصعود إلى الطائرة في رحلة متجهة إلى جنيف، وكان متولي متجهًا إلى الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي بالأمم المتحدة (WGEID) لتقديم معلومات حول اختفاء ابنه “عمرو متولي” الذي فقد في أوائل يوليو 2013. أخفت السلطات إبراهيم لعدة أيام قبل توجيه الاتهام إليه بـ “تأسيس منظمة غير قانونية” و “التواصل مع جهات أجنبية للإضرار بأمن الدولة” و “نشر أخبار كاذبة”، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، لا يزال هو في السجن دون وجود معلومة عن موعد محاكمته ولا يزال ابنه في عداد المفقودين.
وقد أورد الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري أو غير الطوعي في تقريره الأخير المقدم إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذي يغطي الفترة من مايو 2017 إلى مايو 2018، أنه رفع 173 حالة عاجلة إلى الحكومة المصرية- تلقّى ردًا واحدًا عليها- وأن عدد الحالات المعلقة قد ارتفع من 258 إلى 363حالة .
التعذيب والوفاة أثناء الاحتجاز
يبدو أن التعذيب على أيدي الأجهزة الأمنية تراجع خلال العام الذي قضاه مرسي رئيسًا، بيد أنه لم يتوقف تمامًا؛ ففي يناير 2013، في منتصف عام رئاسة مرسي، أبلغت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية أنها تأكدت من صحة ثلاث حالات من أصل 10 حالات وفاة في الاحتجاز بسبب التعذيب كانت وسائل الإعلام المصرية قد نشرت عنها.
شهدت السنوات الخمس التي تلت الإطاحة بمرسي استئنافًا شاملًا للتعذيب على يد الشرطة، إلى جانب الحصانة الواسعة والمُمَأسَسَة لأفراد الشرطة، خصوصًا من جانب جهاز الأمن الوطني التابع لوزارة الداخلية. في يونيو / حزيران 2014، حيث كشفت صحيفة الجارديان في تقرير لها عن التعذيب واسع النطاق للمصريين “المختفين “في مجمع سجن العازولي السري، داخل معسكر عسكري كبير قرب الإسماعيلية، حيث جُرِّدوا من ملابسهم، وأُرغموا على البقاء في أوضاع مؤلمة جسديًا وصُعقوا بالكهرباء. وقد أخبر باحث في منظمة العفو الدولية الصحيفة بأنه قُبِض على العديد منهم عشوائيًأ ثم عُذّبوا لمعرفة ما إن كان لديهم أي معلومات ذات صلة.
وفي مارس 2016، اتهمت السلطات المحامي والناشط الحقوقي نجاد البرعي بارتكاب جرائم قد تؤدي به للسجن لمدة 25 عامًا ، بعدما أجرت شركته ورش عمل حول قانون مقترح لحظر التعذيب، كما اتخذ مجلس القضاء الأعلى إجراءات تأديبية ضد قاضيين ساعدوا في تصميم ورش العمل تلك. وفي فبراير 2017، في خطوة منفصلة ضد الناشطين المناهضين للتعذيب، أغلقت السلطات مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف.
وقد أبان حكمان صدرا في 11 نوفمبر 2018 عن التباين الشاسع في الأحكام الخاصة بالقتل أثناء الاحتجاز وتلك الخاصة بالهجمات على الشرطة. ففي أحدهما؛ أيدت محكمة النقض أحكامًا بالإعدام ضد سبعة رجال أدينوا بقتل ضابط شرطة في عام 2013. وفي الآخر، حكمت المحكمة على أحد رجال المباحث وضابط شرطة بالسجن لمدة ثلاث سنوات وستة أشهر، على التوالي، بعد إدانتهما بالضرب حتى الموت لرسام عمره 22 عامًا كانوا قد احتجزوه تعسُّفيًا.
كذلك أدى الحبس الجماعي إلى تدهور ظروف الاحتجاز تدهورًا شديدًا يهدد الحياة. فذكرت صحيفة الوطن، نقلاً عن هيئة الطب الشرعي بوزارة العدل، وفاة 90 حالة في الحجز في محافظات القاهرة والجيزة في الأشهر العشرة والنصف الأولى من عام 2014بزيادة قدرها 40% عن العام السابق، وقال متحدث باسم هيئة الطب الشرعي : إن الارتفاع المفاجئ في الوفيات جاء في المقام الأول نتيجة للاكتظاظ بعد موجات من الاعتقالات. كما أبلغ مركز النديم عن 35 حالة وفاة معظمها في مراكز الشرطة بين أوائل يونيو وسبتمبر عام 2014، في حين لم تعلن الحكومة عن أي معلومات تتعلق بالوفيات أثناء الاحتجاز في جميع أنحاء البلاد، وذكرت مبادرة دفتر أحوال المستقلة، أن ثمة 834 حالة وفاة في الحجز بين فبراير 2011 وأبريل 2016 ، منهم 493 حالة منذ الانقلاب العسكري في يوليو 2013.
