المحتويات
- مقدمة المترجم
- ملخص تنفيذي
- مقدمة الورقة
- فشل اتفاقيات التطبيع في تحقيق أهدافها
- نهجان أمريكيان لتسوية الصراعات الإقليمية
- تدهور الأوضاع بعد إبرام اتفاقيات التطبيع
- استمرار الاستيطان في الضفة
- لماذا لم تنجح اتفاقيات التطبيع في حل الصراع؟
- خاتمة الورقة
مقدمة المترجم
يتزايد الحديث حول اتفاق تطبيع مزمع بين السعودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث تعمل إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، على إنجازه قبل أن يترك الأخير البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2025.
ورغم سعي بايدن إلى التوسط بين كل من السعودية و”إسرائيل” لإتمام الاتفاق، إلا أن هناك أصواتا أمريكية ترى أنه لن يكون في مصلحة الولايات المتحدة، بل تؤكد أن له تداعيات سلبية على الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة.
من هذه الأصوات بول بيلار، الذي كان مسؤولا أمريكيا بارزا في إدارات جورج بوش الأب، وبيل كلينتون، وجورج بوش الابن، والذي عمل لمدة 28 عاما في مجتمع الاستخبارات الأمريكي. فقد نشر “معهد كوينسي” الأمريكي ورقة له، وترجمها “مركز المسار”، أوضح فيها كيف أن الحوافز التي تقدمها واشنطن للرياض لإتمام التطبيع، ستضر بالمصالح الأمريكية في نهاية المطاف. وعلى رأس هذه الحوافز يأتي الاتفاق الأمني الأمريكي المزمع توقيعه مع السعودية، مقابل تطبيعها مع “إسرائيل”.
وتضم هذه الأصوات الرافضة لاتفاق التطبيع، جيريمي بريسمان، أستاذ العلوم السياسية ومدير دراسات الشرق الأوسط في “جامعة كونيتيكت” الأمريكية. إذ نشر المعهد نفسه ورقة له بعنوان: “اتفاق التطبيع السعودي-الإسرائيلي.. وتداعياته على العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية”.
وقد آثر “مركز المسار” ترجمة هذه الورقة أيضا؛ لعدة أسباب. فهي من ناحية، تقدم تحليلا دقيقا للتجارب السابقة والمخاطر المحتملة لاتفاقات التطبيع في المنطقة. ومن ناحية أخرى، تسلط الضوء على الفجوة بين الوعود الكبيرة التي صاحبت “اتفاقيات أبراهام” والواقع الذي شهدته المنطقة منذ إبرامها، بما في ذلك تصاعد العنف وزعزعة استقرار الشرق الأوسط.
هذا فضلا عن أن الورقة تسعى إلى تقديم رؤية بديلة تعتمد على توجيه النفوذ الأمريكي نحو الضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات للشعب الفلسطيني، بدلا من السعي الأمريكي المحموم لزيادة اتفاقات التطبيع، التي أثبتت عدم فعاليتها.
ونود التأكيد هنا على أن الرؤى التي تتبناها الورقة حول القضية الفلسطينية، بما في ذلك طرق تسويتها، لا تعكس بالضرورة توجهات “مركز المسار”. إنما يقدم المركز ترجمة هذه الورقة لمساعدة الباحثين والدارسين والمهتمين العرب على فهم أعمق للتوجهات المختلفة في واشنطن حيال عملية التطبيع بين السعودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي.
وإليكم نص الورقة، التي تبدأ بـ”ملخص تنفيذي”.
ملخص تنفيذي
لقد أعربت إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، والحكومة الإسرائيلية برئاسة، بنيامين نتنياهو، عن دعمهما لفكرة الاتفاق الثلاثي الذي بموجبه تطبع المملكة العربية السعودية علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل، في مقابل تقديم الولايات المتحدة مزايا كبيرة للمملكة، مثل الضمانات الأمنية.
وكانت إحدى النقاط الرئيسية التي استُخدمت للتسويق لهذا الاتفاق هي الادعاء بأنه قد يمهد الطريق لتسوية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني المرير، والذي اندلع مؤخرا من جديد ليشكل تهديدا مركزيا للسلام في الشرق الأوسط.
بالرغم من ذلك، ونظرا لتجربة “اتفاقيات أبراهام” التي أبرمتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، وطبعت بموجبها العلاقات بين أربع دول عربية وإسرائيل على أمل الدفع نحو حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، فإن هناك شكوكا عميقة ومبررة تجاه الاتفاق المزمع إبرامه بين إسرائيل والسعودية.
فاتفاقيات التطبيع لم تقدم شيئا يُذكر لدفع عملية حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي قُدما. وحتى قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم يكن هناك أي تلميح إلى أن إسرائيل اتّبعت سياسة معتدلة بفضل اتفاقيات التطبيع. ومنذ 7 أكتوبر، شهدنا أكبر هجوم فلسطيني في تاريخ إسرائيل، تلاه تدمير إسرائيل لغزة وقتل الآلاف من الفلسطينيين، في صراع يهدد بزعزعة استقرار الشرق الأوسط بأكمله.
هذه الورقة تستعرض السجل التاريخي والدوافع ذات الصلة حول العلاقة المزعومة بين حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني واتفاقيات التطبيع الإسرائيلية-العربية. وتخلص الورقة إلى أن اتفاق التطبيع الذي تتوسط فيه الولايات المتحدة مع السعودية سيعيق تحقيق السلام بين إسرائيل وفلسطين.
وفي الواقع، يُظهر التاريخ القريب أن السعودية والولايات المتحدة قد تفقدان ورقة ضغط كبرى يمكن استخدامها للضغط على إسرائيل لتغيير سياساتها، وأن التركيز على حل القضية الفلسطينية عبر التطبيع يُبعد الأنظار -بلا جدوى تُذكر- عن لب الصراع العربي-الإسرائيلي، وهو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
وبدلا من متابعة السير على هذا النهج الذي ثبت فشله، والمتمثل في السعي إلى السلام من خلال تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول الأخرى، فإن الطريق الأفضل ينطوي على استخدام النفوذ الأمريكي لتوجيه عملية السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين مباشرة.
