تشريح الدولة العميقة في مصر
السمات والجذور والأدوات
مقدمة
يكثر اللغط حول مصطلح ” الدولة العميقة” ، ليس فقط في إطار تحليل التفاعلات السياسية داخل الدولة المصرية، ولكن أيضا في دول أخرى عديدة معظمها ممن نالت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية؛ كما طال اللغط النظام السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة مع مجيء إدارة ترامب. بشكل عام يستخدم المحللون مصطلح “الدولة العميقة” للإشارة إلى تفاعلات أو مؤامرات تتم عبر قنوات غير رسمية في الدولة تستهدف صياغة السياسات العامة ، خلاف ما تعلنه الأجهزة الرسمية للمواطنين. لكن أول ما يلفت الانتباه هو اختلاف المحللين حول ماهية هذه الظاهرة المسماة بالدولة العميقة ، وغياب تعريف محدد للفاعلين فيها ، وأنماط التفاعل ، ودرجة تغلغلها في المؤسسات الرسمية ، وكذلك أدواتها في التأثير على السياسة العامة. واستخدام المفهوم بهذا الشكل الفضفاض يمثل خطورة، ليس فقط لاعتبارات الدقة العلمية البحتة، بل لاعتبارات عملية كذلك. فمن غير فهم المنطلقات ’الأيديولوجية‘ والمصالح المادية والمعنوية التي تحرك الفاعلين المختلفين في الدولة العميقة، وأنماط التفاعل بينهم، وهيكل تلك الدولة، ودون فهم مركب لكل هذه العوامل يرتبك تحليل الواقع والتحديات التي تواجه النظام الرسمي ويُبالغ في تقدير أثر الدولة العميقة ، إذ تُنسَب كل التحديات إلى مؤامراتها، ويغدو من الصعب مقاومة تلك الدولة للجهل بالمفاصل التي يمكن عندها خلخلة تحالفاتها. بالإضافة إلى ذلك فإن التعريف النظري المبني على تجارب الدول المختلفة (ولو كان أوليّا مبسطا) يكون بمثابة وسيلة لتحسس مَواطن عمل الدولة العميقة – شديدة السرية في الغالب – وترشيد السعي لإظهار فعالياتها للعلن.
يبدأ هذا البحث باستعراض سريع للأدبيات المختلفة التي تتناول مفهوم ’الدولة العميقة‘ لاستخلاص تعريف بشكلها وخصائصها كظاهرة مجردة، وفي ضوء التعريف تتحدد أقسام البحث التي سترسم قسما تلو الآخر الملامح العامة للدولة العميقة في مصر. تُتناول الدعائم المختلفة التي تقوم عليها الدولة العميقة، ثم العقيدة التي تسعى لتوجيه النظام السياسي وفقا لها، ثم الأدوات التي تعتمد عليها لتحقيق أهدافها.
أولا: عن مفهوم “الدولة العميقة”
بدأ يُتداول مصطلح “الدولة العميقة” في تسعينيات القرن الماضي في تركيا لوصف شبكات غير رسمية كانت تحفظ لنفسها حق الوصاية على مؤسسات الدولة الرسمية ، وعلى المسار السياسي الوطني ، حتى لا يحيدا عن ’الأيديولوجية الرسمية‘ للجمهورية التركية كما صاغ مبادئها مصطفى كمال أتاتورك. وقبل ذلك في الولايات المتحدة منذ السبعينيات ، كانت دراسات حول النظام السياسي الأمريكي تستخدم مصطلحات مثل: ’السياسة العميقة‘ [1](parapolitics/deep politics)و’الأحداث البنيوية العميقة‘ لتحليل بعض الاتجاهات في السياسات الداخلية والخارجية وارتباطها بمجموعة ثابتة من الأشخاص في الحكومة و’وول ستريت‘ و’المجمع الصناعي-العسكري.‘[2] وبمجيء إدارة ’ترامب‘ وتصاعد الخلافات بينها وبين مؤسسات الحكم الأخرى، اتسعت مدلولات مصطلح ’الدولة العميقة‘ وأثارت جدلا كبيرا بين من يعرفها بإيجابية؛ كمجموع التقاليد المؤسسية في النظام، ومن يتهمها بإهدار الإرادة الشعبية التي أتت بـ’ترامب‘ ، وأخيرا من يعتبرها نتاج الخطاب الشعبوي المتأثر بنظريات المؤامرة ، ولا يرى إمكانية وجودها في دولة ذات أعراف ديمقراطية كالولايات المتحدة[3].
وبتتبع الأدبيات والتحليلات، يمكن استخلاص مجموعة من السمات المتفق عليها للمفهوم. أولا، تتفق الآراء حول تشكل الدولة العميقة من شبكات غير رسمية من أفراد وجماعات متجذرة في أجهزة الدولة المختلفة – خاصة السيادية منها – تربطهم علاقات ومصالح مختلفة[4]. ويكمن الخلاف في هذه النقطة حول ما إذا كان لهذه الشبكات وجود مؤسسي مادي. فمثلا بالقياس على تنظيم ’إرجِنِكون‘ في تركيا، يذهب ’فهمي هويدي‘ إلى أن هناك وجهين للدولة العميقة، أحدهما المُعلن المكون من أعضائها الذين يشغلون مناصب في أجهزة الدولة، والوجه الآخر غير مُعلن “يتولى تحريك الأطراف المعنية في مؤسسات الدولة لتنفيذ المخططات المرسومة”[5] ، وهو تصور يستوحي وجود ’رأس‘ للدولة العميقة عبارة عن تنظيم مستقل موازٍ للمؤسسات الرسمية في الدولة ويحرك بقية أطراف في الشبكة. إلا أن تعريفات أخرى لا تستوجب هذا التواجد التنظيمي بالضرورة، فيفرّق ’باتريك أونيل‘ مثلا بين ’الدولة الأمنية‘ ، والدولة العميقة. ففي الحالة الأولى لا تتمتع المؤسسة الأمنية فقط بالاستقلالية عن القيادات المدنية، بل كذلك بتماسك مؤسسي وتمايز واضح عن بقية المؤسسات في الدولة. على حين في الدولة العميقة، “تتداخل الخطوط الفاصلة بين ]المؤسسات الأمنية ، والاستخبارات، والجريمة المنظمة[ وتُبهم تلك العلاقات حتى على أعضاء تلك الشبكات أنفسهم.” فجهاز الدولة العميقة يتمتع باستقلالية كبيرة رأسيا عن مؤسسات الدولة، لكنه جهاز مفكك بدرجة كبيرة على مستوى العلاقات الأفقية بين المؤسسات الأمنية وداخل شبكة الدولة العميقة ذاتها[6].
وسواء أخذنا بوجود رأس وتسلسل هرمي داخل الدولة العميقة أم لم نأخذ، يظل مربط الفرس فيما يتعلق بهيكل الدولة العميقة هو وجود إرادة سياسية موازية لإرادتها. وذلك هو المحدد الأساسي الذي تعتمد عليه ’سويلير‘ في تعريف الدولة العميقة. فهي تحصر وجود الأخيرة في “الديمقراطيات الناقصة” أي التي تجمع سمات الحكم السلطوي والديمقراطي في آن، وتعاني من “سيطرة مزدوجة”[7] من قِبل قيادات مدنية منتخبة مسؤولة أمام القانون والدستور، ومن قِبل “مراكز قوى غير منتخبة ولا تخضع للمساءلة…تسعى باستمرار للحد من قدرة القيادة المدنية المنتخبة على الحكم”[8]. ورغم وقوع مراكز القوى تلك خارج الأطر الرسمية، فترسخ القواعد التي تعمل وفقا لها، وثبات التوقعات المتبادلة داخلها حول السلوك الملائم، ووجود آليات للثواب والعقاب تكيّف سلوك الأفراد، كل ذلك يضفي عليها صفة المؤسسية ويمكنها من عرقلة المؤسسات الرسمية[9]. وهذا العنصر حاسم لدى الحديث عن الدولة العميقة، لأنه دون وجود إرادة سياسية موازية، فإن الدولة العميقة تغدو هي الدولة[10] في غياب أي صراع مع جهات أخرى. ويُستفاد من هذه النقطة كذلك أن الدولة العميقة في أي مرحلة معينة هي انعكاس لتوازن القوى والإرادات داخل الدولة. على أنه في الوقت ذاته لا يجب تصور الدولة العميقة كفاعل ثابت ومستقر، فكما سيبين عرض الحالة المصرية، هي أيضا عبارة عن محصلة توازن قوى داخلها هي ذاتها، تتصارع فيما بينها من أجل النفوذ، لكن بينها مشتركات تكفي لاتحادها للوقوف بوجه أي فاعلين جدد وعرقلة نفاذهم إلى النظام. (وفي هذا الإطار يمكن تقييم خطاب رموز في النظام المصري الحالي حول وجود دولة عميقة تعرقل حكومة السيسي[11] ، أو تسيطر على نواب البرلمان والجهاز الإداري[12]. فمنذ انقلاب 3 يوليو، والنظام المصري بصدد تغييرات واسعة في تركيبة النخبة السياسية والاقتصادية المقرّبة من الحكم، وهو ما يؤثر بالسلب على أفراد وجهات كانت صاحبة نفوذ كبير في أثناء حكم مبارك، ويؤدي لشد وجذب بينهم وبين النظام، سرعان ما يتم تصويره في الإعلام المصري على أنه مقاومة للإصلاحات التي يسعى السيسي لإدخالها على دولة مبارك الفاسدة. وهذا بالطبع وإن كان صراع مصالح ونُخب، إلا أن وصفه بصراع بين دولتين فيه الكثير من التجاوز، وستأتي إشارات لهذه المسألة لاحقا في البحث.)
ذلك لأن الصراع لا يدور فقط حول مصالح وامتيازات اقتصادية أو سياسية لمؤسسة أو فئة ما، بل حول اتجاه النظام السياسي كله[13]، وهو ما تشير إليه الأدبيات بـوصاية الدولة العميقة على النظام السياسي وعلى المجتمع، وهذا بُعد حاسم يفرّق بين الدولة العميقة والنظام العسكري، أو شبكات المصالح الاقتصادية التي تتدخل لـ”تصحيح” مسار معيّن يضر بمصالحها المادية أو المعنوية في توقيت معين[14]. هذه الوصاية لا تقتصر على انعدام ثقة العسكريين بالمدنيين، بل تمتد أبعد من ذلك لفرض “هيمنتها الأيديولوجية”[15]على مساحات الفكر والرؤى والخطاب السياسي وتحديد المشروع وغير المشروع منها. ومُنطلق الدولة العميقة في هذا كله هو إيمانها بتجسيدها للأمة ومصالحها. واستنادا لتلك العقيدة وحدها تبني الدولة العميقة شرعيتها وقبول الناس لها من خلال إذكاء النزعة العسكرية في المجتمع، أي النزعة لـ”تمجيد الأسلوب العسكري والاحتكام إليه لحكم المجتمع ككل”[16]. وتغوّل الدولة على المجتمع بهذا الشكل ينتُج عنه ما تسمّيه ’سويلير‘ “قوم-دولة” بدلا من دولة-قومية. “في القوم-الدولة، يتساوى بقاء وأمن الدولة مع بقاء الأمة، ولذا فكل فِعل يصدُر عن منطق الدولة ووجودها ومصلحتها العليا (raison d’etat)”[17] – مثل قمع المعارضة السياسية “لتهديدها لأمن الدولة” أو “عمالتها للخارج” – هو فعل شرعي بذاته ولا تبقى بعده حاجة لمساءلة مرتكبيه قانونيا.
وبذلك يمكن إجمال علامات وجود دولة عميقة بنظام سياسي ما – وإن اختلف الفاعلون والوسائل من سياق لآخر – في: وجود شبكات غير رسمية متغلغلة في أجهزة الدولة تعمل وفق قواعد مُمأسَسة وراسخة، تتصارع مع أطراف أخرى داخل الدولة (تكون غالبا قيادات مدنية منتخبة) بشتى الوسائل، وباستخدام كافة قواها للحفاظ على اتجاه أو “هُوية” معينة للنظام السياسي الذي ترى أنها هي ممثِلُه وحاميه ووصيّه الشرعي الأوحد والأجدر. وكما سبقت الإشارة فمثل هذا التعريف المبسط يوجد أرضية للبت في الاستعمالات المختلفة والمدلولات الكثيرة التي يُشار إليها بمفهوم ’الدولة العميقة‘ وتسكينها في إطار يوضح أدوارها والعلاقات بينها والمنطق الذي يسيّرها، فلا تُختزل مثلا في “الفساد”[18] أو في “المؤسسة العسكرية” أو غيرها، وحتى لا يُتصوّر أنها ستساير القواعد القانونية والديمقراطية باستهداف إصلاح إحدى ركائزها فقط دون البقية.