قوانينٌ جديدة وغيابٌ للعدالة
الإرهاب/مكافحة الإرهاب
منذ الأيام الأولى التالية للإطاحة بمرسي؛ احتج الحكام الجدد في مصر بالإرهاب لتبرير عنف الشرطة والجيش ضد المتظاهرين والتجمعات واسعة النطاق لمن يُشتَبه في كونهم أعضاء بجماعة الإخوان المسلمين أو مؤيدين لها أو متعاطفين معها، أو على حد تعبير المتحدث باسم الجيش- آنذاك- ” أحمد علي” الذي قال “لا يمكن مراعاة الحقوق المدنية وحقوق الإنسان عند التعامل مع الإرهاب”، ووضعت جميع شبكات التليفزيون شعار”مصر تحارب الإرهاب” في زاوية شاشاتها ، باللغتين الإنجليزية والعربية. وأدان السيسي جماعة الإخوان المسلمين ووصفها بأنها “الأب الروحي لجميع المنظمات الإرهابية”، في مقابلة مع واشنطن بوست في مارس 2015.
في 25 ديسمبر 2013، وسط حملة اعتقال مستمرة استهدفت المتعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم من منتقدي النظام من خارج جماعة الإخوان؛ أعلنت الحكومةُ المصرية جماعةَ الإخوان المسلمين رسمياً منظمة إرهابية، مما يتيح للسلطات استدعاء المواد من 86 إلى 99 المتعلقة بالإرهاب في قانون العقوبات. وأشار مسؤول بوزارة الداخلية إلى أن المشاركين في المظاهرات سيواجهون عقوبة السجن لمدة خمس سنوات، وأن قادة الاحتجاج يخاطرون بعقوبة الإعدام. جاء ذلك بعد يوم من انفجار قنبلة في مركز للشرطة في المنصورة أسفر عن مقتل 16 شخصًا وجرح 130 آخرين، على الرغم من حقيقة أن جماعة الإخوان المسلمين أدانت الهجوم فورًا، وإعلان جماعة بيت المقدس في سيناء مسؤوليتها وإقرار السلطات بعدم وجود دليل على تورط الإخوان في الحادث. كما أعلنت وزارة الداخلية عن “خط ساخن” للمواطنين للإبلاغ عن الأعضاء المشتبه بانتمائهم إلى الجماعة المحظورة، وجاء في عنوان الصفحة الأولى لصحيفة اليوم السابع اليومية – المملوكة ملكية خاصة – “الشعب يريد إعدام جماعة الإخوان المسلمين”.
من المؤكد أن لدى مصر تخوفات مشروعة بخصوص الإرهاب، وخاصة في شمال سيناء، لكن الاستخدام المسيس لتلك المخاوف لتبرير حملة الإبادة ضد الإخوان المسلمين وغيرهم من المعارضين تسبب في انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان. فقد أغلقت الحكومة صحيفة حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان، وجمّد البنك المركزي حسابات 130من قادة الإخوان وأكثر من 1000 منظمة غير حكومية ومؤسسة خيرية زعمت أن لها صلات بجماعة الإخوان المسلمين، بالإضافة إلى الاعتقالات العشوائية باسم “الإرهاب” بسبب “الجرائم غير العنيفة”، مثل امتلاك أدبيات الإخوان، كما أدرجت المحاكم الجنائية – بناء على طلبات المدعي العام – آلافًا من المصريين على قائمة للإرهاب، وهو تصنيف عادة ما يتضمن حظر السفر وتجميد الأصول وتعليق الحقوق السياسية، ولم يتمكنوا من الطعن على ذلك الإدراج.
استكملت الحكومة نصوص مكافحة الإرهاب في قانون العقوبات – واسعة النطاق أصلًا- بقانون الكيانات الإرهابية الذي دخل حيز التنفيذ في فبراير 2015، وهو قانون يُمَكّن “هيئات الدولة المختصة” من حل المنظمات المعينة التي ” تُخِلُّ بالنظام العام”، وتجميد أصولها، وإغلاق الشركات التابعة لها، و حظر العضوية فيها، وحظرالاجتماعات، وتجريد الأفراد من حقوقهم السياسية.