ولتنفيذ ذلك، يجب على الولايات المتحدة ما يلي:
1) استخدام نفوذها من خلال المساعدات العسكرية التي تقدمها لإسرائيل لتأمين وقف إطلاق نار دائم في غزة كأولوية ملحة.
2) إعادة التركيز على القضايا الأساسية في عملية السلام الإسرائيلية-الفلسطينية، مثل الاحتلال، والمطالبة بتنازلات حقيقية وجوهرية من الحكومة الإسرائيلية.
3) الاستخدام الكامل للنفوذ الأمريكي، مثل مبيعات الأسلحة والمساعدات العسكرية، في السعي لتحقيق هذه الأهداف.
مقدمة الورقة
أعربت إدارة بايدن وحكومة نتنياهو عن دعمهما لفكرة اتفاقية التطبيع الثلاثية بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية. وكلاهما -أي بايدن ونتنياهو- من شأنهما أن يحققا بذلك إنجازا دبلوماسيا بارزا ويعززا التحالف المناهض لإيران.
لكنهما يختلفان كثيرا بشأن التنازل الإسرائيلي الذي يمكن أن يكون جزءا من هذه الحزمة. فالولايات المتحدة تريد من إسرائيل الالتزام بحل الدولتين؛ بينما تعارض الحكومة الإسرائيلية بشدة هذا المطلب.
وبالطبع، هذه ليست المرة الأولى التي يسعى فيها رئيس أمريكي إلى أن تُبرم إسرائيل اتفاقا مع دول عربية لم تكن محورية في الحروب العربية-الإسرائيلية، بمعنى أنها ليست المرة الأولى التي يسعى فيها رئيس أمريكي لعقد اتفاق تطبيع، لا اتفاقية سلام.
ففي عام 2020، تفاوضت إدارة ترامب على اتفاقيات أبراهام، وهي العملية التي أسفرت في النهاية عن تطبيع إسرائيل مع أربع دول عربية: البحرين والمغرب والسودان والإمارات.
والفكرة الرئيسية التي يحملها داعمو هذه الاتفاقيات هي أنها ستتمكن من تجاوز المطالب الفلسطينية التي تعتبرها عقبة في طريقها؛ وذلك لأن هذا النوع من الاتفاقيات التي تبدأ من الخارج إلى الداخل، من شأنه أن يجبر الفلسطينيين على تغيير توجهاتهم.
فالفلسطينيون -بحسب هذه الرؤية- سيشعرون بالقلق من أن يُتركوا خلف الركب أو يُدفعوا إلى هامش الأحداث، بينما تتقدم المنطقة نحو التكامل، ويصير اعتراضهم بمثابة صرخة في فلاة.
ومع ذلك، فإن السجل التاريخي لاتفاقيات التطبيع يروي قصة مختلفة، مفادها أنها لم تقدم شيئا للدفع نحو حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فالصراع لم يتلاش، ولم تتحول (حركة المقاومة الإسلامية) حماس ولا حكومة الليكود الإسرائيلية بشكل إيجابي نحو تبني التعاون والتطبيع. بل بدلا من ذلك، شهدت الأشهر التسعة الماضية هجوما هائلا وداميا من قِبل حماس على إسرائيل ومواطنيها، أعقبه تدمير إسرائيل لغزة وقتلها لآلاف الفلسطينيين.
وتستعرض هذه الورقة سِجل اتفاقيات أبراهام، بما في ذلك الادعاءات المتعلقة بمدى مساهمتها في حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، كما تقيّم أسباب عدم تحقق ادعاءات المؤيدين للتطبيع. وتختتم بالدروس السلبية التي يمكن استخلاصها في حال التوصل إلى اتفاق بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، وهي أن:
- كلا من السعودية والولايات المتحدة ستبددان نفوذهما المحتمل للتأثير على السياسات الإسرائيلية.
- هذا النهج الإقليمي سيصرف الانتباه -وبلا أي جدوى- بعيدا عن جوهر الصراع العربي (الفلسطيني)-الإسرائيلي، ما يخاطر باندلاع أعمال عنف في المستقبل.
- هذا النهج الإقليمي يعتمد نموذجا للاستقرار لا تدعمه الأدلة التاريخية.
فشل اتفاقيات التطبيع في تحقيق أهدافها
علينا هنا أن نطرح سؤالا: ماذا يمكننا أن نفهم من اتفاقيات أبراهام كأداة لحل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني؟
ففي الظاهر، حظيت تلك الاتفاقيات بترويج واسع النطاق، وزعم الرئيس ترامب أنها واحدة من أبرز إنجازاته الدبلوماسية. ولم يكتف الرئيس بايدن -الذي خالف ترامب في بعض قضايا السياسة الخارجية- بدعم اتفاقيات التطبيع، بل حاولت إدارته اتباع نفس النموذج، من خلال توسيعها إلى المجال الإسرائيلي-السعودي. وسعى مسؤولو بايدن بحماس إلى زيادة عدد اتفاقات التطبيع مع إسرائيل.
وخلال حفل التوقيع في البيت الأبيض في 15 سبتمبر/أيلول 2020، وعد ترامب بالسلام العميق، قائلا إن “بعد عقود من الانقسام والصراع، نحتفل بفجر شرق أوسط جديد”. وأضاف: “ستعمل هذه الاتفاقيات معا كأساس لسلام شامل في جميع أنحاء المنطقة”. وقال ترامب أيضا: “إن التوقيع اليوم يخط مسارا جديدا في مجرى التاريخ”.
ولم تكن ادعاءات نتنياهو على ذات الدرجة من المبالغة، لكنه أيضا أبدى طموحا كبيرا، إذ رأى أن اتفاقات التطبيع بإمكانها “إنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي مرة واحدة وإلى الأبد”. وأضاف: “طويلا بعد زوال الجائحة، سيظل السلام الذي نصنعه اليوم قائما”.