أشكال وأدوات الدولة العميقة
تأخذ الدولة العميقة أشكالا عدة يحددها عدد من العوامل كالتاريخ الحديث للدولة والظروف العالمية والإقليمية التي نشأت فيها وطبيعة المجتمع التي تحكمه. وكذلك لا بد من أخذ النظام الدولي في الاعتبار، حيث إن حفاظ الدولة العميقة على الوضع القائم للنظام السياسي ينتج عنه بالضرورة حفظ موقعها من النظام الدولي (سواء كانت تابعة أو مارقة) ومقومات هذا الموقع؛ ويؤثر ذلك على تركيبة الدولة العميقة وعلى أفعال القوى الخارجية للتأثير فيها. (فمثلا تُرجِع دراسات الدولة العميقة في تركيا ظهورها إلى تنظيم ’غلاديو‘ الذي أسسته وكالة الاستخبارات الأمريكية والاستخبارات البريطانية في إطار حلف النيتو لمواجهة الشيوعية في الخمسينات[19]) .
والدولة العميقة تعتمد في المقام الأول على العنف أو التهديد بالعنف (مثلا في شكل انقلاب عسكري، أو تصفية جسدية، أو إشاعة الفوضى في المجتمع) وتبرر سلوكها بالحفاظ على الأمن القومي، فلذلك لا بد أن ترتكن إلى مؤسسات وتنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية. لكن لا يعني ذلك بالضرورة تصادف الدولة العميقة مع نظام الحكم العسكري، فالدولة في إيران مثلا لا تصنف كنظام عسكري، واليد العليا في النظام هي للمرشد، بل إن المؤسسات الأمنية في إيران تخضع الولاءات فيها لاعتبارات خارج-مؤسسية كالعلاقات الأسرية وعلاقة الأفراد برجال الدين، أي أنها مؤسسات مفككة بدرجة كبيرة يضبط حركتها في النهاية ولاءها للمرشد فقط. لكن تظل تلعب ذات الأدوار المنوطة بالدولة العميقة وفي القلب منها الوصاية على النظام السياسي ككل.[20]
بالإضافة إلى العنف أو التلويح به، تستمد الدولة العميقة كذلك قدرا كبيرا من القوة من موارد المؤسسات الرسمية التي تنتمي إليها. واعتمادا على تلك الموارد تنشئ علاقات المحسوبية والفساد التي تحشد وراءها أطرافا آخرين – مثل كبار رجال الأعمال وزعماء الجريمة المنظمة – ترتبط مصالحهم ببقائها وتحصل بها هذه الأطراف الأضعف على منافع، كامتيازات اقتصادية أو تساهل قانوني نظير قيامها بخدمات توكلها إليها الدولة العميقة[21]. أخيرا لا بد من الإشارة إلى علاقات تبنيها الدولة العميقة مع طبقات أخرى من النخبة الثقافية في المجتمع – من أساتذة الجامعات والكتّاب والإعلاميين – قوامها ليس فقط المنفعة المادية المتبادلة، بل كذلك التجانس الفكري والأيديولوجي مع الدولة العميقة – أو على الأقل غياب التهديد الأيديولوجي. وهذه العلاقات حيوية لضمان حشد الدعم المجتمعي[22] .
ثانيا: تشريح الدولة العميقة في مصر
كان الهدف من القسم السابق هو التأصيل للمفهوم المجرد للدولة العميقة حتى يمكن الفصل بين مكوناتها المختلفة ودراسة العلاقات بينها، ابتعادا عن التهويل في حجمها، وعن نسبة كل عثرات التحول الديمقراطي إليها. وإذا نظرنا من خلال التعريف السابق للحالة المصرية عقب ثورة 25 يناير، تظهر جليا علامات صراع إرادات بين القيادة المنتخبة ومراكز قوى داخل الدولة وخارجها ؛ مثل:
- الاستقلال التام للجيش عن أية رقابة مدنية منتخبة، وهو ما انعكس في عدة مواقف، مثل: إعفاء موازنة القوات المسلحة من الإشراف البرلماني في ما اشتهرت بـ”وثيقة السلمي،” وما انتشر من شائعات حول تهديد قيادات المجلس العسكري لسعد الكتاتني رئيس مجلس الشعب(آنذاك) إذا فشل الأخير في إنشاء الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور. وكذلك ما تردد عن محاولات الرئيس محمد مرسي عزل الفريق السيسي قبل انقلابه بعدة أشهر ، تلك التي باءت بالفشل. وتأثير القيادة العسكرية على السلطة القضائية، كما انعكس في تهريب المتهمين في القضية الشهيرة بالتمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، بعد اجتماع أعضاء بارزين بمجلس الشيوخ الأمريكي مع المجلس العسكري المصري؛
- وجود شبكات داخل أجهزة الدولة المختلفة كالأجهزة الأمنية والمحافظات ومرافق الخدمات تتوانى عمدا عن التعاون مع القيادة المنتخبة؛
- إحجام رجال الأعمال الكبار عن الاستثمار في السوق المصري؛
- بروز الخطاب الأمني والنزعة العسكرية التي تبرر وصاية القوات المسلحة على هوية مصر ومستقبلها وتسيغ قمع الحريات وقتل الحياة السياسية، وتساوي فعل المعارضة بالعمل ضد مصلحة الوطن؛
- لجوء تلك الدولة لكافة الأدوات التقليدية من عنف مباشر، والاستناد على موارد الدولة وقوتها للتواطؤ مع أطراف خارج جهاز الدولة (مثل القائمين على حملة تمرد[23]، أو البلطجية ، أو كبار رجال الأعمال الذين تمتعوا بنفوذ كبير في أثناء حكم حسني مبارك) [24]، وإسباغ صيغة متماسكة فكريا لتفسير وتسويق تحركاتها بالتعاون مع رموز ثقافية وإعلامية مختلفة[25].
إذًا ما شكل الدولة العميقة في الحالة المصرية ومن أطرافها؟ كيف تناغمت حركة أطراف بهذا القدر من التنوع والانتشار في جهات مختلفة في مصر في اتجاه واحد بهدف إفشال القيادة المدنية، والعدول عن مكتسبات الثورة؟ باستطلاع الدراسات الموجودة عن الدولة العميقة في مصر، وبتسكين أطروحاتها في الإطار النظري السابق، يسطيع هذا البحث أن يسعى إلى رسم ملامح عامة لعلاقات أطراف الدولة العميقة وطرائق عملها ووضع الفاعلين المختلفين في إطار واحد، وكذلك تتبع بعض المحرّكات التاريخية التي أفضت إلى نشأتها. سيتم التعرض أولا للشبكات داخل المؤسسات الرسمية أو “النواة الصلبة”[26] للدولة العميقة، ثم إلى العقيدة المحركة لتلك النواة الصلبة، ثم إلى الموارد الذاتية لتلك الشبكات التي يمكّنها تغلغلها في أجهزة الدولة من النفاذ إليها، وثانيا في القسم الأخير تُتناول علاقات الدولة العميقة بالفاعلين الآخرين في المجتمع.
الهياكل المؤسسية للدولة العميقة
إن تقريب هيكل شبكات الدولة العميقة داخل أجهزة الدولة لا يتأتى سوى بتتبع تاريخ نشأة تلك الأجهزة. وتُرجع بعض الدراسات جذور الدولة العميقة في مصر إلى زمن محمد علي ، بل حتى قبله. وهذا الطرح وإن كان لا يمكن الجزم بخطئه لتأثر الأطراف الفاعلة في مصر لدى قيام الجمهورية بعوامل تاريخية سابقة، غير أنه لاعتبارات عملية فيه الكثير من التجاوز؛ ذلك لأن الدولة العميقة إن كانت فعلا بهذه الاستمرارية لظهرت ملامحها مثلا في فترة الاحتلال البريطاني السابق مباشرة على قيام الجمهورية. وإن كان مؤرخو حقبة الاحتلال قد اقتربوا من المفهوم باستعمال ثنائيات مثل “السلطة الفعلية” و”السلطة الشرعية” للإشارة إلى سلطة الاحتلال وسلطة الملك، أو بتحالف الاحتلال والملك لمواجهة الثورات الوطنية والحكومات والبرلمانات المنتخبة؛ وإن كانت مؤسسات الدولة وقت الاحتلال ساحة صراع بين المصريين والأجانب، إلا أن الفاعلين وأنماط العلاقات بينهم قد تغيّرت بعد قيام الجمهورية بالدرجة التي تجعلنا أمام كيان مختلف يكاد يكون منقطعا عما قبله تمام الانقطاع. ولذلك يفرض نطاق البحث وأهدافه التركيز على دراسة الدولة العميقة كما ظهرت في الحقبة الجمهورية.
على أنه قبل البدء لا بد من استبعاد الفرضية القائلة بأن نشوء الدولة العميقة بعد استقلال الجمهورية كان صنيعة الاحتلال البريطاني بغرض استدامته بصورة أخرى بعد الجلاء عن مصر – أو فرضية إن الدولة العميقة كلها صنيعة أطراف خارجية أو خُلقت بإيعاز منهم. فحتى إن كان النفوذ الأجنبي اليوم في مصر يصل حد الكولونيالية الجديدة/المقنّعة ويعتمد على أداء الدولة العميقة لوظائف معينة[27] ، وإن كانت القوى العالمية بعد استقلال مصر رأت لها موقعا معينا في النظام العالمي ودّت لو تقبله مصر (خاصة بعد نشأة دولة إسرائيل في قلب الدول العربية الوليدة والحرب الباردة واتخاذ الرأسمالية العالمية أنماطا جديدة)، إلا أن هناك فواعل وطنية ومحركات كثيرة عدّلت عبر محطّات كثيرة من هيكل وأسلوب الدولة العميقة حتى اليوم (وهي حركة لم تستقرّ بعدُ كما اتّضح من التعديلات الدستورية الأخيرة التي مرّرها النظام المصري). والواجب يكمن في بناء تصور واقعي يوازن بين أدوار هذا الجانب المصري، ودور الأطراف الخارجية والنظام العالمي المتشكل ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. وهذه نقطة في غاية الأهمية حتى لا تتشوّش الرؤية.
وبدء الدراسة من بداية الحقبة الجمهورية يفرض البدء من حركة الجيش و تنظيم الضباط الأحرار الذين أسسوا لمرحلة جديدة في حياة الدولة المصرية ونظامها السياسي.
الدستور والقضاء
قبل الخوض في المحطات التي قام الجيش من خلالها بالتغلغل داخل أجهزة الدولة، لا بد من الإشارة إلى منطلق الجيش في علاقته بالدستور وبالقضاء المصري، وذلك لأنه لأول وهلة لا تبدو ’الدولة العميقة‘ كيانا يمتّ للدستورية بصلة من قريب أو من بعيد، ولأنها لا يمكن أن يشتدّ عودُها في بدايات تكوّنها في وجود مؤسسة قضائية مستقلة وسيادة للقانون. لذلك كان لا بد لاكتمال نمو الدولة العميقة من الاحتواء المبكر لمؤسستي الدستور والقضاء.
لقد تحرّك الجيش في 23 يوليو 1952 سعيا وراء أهداف شاركتها معه أطياف الحركة الوطنية حينها، وفي إطار استفحال الأزمة بين الأخيرة والملك:
“لم يبق ما يجمع بين الوجود الشعبي والوجود الرجعي ]الملك[ داخل إطار قانوني أو دستوري واحد. ولم يبق إلا العمل غير المشروع، بادرت به الرجعية أولا بحريق القاهرة، ولكن لم تُجدها كثيرا الأحكام العرفية والاعتقالات في تحطيم موجة الشعب…واستُنفِدَت كل أساليب العمل المشروع لدى طرفي الصراع. وفي هذا الوقت بادرت حركة الجيش، بتناول العمل غير المشروع لصالح الثورة … ]ومع[ الإطاحة بالملك … انهارت القوائم السياسية للنظام القائم”[28].
أي أنه كان هناك نظام دستوري قائم يضفي الشرعية على الحركة الوطنية آنذاك ويوفّر لها بعض الضمانات من استبداد مؤسسة السراي بها. وهذه الحركة الوطنية منذ أواخر القرن الثامن عشر، وشعارها ’مصر للمصريين،‘ كانت تربط دوما بين مطلبي الاستقلال الوطني (أولا عن التدخل الأجنبي ثم عن الاحتلال) والديمقراطية، وكان بناء المؤسسات الديمقراطية (كالدستور والمؤسسات النيابية) والنفاذ إليها وترسيخها من خلال التشريعات أداة رئيسة للحركة الوطنية في مساعيها لنيل الاستقلال وصراعها مع الملك:
“جرى التعبير عن الديمقراطية في الفكر السياسي المصري بصيغة “المسألة الدستورية،” لا من حيث إن الدستور يتضمن نصوصا تضمن حريات الأفراد، ولكن من حيث إنه الوثيقة التي تقيد سلطة الحكم الفردي المطلق، وتخضع أجهزة الدولة لسلطات الهيئات النيابية المنتخبة، وتؤمن الحريات الجماعية من جهة تكوين الجمعيات السياسية وحرية الاجتماع والنشر، وغيرها، مما يلزم لتحقيق التشكيل النيابي الأمثل، وضمان هيمنته الفعلية على الدولة”[29].