كما وسّع قانون رقم 95/2015 الخاص بمواجهة الإرهاب الذي سُنَّ في أغسطس 2015، من تعريف قانون العقوبات للإرهاب ليشمل العصيان المدني، ويسمح بالاحتجاز دون مراجعة قضائية، وبالمراقبة دون أمر قضائي، ويصنف الأفعال المُجرَّمَة بالفعل بوصفها إرهابًا، ومن ثَم يجيز فرض مزيد من العقوبات الصارمة، كما حظرت المادة 35 نشر الأخبار التي تختلف مع تصريحات وزارة الدفاع حول عمليات مكافحة الإرهاب أو تُناقضها.
وفي أبريل 2018 صدق السيسي على قانون تنظيم إجراءات التحفظ والحصر واﻹدارة والتصرف في أموال الجماعات اﻹرهابية واﻹرهابيين، مما مكّن الدولة من مصادرة أصول الأفراد والمنظمات المعنية. وبعد بضعة أيام، أضافت المحكمة 1529 شخصًا إلى قوائم الإرهاب، ما سمح بالاستيلاء على أصولهم. وفي 11 سبتمبر 2018، أعلنت لجنة التحفظ على أموال الجماعات الإرهابية وإدارتها والتصرف فيها أنها صادرت أصول ما يقرب من 1600 شخص، وأكثر من 1100 منظمة غير حكومية، و 175 مدرسة ومستشفى، و 33 محطة تلفزيونية وموقع إلكتروني، ونقلت 60 مليار جنيه مصري (3.4 مليار دولار) لخزينة الدولة. و في أكتوبر 2015، أعلنت وزارة الداخلية أنها ألقت القبض على 12000 شخص حتى الآن بتهمة الإرهاب.
كذلك، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في شبه جزيرة سيناء في أبريل 2014، وفي البلاد بأكملها في أبريل 2017 في أعقاب تفجيرين لكنائس. فزاد ذلك من الترصُّد والمراقبة، ووفر غطاءً سياسيًا للاعتقالات الجماعية المتواصلة بالفعل والحبس الاحتياطي اللامتناهي. وفي أكتوبر 2017، أعادت السلطات رسمياً قسم الطوارئ في محاكم أمن الدولة، الذي لا يمكن الطعن على قراراته، وأحالت المعتقلين السياسيين إليه حتى في الجنح البسيطة.
قانون يحظر التجمع السلمي
تحركت حكومة مابعد الانقلاب بقيادة الجيش سريعًا لمنع الاحتجاجات العامة بمرسوم صدر في 24 نوفمبر 2013 (قانون 107/2013 بشأن الحق في الاجتماعات العامة والمواكب والمظاهرات السلمية) الذي أعطى وزارة الداخلية سلطة حظر وتفريق أي اجتماع “ذي طبيعة عامة”، بما في ذلك الاجتماعات المتعلقة بالحملات الانتخابية، إذا مااشترك فيها أكثر من 10 أفراد، وحددت المادة 7 من المرسوم عقوبة السجن لمدة تصل إلى خمس سنوات ، وغرامة تصل إلى 100000 جنيه مصري بسبب جرائم غامضة الصياغة مثل “التأثير على مجرى العدالة” أو “إعاقة مصالح المواطنين”، وهي التي يحتمل أن تجرم الممارسة المشروعة للحق في التجمع السلمي.
دعا الناشط اليساري المعارض البارز علاء عبد الفتاح إلى مظاهرة بعد يومين من سن القانون، أي في 26 نوفمبر ، للاحتجاج على المحاكمات العسكرية للمدنيين، استخدمت الشرطة فيها خراطيم المياه والهراوات لتفريق 200 أو 300 متظاهر ، واعتقلت العشرات بمن فيهم عبد الفتاح وشقيقته منى سيف والعديد من محاميي حقوق الإنسان. وفي وقت لاحق، أدانت محكمة جنائية داخل سجن طرة 25 منهم بانتهاك القانون 107 ، وحكمت عليهم بالسجن 15 سنة (خُفّضَت بعد الاستئناف إلى خمس سنوات) وغرامات كبيرة. وفي 27 نوفمبر، أدانت المحكمة 21 امرأة وفتاة ، تتراوح أعمارهن بين 15 و 19 عامًا بتهمة “التجمع العام غير القانوني” في الإسكندرية، وحكمت على 14 منهن ممن تجاوزن الـ18 عامًا بالسجن لأكثر من 11 عامًا. ولم تتوصل محاكمتهن إلى دليل يدعم مزاعم الدولة بتورطهن في “البلطجة” أو أعمال الشغب.