وفي مقابلة أجريت بعد وقت قصير من توقيع اتفاقيات التطبيع، كان السفير الأمريكي في إسرائيل آنذاك، ديفيد فريدمان، متفائلا للغاية، حين قال: “عندما تهدأ الأمور، في غضون أشهر أو عام، سينتهي الصراع الإسرائيلي-العربي”.
وإذا كان الادعاء العام هو أن اتفاقيات التطبيع سيتبعها سلام يعم الإقليم، فقد توقع داعمو هذه الاتفاقيات أنها ستُوقف ضم إسرائيل لبعض أو كل الضفة الغربية، وستؤدي إلى تقارب إسرائيلي-فلسطيني.
ووجه وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، كلماته إلى نتنياهو في حفل التوقيع، قائلا: “شكرا لكم على وقف ضم الأراضي الفلسطينية”. ثم تحدث إلى الشعب الفلسطيني، وأوضح أن اتفاقيات التطبيع ستمكن الشعب الفلسطيني من “تحقيق آماله في دولة مستقلة داخل منطقة مستقرة ومزدهرة”. وبدوره، قال وزير خارجية البحرين، عبد اللطيف بن راشد الزياني، إن حل الدولتين سيكون “حجر الأساس” للسلام الدائم.
وكجزء من الاتفاق، وافقت إسرائيل على عدم ضم الضفة الغربية. وأشارت بعض التقارير إلى أن الوعد الإسرائيلي كان محدودا زمنيا، وأن إسرائيل وافقت فقط على عدم ضم الضفة الغربية لعدد معين من السنوات، ربما أربع سنوات. في ذلك الوقت، وصف “فريدمان” ذلك بأنه “تعليق مؤقت” لسياسة الضم الإسرائيلية.
ولكن ماذا عن التقارب الإسرائيلي-الفلسطيني؟ كيف يمكن لاتفاقات إقليمية لم تشمل زعماء أو مفاوضين فلسطينيين أن تؤدي إلى تحول كبير في العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين؟
فعند توقيع الاتفاق، حدد المسؤولون والمحللون عدة مسارات محتملة. وكما سنرى في قسم لاحق، تظهر الأدلة من عام 2021، وخاصة من عام 2023 إلى 2024، أن أيا من هذه الآليات لم تحقق نتائج ملموسة حتى الآن.
وقال ترامب للبرنامج الأمريكي “فوكس أند فريندز”، إن اتفاقيات أبراهام كانت جزءا من جهد أمريكي للضغط على الفلسطينيين للتفاوض على اتفاق سلام.
وقدم آخرون الاتفاقيات بعبارات أكثر لطفا، مؤكدين أنها تتيح للعرب فرصة لإقناع إسرائيل. وكان أحد الاقتراحات أن تنضم الولايات المتحدة إلى دول الخليج العربية “في إقناع إسرائيل والفلسطينيين بالعمل نحو إبرام اتفاق قد يحقق نتائج ملموسة”.
والفكرة هنا هي أن هذه الدول التي تطبع مع إسرائيل لديها الآن نفوذ عليها. من ذلك قول مساعد وزير الخارجية الإماراتي للشؤون الثقافية والدبلوماسية العامة، عمر غباش: “سنكون قادرين على الوقوف داخل خيمة القضية الفلسطينية والضغط لصالح الفلسطينيين”.
وفي غضون ذلك، اتخذ جاريد كوشنر، أحد أفراد عائلة ترامب ومستشاره، مسارا مختلفا، حيث ذكر أن اتفاقيات التطبيع كانت محاولة لتجاوز الفلسطينيين، مؤكدا أن الفلسطينيين سيدركون لاحقا خطأهم وسينضمون في النهاية. وقال نصا: “فيما يتعلق بالفلسطينيين، أعتقد أنه مع مرور الوقت سيأتون إلينا”. وأضاف أنه “لا يمكن للولايات المتحدة أن تكون راغبة في السلام أكثر من رغبة الآخرين فيه”.
ومن جانبه، كتب الباحث الأمريكي، مايكل دوران، أن اتفاقيات التطبيع تتجاهل القضية الفلسطينية، دون وجود أعراض جانبية عديدة لهذا التجاهل. وقال: “يبدو أن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي سيصبح، مع مرور الزمن، … معضلة محلية يصعب حلها، محملة بتكاليف بشرية خاصة”.
وبحسب رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط السابق، سلمان الدوسري، فإن السلطة الفلسطينية “ليس لديها خيار سوى قبول الحقائق الإقليمية المحيطة بها”.
وعلى هذا، لم يكن يهم ما يعتقده القادة الفلسطينيون عن اتفاقات التطبيع، فلربما يدرك هؤلاء القادة ذلك في النهاية ويلعبون وفق القواعد التي وضعتها اتفاقيات أبراهام.
وعندما سُئل عن الرسالة التي يوجهها للفلسطينيين، أجاب الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بأن “من المهم اغتنام الفرص المتاحة”. وحينها أيضا قال رئيس معهد القدس للاستراتيجية والأمن، إفرايم إنبار: “في رأيي، يتعين على [الفلسطينيين] إعادة تقييم توقعاتهم بشأن ما يمكن تحقيقه”.
ولكن ماذا لو لم يتكيف الفلسطينيون مع هذا الواقع الجديد المفترض؟ وكما كتب الدوسري، فإذا لم ينضم الفلسطينيون، “فإنهم يخاطرون بأن يُهمَّشوا”.
وبحسب شبكة الجزيرة، فقد توقع ترامب أن الفلسطينيين سينضمون في النهاية أيضا، أو “سيُترَكون في العراء”.