أي أن الجيش عندما تقلّد السلطة في 1952، كانت هناك تقاليد دستورية وقضائية انتصرت للحركة الوطنية في بعض معاركها من أجل الاستقلال والديمقراطية والفصل بين السلطات. ولم يغِب هذا عن فكر قيادات انقلاب 1952، فكان طبيعيا أن الدستور والقوانين منذ ذلك الوقت (حتى اليوم) جبهة لا بد من تأمينها لتحقيق مكتسبات مؤسسية على الأرض، وتغيير طبيعة النظام برمته، بحيث تغدو إعادة هيكلته أمرا صعبا وعالي التكلفة على أي طرف يواجه النظام. فالربط الدائم للقرارات الإدارية والتنفيذية لرئيس الجمهورية ذي الخلفية العسكرية بتشريعات ومراسيم بقوانين، لم يكن بهدف إسباغ الشرعية عليها في أعين أطياف الحركة الوطنية بقدر ما كان بهدف تحييد السلطة القضائية، وخاصة القضاء الإداري، دون المساس به مباشرة، استغلالا لغياب مؤسسات حزبية تأخذ على يد النظام في تغوّله على القضاء. وبذلك ضمن الجيش ألا تتحول المحاكم لساحات تُنازَع فيها قراراته، حيث إن كل سلطة القاضي هي في تنفيذ القانون الموضوع أمامه. وكانت قد أُمِّنت الجبهة الأخرى التي قد تأتي منها المعارضة من خلال دمج السلطة التشريعية في السلطة التنفيذية والقضاء على الحياة الحزبية، وإضعاف النظام النيابي، فلم تعد تُسنّ تشريعات تحدّ من إطلاق السلطة التنفيذية.
وقد بدأت هذه الإجراءات منذ الأيام الأولى للثورة، فأصدرت عدة دساتير بعدد نقاط التحول في الصراع على المؤسسات، وشُكلت محاكم غير اعتيادية مثل محاكم الثورة والمحاكم العسكرية ومحاكم الشعب التي صُممت للنيل من فئات أو أفراد بعينهم[30] ، تلك التي ترأسها أحيانا من لم تكن لهم صفة قضائية مثل أعضاء بمجلس قيادة الثورة. كذلك أخذت الإجراءات شكل قوانين تستثني القرارات الرئاسية من ولاية القضاء الإداري بصفتها “أعمال سيادة،” واستعمال نصوص فضفاضة في القوانين تسمح بالتدخل في سير أعمال القضاء، واستبعاد القضاة من عمليات تحقيق النيابة العامة. وكان أبرز اشتباك مع القضاء ما سمّي بـ”مذبحة القضاة” بعد انفجار الأوضاع عقب هزيمة 1967، فحُلّت الهيئات القضائية وأُبعد عشرات القضاة وسُحبت صلاحية النظر في دستورية القوانين من مجلس الدولة وأنشئ مجلس القضاء الأعلى برئاسة رئيس الجمهورية[31] ، وصدر القرار بتشكيل المحكمة الدستورية العليا ، وقد عارضه قطاع كبير من القضاة في وقته، معتبرينه وسيلة للرقابة على الأحكام القضائية حتى النهائية منها[32]. ثم في عهدي السادات ومبارك كان النمط العام هو احتواء المؤسسة القضائية تحت وزارة العدل، وبالسيطرة على المحكمة الإدارية العليا أعلى درجات التقاضي في مجلس الدولة[33]، وغيرها من إجراءات؛ إما وسّعت سلطات رئيس الجمهورية على تشكيل المحاكم، أو ربطت القضاة أفرادا ومؤسسات بشبكات المصالح حول النظام، كتخصيص أراضٍ لنوادي القضاة ورفع الأجور والمعاشات وغيرها.
وبمناسبة ذكر نوادي القضاة لا بد من تسجيل الدور الذي لعبته النوادي المختلفة في تجميع القضاة المطالبين باستقلال القضاء وتوفير منبر لهم، كما حدث في أعقاب هزيمة يونيو 67، وعام 2005 إبان الانتخابات، وأخيرا اعتراضا على قانون الهيئات القضائية لعام 2017[34]. وكذلك لا بد من قراءة مركبة للمطالبات باستقلال القضاء، فلا تُختَزَل في معارضة النظام، حيث ينبع الكثير من تلك المطالب من اعتبارات الاعتزاز بعراقة المؤسسة القضائية وتمني تطوير تقاليد الاستقلال فيها. وأخيرا، تظل المؤسسة القضائية جزءا من النظام حتى إن كانت تصارعه للذود عن حمى سلطاتها واستقلالها، فهي إحدى سلطات الدولة وأحد أركان نظامها، ولذلك فلا يعول عليها في الاصطدام منفردة بالنظام إن انفجرت أزمة بينه وبين تيار آخر خارج الدولة. “هنا لا يكون أمام القضاء إلا الدفاع عن النظام الذي كان قائما باعتباره إحدى سلطاته وقائما على تنفيذ شرعيته”[35]. وهذه الطبيعة المؤسسية تتضافر مع الفساد والمحسوبية، لتدفع السلطة القضائية نحو دور سياسي يؤيد الوضع القائم.
واليوم بسط رئيس الجمهورية بموجب القانون الصادر عام 2017 ، والتعديلات الدستورية الأخيرة سيطرته على المؤسسات القضائية، تراجعا عن الاستقلالية النسبية التي ضمنها لها دستور 2014. فصار للرئيس حق تعيين رؤساء الهيئات القضائية بما فيها المحكمة الدستورية العليا، وسُحب من مجلس الدولة حق اختيار النائب العام، وكذلك لم يعد المجلس ينظر سوى في القضايا التي تُحال إليه، وأنشئ بموجب التعديلات مجلس أعلى للهيئات القضائية يشرف على ترقيات وندب القضاة.
الرئيس والجيش
من المهم استحضار طبيعة الجيش المصري ودوافعه في الفترة السابقة على انقلاب 1952؛ كانت قيادات الجيش قد حاربت في مواقع عدة أثناء الحربين العالميتين، والثورة العربية على الدولة العثمانية، وحرب فلسطين في 1948، وقد انخرط كثيرون منهم كذلك في الجمعيات السرية من أجل القضايا القومية العربية. لقد كان ينمو في وعي هذه الفئة من الضباط كلما ازداد سفور الاحتلال والمؤامرات الأوروبية والعثمانية على الحركات القومية العربية، ومع نشأة إسرائيل في قلب المنطقة العربية – بأن التغيير المنشود لن يأتي من خلال عمل سياسي وطني، بل على أيدي العسكريين[36]. ومن رحم الاتصالات بين هذه القيادات بمجموعات من صغار الضباط في الجيش المصري الذين طمحوا في الاستقلال وتوزعوا على أسلحة مختلفة في الجيش. ولدت شبكة علاقات شخصية بين ضباط متقاربي الفكر والسن، مؤمنين بأحقية العسكريين بقيادة الحراك الوطني من أجل الاستقلال، وهي التي اعتُمد عليها في انقلاب 1952 وبعده.
وكان حريا بهذه المجموعة التي تحركت في خضمّ معركة مع نظام ملكي كان هو منفذ الاحتلال البريطاني إلى مصر ونافذا إلى جهاز الدولة الإداري، ومع طبقة من المصريين تربطها بالاحتلال البريطاني مصالح اقتصادية مشتركة ولها وجود على الساحة الحزبية، كان حريا بها الاستئصال العنيف والسريع لأذيال الاحتلال عبر طرد الملك، وعبر الإصلاح الزراعي الذي قضى على الأساس الاجتماعي الذي اعتمد عليه الملك والاحتلال وهو طبقة الأعيان. وكانت نتائج هذه الإجراءات والشكل الذي كان حتما على قيادة الثورة اتخاذها به هي حجر الأساس في بنية الدولة العميقة؛ فقد عمّقت هذه الحركة من شخصنة المناصب والمركزية في الإدارة، وتداخل مجالات عمل المؤسسات المختلفة، وتعارض ولاءاتها في الوقت ذاته، بالإضافة إلى دمج السياسي بالإداري، وهو ما تولّد عنه مراكز قوى متعددة. وللإيجاز يمكن القول بأن كل هذه الظواهر تبلورت في خضمّ التنافس بين منصب رئيس الجمهورية ومؤسسة الجيش.
الرئيس
تعمّقت هرمية الجهاز الإداري في مصر في عهد عبد الناصر وتركزت كافة السلطات في يد منصب رئيس الجمهورية، الذي طغت عليه بدوره الكاريزما الشخصية لعبد الناصر. هذه المركزية الشديدة وشخصنة منصب الرئاسة وطغيانه على السلطة التنفيذية أرست القاعدة التي سار عليها جهاز الإدارة حتى الآن، وهي اضمحلال المؤسسة في ظل شخص رئيس الجمهورية. وأسس ذلك أيضا لإدماج السياسي في الإداري؛ حيث أدت سطوة عبد الناصر على الجهاز الإداري إلى أن صار الأخير أداة عبد الناصر في مشروعه السياسي-الاجتماعي من إصلاح زراعي وتحقيق نهضة صناعية وغيرها، ولهذا تسيّس الجهاز الإداري ، واصطبغ بصبغة التوجه السياسي للرئيس. وفي غياب هيئة نيابية منتخبة أغلب فترة حكم عبد الناصر، وهيمنة الاتحاد الاشتراكي على نواب الشعب المنتخبين حين وُجدوا، فقد تركز حكم الدولة ورسم وتنفيذ السياسات الداخلية والخارجية في شخص عبد الناصر، وحال ذلك دون تمتع جهاز الإدارة في مصر بالمؤسسية.
“فبقدر ما يستعاض بالزعامة أو القيادة الفردية عن … الأطر المرسومة، بقدر ما تبدأ موجة من موجات التأكيد على الدور الزعامي ومكنته الفردية الخارقة ووضعه غير المنازع، بحسبانه مشرّع التقرير ومصدر التحريك وقوة الدفع الأساسية. فتصير الزعامة هي القوة وهي المصدر والمنتهى، وكل ما عداها يدور في فلكها ويستمد وجوده منها ويندفع بالحركة من توجهاتها. … ويضعف الجانب التنظيمي أكثر ليصير أكثر تبعية وأكثر التحاقا، فيزيد الاحتياج لدور الزعامة الفردية أداء للوظائف وتضمر الكيانات التنظيمية أكثر وهكذا”[37].
لكن هذه المركزية بدورها أدت إلى نشأة إقطاعات مؤسسية[38] داخل الدولة. إن الرئيس المسؤول عن كل شيء، وفي غياب معارضة منظمة تمُدّه بتغذية عكسية عن سياساته، تتعاظم حاجته إلى الأجهزة الأمنية والاستخبارية لجمع المعلومات وتقييمها. وهذا يخلق لديه حاجة إلى تحصين نفسه ضد تصاعد نفوذ أي مؤسسة بعينها وفقدانه السيطرة عليها. وقد دفع ذلك عبد الناصر إلى إنشاء عدة أجهزة تتداخل نطاقات عملها وتتنافس فيما بينها ويوازنها الرئيس بعضها ببعض؛ بل يروي ’طارق البشري‘ أن تلك كانت سياسة متبعة ، بناء على توصية مدير المباحث العامة لعبد الناصر، بألا يعتمد على “عين واحدة” لمراقبة ما يحدث في البلاد[39] ، فتداخلت مثلا أدوار مباحث أمن الدولة والمخابرات العامة. وهذا بدوره أهدر قيم المؤسسية وسيادة القانون، حيث كانت أوامر الرئيس ذاتها تضطر الأفراد داخل المؤسسات بالتعدي على نطاق عمل مؤسسات أخرى. فعلى الرغم –مثلا- من أن قرارا جمهوريا أنشأ هيئة للمخابرات تجمع المخابرات العامة والمباحث وتسهل التنسيق، لم يتحقق ذلك بسبب عدم رغبة القيادات[40] . وفي هذه النقطة يشير ’البشري‘ إلى أن محصلة هذه السياسات كانت ليس فقط استيعاب الوظائف السياسية في جهاز الإدارة، بل في الأجهزة الأمنية بالذات. ويشير لذلك اعتماد عبد الناصر على أجهزة الأمن لتفعيل قوانين الإصلاح الزراعي والتحقيق في الملكيات، الذي تم عن طريق المصادرة والاعتقال وفرض الحراسة بدلا من الطريق القضائي. فالتحقيق وجمع المعلومات والتعامل مع الأطياف المختلفة في المجتمع كان يتم اعتمادا على أجهزة الأمن بشكل رئيسي.