كذلك شملت الاعتقالات الأخرى لنشطاء المعارضة غير الإسلاميين مؤسسي حركة 6 أبريل أحمد ماهر ومحمد عادل. ففي أواخر أبريل 2014 ، جمدت المحكمة أنشطة حركة 6 أبريل، استجابةً لشكوى محامٍ مستقل وأسابيع من التشهير الإعلامي من جانب قنوات مؤيدة للحكومة للحركة بسبب مزاعم “تشويه صورة مصر في الخارج” ، و”العمل لصالح قوى أجنبية”. وقد لخّص ماهر، الذي انتقد مرسي جهارًا وأيَّد انقلاب يوليو 2013 في بدايته، التحول القاتم للأحداث ، قائلاً : إن “كل ماثُرنا ضده في 25 يناير 2011 قد عاد، وأسوأ من ذي قبل”.
وفي 25 يناير 2014، أعلنت وزارة الداخلية عن أكثر من ألف حالة اعتقال فيما يتعلق بذكرى انتفاضة 2011، وصرح وزير الداخلية محمد إبراهيم في مؤتمر صحفي في أوائل يناير بأنه “يتم توقيف ما لا يقل عن 500 إلى 600 شخص كل جمعة” ، وأضاف “في البداية، كنا ننتظر تحول المظاهرة إلى أعمال العنف، لكننا الآن نواجههم بمجرد التجمع، وعندما نواجههم يفر البعض راكضين، لكننا نحتجز كل من نستطيع الإمساك به “.
وفي هذا الصدد، قال الرئيس السيسي في احتفال بعيد الشرطة في يناير 2015 ” لا أقول إن الاحتجاج محظور” قبل أن يتذرع بـ”هؤلاء الـ 90 مليون مصري الذين يريدون الأكل والشرب والعيش والشعور بالأمان بشأن مستقبلهم.” ثم أضاف ” ثمة أشياء يمكن قبولها وأخرى قد تضر بالبلاد”، بعدما ذكر انخفاض إيرادات السياحة.
في 3 ديسمبر 2016، قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بأن المادة 10 من القانون 107 التي تسمح لوزارة الداخلية بحظر الاحتجاجات انتهكت الدستور. وبعد أسبوع وافق مجلس الوزراء على مشروع تعديل لها ينص على أن الوزارة يمكنها حظر الاحتجاج إذا ماحصلت على موافقة قضائية، لكن لم ينتج عن التعديل أي قيود عملية على تطبيق القانون 107 وإنفاذه.
وفي عام 2017، سمح النائب العام بإحالة انتهاكات قانون التجمع والمراسيم الأخرى إلى قسم الطوارئ في محاكم أمن الدولة.
كان الإعلام الحر نتيجة بارزة لانتفاضة 2011، واستمرت سنة رئاسة مرسي. لكن مصر أصبحت منذ عام 2013 واحدة من بين أسوأ الدول التي تسجن الصحفيين والكتاب والنقاد عمومًا ممن تعتبر جريرتهم الوحيدة هي الكلمة المكتوبة أو المنطوقة.
ولم تجنّد حملة إسكات الناقدين حملة الجيش والشرطة والقضاء لصالحها فحسب، بل امتدت لتشمل جميع وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية الرئيسية، بدءًا من الصحف القومية مثل الأهرام إلى المنصات المستقلة التي كان أصحابها من أشد مؤيدي الانقلاب العسكري. وفي 26 أكتوبر 2014 ، أصدر مجموعة من رؤساء التحرير بيانًا قوميًا متعصبًا يؤيد حملة السيسي ضد الإرهاب ، ويؤكد أنهم سوف يعيقون ” تسلل العناصر الداعمة للإرهاب” ، ويرفض نقد السياسات أو المؤسسات الحكومية “التي قد تنعكس سلبًا على أداء تلك المؤسسات”. وردًا على ذلك، أيد مئات الصحافيين بيان “القمع انتصار للإرهاب”: “التصدّي للإرهاب بوسائل إعلام مقيّدة وأفواه مكممة يعني تقديم الأمة كفريسة سهلة إلى التطرف”.