ووفق الأستاذ في كلية لندن للاقتصاد، فواز جرجس، فإن القضية الفلسطينية يُنظر إليها على أنها “قضية ثانوية، وأنها موضوع مشتت للانتباه في سياق اتفاقيات التطبيع الموقعة بين إسرائيل ودول الخليج”. وبعبارة أخرى، تجاوزت الاتفاقيات البُعد الفلسطيني، حيث واجه الفلسطينيون خيار: الانضمام إلى الرَكب أو التخلف عنه.
وهناك آخرون توقعوا أن تؤدي اتفاقيات التطبيع إلى مرونة أكبر في موقف إسرائيل. وكتب رجل الأعمال الإماراتي، خلف أحمد الحبتور، أنه قبل الاتفاق، وبما أنه لم يكن لدى إسرائيل ما تخسره، كان بوسعها أن تتبنى موقفا متشددا. ولكن “كلما زاد ارتباط إسرائيل بجيرانها العرب على مستويات متعددة، كلما كانت أكثر انفتاحا على تقديم التنازلات”.
والملاحظ أن ما تشترك فيه كل هذه الرؤى تقريبا هو فكرة أن اتفاقيات التطبيع كانت بمثابة طريق نحو تحسين العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية.
نهجان أمريكيان لتسوية الصراعات الإقليمية
على مدى عقود من الزمان، قامت عملية السلام التي ترعاها الولايات المتحدة على نهجين. الأول على المفاوضات المباشرة بين الطرفين، والثاني على جهود إقليمية متعددة.
وكانت اتفاقيات أبراهام ضمن النهج الثاني، واعتمدت على فكرة مفادها أن النشاط على المستوى الإقليمي من شأنه في نهاية المطاف أن يحسن العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية، وليس العكس.
وفي معظم الأحيان، سهلت الحكومة الأمريكية المفاوضات المباشرة بين الأطراف الرئيسية، مثل مصر وإسرائيل، وإسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وإسرائيل وسوريا، وإسرائيل ولبنان. وكان الافتراض هو أن تحقيق السلام في الشرق الأوسط يعتمد على الحلول الثنائية، وأنه لابد أن يبدأ السلام بالأطراف المتحاربة.
ولكن هذا لا يعني أن الجهود الإقليمية كانت غائبة تماما. ففي عام 2002، طرحت جامعة الدول العربية، بقيادة السعودية، خطة سلام شاملة تقوم على القبول العربي لحل الدولتين. ومع ذلك، فإن هذه الخطة كانت تقدم خطوات لها تسلسل واضح.
ففي مقابل “انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك مرتفعات الجولان في سوريا، وخط الرابع من يونيو/حزيران 1967، والأراضي التي لا تزال محتلة في جنوب لبنان”، فضلا عن أمور أخرى، فإن الدول العربية ستقيم “علاقات طبيعية مع إسرائيل”.
إن انسحاب إسرائيل كان سيفتح الباب للتطبيع الإقليمي. وإذا كانت هناك خطة إقليمية، فإن رئيس الوزراء الفلسطيني السابق محمد اشتية (2019-2024) كان سيرجح كفتها، وفقا لمقال حديث كتبه في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية.
ولكن المفاوضات والتوقيع على اتفاقيات أبراهام في عام 2020 قدم نوعا مختلفا من الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة على مستوى إقليمي.
فهذه الاتفاقيات لا تزال تشمل إسرائيل، ولكن الآن استُبدلت الدول العربية التي في الخطوط الأمامية بجوار إسرائيل، وحلت محلها دول عربية بعيدة، ذات مشاركات ضئيلة في الحروب الماضية، وهي: البحرين والمغرب والسودان والإمارات.
ولقد أسست الاتفاقيات علاقات دبلوماسية طبيعية بين هذه الدول وإسرائيل، متجاوزة المسارات الإسرائيلية-الفلسطينية، والإسرائيلية-اللبنانية، والإسرائيلية-السورية التي لم تصل لحل بعد.
وكما ذكرنا سابقا، كانت الادعاءات تشير إلى أن الاتفاقيات الجديدة ستؤدي إلى تغيير الديناميات الإقليمية، وأن الأطراف الرئيسية، بما في ذلك الحركة الوطنية الفلسطينية، إما أن تنضم إليها أو تُترك خلف الركب.
وفي أفضل الأحوال، كان المتصور أن هذه الاتفاقيات ستحفز الأطراف العربية المتمردة على تسوية خلافاتها المتبقية مع إسرائيل. وشعر المؤيدون للاتفاقات بأن التطبيع الإقليمي من شأنه أن يفتح الباب أمام إنهاء الصراع، وذلك من خلال نهج موجه من الخارج نحو الداخل.
وفي حين أن النهج الأول -المتمثل في المفاوضات الثنائية المباشرة- يتطلب تنازلات كبيرة من إسرائيل، فإن النهج الثاني قد لا يتطلب ذلك. وإذا قرنّا ذلك بخطة إدارة ترامب الإسرائيلية-الفلسطينية لعام 2020، فإن التنازلات ستقع تقريبا بالكامل على الجانب الفلسطيني وحده.
وهكذا يمكن لإسرائيل أن تنال كل ما تتمناه: توسيع اندماجها مع الشرق الأوسط الأوسع، وإجبار الفلسطينيين على التنازل، واستمرار هيمنتها واستيطانها لمعظم الضفة الغربية، والحصول على دعم وثيق من الولايات المتحدة.
واستنادا إلى هذا النهج البديل، كيف كانت نتائج الاتفاقيات؟
من منظورنا الآن ونحن في عام 2024، أي بعد مرور ما يقارب الأربع سنوات، هل تمكّن هذا النموذج وطرق حلوله المحتملة من تحقيق تقدم في حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، حتى ولو جزئيا؟
تدهور الأوضاع بعد إبرام اتفاقيات التطبيع
كما أوضحنا، فإن التصور كان أن اتفاقيات التطبيع ستقود إلى بزوغ عصر جديد من السلام والتقارب الفلسطيني-الإسرائيلي. لكن ما حدث على أرض الواقع هو العكس تماما.