الجيش
على صعيد موازٍ كان الجيش المصري بقيادة المشير عبد الحكيم عامر يسعى سعيا حثيثا للهيمنة على الدولة، ويشير ’البشري‘ إلى أن هذا المسعى لم ينبع فقط من خلافات بين عبد الناصر وعامر، بل كذلك إلى شعور القائد العام وقيادات الجيش الآخرين بأحقيته بالهيمنة على الدولة: “استخدم رجال المشير في هذا الصراع ما كان قد استخدمه ’عبد الناصر‘ في 1954 من حجج لإحكام قبضته على الجيش ]والتخلص من محمد نجيب[، ومنها أن الجيش بغير هذه الطريقة سيكون عرضة للانقسام بين المجموعات المختلفة”[41] . وكان ضمن مساعي الجيش في ذلك أن دفع بصلاح نصر مدير مكتب عبد الحكيم عامر إلى رئاسة المخابرات العامة، فتوافر له بين 1961 و1967 نفوذ المخابرات العسكرية والعامة معا؛ وهي فترة عزل الجيش فيها عبد الناصر عن التقارير الاستخباراتية بشكل كبير، بل كان يدير عمليات تجسس على الجيش ذاته[42]. وصدرت قوانين وقرارات جمهورية توسع هذا النفوذ في بدايات الستينيات، فوُكلت المسؤولية كلها عن الجيش للمشير عبد الحكيم عامر، وفصلت ميزانية الجيش عن الميزانية العامة، وصارت قيادات وزارة الحربية جزءا من قيادات الجيش بدلا من أن تندرج الأخيرة تحت سلطة الأولى؛ وفي منصبه كنائب للقائد الأعلى، أصدر عامر قرارات بتوسيع صلاحيات وزير الحربية لتشمل كافة شؤون الأفراد والضباط في القوات المسلحة، والمسائل المتعلقة بالقضاء العسكري، وإدارة المخابرات الحربية، كما نقلت إليه مصالح السواحل، وحرس الجمارك، والنقل العام، والجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، والمؤسسة الاقتصادية العسكرية. وفي تلك الفترة كذلك تم الربط بين إدارات المخابرات العامة، ومباحث أمن الدولة، ووزارة الحكم المحلي، وبدأ من ثمّ تعيين الضباط سفراء وملحقين عسكريين في الخارجية وفي مواقع إدارية عليا بشركات القطاع العام، حتى إنه وفقا لإحدى الإحصائيات فإن 27% من المديرين بالقطاع العام (الذي سيطر على 85% من الاقتصاد غير الزراعي) كانوا قبل ذلك ضباطا[43].
وكان أول مساعي عبد الناصر في احتواء سلطة عبد الحكيم عامر ، البيان الدستوري الذي بموجبه تشكل مجلس الرئاسة الذي سعى عبد الناصر من خلاله إلى سحب بعض السلطات من عامر. وكذلك كان بناء تنظيم طليعي سري بالاتحاد الاشتراكي لموازنة قوة الجيش. إلا أن خوف عبد الناصر من أن تحل قيادات أخرى بمجلس الرئاسة محل عامر إذا اتحد عبد الناصر معهم ضده لم يمكّنه من فرض سيطرته واسترجاع تلك الصلاحيات الواسعة[44].
لكن بعدما أدت هذه الأوضاع إلى هزيمة 1967 وانفجرت المطالبات بإعادة تنظيم جهاز الدولة وبالديمقراطية، تمكن عبد الناصر بمساعدة اللجنة العليا بالاتحاد الاشتراكي، وعدد من وزرائه من فرض سيطرته على الجيش بتعيين رجاله في الرتب العليا وإعادة هيكلة جهاز المخابرات وتقليص دورها الداخلي، وتحول إلى الاعتماد على الشرطة بدلا من الجيش لحمايته[45]. سبق ذكر أنه اتجه اعتمادا على ذلك إلى قمع المظاهرات ومراوغة مراكز القوى في الجيش وإعادة هيكلة القضاء لفرض الانضباط.
وفي عهد السادات استمر هذا الشد والجذب بين المؤسسات. فرسّخ السادات أركان حكمه بقيامه بثورة التصحيح وتغيير القيادات القديمة في الجيش والوزارة والمخابرات، وإعلان الانتخابات في الاتحاد الاشتراكي، وإصدار دستور 1971 “الدائم” الذي تضمن بعض الإصلاحات على صعيد سيادة القانون وضمان الحريات العامة. ولم يغب عن خطاب الشحن المتبادل الذي استخدمته “مراكز القوى”، والسادات ، الاتهامات المتبادلة بالعمالة للاتحاد السوفيتي أو للأمريكان[46]. وبعد اتفاقية ’كامب ديفيد‘ دخل الجيش المصري مرحلة جديدة من إعادة الهيكلة شهدت تغييرات واسعة في القيادات، وكذلك خفض للميزانية المخصصة للجيش استرضى السادات القيادات إزاءها بتشدين جهاز مشروعات الخدمة الوطنية الذي صار به الجيش رسميا لاعبا في الاقتصاد المدني[47].
وبالمثل تمكن مبارك في عهده من تحييد الدور السياسي للقوات المسلحة باستمالة كبار الضباط إلى دائرة النفوذ والمحسوبية المحيطة به، والعهدة بالجيش إلى محمد حسين طنطاوي بعد استبعاد المشير أبوغزالة الذي كان له بشعبيته أن ينافس مبارك إن ظل في منصبه. وفي ذلك الوقت كان تأثير الأيديولوجيا الناصرية على ضباط الجيش آخذا في الانحدار، وكان انخراط الجيش في الاقتصاد قد بدأ، كما كان شبح الحرب قد خفت في ظل اتفاقية السلام[48]. بالإضافة إلى ذلك، فعلى غرار ما فعله عبد الناصر كان مبارك يعتمد على الوقيعة بين قيادات المؤسسات الأمنية والعسكرية، فكان يذكي التنافس على النفوذ والمنصب بين عمر سليمان مدير المخابرات العامة، وحسين طنطاوي وزير الدفاع، وبين الاثنين، حبيب العادلي وزير الداخلية، وكان الهدف من ذلك إيصال رسالة أن نفوذهم جميعا دوما محل نزاع[49]. ووسع مبارك من صلاحيات الداخلية، وأمن الدولة، لتكون قطبا مناوئا للجيش.
ومن الجدير بالذكر أن كلا من السادات ومبارك كانا يعتمدان على مزيج من فرص كان يُتيحها المناخ السياسي في مصر، ومصالح تُمنح للجيش مقابل عدم تدخله في إدارة الرئيس للبلاد، كوعود بامتيازات اقتصادية بعد التقاعد، وفتح الباب للجيش لإنشاء شركات خاصة به مُعفاة من الضرائب، وتحصين الضباط من المقاضاة عن الكسب غير المشروع أمام غير المحاكم العسكرية. وعلى عكس تقارير تفيد بأن الجيش كان هو مدير المشهد من الخلف في حقبة مبارك لتغلغله في كافة الأجهزة الحيوية، إلا أن تلك في الحقيقة إشارة لنفوذ سُمح للجيش بالتمتع به نظير إخلاء الساحة لرئيس الجمهورية، ولأن حلفاء مبارك الباقين من فئة رجال الأعمال بطبيعة الحال لم يكونوا موردا مناسبا وموثوقا ليستقي منه مبارك الكوادر التي يضعها على قمة المؤسسات الرقابية وأجهزة الدولة المختلفة، فكان من الطبيعي لجوؤه للجيش في ذلك. إلا أن تصاعد نفوذ جمال مبارك ومشروع التوريث كان هو العامل الذي وحّد الجيش والمخابرات ضد مبارك، ومثلت الثورة فرصة مثلى لهم للتدخل وقلب الموازين لصالحهم[50].
وفي مطلع هذا العام(2019) انتقل التوازن بين الجيش والرئيس خطوة أخرى مع التعديلات الدستورية الأخيرة. لقد تعالَت – بعد التعديلات- الأصوات المنذرة بانتصار الجيش على الرئاسة بما كفلته التعديلات للجيش من وصاية دستورية على الدولة والديمقراطية. إلا أن نظرة أدق تُظهر أن السيسي يعمّق من نفوذه الشخصي بقدر ما يقدّم للجيش من امتيازات. فمن ناحية، يحافظ السيسي على الأولوية غير المسبوقة التي اكتسبتها القوات المسلحة في الاقتصاد المصري، مثلا بإدخال الهيئة الهندسية للقوات المسلحة طرفا في كافة المشاريع الهندسية ومشاريع البنية التحتية، وتوسيع نشاط وزارة الإنتاج الحربي بشكل غير مسبوق، حتى زادت إيرادات الشركات المملوكة لها عام 2018 خمسة أضعاف ما كانت عليه عام 2013[51]. ومن ناحية أخرى، يقوم السيسي بتغييرات دورية في القيادات العسكرية والأمنية وأجهزة الرقابة وغيرها من الأجهزة التي شملت وزارات خدمية ومحافظات، وهذه التغييرات لا شك عامل في بسط سيطرته على تلك المؤسسات وإنذار للعاملين بها بأنه لن يُسمح لأحد بتوسيع نفوذه على حساب رئيس الجمهورية، أو اتخاذ موقف مناوئ له. كما أن ملاحقة الهيئات الرقابية لرموز نظام مبارك، ورجال أعمال ، بما يُشاع أنها حملات على الفساد، تُقرأ على أنها إما تخلص من منافسين داخل النظام، أو ضغط وابتزاز، نظير دعم منتظر منهم. ولا يُغفل وجود أبناء السيسي أنفسهم في مناصب عليا في هيئة الرقابة الإدارية والمخابرات العامة، ودورهم في التخلص من معارضيه داخل تلك الهيئات[52]. والتعديلات الأخيرة وإن كانت كفلت للجيش حق التدخل بالانقلاب على رئيس ترى أنه يهدد الوضع القائم، إلا أنها كذلك عمّقت من سلطة السيسي على القضاء والأجهزة الرقابية، وأطالت المدة الدستورية لبقائه في الحكم. وبهذا يُفهم أن السيسي يدرك حاجته لتقديم تنازلات للقوات المسلحة تمنحها نفوذا مباشرا في الحكم كشرط لشراء رضاها عنه بينما يعمّق هو من نفوذه الشخصي. كما أن مساعيه من أجل تطوير الجيش المصري من بعد عقود من تدهور قدراته العسكرية تحت قيادة حسين طنطاوي، وتنويعه لمصادر التسليح بحيث لم تعد تقتصر على الولايات المتحدة فحسب[53]، كل هذه المساعي من شأنها أن تزيد من شعبية السيسي وسط قطاع كبير من الضباط في الجيش.
قطاع الأمن المصري
منذ أن اتجه عبد الناصر والسادات إلى تقوية قطاع الأمن لكسر الاعتماد الزائد على الجيش، والأجهزة الأمنية محل تنافس بين الجيش والرئاسة – تنافس تميل فيه كفة الجيش عند نجاحه في تنصيب ضباطه في مراكز قيادية بجهازي الداخلية والمخابرات العامة[54]، في حين تميل كفة الرئيس حين استقلت علاقته بوزارة الداخلية عن القوات المسلحة، كما كان الوضع في عهد حبيب العادلي الذي كان أقرب لمبارك ونجله من العسكريين.
ولعل هذا وراء العلاقة المتوترة بين الجيش والشرطة التي كشفتها ثورة 25 يناير للعيان. ففي عهد مبارك نما لدى العسكريين شعور بأن الشرطة هي حلقة في دائرة الفساد المحيطة بمبارك، خاصة مع الاهتمام الزائد الذي أولاه الرئيس بوزارة الداخلية وزيادة ميزانية الشرطة قرابة ثلاثة أضعاف الزيادة في ميزانية الجيش بين بداية التسعينيات وقبيل ثورة 25 يناير[55]. وتعززت هذه النظرة الفوقية تجاه الشرطة بعد انقلاب 2013؛ حيث رأى ضباط الجيش أنه لولا تدخل القوات المسلحة لما عاد الاعتبار لقوات الشرطة. فالقوات المسلحة ترى أنها تبقى الدرع الأخير لمؤسسة الرئاسة، وصمام أمان استقرار الدولة بأكملها، بسبب عمق اختراقها للبيروقراطية المصرية [56]. وهذا يوضّح موقع الشرطة في النظام، فحتى مع كونها واجهة النظام أمام الشعب، تظل فقط الأداة الرئيسية لفرض إرادته (سواء مالت كفته لصالح الرئيس أو الجيش) على الشارع، والوزن النسبي الذي تتمتع به في النظام يتوقف على احتياجه الوقتي منها، فبعد الثورة مثلا رفع المجلس العسكري من مكانة جهاز المخابرات العامة ليكون ذراعه الداخلي في الرقابة بجانب المخابرات الحربية، في حين أضعف مباحث أمن الدولة، ولم يطور من أوضاع الشرطة والأمن المركزي، رغم ما مرت به بعد الثورة من اهتزاز لمكانتها[57]. وهذا يدل على أن مؤسسة الشرطة لا ترقى أبدا لتستقل بنفسها كمركز قوة إلا بقدر هيمنة أحد الطرفين عليها وضعف الطرف الآخر. ويتجلى ذلك في ضعف الاستجابة لمطالب الشرطة، مثل رفع الأجور، ورفع مستوى الرعاية الصحية والخدمية المقدمة لهم ، وحقهم في إنشاء نقابة وانتخاب قيادات نواديهم[58] .
الرقابة الإدارية
لقد كان إنشاء هيئة الرقابة الإدارية كمظلة للأجهزة الرقابية من قِبل عبد الناصر بهدف الحد من سلطة عبد الحكيم عامر في الجيش، ومنذ ذلك الحين وكل قادة الهيئة قد جاؤوا من القوات المسلحة. وقد أدخلت التعديلات الدستورية الأخيرة تغييرات هامة في الرقابة الإدارية بحيث أتبعتها برئيس الجمهورية وأعطته حق تعيين رئيسها، وسمحت لأعضاء المؤسسات الأمنية والعسكرية بالنفاذ إليها إما عن طريق استعانتها هي بهم، أو عن طريق نقلهم للعمل فيها. والرقابة الإدارية بهيكلها هذا هي أداة بيد الرئيس ضد معارضيه فقط، ويظل نطاق عملها يتداخل مع النيابة الإدارية والجهاز المركزي للمحاسبات، اللذان تزايد نفوذ السيسي فيهما كذلك بالتعديلات الدستورية ، وبالعلاقات الشخصية التي تربطه مع أفراد بتلك الأجهزة[59] .