في 22 فبراير 2018، بثت “بي بي سي” تقريرًا حول التعذيب، دعا بعده المركز الصحفي الرسمي المسؤولين المصريين والشخصيات البارزة إلى مقاطعة الشبكة البريطانية. وفي اليوم التالي؛ أعلن السيسي أن “تشويه” الجيش والشرطة يعد “خيانة عظمى” وقال : إن المسألة لم تعد مسألة حرية تعبير. وبعد عدة أيام؛ احتجزت السلطات “خيري رمضان” وهو مقدم برنامج حواري مؤيد للحكومة بتهمة التشهير ونشر أخبار كاذبة ، بعدما بث مقطعًا تشتكي فيه زوجة عقيد بالشرطة من انخفاض أجور الشرطة.
وفي الوقت نفسه تقريبًا؛ دعا المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام محرري الصحف والمواقع الإلكترونية إلى التسجيل إلزاميًا في “دورات تدريبية إستراتيجية في الإعلام والأمن القومي”. وقبلها بأسابيع؛ وقَّعت وزارة التعليم العالي على بروتوكول لتسجيل أعضاء هيئة التدريس والطلاب في “دورات تدريبية” مماثلة.
كما فرض المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام غرامة على صحيفة المصري اليوم بقيمة 150,000 جنيه مصري (8,376 دولار أمريكي) لما نشرته عن الجهود الحكومية لحشد الناخبين في الانتخابات الرئاسية التي انقضت لتوّها، وهي التي فاز فيها السيسي بولاية ثانية بنسبة 97% من الأصوات، وأمر الصحيفة بالاعتذار إلى الهيئة الوطنية للانتخابات. وفي حادثة منفصلة؛ داهمت الشرطة مكتب موقع إخباري، وألقت القبض على رئيس التحرير بسبب إعادة نشر مقالة لصحيفة نيويورك تايمز حول المخالفات الانتخابية مثل توزيع أموال على الناخبين وتوقيع الغرامات على من لم ينتخبوا.
بحلول نهاية عام 2018، كان هناك مالا يقل عن 25 صحفيًا معتقلين بسبب عملهم في مصر، منهم 19 اعتقلوا بتهم “نشر أخبار كاذبة ، وفقًا للجنة حماية الصحفيين التي تتخذ من نيويورك مقراً لها. ففي 22 مايو 2018 حكمت محكمة عسكرية على “إسماعيل الإسكندراني”، الصحفي والباحث الذي غطى التطورات في سيناء، بالسجن لمدة 10 سنوات بزعم نشره “معلومات سرية” غير محددة، بعدما أمضى ما يقارب ثلاث سنوات دون تهمة في الحبس الاحتياطي.
كما واجه “جمال حافظ”، مسؤول الملف القضائي في جريدة الفجر اتهامات بــ”إهانة المجلس الأعلى للقضاء” بعدما كتب عن تعيينات أقارب القضاة ومسؤولي الأمن. وفي فجر يوم 23 مايو 2018، داهم مسؤولو الأمن شقة المدون والناشط الحقوقي “وائل عباس” واقتادوه معصوب العينين إلى مكان غير معلوم ثم قُدِّم للنيابة بعدها بثلاثة أيام بزعم انضمامه إلى “جماعة إرهابية” واستخدامه وسائل التواصل الاجتماعي لنشر “أخبار كاذبة”. وقبلها، في فجر 6 مايو 2018، داهم ضباط أمن دولة بملابس مدنية منزل شادي أبو زيد البالغ من العمر 25 عامًا الذي نشر ما يقرب من عشرين فيديو ساخرًا – علمانيًا بلا شك- على موقع يوتيوب؛ واتهمته السلطات هو وغيره من المدونين غير الإسلاميين بـ”نشر أخبار كاذبة” و “الانضمام إلى جماعة محظورة”.
اعتقلت السلطات كذلك “أمل فتحي”، الناشطة في مجال حقوق المرأة، في مايو بعد نشرها مقطع فيديو على فيسبوك تنتقد فيه القمع السياسي وتروي وقائع حادثة تحرش جنسي، ثم حكمت عليها المحكمة بالسجن لمدة عامين بتهمة “نشر أخبار كاذبة بقصد الإضرار بالأمن القومي” ولم تزل “قيد التحقيق” فيما يتعلق بقضية أخرى تواجه فيها اتهامات بالانضمام إلى “منظمة إرهابية” ، و”إساءة استخدام الإنترنت”.