فإذا ما نظرنا إلى العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية سنجدها كما كانت عليه من الصراع، حيث شهدت أزمة كبرى ومواجهة في أبريل/نيسان-مايو/أيار 2021، واندلعت حرب كاملة من 2023 إلى 2024. وبحلول منتصف عام 2023، بات من الصعب تصور كيف يمكن للأطراف المختلفة الوصول إلى نوع من الحل الدائم. وهناك الآن معاناة حتى للتوصل إلى وقف إطلاق النار، ناهيك عن تحقيق نتيجة سياسية مستقرة وطويلة الأمد تضمن الكرامة والأمن للجميع.
ولا نزعم هنا أن اتفاقيات أبراهام تسببت في كل هذا الدمار الشامل، بما في ذلك هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والقتل الجماعي الذي ارتكبته إسرائيل لعشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة. بل ما نؤكده هنا هو أن اتفاقات التطبيع لم تفتح الباب لعصر جديد من السلام الإقليمي أو التفاعل التعاوني بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
ولغرض الإيجاز، فلن نستعرض المعارك الإسرائيلية-الفلسطينية في أبريل/نيسان ومايو/أيار 2021. فقد أسفرتا عن العديد من الضحايا وأضيفتا إلى قائمة المعارك الإسرائيلية-الفلسطينية الأخيرة حول غزة (مثل 2008-2009، 2012، 2014).
وكما هو الحال دائما، تُرجم التفوق العسكري والتكنولوجي الهائل الذي تتمتع به إسرائيل إلى عدد أكبر بكثير من القتلى والجرحى على الجانب الفلسطيني. إذ قتلت القوات الإسرائيلية حوالي 232 فلسطينيا في غزة خلال عمليتها العسكرية، بينما قتلت القوات الفلسطينية حوالي 14 إسرائيليا ومواطنا أجنبيا.
وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، غزت حماس إسرائيل، وقتلت هي وغيرها ما يقرب من 1200 إسرائيلي وآخرين، وأخذت أكثر من 240 شخصا رهائن. وكان معظم القتلى من المدنيين، لكن الحصيلة شملت أيضا جنودا وضباط شرطة إسرائيليين في الخدمة الفعلية.
ومنذ ذلك اليوم، دمر الجيش الإسرائيلي غزة، فقتل نحو 37 ألف شخص.[1] ونزح ما يقرب من 2.2 مليون فلسطيني من منازلهم، معظمهم نزح عدة مرات. وهناك مجاعة منتشرة على نطاق واسع بسبب هجمات إسرائيل وتقييدها المتكرر لدخول القوافل الإنسانية إلى غزة. كما ألحقت الهجمات الإسرائيلية أضرارا كبيرة بأنظمة النقل والصرف الصحي والمرافق الصحية والطبية وتوزيع الغذاء، وكل هذه أمور حيوية للصحة وتلبية الاحتياجات اليومية.
وبحسب مراسلة الحرب السابقة لشبكة “سي إن إن” الأمريكية، أروى ديمون، فإن “مستوى الدمار في مثل هذه الفترة القصيرة في غزة، والدمار النفسي الذي عانى منه السكان، لا يمكن مقارنته بأي مكان آخر”.
كذلك، فإن التداعيات الإقليمية شديدة ومزعزعة للاستقرار. فحزب الله اللبناني وإسرائيل متورطان في صراع منخفض المستوى، بينما انخرطت عسكريا إيران والميلشيات العراقية الموالية لها وقوات الحوثيين من اليمن ضد إسرائيل وحلفائها، مثل الولايات المتحدة.
وعلى نطاق أوسع، تشكل هذه التطورات مشكلة كبيرة للولايات المتحدة. حيث “يحذر مسؤول استخباراتي كبير في وزارة الخارجية الأمريكي من أن الحرب في غزة تعزز تجنيد الإرهابيين وتوفر “إلهاما للعناصر الفردية الغاضبة من الدعم الثابت الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل”. بمعنى آخر، أدى الصراع في غزة وجنوب “إسرائيل” إلى تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي.
وبطبيعة الحال، فإن العلاقات بين حماس والحكومة الإسرائيلية سيئة للغاية، وأحد الأهداف المعلنة لإسرائيل في الحرب هو تدمير حماس. ولكن حتى العلاقات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، -الجهة السياسية الوحيدة من بين الثلاثة التي تدعم بشدة حل الدولتين- تعاني من توترات كبيرة.
وتُعد القاعدة الرئيسية للسلطة الفلسطينية هي في الضفة الغربية، لكن الإجراءات الحكومية الإسرائيلية وأنشطة المستوطنين تقوض بشكل كبير أي مظهر من مظاهر الحكم للسلطة الفلسطينية. وتبدو السلطة الفلسطينية عاجزة في مواجهة العنف الإسرائيلي وعمليات طرد الفلسطينيين في الضفة الغربية.
بالإضافة إلى ذلك، استبعدت حكومة نتنياهو لعدة أشهر تسليم غزة للسلطة الفلسطينية، كوسيلة لمنع حكم حماس بعد انتهاء القتال، متى جاء ذلك اليوم. وبذلك، فنحن بصدد سياسة إسرائيلية أخرى تهدف إلى تقييد السلطة الفلسطينية ومنع ظهورها مرة أخرى كفاعل يتمتع بسلطة كبيرة في غزة والضفة الغربية. والجدير بالذكر أن السلطة الفلسطينية نفسها كيان مضطرب، ولا شيء في الأشهر القليلة الماضية يشير إلى أن هذا سيتغير.
وباختصار، لم تستفتح اتفاقيات التطبيع عصرا جديدا أو تؤد إلى تقارب إسرائيلي-فلسطيني.
استمرار الاستيطان في الضفة
لقد ثبت خطأ الفرضية القائلة بأن اتفاقيات التطبيع من شأنها أن تؤخر، إن لم تكن تمنع، الضم الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. ذلك أن بعض الخبراء يؤكدون أن ضم إسرائيل للضفة الغربية قد حدث بالفعل؛ ولم يعد تخوفا مستقبليا أو احتمالا.