الجهاز الإداري والخدمة المدنية والمحليات
إن مدى سيطرة الجيش على مناصب عليا بالوزارات والمحافظات قد تناولته الكثير من الدراسات بالتفصيل، وتكفي هنا الإشارة إلى أن السيطرة على الخدمة المدنية شملت كل الوزارات إما باحتكار القوات المسلحة لقيادة بعض الحقائب الوزارية ، كالدفاع والإنتاج الحربي والتنمية المحلية، أو بالاستحواذ على نسبة كبيرة من مناصب وكلاء الوزارات والمديرين، الذي لم يستثنِ حتى القطاعات الخدمية الصرفة كالصحة والتعليم. ويوجد مكتب خاص في وزارة المالية مسؤول عن التدقيق في حسابات القوات المسلحة والهيئات التابعة لها بالتعاون مع مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية.
أما المحليات فيأتي ما بين 50-80% من المحافظين في أي وقت من الجيش والشرطة. والنسبة أكبر من ذلك في مناصب نائب محافظ ، ومساعده، ومدير مكتبه. ووجودهم في المحافظات والمدن والقرى يعدّ وجودا موازيا لميزانية وسلطة الوزارات، خاصة أنهم يعملون بالتنسيق مع قيادات المناطق العسكرية التي تقع فيها محافظاتهم ، وهو ما يزيد سيطرة الجيش ورقابته على ما يجري في كل أركان الدولة.
وأما عن مؤسسات الخدمة المدنية الأخرى، فيعدد يزيد الصايغ مجالات نشاط الضباط بدءا بإدارة مؤسسات تعليمية عالية، وجمعيات حماية المستهلك والمستشفيات والملاعب، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، كما يشغلون الكثير من وظائف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، “المصدر الرئيس للبيانات لجميع الجهات الحكومية، والجامعات، ومراكز البحوث، والمنظمات الدولية”[60] إلى آخر ذلك من مجالس قومية، وهيئات عاملة بمجال الثقافة، ورعاية الشباب، والأوقاف والسياحة وغيرها.
موارد الدولة العميقة
يقصد بموارد الدولة العميقة هنا مجموع الامتيازات المادية التي ينفذ إليها أطراف الدولة العميقة بحكم انتمائهم لمؤسساتهم الرسمية. ولا بد من التفرقة بين هذا النفاذ إلى الموارد وبين الدولة العميقة ذاتها؛ لأنه يتأتى الحصول على تلك الموارد واستعمالها من خلال التواجد داخل شبكات مراكز القوى المختلفة، والتعيين السياسي والمنصب الإداري[61] . فهي ليست قوة قائمة بذاتها، بل تعتمد على مصدر القوة الأساسي، وهو تواجدهم داخل دولاب الدولة.
لقد بدأت الموارد المتاحة للدولة بالاتساع في الحقبة الناصرية مع تضخم القطاع العام عقب عمليات التأميم الواسعة، وانخراط الضباط في المناصب القيادية في شركات القطاع العام. وفي كل منعطف سياسي تقلص فيه الدور السياسي للجيش زادت فيه أسهمه في الاقتصاد والتصنيع (العسكري أولا ثم المدني). ففي السبعينيات أنشئت الهيئة العربية للتصنيع، وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، وعاودت وزارة التصنيع الحربي عملها، وإن كانت ابتعدت بنشاطها تماما عن الصناعات العسكرية عقب انتصار 1973[62]. ودخلت مرحلة جديدة من التوسع في بداية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة بعد سياسات الخصخصة. ثم بدأ الاتجاه النيوليبرالي الذي صاحب صعود جمال مبارك ورجال الأعمال حوله بتهديد المملوك من موارد الدولة للجيش، واشتدت المنافسة على النفوذ بين كبار رجال الأعمال والضباط.
دون تِعداد مجالات النشاط الاقتصادي للشركات التابعة للجيش ، من الممكن –فقط- في نطاق هذا البحث الذي يدور حول الدولة العميقة بالأساس الوقوف على أهم الموارد “الموقوفة” على جهات في تلك الدولة بصفتها مؤسسات لا أفرادا. ولا شك أن أهم النشاطات الداخلة في هذا الإطار نشاطات الهيئات العسكرية الكبرى الأربع (الهيئة العربية للتصنيع، جهاز مشروعات الخدمة، وزارة الإنتاج الحربي، والهيئة الهندسية للقوات المسلحة)، وقطاعي الغاز، والبترول اللذين تسيطر عليهما القوات المسلحة، والمخابرات، وتقيم فيه علاقات اقتصادية مع شركات متعددة الجنسيات، وشركات إقليمية[63]، والموارد من المعونة الأمريكية التي تستخدم في شراء الأسلحة، وكذلك من تصدير الأسلحة (والكثير مما يصدّر هو مما تراكم لدى الجيش من أسلحة ودبابات المعونة الأمريكية على مدار عقود)، والشركات القابضة التي يملأ الضباط مجالس إدارتها و هي التي تدير مرافق عامة بالغة الحساسية كالكهرباء، والطيران، والنقل البري، والبحري، ومجال الاتصالات. كما يشغلون مناصب عليا في الجهاز المركزي للتعمير، وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، والهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية المسؤولة عن الري والاستزراع في المشروعات الكبرى، كمشروع ’توشكى‘ وغيره. وبجانب هذه الهيئات، هناك أيضا الشركات الأصغر المملوكة لأفراد الضباط، وهي التي عادة ما يوكَل إليها أجزاء من المشاريع الكبرى التي تشرف عليها الدولة. وسيطرة “الجهات السيادية” على هذه القطاعات والهيئات الرسمية هي ما توفر للدولة العميقة الموارد اللازمة – حفاظاعلى شبكات الزبائنية والفساد- التي تربط الكثير من الجماعات والفئات المؤثرة في المجتمع بها، وتخلق اصطفافا في المصالح، وتجانسا في الرؤى بين الدولة العميقة باعتبارها مركزا، وبين هذه الأطراف. وهي كذلك التي تمنح الدولة العميقة منفذا إلى المرافق الحيوية بالدولة، وإلى مصادر المعلومات الضرورية لإدارة الدولة، وهو ما يمكنها من الانفراد بها دون القيادات المنتخبة.
العقيدة الوصائية للدولة العميقة
تشير الدراسات حول الدولة العميقة في مصر إلى عنصرين أساسيين يشكلان عقيدتها التي تحدد بها وجهة الدولة، وتحشد بها المجتمع من ورائها، وهما
- تمثّل الدولة ومسؤولية حمايتها والتقدم بها في القوات المسلحة، وليس في أي قيادة مدنية ديمقراطية
- التعامل مع الإسلام السياسي كمسألة أمنية لا كمسألة سياسية وطنية[64]. وعادة ما تتظاهر أبواق الدولة العميقة بثبات هذه العقيدة طوال التاريخ المصري، وذلك من خلال الحديث عن “عقيدة” عَلَم وقديمة قدم التاريخ للدولة المصرية،[65] نمت منذ القدم جنبا إلى جنب “على ضفاف النيل الهادئ (مع) الشخصية المصرية القديمة.”[66] لكن بعد القليل من التدقيق التاريخي تتّضح تاريخية هذه العقيدة ومدى تأثير منعطفات تاريخية معينة في تكوّنها، والإلمام بذلك ضروري لأنه يكشف كذب المنطق الذي تستند إليه الدولة، ويثبت أن في الثقافة العامية المصرية عناصر أخرى يمكنك تحريكها لتغيير تلك “العقيدة”. وهو ما يستعرضه هذا القسم.
لكن أولا وقبل الولوج في ذلك، لا بد من الأخذ في الاعتبار أن منطق وصاية الدولة (أو قسم منها) على النظام السياسي والمجتمع ليس حكرا على ظاهرة الدولة العميقة فحسب، بل على غالبية الدول التي نالت استقلالها بعد الاحتلال الأوروبي، وهو ما أشار إليه المؤرخ والمفكر السياسي الكاميروني ’أخيل مامبي‘ بمصطلح Commandment والذي يستوعب معناه تقريبا مصطلح “السلطة الآمرة” الذي استخدمه ’إبراهيم السيد[67]. ما يرمي إليه ’مامبي‘ هو أن نخب ما بعد الاستقلال ورثت الدول وأجهزة الحكم والإدارة ذاتها التي أقامها الاستعمار[68]، تلك التي قامت بهدف حماية جهاز الاحتلال من عناصر المقاومة المحلية “المخرّبين،” وتعظيم السيطرة على المجتمع ، وإعادة تشكيله بحيث تسلس قيادته واستغلال موارده، بدلا من أن تقوم على صيغة تعاقد بين الحكام والمحكومين كما في أوروبا. وكان الاستعمار بالإضافة لذلك يغلّف كل تلك الأفعال بغطاء حضاري هو مهمة تنوير المجتمع المستعمَر. ونخب الاستقلال حين ورثت أجهزة الدولة فإنها كذلك ورثت هذا التصور عن الدولة وعلاقتها بالمجتمع[69] ، ويضرب خالد فهمي[70] مثالا بقانون العقوبات المصري الذي منذ نشأته في القرن العشرين والمنطق منه هو حماية “الدولة” وليس حماية المواطنين. وإن كانت الحالة المصرية استثناء على هذا حيث إن الاحتلال البريطاني وَجد في مصر لدى مجيئه مؤسسات حكم وإدارة قائمة كان قد أسسها محمد علي وأسرته، إلا أن استنتاج ’مامبي‘ عن علاقة الدولة بالمجتمع ينطبق كذلك على الدولة التي بناها ’محمد علي‘ باستخدام إداريين أجانب. فكما توضح دراسة ’فتحي سيد فرج،‘ ولدت مع دولة محمد علي الحديثة نخبة جديدة للمصريين من خارج نسيجهم الوطني، تمثّلت في قيادات الجيش ورجال الإدارة من غير المصريين، وقليل من المصريين الذين تعلموا في الجامعات الأوروبية[71]. ولعل هذا المفهوم يساعد ولو جزئيا على تفسير استمرارية هذه النزعات لدى النخبة الثقافية المصرية سواء انحازت للديمقراطية والاستقلال أم للنظم الديكتاتورية.
وهذا المفهوم يقدم تفسيرا جزئيا كذلك للعلاقة بين النخب والإسلام السياسي، حيث خرج الأخير من شرائح مجتمعية كانت النخب الليبرالية والقومية ترى حاجتها للاستنارة، على أيدي تلك النخب بالذات، فكان من الطبيعي أن يستعدي الإسلام السياسي تلك النخب ليس فقط لرفضها منظومته الفكرية، لكن لمنافسته إياها على “تنوير” المجتمع. ومن المهم هنا تحقيق الفهم المركب بدوافع هذه النخب وعدم اختزالها في “العداء للدين.” إن ما يسمى بالإسلام السياسي ظهر في مرحلة انحدار الجامعة الإسلامية مؤسسات وأفكارا، في حين كانت الأفكار القومية في أوج بريقها تحصد لأصحابها في أوروبا استقلالهم وتُمدّ النخب الوطنية بمفردات التفاوض على الاستقلال مع الاحتلال الأوروبي. وتزاوجت هذه الأفكار مع الليبرالية التي مدّت النخب كذلك بنماذج لمسارات العمل السياسي من أجل التحرر والديمقراطية[72]. وهذه النزعة التغريبية والاعتقاد بأن “منطق الحداثة لا بد أن يفضي إلى إزاحة العالِم التقليدي (أيا كانت مرجعيته) من طريق المثقف الحداثي في نهاية المطاف”[73] كانت ظاهرة وليدة الاحتلال الأوروبي والبعثات التعليمية، ظهرت في جلّ الدول المستَعمَرة. فهذه نخب تشرّبت فكرا وحصيلة لغوية لقراءة العالم وللحركة فيه مختلفة تمام الاختلاف عن تلك التي لدى علماء الدين، ومن هنا كانت القطيعة والشعور المتبادل بتهديد كل فئة على طموحات الفئة الأخرى في الإصلاح.
عن “عقيدة الدولة”
سبق وذكر أن الضباط الأحرار قد جاؤوا إلى قيادة الدولة بقناعة أن خلاص مصر لن يكون إلا على يد العسكريين، وهذا التصور كان نتاج فترة تصاعدت فيها أهمية العسكريين على القانونيين والحركات السياسية وتبيّن استحالة تمكّن الأحزاب من تحقيق الاستقلال دون امتلاك أسباب القوة. كذلك فقد ولدت الجمهورية في خضم الحرب الباردة وتباري القوتين العظميين على استمالة مصر، وفي أعقاب قيام إسرائيل على حدودها الشرقية، وشهدت بُعيد ذلك العدوان الثلاثي. كل ذلك بدا من وجهة نظر العسكريين استمرارا للتآمر الأجنبي على مصر وحدًّا من استقلالها بعد مساعي البريطانيين في السودان والامتناع عن تمويل بناء السد العالي الذي كان صمام أمان لاستقلال مصر. إن القوميين العرب بعد عرقلة الاحتلالين البريطاني والفرنسي لاستقلالهم، كانوا قد أداروا ظهورهم ليس فقط لتلك الدول بل لأيديولوجيتهم الليبرالية كذلك.[74] ومن هنا جاءت النزعة العسكرية المعادية للغرب والإمبريالية والشعور الدائم بمؤامرات تحاك في الظلام، للنيل من الأمن القومي لمصر، وأن الجيش هو الجهة المخولة بالدفاع عنها بشتى الوسائل في هذا المناخ العدائي. ومن هنا وجد النظام في صورة العدو (الخارجي أو الداخلي) وسيلة لتدعيم سيطرته ونفوذه على الدولة.