لم تكن الرقابة المباشرة والترهيب والسجن هي الطرق الوحيدة التي تحاول الحكومة المصرية السيطرة بها على وسائل الإعلام. فثمة قانون دخل حيز التنفيذ في أكتوبر 2018 يوجّه وسائل الإعلام الالكترونية للتسجيل في المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام ، ويتمتع بسلطة حظر أي موقع ويب بتهم ارتكاب جرائم عدة، منها “نشر أخبار كاذبة” و “إهانة الأديان الإبراهيمية”، كما يتطلب التسجيل رسمًا قدره 50000 جنيه مصري (2800 دولارًا أمريكيًا) دون أي ضمان بأن المجلس والأجهزة الأمنية ستوافق على الطلب.
وقد وثّق “حسام بهجت” – الذي اعتُقِل واستُجوِب في نوفمبر 2015 بعد أن نشرت “مدى مصر” مقالته حول تفاصيل المعارضة داخل الجيش- استحواذ جهاز المخابرات العامة على وسائل الإعلام الرئيسية، ووصف “هشام قاسم”، الناشر الصحفي السابق في جريدة المصري اليوم، عمليات الاستحواذ والشراء بأنها ” تَدافُع للشراء استجابة لتكليف معلن من رئيس الجمهورية بالوصول إلى مستوى الاصطفاف الإعلامي الكامل وراء القائد”. وكانت إحدى وسائل الإعلام التابعة للمخابرات، وهي شبكة تلفزيون DMC، تخطط لإطلاق قناة لمنافسة شبكتي الجزيرة والعربية بمساعدة مالية من “تركي آل الشيخ” – وزير الرياضة السعودي المقرب من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان- لكن عُلِّقت المفاوضات في أعقاب مقتل الصحفي السعودي “جمال خاشقجي” في 2 أكتوبر 2018. وفي 6 يناير 2019 ، بث برنامج الأخبار البارز لشبكة CBS مقابلة مع الرئيس السيسي حاولت الحكومة المصرية منع عرضها، وعندما بث برنامج “60 دقيقة ” المقابلة؛ وجه مسؤولو الأمن المصريون وسائل الإعلام في البلاد إلى عدم تغطية البث بل عدم الإتيان على ذكره.
استهداف نشطاء حقوق الإنسان
تصاعد عداء الحكومة المصرية المتواصل منذ عقود لمنظمات المجتمع المدني غير الحكومية، وخصوصًا التي تختص بحقوق الإنسان، طوال الفترة التالية لثورة 2011. وعندما تولى الجنرالات الحكم، واصلت السلطات التضييق على المنظمات غير الحكومية وتهديدها بزعم عدم امتثالها لقانون الجمعيات لعام 2002 شديد التقييد، واستحدثت -في فترة وجيزة-مشروع قانون أكثر تقييدًا. كذلك انتظمت وسائل الإعلام التابعة للدولة في تشويه الناشطين في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، اتباعًا لخطى وزيرة التخطيط والتعاون الدولي فايزة أبو النجا ، إحدى الباقين من حكومة الرئيس السابق مبارك، ووصفتهم بـالمتآمرين المدعومين من الخارج لزعزعة استقرار البلاد. (تشغل أبو النجا حاليًا منصب مستشار الأمن القومي للسيسي).
في يوليو 2011، أعلن المدعي العام لأمن الدولة أنه سيحقق في تهم الخيانة ضد المنظمات غير الحكومية غير المسجلة التي تلقت تمويلًا من الخارج، وفي نوفمبر، تلقت البنوك أمرًا من المحكمة الجنائية في القاهرة للإبلاغ عن جميع معاملات الحساب الخاصة لـ 63 من نشطاء ومنظمات حقوق الإنسان. وأعدّت وكالة الأمن الوطني التابعة لوزارة الداخلية، إلى جانب جهاز المخابرات العامة، “تقريرًا لتقصي الحقائق” سُرِّبت أجزاء منه إلى وسائل الإعلام في سبتمبر، وكشف عن وضعه لـ 37 مجموعة “قيد التحقيق”.
وقد كانت المنظمات الغربية -الأمريكية منها بشكل أساسي- التي موّلت الجمعيات المصرية هي المستهدَفة، ففي أواخر ديسمبر 2011، داهمت قوات الأمن مكاتب 10 منظمات غير حكومية، بما في ذلك Freedom House”، والمعهد الوطني الديمقراطي (NDI)، والمعهد الجمهوري الدولي (IRI)، والمركز الدولي للصحفيين، ومؤسسة Konrad Adenauer ،ومنعت 17 موظفا غير مصري من مغادرة مصر، واتهمت تلك المنظمات بتمويل مظاهرات المعارضة ، بناء على طلب من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. وفي مارس 2012، غادر جميع الموظفين الأجانب باستثناء واحد فقط ، بعد أن دفعت الولايات المتحدة كفالة تقدر بنحو 4 ملايين دولار (حوالي 300 ألف دولار للشخص).