وليس معنى أن الحكومة الإسرائيلية لم تصدر إعلانا كبيرا مثل: “لقد ضممنا الضفة الغربية”، أنها امتنعت عن الضم.
حتى عندما وُقعت اتفاقيات التطبيع في عام 2020، قالت الباحثة الفلسطينية، دانا الكرد، “إن الضم وسرقة الأراضي الفلسطينية مستمرة دون هوادة، تماما كما كان الحال قبل أن تحدد الحكومة الإسرائيلية تاريخا معينا كـ”يوم الضم”، وسيستمر ذلك أيضا بعد هذا التاريخ”.
لقد اتخذت حكومة نتنياهو الحالية، التي تولت السلطة في ديسمبر/كانون الأول 2022، خطوات متعددة لتعزيز الضم. وبناء على قانون الدولة القومية الإسرائيلي لعام 2018، أُعلنت السيادة اليهودية الحصرية من النهر إلى البحر، في التوجيهات الحكومية التي صدرت أواخر عام 2022. ولا تلمّح هذه التوجيهات بأي شكل إلى أن هذا الاحتلال مؤقت.
ولكن الأهم من ذلك أن وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، نقل الحكم الإسرائيلي للضفة الغربية من السلطات العسكرية إلى الإشراف المدني، قائلا: “لقد أنشأنا نظاما مدنيا منفصلا”.
والمؤكد أن توسيع الرقابة المدنية على الأراضي المحتلة هو ضم لتلك الأراضي. ورغم أن سموتريتش وزير مالية، إلا أنه تفاوض أيضا على المسؤولية عن شؤون الضفة الغربية داخل وزارة الدفاع رغم أنه ليس وزيرها. فعلى سبيل المثال، في 29 مايو/أيار 2024، نشرت القوات الإسرائيلية إشعارا بأمر “ينقل المسؤولية عن عشرات اللوائح الفرعية في الإدارة المدنية -الهيئة الإسرائيلية الحاكمة في الضفة الغربية- من الجيش إلى مسؤولين بقيادة سموتريتش في وزارة الدفاع”.
وكانت الصحفية الإسرائيلية، ميراف زونزين، من مجموعة الأزمات الدولية، موجزة في تقييمها للوضع الحالي، حين قالت إن “القصة الكبيرة هي أن هذا لم يعد “ضما زاحفا” أو “ضما بحكم الأمر الواقع”، بل هو ضم فعلي”.
وفي 3 يوليو/تموز 2024، أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن أكبر عملية مصادرة لأراضي الضفة الغربية منذ تسعينيات القرن العشرين، والتي بلغت مساحتها ما يقرب من 5 أميال مربعة. كما دعت أغلبية أعضاء الكنيست، في أوائل يوليو/تموز 2024، إلى إصدار إعلان ينص على أنه “يعارض بشكل قاطع تأسيس دولة فلسطينية غربي نهر الأردن”.
وهذان مثالان يوضحان أن المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة مستمرة وبوتيرة متسارعة. فمنذ عام 2020، كانت إسرائيل، سواء من خلال الحكومة أو تصرفات المستوطنين الفردية، تبني وتوسع المستوطنات، وتصادر الأراضي، وتهاجم السكان الفلسطينيين بعنف. وقد أدى هذا إلى إضفاء طابع رسمي على الواقع الميداني للهيمنة والسيطرة الإسرائيلية.
وباختصار، سواء كانت الحكومة الإسرائيلية في عام 2020 قد خططت للتخلي عن الضم كجزء من اتفاقيات أبراهام أم لا، فإن ذلك لا يهم بتاتا؛ ذلك أن مجريات الأمور على أرض الواقع تخبرنا الحكومة الإسرائيلية لم تفعل ذلك، بل على العكس، فقد شددت قبضتها على الضفة الغربية.
لماذا لم تنجح اتفاقيات التطبيع في حل الصراع؟
في حين أننا ربما لا نملك إجابة قاطعة على هذا السؤال حتى الآن، فهناك عدة تفسيرات معقولة لعدم نجاح اتفاقيات التطبيع في تحقيق السلام والاستقرار.
على رأس هذه التفسيرات أن الاتفاقيات لم تعالج جذور المشكلة الإسرائيلية-الفلسطينية. فمن جهة، لم يخضع الفلسطينيون أمام هذه الانتكاسة الدبلوماسية. ومن جهة أخرى، ما زالت الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى توسيع الاستيطان. ولم تُقنِع اتفاقيات التطبيع حكومة نتنياهو بتغيير توجهاتها الرئيسية.
ففي واقع الأمر، لم تعالج الاتفاقيات جذور المشكلة. بل إنها تجاهلت عمدا صلب الأزمة، وهي إسرائيل وفلسطين، معتقدة أن تجاهلها هذا من شأنه أن يؤدي إلى تغيير أو إلى تقليل حدة الأزمة.
وفي مقابل هذا التجاهل، انظر إلى ما قاله ممثل إندونيسيا في مناقشة مجلس الأمن التابعة للأمم المتحدة حول اتفاقيات التطبيع، حين أشار إلى أن السبب الجذري للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي هو الاحتلال غير القانوني، الذي تفاقم على مدى عقود من الضم التدريجي وسياسة الاستيطان غير القانونية في انتهاك صارخ للقانون الدولي والقرار 2334 (2016). وحينها أكد المسؤول الإندونيسي، قائلا: “السلام دون معالجة الأسباب الجذرية ليس سلاما على الإطلاق”.
أو لنتأمل تعليقات عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحمد مجدلاني، حين قال: “إن الوهم الذي يعيشه نتنياهو بشأن صنع السلام مع العرب دون صنع السلام مع الفلسطينيين أو الانسحاب من الأراضي المحتلة هو مجرد وهم”.