ولـ’طارق البشري‘ ملاحظة مهمة في هذا الإطار، حيث يشير إلى الدور الذي لعبته بنية النظام ونمط تفاعلاته (أي سيطرة المؤسسات الأمنية على الوظائف السياسية والإدارية في الدولة منذ عهد عبد الناصر) في تعميق الفجوة بين النظام والحركات السياسية والشعبية، والمساهمة في تشكيل تلك الذهنية لدى الضباط في المقام الأول. فالأفراد في هذه المؤسسات مدربون على الانضباط والانصياع لأوامر القيادة، وفلسفة وظائفهم هي التعامل مع الخارجين عن “قانون النظام القائم” ومن يمثلون خطرا أمنيا. وبهذا اصطبغت في مخيلة هذه الأجهزة (التي هي يد النظام في تفعيل قراراته) كل الحركات السياسية والمطالب الشعبية التي تستهدف البنية الدستورية، أو تعارض قيادة الدولة بصبغة التهديد للأمن[75]. ومن ثمّ انتقل هذا التصور إلى الرأي العام بفعل سيطرة الأجهزة الأمنية على وسائل الإعلام والصحافة.
العداء مع الإسلام السياسي
أما بالنسبة لعداء الدولة العميقة للإسلام السياسي، فيمكن إرجاعه أيضا إلى طبيعة حركة الضباط قبل قيام الجمهورية التي تركزت في دوائر نمّت لديهم النزعة القومية على حساب الرابطة الإسلامية. فمثلا، صاحب الأثر الأكبر على مجموعة الضباط الأحرار أو من سمّي بـ”الأب الروحي” للتنظيم هو الفريق عزيز المصري، الذي كان قد قضى خدمته العسكرية في الجيش التركي، وشارك في مساعي جمعية الاتحاد والترقي للإطاحة بالسلطان عبد الحميد، كما شارك في ثورة الشريف حسين وأسس جمعية العهد، وكلها مساعٍ اتخذت من القومية العربية شعارا لها[76]. ولا شك أن صغار الضباط كانوا أكثر استعدادا لمشاركة مثل هذه القيادات العسكرية آراءها، خاصة لما رأوه من رغبتهم في التطوير وبث الروح العسكرية الثورية فيهم. إلا أن القول بأن هذا الجيل الأول أضمر العداء لحركة الإسلام السياسي الصاعدة لا يخلو من المبالغة، حيث كان هؤلاء الضباط يجتمعون بالإخوان المسلمين ويشجعون على توحد الجميع من أجل الاستقلال، ولكن على أن يكونوا خلف العسكريين وعلى مبادئ الاشتراكية العربية. والأرجح أن نبذهم للإخوان المسلمين – على الصعيد المؤسسي وبعيدا عن الخلاف مع عبد الناصر – فيما بعد كان جزءا من شعورهم بخطر الحركات التنظيمية والأحزاب وكل من يقف ضد الأيديولوجية التي تحرك بها قادة انقلاب 1952.
ومع اغتيال السادات ومعارضة الإسلام السياسي لاتفاقية كامب ديفيد وقيام الثورة الإيرانية، نما لدى المؤسسة العسكرية شعور بتهديده لها كمؤسسة وبالتبعية للدولة كحمى لتلك المؤسسة، فانتقل ملف الإسلام السياسي للمربع الأمني، وأخذت تجليات ذلك تظهر في العقيدة الحركية للجيش والشرطة وحتى وزارة الخارجية[77]. وتعزز كل ذلك في التسعينيات[78] بنشاط الجماعة الإسلامية ومحاولة اغتيال حسني مبارك. وخلال هذه الفترة كان يتنامى في العقل العسكري فارق مهم بين الإسلام السياسي والحركات السياسية الأخرى، حيث كان خطر الأحزاب في نظرهم يكمن في شيوع الفوضى ونفاذ الخارج من خلالهم للعبث بمصالح البلاد، لكن الإسلام السياسي كان خطرا شخصيا ومباشرا بات يستهدف في نظرهم هوية الدولة وأشخاصها.
التسعينيات كانت مرحلة تغييرات جذرية من حيث الوظيفة الدفاعية والاقتصادية للجيش في مصر. تحول فيها شبح الخطر من الحرب مع إسرائيل إلى الإرهاب والإسلام السياسي[79] . وإن كان دمج القوات المسلحة في نظام مبارك قد أدى بها إلى التخلي عن مهمتها الأيديولوجية السابقة كـ”عامل تغيير اجتماعي في ’الثورة من فوق”[80] ‘ إلا أن الجيش لم يتخل سوى عن نزعته الاشتراكية، وظلت لدى الدولة العميقة في مصر عقيدة وصائية تتحرك بها في المجتمع وتقوده، ربما كان أفضل تلخيص لها ما ورد في قانون مجلس الأمن القومي الأخير الذي أورد ضمن اختصاصات المجلس “اتخاذ القرارات التي تهدف إلى حماية هوية الدولة وسيادتها واستقلالها ومكانتها الإقليمية والدولية”[81] . وهذا يتضح من استمرارية الخطاب الرسمي عن دور الدين، بدءا من تحديث الأزهر في الستينيات، وحتى تزعم السيسي المطالبة بالإصلاح الديني في مصر. والفيصل في بقاء هذه العقيدة لدى الدولة كان حرص النظام دوما على فرض إطار الخطاب السياسي والاجتماعي المسموح به في المجتمع، كالمصطلحات المستخدمة للإشارة إلى حركات المقاومة الفلسطينية المسلحة على سبيل المثال.
البُعد الخارجي لتوجهات الدولة العميقة
لا يكتمل أي تحليل للدولة العميقة في مصر دون النظر إلى بُعدها الخارجي أي موقعها في النظام الدولي. وذلك لأنه بطول الممارسة لدى النخبة يتولّد لديهم ما يُشبه “هوية” تصبغ السياسة الخارجية وتتأثر بالدور الذي تراه النخبة لنفسها في النظام الدولي – “foreign-policy role” – والإمكانات التي تراها متاحة لها. وهذا بدوره يؤثر على السياسات الداخلية للدولة وتعاملها مع الأطراف المختلفة في المجتمع، وهو فحوى ما ورد في قانون مجلس الأمن القومي حول الحفاظ على المكانة الإقليمية والدولية لمصر.
تصاعد الدور الخارجي الساعي للتأثير على القوات المسلحة المصرية في أعقاب هزيمة 1967 واتفاقية كامب ديفيد. وكانت أدوات التأثير هي الوعود من قبل الولايات المتحدة بالدعم العسكري والاقتصادي والضغط على إسرائيل للتخلي عن الأراضي المحتلة عقب الحرب. وكان أهم ذلك الأثر الاقتطاع من ميزانية الجيش مقابل السماح له بإدارة اقتصاد خاص به[82].
وإن كانت الدولة العميقة في مصر بعد ثورة يناير قد تحالفت مع الدول الراعية للثورات المضادة وأعادت قراءتها للخطر لتتسق أكثر مع رؤى الخليج وإسرائيل، فإن أسباب ذلك كثيرة وتعود لعلاقات خارجية للنخبة تمتد لما قبل قيام الجمهورية[83]. فقد دأبت المخابرات الأمريكية والإسرائيلية منذ عهد عبد الناصر على التواصل مع النخبة الحاكمة في مصر للوصول لتسوية في القضية الفلسطينية، وتوجت كل ذلك اتفاقية كامب ديفيد، وما استتبعته من تغيير في وظيفة الجيش وتعريف العدو. إن “كامب ديفيد” وإن لم تغير من عقيدة كبار ضباط الجيش بين يوم وليلة، إلا أنها صارت أمرا واقعا له توابعه، وأهمها خطورة الموقف العقدي والمبدئي الذي تأخذه الحركات الإسلامية من القضية الفلسطينية. لقد كان عداء مصر لإسرائيل منذ البداية يدور حول الخطر الذي تمثّله لمصر بالأساس. أما اعتداؤها على دولة عربية شقيقة، أو انتهاكها للمقدسات الإسلامية في فلسطين فكانا سببين ثانويين للموقف الرسمي للدولة المصرية. لكن كامب ديفيد جعلت من أي قراءة تخرج بالعداء مع إسرائيل عن إطار السياسة الواقعية وضرورات الأمن القومي المصري قراءة خطرة في حد ذاتها. واستدامة هذا المنطق في حد ذاته عامل في تبني قطاع كبير من النخبة والضباط له. فلما قامت ثورة يناير واتضح درجة تهديدها للوضع القائم الداخلي والإقليمي، استغلت نخب الدولة العميقة ، بغريزتها للبقاء، الفرصة، وأعطت هذه الآراء الجديدة متنفسا حتى انعكست على السياسة الخارجية. وقد تعزز الدور القديم الذي كان منوطا بحكومات الشرق الأوسط قبل الربيع العربي، وهو الحد من قوة الحركات الإسلامية فكرا وحركة (ما يستلزم استدامة الحكم الاستبدادي)، والحفاظ على استقرار خطوط الملاحة العالمية وتصدير البترول واحتواء إيران كدولة مارقة. وهو الدور الذي دوما حاز أولوية السياسة الخارجية تجاه المنطقة على حساب التحرير الاقتصادي والتحول الديمقراطي[84].
وكان من عوامل التغيير كذلك مطالبات الولايات المتحدة منذ عقود بتغيير العقيدة العسكرية الأمريكية وبأن تتوجه القوات المسلحة في استراتيجيتها وتدريباتها العسكرية من الحرب التقليدية إلى استرايتيجية الحرب على الإرهاب. وقد ضغطت بشأن ذلك من خلال تغيير طبيعة المعونة العسكرية، فمثلا بعد أن عُلّقت المعونة بعد الانقلاب، لم تفرج الولايات المتحدة سوى عن دفعة طائرات الأباتشي المستخدمة في الحرب في سيناء، وذلك بعد توسط إسرائيلي.
ثالثا: أدوات الدولة العميقة
بقي ركن أخير لرسم صورة متكاملة لعمل الدولة العميقة في مصر، وهو الأدوات التي تعتمد عليها من خارج الأجهزة الرسمية لتحقيق أهدافها. وأول هذه الأدوات هو ما ذُكر في بداية البحث عن قيام الدولة العميقة بـمحاولة “عسكرة” المجتمع بأكمله بداية من النخب وحتى المواطنين البسطاء، لتجندهم للدفاع عن الوضع القائم. وهذه “العسكرة” تأخذ مسارات عديدة بعدد الفئات المجتمعية التي تنحاز للدولة العميقة وتسخّر ما لديها من إمكانيات لدعمها. فهناك : أولا- المواطنون العاديون الذين تستهدفهم الدولة العميقة بوسائل الإعلام والتعبئة، واستخدام لغة التخويف من انهيار النظام أو تدهور الأوضاع الاقتصادية. وثانيا – هناك القطاع الكبير الذي يشكله موظفو الأجهزة الحكومية، الذين بطبيعة الحال يتشرّبون ثقافة الجهاز الذي يعملون به، وأهم عناصرها المحافظة والقناعة بأهمية الانضباط بقواعد الأوضاع القائمة. وهناك على الطرف النقيض من هؤلاء سكان “المجتمعات المسوّرة” أو من سمّاهم ’رشدي سعيد‘ بـ”الكتلة الطافية” الغنية في المجتمع التي نشأت إثر سياسة الانفتاح. وهذه الفئة وإن كانت تنزع نحو الانفتاح في الشؤون الاجتماعية والاقتصادية، إلا أنها بسبب انعزالها عن المجتمع وانغلاقها على نفسها وبسبب غياب التقاليد الديمقراطية في المجتمع المصري، اكتسبت ذات النزعة السلطوية والاستعلائية تجاه المجتمع، وهي التي تقول بأنه غير مؤهل للديمقراطية، أو أن تحركاته السياسية ستتسبب في انهيار النظام وشيوع الفوضى. أما عن النخب الثقافية والإعلامية وأساتذة الجامعات، فإن تبني النسبة الأكبر منهم لعقيدة الدولة العميقة يعود لعوامل كثيرة؛ أهمها السيطرة الأمنية على الجامعات، والمؤسسات الثقافية والإعلامية، ومزيج الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الذي يحول دون ظهور نخب بديلة في تلك المواقع. بالإضافة – قطعا- لما ذُكر سابقا من النزعة التحديثية- الدولتية التي تغلب على هذه النخب، وخوفها على هوية وتقدم الدولة من كل ما هو تقليدي. وهناك كذلك عسكرة الكنيسة الأرثوذوكسية في مصر من خلال التعامل معها كالممثل الوحيد عن الأقباط في مصر، ومنحها بعض الامتيازات كالإعفاء من الرقابة المالية، والالتزام بقراراتها الخاصة بشؤون المواطنين المسيحيين؛ مثل مسألة الأحوال الشخصية، والطلاق الذي تأخذ الدولة فيه موقف الكنيسة برفض الطلاق، وإن صدر به حكم قضائي[85]، وذلك نظير تعبئة الأقباط خلف النظام.