وفي يونيو 2013، حكمت محكمة جنائية في القاهرة على 43 موظفًا من موظفي المنظمات غير الحكومية بالسجن لمدة تتراوح بين سنتين وخمس سنوات بزعم إدارة منظمات غير مرخصة وقبول تمويل أجنبي بقصد “الإضرار بالأمن القومي”، بعد محاكمة بدأت في فبراير 2012 . كما أوقف الحكم كذلك عمل الجهات الممولة الأمريكية والألمانية. وفي أبريل 2018، ألغت محكمة النقض إدانات 2013 وأمرت بإعادة المحاكمة، وفي 20 ديسمبر 2018 ، برأت محكمة جنوب القاهرة الجنائية المتهمين من جميع التهم.
وفي الوقت نفسه، كثفت السلطات حملتها لاستهداف المنظمات المصرية. ففي يوليو 2014، أعلنت وزارة التضامن الاجتماعي أن “جميع الكيانات التي تمارس العمل المدني” أمامها 45 يومًا للتسجيل بموجب قانون المنظمات غير الحكومية لعام 2002 ، ثم مددت المهلة المحددة حتى 10 نوفمبر. وبموجب القانون 84/2002 – الذي ما زال ساريًا- يمكن للسلطات وقف عمل الجمعيات متى ما شاءت ومصادرة أصولها وممتلكاتها ورفض المرشحين لمجالسها.
وفي سبتمبر 2014، أصدر السيسي مرسومًا عدّل بموجبه من قانون العقوبات لإتاحة السجن مدى الحياة لعدد من الجرائم ذات الصياغات الفضفاضة، بما في ذلك تلقّي الأموال الأجنبية “بهدف مواصلة الأعمال التي تضر المصالح الوطنية”. كذلك، ألغت منظمات حقوقية مصرية بارزة خططها للمشاركة في المراجعة الدورية لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة لسجل حقوق الإنسان في مصر المنعقد بجنيف في نوفمبر.
في يونيو 2015، زار “خبراء” وزارة التضامن الاجتماعي مكاتب معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان (CIHRS)، وطلبوا وثائق التسجيل والميزانيات والبيانات المالية وعقود التمويل الخاصة بالسنوات الأربع السابقة. وفي فبراير 2016، طالبت السلطات الضريبية بملايين الجنيهات المصرية بزعم أنها ضرائب متأخرة، وحظرت سفر أكثر من 10 نشطاء حقوقيين، وأمرت وزارة الصحة بإغلاق مركز النديم لإعادة تأهيل ضحايا العنف والتعذيب بسبب ” ممارسة عمل غير مرخص به”. وفي مارس، استُدعيَ نشطاء بارزون للاستجواب، وحظر أمر قضائي فرضته المحكمة تغطية وسائل الإعلام للقضية. وفي سبتمبر، جمدت المحكمة أصول ثلاث مجموعات وأموال شخصية لخمسة مدافعين عن حقوق الإنسان.
وفي نوفمبر 2016؛ أقر البرلمان -الذي يعمل بسرية تامة- تشريعات تجرم عمل المنظمات غير الحكومية “ذات طابع سياسي” وتطالب أنشطة المنظمات غير الحكومية “بالتوافق مع خطة الدولة واحتياجاتها وأولوياتها التنموية”. وفي 24 مايو 2017، وقع الرئيس السيسي القانون رقم 70/2017 الذي ينظم عمل الجمعيات والمؤسسات الأخرى العاملة في مجال العمل المدني، ويحظر العمل الذي “يضر بالأمن القومي أو النظام العام أو الآداب العامة أو الصحة العامة”، وهي مصطلحات مبهمة يمكن أن تستخدمها السلطات لتجريم الأنشطة المشروعة.