ولم يستسلم الفلسطينيون في مواجهة النكسة الدبلوماسية. ورغم استبعادهم من مفاوضات اتفاقيات التطبيع، لم تتخل الحركة الوطنية الفلسطينية عن أهدافها المتمثلة في الاستقلال والأمن. ولا تميل الحركات القومية إلى الاستسلام في مواجهة الشدائد الدبلوماسية، ولم يثبت الفلسطينيون أنهم استثناء لهذه القاعدة.
إن الحكومة الإسرائيلية تسعى إلى التوسع. وبالتركيز فقط على الحكومة الإسرائيلية الحالية، من الواضح أنها تفضل الاستيطان، والضم، ومصادرة الأراضي، والاستخدام المكثف للقوة العسكرية. وليس لديها وقتا لتقديم تنازلات للفلسطينيين، بغض النظر عن رغبة شركائها من المطبّعين الجدد في أن تكون التنازلات الإسرائيلية للفلسطينيين واتخاذ خطوات حقيقية نحو حل الدولتين جزءا من العملية.
لكن في المقابل، لم تقنع إسرائيل بتغيير معتقداتها السياسية الأساسية. ومنذ توقيع الاتفاقيات، واصلت مسيرتها نحو اليمين. وظل المجتمع الإسرائيلي متمسكا إلى حد كبير بالحكومات اليمينية المؤيدة للاحتلال، والتي تضم الآن سياسيين متشددين من أقصى اليمين مثل وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير.
علاوة على ذلك، يرفض نتنياهو بشكل صريح السيادة الفلسطينية في الضفة الغربية، التي تُعتبر حجر الزاوية في حل الدولتين، وحكومته الحالية تؤكد على أن السيادة اليهودية هي الوحيدة والحصرية في تلك المنطقة.
خاتمة الورقة
- الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية اليوم
ما الآثار المترتبة على احتمالات التوصل إلى اتفاق تطبيع ثلاثي بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، بالنظر إلى أن اتفاقيات أبراهام لم تدفع العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية نحو السلام والاستقرار كما أوضحنا أعلاه؟
في معرض الإجابة على هذا التساؤل، فإن العديد من التداعيات المحتملة تشير إلى أن هناك تأثيرا سلبيا محتملا للتطبيع السعودي على حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني؛ إذ ستفقد المملكة والولايات المتحدة نفوذهما المحتمل للتأثير على السياسة الإسرائيلية.
كما أن هذا النوع من النهج الإقليمي سيحوّل الانتباه إلى قضية أخرى بعيدا عن جوهر الصراع العربي-الإسرائيلي، وهي إسرائيل وفلسطين. وأخيرا، يتبنى هذا النهج الإقليمي نموذجا للاستقرار العربي-الإسرائيلي، والإسرائيلي-الفلسطيني، لا تدعمه الأدلة التاريخية.
وكجزء من خطة التطبيع الإسرائيلية-السعودية، من المرجح أن تكون أي التزامات إسرائيلية مجرد تظاهر وليس تنازلات حقيقية. فالحكومة الإسرائيلية تؤكد بشكل قاطع أن الحق في الأرض المقدسة يقتصر فقط على اليهود. ولا يتوانى نتنياهو عن الإعلان برفضه السيادة الفلسطينية في الضفة الغربية، وبالتالي يمنع حل الدولتين.
ربما توافق حكومة نتنياهو على قول بعض العبارات الدبلوماسية الغامضة، لكنها لن تتخذ أية خطوة جوهرية نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية وتأسيسها في الضفة الغربية وغزة. ولا يعترف هذا النهج بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، كما أن لن يؤدي إلى انسحاب عدد كبير من المستوطنين الإسرائيليين من الضفة الغربية. أيضا لن يقود هذا النهج إلى إعلان القدس عاصمة لكل من إسرائيل وفلسطين، بحيث يتقاسمان الحكم والسيادة في المدينة.
باختصار، من غير المرجح أن تتضمن الصفقة التي يعمل عليها بايدن التزام إسرائيل بتنازلات كبيرة بشأن فلسطين، ولن تقدّم الحد الأدنى الضروري لبدء تحرك حقيقي نحو حل إسرائيلي-فلسطيني. وبناء على ذلك، ما الآثار المترتبة على هذا الوضع؟
أولا: على عكس المبادرة السعودية لعام 2002، والتي أصبحت تعرف باسم “مبادرة السلام العربية”، فإن التطبيع سيؤدي إلى فقد ورقة ضغط (التطبيع السعودي)، التي يمكن استخدامها للضغط على إسرائيل لتقديم تنازلات مهمة لفلسطين.
ففي الخطة السابقة، كان هناك أفق للاستفادة من ورقة تطبيع العلاقات مع السعودية؛ لأن هذا التطبيع كان من المقرر أن يتم بعد تسوية المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين وتحديد التنازلات التي سيقدمها كلا الطرفين.
والآن، يتلخص نهج بايدن في دفع التطبيع السعودي، هذا بموازاة قيام إسرائيل بشيء ما على المسار الفلسطيني. وفي حالة لم تلتزم إسرائيل بتقديم تنازل حقيقي، فإن السعودية، بمساعدة الحكومة الأمريكية، ستكون قد أضاعت أكبر أوراقها، المتمثلة في التطبيع، دون الحصول على الكثير بشأن فلسطين.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن هذا لا يشكل مشكلة للحكومة السعودية؛ لأنها تهدف إلى تعزيز مصالحها القومية، لا المصالح الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، فإن التطبيع الإسرائيلي-السعودي لن يفعل الكثير لتعزيز حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
إن قيام الحكومة السعودية باستبدال التطبيع بالتسوية الإسرائيلية فيما يتصل بالقضايا الفلسطينية، سوف يكون مثالا آخر على تخلي الولايات المتحدة عن النفوذ الذي تتمتع به هي أو حلفاؤها فيما يتصل بإسرائيل.