تعتمد الدولة العميقة بالإضافة لتجنيد المجتمع وراءها على جماعات وظيفية محددة، وأهمها هي فئة كبار رجال الأعمال والبلطجية. وللوهلة الأولى قد لا يُتصور أن تكون فئة كبار رجال الأعمال في مصر مجرد أداة في قبضة الدولة العميقة بسبب قربها الشديد من النظام أثناء حكم مبارك، وبسبب امتلاكها للكثير من الصحف ووسائل الإعلام التي دعمت النظام إبَّان الثورة، وكذلك بسبب إمساكها عن الاستثمار وتخفيف الوضع الحرج للاقتصاد المصري أثناء المرحلة الانتقالية، ورئاسة الرئيس الراحل محمد مرسي. والواقع أن فئة رجال الأعمال هذه خير دليل على دينامية العلاقات داخل الدولة العميقة واحتماليات تبدّل المواقع والفاعلين. وذلك لأن فئة رجال الأعمال المقربين من مبارك – وبالتالي الأقوى في السوق[86] – تحولت إلى هدف وقربان للنظام الذي جاء بالسيسي؛ فكيلت لها الاتهامات بالفساد بسبب قربها من نظام مبارك، واستولت الشركات التابعة للقوات المسلحة على جزء كبير من حصتها في السوق المصري. وتحولت بعد أن كانت جزءا من النخبة الحاكمة فعليا إلى التنافس على أي وسيلة للنفاذ للنخبة الحاكمة لنيل بعض الامتيازات، وهو ما يستغله النظام للضغط عليهم لتقديم تنازلات نظير توفيق أوضاعهم، أو إسقاط الدعاوى القضائية عنهم.
وهناك أداة لا تقل أهمية، وهي العلاقات الخاصة التي تربط الدولة العميقة بالبلطجية في مصر، الذين ظهروا كفاعل أساسي في المرحلة الانتقالية. لقد ازدهرت البلطجة وتوطدت العلاقات بينها وبين أجهزة الأمن والحزب الوطني الديمقراطي وبعض رجال الأعمال في عصر مبارك، وقد اعتمدوا على أعداد كبيرة من المسجلين خطر ، إما للتجسس على المواطنين، أو لتخويف المواطنين في أي تجمهر معارض للحكومة[87]. وبلغ حد الاعتماد على البلطجية من قبل النظام استخدامهم للهجوم على المستشار هشام جنينة لثنيه عن الطعن على قرار استبعاد الفريق سامي عنان من السباق الرئاسي. وقد ترسخت العلاقات بين قوات الأمن وهؤلاء البلطجية حتى بعيدا عن الأحداث السياسية، فصارت هناك قنوات للتعاون والتواصل بين الطرفين في حفظ الأمن ورد المسروقات[88]. وقد بلغ نفوذ البلطجية حدا يمكّنهم من الاستبداد بالمواطنين بعلم الشرطة وفرض الإتاوات والاحتماء بالشرطة من البلطجية الآخرين ومن الملاحقة القانونية، وكل ذلك بالتأكيد نظير تبادلات مادية بين الشرطة والبلطجية. وفي آخر التطورات في هذا الصدد، فسّر البعض القانون الصادر عام 2017 الذي استحدث قسما جديدا لما سمّيت بـ”الشرطة المجتمعية،” بأنه خطوة من وزارة الداخلية لزيادة أعداد أمناء الشرطة بدلا من استيعاب من يسعون للترقي لرتبة ضابط بعد الدراسة بكلية الحقوق. فبعد عدة إضرابات واحتجاجات لأمناء الشرطة للمطالبة بمساواتهم بالضباط، “حدث اضطراب هيكلي داخل جهاز الشرطة نتيجة زيادة أعداد الضباط والنقص المستمر في الأمناء، وهذا ما دفعها إلى التفكير في إنشاء هيئة جديدة لها قوانين ثابتة تسد العجز المتزايد في عدد الأمناء”[89].
وأخيرا، تظل الأدوات الأكبر بيد الدولة العميقة هي المعلومات التي تتوفر لديها عن الدولة والخبرة الطويلة لدى الموظفين البيروقراطيين التي تنقص المنتخَبين حديثا. وكذلك شبكات الفساد التي تتفرّع منها إلى المؤسسات المختلفة في الدولة، بسبب الانتقائية في الرقابة، وضعف سيادة القانون، فتضعف تلك المؤسسات ويزيد اعتمادها على العلاقات الشخصية والقواعد غير الرسمية. ويغدو كل ذلك سهلا في ظل وقوف الأجهزة الأمنية حائلا دون الديمقراطية والتعددية السياسية والشفافية.
خاتمة
الإطار العام للدولة العميقة وأساليب التعامل الممكنة
هدفت هذه الدراسة إلى رسم إطار عام للفاعلين، والعمليات التي تتشكل منها الدولة العميقة في مصر. وإجمالا لكل ما تم تناوله، يمكن القول إذًا بأن الدولة العميقة التي كانت فاعلة في مصر عقب ثورة 25 يناير وأخذت مكان القيادة المنتخبة في 3 يوليو 2013 تتسم بما يلي:
- هي شبكات متعددة ومتداخلة ضاربة في أعماق كافة المؤسسات الرسمية في الدولة.
- تنبع أساسا من القوات المسلحة والمخابرات العسكرية وتتكاثر حولها، اعتمادا على العلاقات الشخصية والمحسوبية والمنفعة المتبادلة.
- ما يجمع كافة الأطراف في هذه الشبكات هو وقوفهم جميعا خلف الوضع القائم أو ما سماه ’ستيفن كوك‘ “النظام السياسي الطبيعي”[90] للدولة في الداخل والخارج، أي مركَّب الاستبداد وتغول الدولة على المجتمع وقيمه، والنظر بعين الريبة لكافة الأيديولوجيات أو المشاريع الفكرية التي من شأنها إحداث تغيير، وفي القلب منها الإسلام السياسي.
- يسعى كل رئيس يعتلي هرم السلطة إلى تدعيم سلطته بتفكيك تلك الشبكات وضرب بعضها ببعض .
وهذه الشبكات من خلال سيطرتها التامة على كافة المواقع الحساسة بأجهزة الدولة، وبفعل استثنائها من الرقابة، تحول موارد الدولة إلى موارد خاصة بها أو بالمؤسسات التي تتبع لها، وتعتمد عليها في تجنيد أطراف خارجها للقيام بمهام ضد خصومها.
أخيرا، لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم ’الدولة العميقة‘ ومدلولاته هي محاولات تقريبية لتعريف ظاهرة عمل جهات في الخفاء ضد الحكومات المنتخبة. وقد أخذت هذه الدراسة بتعريف مبسط للمفهوم ليكون نقطة للبدء بتخيل الهيكل الكامل للدولة العميقة، بدلا من تحليل كل مكوّناتها على حدة ، أو نسبة ما قد لا ينضوي تحتها إليها، أو الخلط بين أركانها المختلفة. وكانت فلسفة بناء المفهوم قبل الخوض في تحليل الدولة العميقة في مصر قائمة على أهمية التفرقة وعدم الخلط بين هذه الأركان حتى تُفهم طبيعة العلاقات بينها، وحتى ينتقل البحث إلى أنماط تلك العلاقات، وكيف يمكن التأثير فيها، وهي أول خطوة لبناء استراتيجية سليمة للتعامل مع الدولة العميقة.
تأتي بعد ذلك مسارات أخرى ممكنة للحركة بعضها على صعيد الفكر والخطاب، والآخر على صعيد التنظيم السياسي. ففي تجربة كالتجربة الأردوغانية مع الدولة العميقة في تركيا، نجح أردوغان في النفاذ قدر الإمكان إلى “دولاب الدولة” من خلال اختياره لموقع بلدية إسطنبول الذي لم تكن تنافس عليه الدولة العميقة ولم يمسّ مصادر قوتها في شيء. وجمع إلى ذلك خطابا كاريزميا ومرنا وفّر للناخب التركي وسطا بين طرفي الخطاب العلماني الدولتي والخطاب الديني. كما أن إعادة هيكلته للسياسة الخارجية التركية واستهداف “تصفير المشكلات” مع دول الجوار، كان مخرجا مبتَكرا ، أضعف من حجة الدولة العميقة بوجود تهديد خارجي دائم على تركيا، وهو ما أتاح المجال للتركيز على مجالات أكثر أهمية للتقدم في التسليح[91].
على النهج ذاته يمكن السعي نحو إعادة هيكلة خطاب وخريطة المعارضة للنظام المصري. وأول خطوات ذلك تكون بإعادة تاريخ النضال المصري من أجل الديمقراطية إلى واجهة الخطاب لكسر شوكة “عقيدة الدولة،” وهو ما من شأنه أن يعزل الدولة العميقة وحملة تلك العقيدة، ويُضعف من موقفهم الشعبي، لأنه يجعل منهم هم الاستثناء في تاريخ حافل بالمطالب الديمقراطية. وفي السياق ذاته يمكن توطين أطروحات الإسلام السياسي في مكانها في الطيف الفكري المصري السابق على قيام الجمهورية، وإعادة طرحها في صياغات أقرب إلى لغة الوسط المصري. وهذا من شأنه أن يزيل شيئا من الصورة التي رسمها النظام للإسلام السياسي كتيار دخيل على الثقافة والهوية المصرية. وعلاوة على ذلك تتيح إعادة الطرح هذه مد الجسور مع المعارضة لإجراء حوار حقيقي حول مسارات المستقبل دون اختزالها في قضايا الهوية اللاتاريخية، لأن تسليط الضوء على العوامل التي أدت بنخب التيارات المختلفة قبل عقود طويلة إلى الذهاب من طرق فكرية مختلفة يعمّق فهم التيارات ببعضها البعض ، وكذلك العوامل التي أدت إلى نشوئها داخل المجتمع الواحد، وبالتالي تنحو تلك التيارات منحىً غير إقصائي، وإن تنافست فيما بينها.
الهوامش
[1] Robin Ramsay, “Review: The American Deep State: Wall Street, Big Oil, and the Attack on US Democracy,”
[2] Peter Dale Scott, The American Deep State: Wall Street, Big Oil, and the Attack on US Democracy, London: Rowman and Littlefield, 2015.
[3] Steven Cook, “The Deep State Comes to America,” Foreign Policy, February 24, 2017, https://foreignpolicy.com/2017/02/24/the-deep-state-comes-to-america/.
[4] إبراهيم السيد، “ما هي الدولة العميقة،” مصر العربية، 30 يوليو، 2015، http://www.masralarabia.com/%D8%A7%D8%B6%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA/%D9%85%D9%81%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85/679011-%D9%85%D8%A7-%D9%87%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%8A%D9%82%D8%A9%D8%9F.
[5] فهمي هويدي، “سؤال الدولة العميقة في مصر،” الجزيرة.نت، https://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2012/6/11/%D8%B3%D8%A4%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B5%D8%B1.
[6] Patrick O’Neil, The Deep State: An Emerging Concept in Comparative Politics, November 2017, p3-4.
[7] Mehtap Soyler, “Informal Insitutions, Forms of State, and Democracy: The Turkish Deep State,” Democratization 20:2, 2013, p310.
[8] Ibid., pp310-311.
[9] Gretchen Helmke and Steven Levitsky, “Informal Institutions and Comparative Politics: A Research Agenda,” Perspectives on Politics 2:4, December 2004, p727.
[10] Soyler, op. cit.
[11] “محلل مصري: الدولة العميقة عطلت قانون الاستثمار وصدوره ولادة جديدة للاقتصاد المصري،” وكالة آكي للأنباء، 27 أكتوبر 2017، https://www.adnki.net/AKI/?p=23455.
[12] محمد أبو الفضل، “الدولة العميقة في مصر،” العرب، 7 مارس، 2016، https://alarab.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B5%D8%B1.
[13] Peter Dale Scott, op. cit., chapter 2.
[14] O’Neil, op. cit., p5.
[15] Soyler, op. cit. p315.
[16] Ibid., p314.
[17] Ibid.
[18] عبد الله الأشعل، “خرافة الدولة العميقة في مصر،” القدس العربي، 10 فبراير، 2014، https://www.alquds.co.uk/%d8%ae%d8%b1%d8%a7%d9%81%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%85%d9%8a%d9%82%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d9%85%d8%b5%d8%b1/.
[19] Soyler, op. cit., p316.
[20] O’Neil, op. cit., p20.
[21] Ibid., p6.
[22] Dexter Filkins, “The Deep State,” The New Yorker, March 4, 2012, https://www.newyorker.com/magazine/2012/03/12/the-deep-state.
[23] عبد الرحيم عبد الله، “خفايا عزل الرئيس المصري: مرسي حاول إقالة السيسي والجيش أمّن التمويل لـ’تمرد‘،” الحرة، 18 يوليو 2013، https://www.alhurra.com/a/egypitan-army-and-ousted-president-mohammad-morsi-had-national-policy-disputes-and-planned-to-oust-eachother-/227538.html.