وأنشأ القانون الهيئة الوطنية لتنظيم المنظمات الأجنبية غير الحكومية التي تضم ممثلين عن جهاز المخابرات العامة والبنك المركزي ووزارتي الدفاع والداخلية، وتتمتع بسلطة التدخل في كل جوانب إدارة المنظمات غير الحكومية وأنشطتها، وفَرْض عقوبات بالسجن تصل إلى خمس سنوات. وحتى نوفمبر 2018، لم تصدر الحكومة اللوائح التنفيذية للقانون الجديد. وواصلت السلطات استخدام اللوائح التنفيذية للقانون 84/2002 للتضييق على نشطاء المنظمات غير الحكومية وترويعهم.
ولا تعتمد السلطات على الوسائل الإدارية والتنظيمية فقط لقمع عمل مجتمع حقوق الإنسان في مصر. ففي أوائل مارس 2018، اعتقلت السلطات “عزت غنيم” -رئيس التنسيقية المصري للحقوق والحريات التي كانت في صدارة تغطية وقائع التعذيب والاختفاء القسري- بعد “اختفائه” لمدة ثلاثة أيام، ووجهت إليه نيابة أمن الدولة تهم “نشر أخبار كاذبة” و “الانضمام إلى جماعة غير قانونية”. وفي 15 مارس، أصدرت وزارة الداخلية مقطع فيديو تضمن لقطات غنيم يزعم فيها أن جماعات حقوق الإنسان والنشطاء يساهمون في الإرهاب. ثم أمر القاضي بالإفراج عنه في 4 سبتمبر، لكن الشرطة واصلت احتجازه رغم أمر المحكمة. وحتى لحظة كتابة هذه الأسطر؛ كانت آخر مرة شوهد فيها في 13 سبتمبر 2018 عندما زارته زوجته في مركز للشرطة، وهو اليوم نفسه الذي كان من المفترض إطلاق سراحه فيه.
في الأول من نوفمبر، أجرت قوات الأمن عددًا من المداهمات فجرًا واعتقلت 31 شخصًا من منازلهم ، منهم العديد من موظفي التنسيقية وغيرهم من المحامين والنشطاء الحقوقيين. وفي اليوم عينه، أعلنت التنسيقية عن تعليق أنشطتها.
حتى لحظة كتابة هذه السطور، حظرت السلطات المواقع الإلكترونية للعديد من منظمات حقوق الإنسان، ضمن أكثر من 500 جهة أخرى حظرت مواقعها بما فيها وسائل إعلامية. كما صودرت جوازات سفر أكثر من اثني عشر ناشطًا بارزًا في حقوق الإنسان وجُمّدَت أصولهم، ومُنِعوا من السفر، وسُجن عشرات الناشطين في مجال حقوق الإنسان والديمقراطية على أساس انتهاك القانون الذي يجرم الاحتجاجات السلمية. وشعر آخرون بأنهم مضطرون لمغادرة البلاد على إثر تهديدات صريحة أو ضمنية بالملاحقة أو الأذى الجسدي. وبالفعل، انتقلت بعض المجموعات إلى الخارج وحاولو مواصلة عملهم من هناك. وتضاءل عدد المجموعات النشطة في مصر، وأضحت تعمل بموظفين وقدرات تقل كثيرًا عما كانت عليه سابقًا، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن السلطات جعلت التمويل أكثر صعوبة، ومن ثَمَّ قلص المانحون دعمهم ، وخصوصًا تجاه القضايا “الحساسة” مثل التعذيب والاختفاء القسري.
في أوائل نوفمبر ، أقر الرئيس السيسي بأن قانون المنظمات غير الحكومية الجديد “احتوى على الفوبيا والخوف” من المنظمات غير الحكومية، وأعرب عن “الأمل في أن نتمكن من التحرك لإعادة صياغته”، وبناء على ذلك، عيّن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي لجنة لمراجعة القانون، لكن في الوقت ذاته استمرت الاعتقالات الجماعية للنشطاء السياسيين ونشطاء حقوق الإنسان بلا هوادة بواقع 40 حالة على الأقل في أكتوبر ونوفمبر.
في ضوء ذلك، يصعب تفويت المفارقة في إعلان الحكومة إنشاء المفوضية العليا لحقوق الإنسان في أواخر نوفمبر، وهي التي تضم ممثلين عن وزارات الخارجية والداخلية ووكالات الاستخبارات، وعُهِد إليها بمهمة “الرد على الادعاءات” حول انتهاكات حقوق الإنسان. وكان السيسي شكك – في منتدىً عام قبل أسابيع قليلة – في الانتقادات الموجهة لسجل مصر المروع في مجال حقوق الإنسان ، وقال: “أود أن أسجل أن الحفاظ على الدول هو حق من حقوق الإنسان”.