فعلى سبيل المثال، كُتب الكثير عن الصعوبات التي يواجهها بايدن بسبب سلوك الحكومة الإسرائيلية في الحرب في غزة. لكن واشنطن لم تضغط على إسرائيل من خلال جعل المساعدات الأمريكية مشروطة، أو السماح بانتظام بتمرير قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أو الاستشهاد بقانون أميركي قائم، مثل قانون ليهي، والذي من شأنه أن يحمّل الجيش الإسرائيلي المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان.
ولكن إذا كانت الحكومة الإسرائيلية تفعل ما يحلو لها دون عواقب تشمل أكبر حلفائها، فلماذا تغير سياساتها في غياب الضغوط؟
ثانيا: يعمل التطبيع على تحويل الانتباه عن جوهر الصراع العربي الإسرائيلي، أي إسرائيل وفلسطين. وبعبارة أخرى، من شأن التطبيع أن يمنح نصرا دبلوماسيا للقوى السياسية الإسرائيلية ذاتها التي تريد قمع القومية الفلسطينية إلى الأبد.
وبالنسبة لهذه القوى، فإن إنجازا دبلوماسيا كهذا قد يؤكد على أن إسرائيل تسير في المسار الصحيح والأمثل. وسوف يتعزز هذا الرأي إذا ما اندمجت إسرائيل في المنطقة، على العكس من عزلتها السابقة.
وعلاوة على ذلك، فإن هذا المنطق يستند إلى أن القضية الفلسطينية سوف تتلاشى أو يحدث فيها تحولا سهلا نتيجة للجهود الإقليمية التي يقع التطبيع في القلب منها. غير أن أي من هذين الافتراضين لم يثبت صحته عبر اتفاقات أبراهام.
إن الوضع الحالي الذي يضطر فيه الملايين من الفلسطينيين إلى النزوح والتجويع في غزة، ومئات الآلاف من الإسرائيليين إلى النزوح، وعدم إطلاق سراح الرهائن يحتاج إلى اهتمام مباشر. ونحن الآن، نرى بعضا من عواقب ترك مثل هذه المشكلات دون حل.
ثالثا: يتبنى نهج التطبيع نموذجا للاستقرار العربي-الإسرائيلي، والإسرائيلي-الفلسطيني، لكن لا يوجد دليل يدعم نجاح هذا النهج، المتمثل في أن يأتي حل القضية الفلسطينية من الخارج إلى الداخل.
وإذا كان هناك درس يمكن استخلاصه من السنوات الماضية، فهو ما يمكن أن يحدث عندما يتجاهل القادة جوهر الصراع بين إسرائيل وفلسطين.
والجدير بالذكر أن أي من معاهدات السلام العربية-الإسرائيلية مع اللاعبين الرئيسيين أو الأساسيين (مصر في عام 1979؛ الأردن في عام 1994) لم تحدث من خلال هذا النوع من النهج الإقليمي.
ولكي نكون منصفين، فإن اتفاقية أوسلو والجهود اللاحقة للوساطة المباشرة لم تقود إلى إنهاء الصراع. لكن من ناحية أخرى، فإن النموذج الإقليمي الحالي، المتمثل في أن يأتي الحل من الخارج إلى الداخل، يفتقر إلى الآليات اللازمة لتحسين الوضع.
فاتفاقيات أبراهام -وهي النموذج الإقليمي من الخارج إلى الداخل- لم يترتب عليها حتى اليوم تأثير إيجابي معتبر. ومن خلال الدفع نحو اتفاق تطبيع ثلاثي بين الولايات المتحدة وإسرائيل والسعودية، فإن إدارة بايدن ستهدر النفوذ الدبلوماسي، وتصرف الانتباه عن القضية الأكثر احتياجا إلى الحل (البعد الإسرائيلي-الفلسطيني)، وتقدم نموذجا لحل الصراع لا تدعمه الوقائع التاريخية.
إن واشنطن ليست عاجزة في مواجهة الحرب الإسرائيلية-الفلسطينية المستمرة. واقتراح بايدن لوقف إطلاق النار كان خطوة في الاتجاه الصحيح؛ ذلك أن إنهاء الحرب، وإغراق غزة بالمساعدات الإنسانية، وإطلاق سراح الرهائن هي خطوات أولى حاسمة.
لكن المسؤولين الأميركيين بحاجة أيضا إلى اللعب بقوة مع نتنياهو باستخدام النفوذ الأميركي لحث إسرائيل على قبول الحقيقة الجوهرية، وهي أن شعبين، الإسرائيليين والفلسطينيين، لديهم مطالب معترف بها دوليا على نفس الأرض.
إن أي حل مستقر وطويل الأمد من شأنه أن يقلل من الموت والمعاناة يتطلب الكرامة والأمن للشعبين، وبدون قبول هذا الواقع الجوهري، فإن الموت والدمار لن يكون أمامهما سوى الاستمرار.
في غضون ذلك، يتعين على الدبلوماسيين الأميركيين إعادة تشكيل الجهود الرامية إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية. ويتعين على الحكومة الإسرائيلية أن تدرك أن اتخاذ خطوات حقيقية وجوهرية نحو تحقيق الكرامة والأمن للفلسطينيين والإسرائيليين يشكل شرطا مسبقا للتطبيع بين إسرائيل والسعودية.
فالعملية التي تتألف فيها التنازلات الإسرائيلية في أغلبها من مجرد عبارات دبلوماسية نمطية لا تؤدي إلى تغيير جوهري على الأرض، من شأنها ببساطة أن تعزز الوضع الراهن المزعزع للاستقرار، حيث تُتجاهَل التطلعات الفلسطينية تماما وتصبح كل الأرواح -الفلسطينية والإسرائيلية- في خطر.
[1] هذا العدد ارتفع إلى “39 ألفا و480 شهيدا” في اليوم الـ 300 للعدوان الإسرائيلي على غزة، بحسب بيان لوزارة الصحة بقطاع غزة، صدر في 1 أغسطس/آب 2024.