[24] Robert Springborg, “Egypt’s Economic Transition: Challenges and Prospects,” International Development Policy, July 2017, https://journals.openedition.org/poldev/2277.
[25]لا بد من الإشارة إلى أن علاقة الدولة العميقة بالإعلام هي علاقة شديدة التركيب، خاصة في الحالة المصرية عندما تكون وسائل الإعلام مملوكة لرجال أعمال هم مراكز قوة مستقلة بذاتها. فبجانب السيطرة التقليدية للدولة على الإعلام من خلال الملكية المباشرة، هناك أيضا “تعاون” ملّاك وسائل الإعلام مع الدولة العميقة بسبب اصطفاف مصالح الطرفين في مرحلة ما (أخذا في الاعتبار رجحان كفة القوة لصالح الأخيرة بالطبع). وإدراك هذه العلاقة المركبة مهم لتفسير خروج بعض الإعلاميين أحيانا عن “النص.” فلا يكون ذلك بالضرورة أمرا مدبرا صادرا “من المركز” بقدر ما يكون شدا وجذبا بين المركز والمالك. ومقدار الشد والجذب يتغير بتغير توازن القوة بين الطرفين.
انظر: محمد أبو الفضل (مرجع سابق) عن نفوذ رجال الأعمال الذي يشل سلطة القانون عليهم، وأيضا مصطفى عبيد، “صلاح دياب رجل أعمال يتماهى مع جده الصحافي لتكريس الليبرالية،” العرب، 24 نوفمبر 2018، https://alarab.co.uk/%D8%B5%D9%84%D8%A7%D8%AD-%D8%AF%D9%8A%D8%A7%D8%A8-%D8%B1%D8%AC%D9%84-%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84-%D9%8A%D8%AA%D9%85%D8%A7%D9%87%D9%89-%D9%85%D8%B9-%D8%AC%D8%AF%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D8%A7%D9%81%D9%8A-%D9%84%D8%AA%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%8A%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9.
[26] علي الجرباوي، “الدولة العميقة: محاولة لضبط المفهوم،” الموقع الرسمي لجامعة بيرزيت، 29 تشرين الثاني، 2018، https://www.birzeit.edu/ar/blogs/ldwl-lmyq-mhwl-ldbt-lmfhwm#_ftnref27.
[27] عبد المعطي زكي، “الدولة العميقة في مصر: الخصائص والركائز،” المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية، 11 يونيو 2016، https://eipss-eg.org/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%8A%D9%82%D9%87-%D9%81%D9%89-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B5%D8%A7%D8%A6%D8%B5-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%A6%D8%B2/.
[28] البشري، دراسات حول الديمقراطية المصرية، مرجع سابق، ص194.
[29] المرجع السابق، ص143.
[30] البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو، ص 106.
[31] محمد حمامة، “أربع محطات واجه فيها القضاة السلطة،” مدى مصر، 27 ديسمبر 2016، https://madamasr.com/ar/2016/12/27/feature/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A3%D8%B1%D8%A8%D8%B9-%D9%85%D8%AD%D8%B7%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87-%D9%81%D9%8A%D9%87%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%B7%D8%A9/.
[32] محمد سندباد، “كيف خذلت المحكمة الدستورية المصريين منذ ثورة يناير،” عربي21، 4 مارس 2018، https://arabi21.com/story/1075951/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AE%D8%B0%D9%84%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D9%83%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B3%D8%AA%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%86%D8%B0-%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D9%8A%D9%86%D8%A7%D9%8A%D8%B1.
[33] أحمد التلاوي، “القضاء الإداري وأزمات الدولة المصرية،” نون بوست، 23 يونيو 2016، https://www.noonpost.com/content/12486.
[34] مصطفى شعت، “بعد عام من تعديل قوانين الهيئات القضائية، ماذا تبقى من استقلال القضاء؟” معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، 30 أغسطس 2018، https://timep.org/%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%89/%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%82/%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B9%D8%A7%D9%85-%D9%85%D9%86-.
[35] البشري، حول الديمقراطية المصرية، ص158.
[36] طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو، دار الشروق، ص 112-113.
[37] المرجع السابق، ص150.
[38] أشرف الشريف، “مأزق مصر في مرحلة ما بعد مبارك،” مركز كارنيغي للشرق الأوسط، 29 يناير 2014، https://carnegie-mec.org/2014/01/29/ar-pub-54638.
[39] البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو، مرجع سابق، ص154.
[40] المرجع السابق، ص155.
[41] البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو، مرجع سابق، ص180.
[42] Robert Springborg, “Military Intelligence Trumps Political Intelligence in Egypt,” The New Arab, May 24, 2016, https://www.alaraby.co.uk/english/comment/2016/5/24/military-intelligence-trumps-political-intelligence-in-egypt.
[43] المرجع السابق، ص122، ص182.
[44] طارق البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو، مرجع سابق.
[45] “من يحكم الظل؟ القصة الكاملة لصراع الاستخبارات في مصر،” ميدان، https://midan.aljazeera.net/reality/politics/2018/3/16/%D9%85%D9%86-%D9%8A%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B8%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84%D8%A9-%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B5%D8%B1.
[46] أحمد فوزي سالم، “ثورة التصحيح: عن الذين يدخلون التاريخ من باب ’المسخرة‘،” إضاءات، 16 مايو 2017، https://www.ida2at.com/history-and-corrective-revolution-by-anwar-el-sadat/.
[47] أسامة الصياد، “إمبراطورية جيش مصر الاقتصادية: من حماية الحدود لحماية البيزنس،” ميدان، https://midan.aljazeera.net/reality/politics/2018/6/10/%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1%D8%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B2%D9%86%D9%8A%D8%B3.
[48] الصايغ، مرجع سابق، ص4.
[49] محمد الباز، المشير والفريق: الملفات السياسية لطنطاوي وعنان، كنوز للنشر والتوزيع، نوفمبر 2013، ص 146-149.
[50] دينا عزت، “كواليس الصراع بين الوريث والجنرال: جمال مبارك حاول اغتيال عمر سليمان مرتين،” الشروق، 31 يوليو 2012، https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=31072012&id=e2b431c7-b846-4ea9-923a-2f8fe72ef1fc.
[51] أسامة الصياد، مرجع سابق.
[52] محمد مغاور، “أبناء السيسي يصنعون إمبراطورية بالرقابة والمخابرات،” عربي21، 22 يوليو، 2018، https://arabi21.com/story/1110534/%D8%A3%D8%A8%D9%86%D8%A7%D8%A1-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%82%D8%A7%D8%A8%D8%A9- .
[53] Robert Springborg, “The Egyptian Military: A Slumbering Giant Awakes,” Carnegie Endowment, February 28 2019, https://carnegie-mec.org/2019/02/28/egyptian-military-slumbering-giant-awakes-pub-78238.
[54] Issandr El Amrani, “Sightings of the Egyptian Deep State,” MERIP, January 1 2012, https://merip.org/2012/01/sightings-of-the-egyptian-deep-state/.
[55] الصايغ، ص7.
[56] الصايغ، ص12.
[57] محمد محفوظ، “قطاع الأمن المصري في عام ما بين أسئلة الثورة وإجاباتها،” مركز كارنيغي للشرق الأوسط، يناير 2014، ص12.
[58] محمد محفوظ، “قطاع الأمن المصري في عام ما بين أسئلة الثورة وإجاباتها،” مركز كارنيجي للشرق الأوسط، ص7-8.
[59] محمد مغاور، مرجع سابق.
[60] الصايغ، مرجع سابق، ص17.
[61] المرجع السابق، ص20.
[62] أسامة الصياد، مرجع سابق.
[63] “Factbox: Major Foreign Companies Operating in Egypt,” Reuters, January 30 2011, https://www.reuters.com/article/us-egypt-companies/factbox-major-foreign-companies-operating-in-egypt-idUSTRE70T22F20110130.
[64] هاني بشر، “الدولة العميقة بين مصر وأمريكا،” عربي21، 19 فبراير، 2017، https://arabi21.com/story/986103/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%85%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D9%88%D8%A3%D9%85%D8%B1%D9%8A%D9%83%D8%A7.
[65] محمد مرعي، “أزمة القوى السياسية مع عقيدة الدولة المصرية،” الوطن، 2 أبريل 2018، https://www.elwatannews.com/news/details/3235666.
[66] عصام شيحة، “الدولة جوهر العقيدة العسكرية الوطنية،” اليوم السابع، 17 مايو 2016، https://www.youm7.com/story/2016/5/17/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D8%AC%D9%88%D9%87%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9/2722322.
[67] إبراهيم السيد، مرجع سابق.
[68] الحالة المصرية استثناء على هذا حيث أإن الاحتلال البريطاني وجد في مصر لدى مجيئة مؤسسات حكم وإدارة قائمة كان قد أسسها محمد علي وأسرته. ولكن يمكن القول بأن استنتاج ’مامبي‘ عن علاقة الدولة بالمجتمع ينطبق كذلك على أجهزة الدولة التي بناها ’محمد علي.‘
[69] Margaret Kohn and Keally McBride, Political Theories of Decolonization: Postcolonialism and the Problem of Foundations, Oxford Scholarship Online: May 2011, pp91-92.
[70] خالد فهمي على برنامج بتوقيت مصر، “مصر تاريخ طويل من النضال من أجل الدستور،” التلفزيون العربي، 2 مارس 2019، الدقيقة 29:00-31:00.
[71] فتحي سيد فرج، “ثقافة النخبة المصرية ودورها في التنمية،” الحوار المتمدن، 23 ديسمبر 2008، http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=157216&r=0.
[72] Israel Gershoni, “Liberal Democratic Legacies in Egypt: The Role of the Intellectuals 1900-1950,” Historical Studies, 2012, https://www.ias.edu/ideas/2012/gershoni-democratic-legacies-egypt.
[73] إبراهيم البيومي غانم، “لماذا تنزع النخبة الثقافية للاستعلاء على المجتمع؟” إضاءات، 6 يناير 2019، https://www.ida2at.com/why-does-cultural-elite-tend-rely-society/.
[74] Sander Mens, Egypt Between State and Islam, Master’s Thesis, Utrecht University Repository, 2015.
[75] البشري، الديمقراطية ونظام 23 يوليو، مرجع سابق.
[76] خيرية قاسمية، “مواضيع في التاريخ العربي الحديث.”
[77] هاني بشر، مرجع سابق.
[78] الصايغ، مرجع سابق، ص6.
[79] هاني بشر، مرجع سابق.
[80] الصايغ، مرجع سابق، ص4.
[81] “مشروع قانون مجلس الأمن القومي،” المصري اليوم، 18 نوفمبر 2013.
[82] Amr Adly, The Future of Big Business in the New Egypt,” Carnegie Endowment, November 2014, p6.
[83] Ido Yahel, “Covert Diplomacy Between Israel and Egypt During Nasser Rule: 1952-1970,” Sage Open, October-December 2016.
[84] كان للحكومة المصرية إبان حكم مبارك دور فاعل في جعل أولوية السياسة الأمريكية في المنطقة هي الاستقرار على حساب الديمقراطية، فيشير باحثون إلى أن مصر دوما ما استخرجت المزيد من الدعم الأمريكي بالتلويح بعجزها عن تلبية حاجات مواطنيها وبخطورة تبعات ذلك على الاستقرار في المنطقة. ومن خلال معرفة مصر بقيمة استقرار الوضع القائم لدى الولايات المتحدة نجحت في الحفاظ على هامش مناورة معها.
[85] أسامة الصياد، “لماذا تصر الكنيسة المصرية على المبيت في أحضان الأنظمة،” نون بوست، 5 يونيو، 2015، https://www.noonpost.com/%D8%A7%D9%86%D9%82%D9%84%D8%A7%D8%A8-%D9%85%D8%B5%D8%B1/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AA%D9%8F%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%86%D9%8A%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D9%8A%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%AD%D8%B6%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%86%D8%B8%D9%85%D8%A9%D8%9F.
[86] Hamouda Chekir and Ishac Diwan, “Crony Capitalism in Egypt,” CID Working Paper No. 250, August 2013.
[87] أجري محمود عطية، “صاحب أحدث دراسة عن ’البلطجية‘ بعد ثورة يناير: النظام السابق ألغى قانون البلطجة لحماية أتباعه،” مصرس، 15 سبتمبر، 2011، https://www.masress.com/elakhbar/49831.
[88] محمد محسن، “بلطجية مصر يحتلّون شوارع الإسكندرية بعلم الشرطة،” العربي الجديد، 26 يوليو 2016، https://www.alaraby.co.uk/society/2016/7/25/%D8%A8%D9%84%D8%B7%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D9%8A%D8%AD%D8%AA%D9%84%D9%88%D9%86-%D8%B4%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%83%D9%86%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%B9%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D8%B7%D8%A9.
[89] حسام ربيع، “هل تتحول البلطجة وظيفة رسمية في مصر؟” رصيف22، 31 مايو 2017، https://raseef22.net/article/8351-%D9%87%D9%84-.
[90] Steven Cook, “Deep State Comes to America,” Foreign Policy, February 24 2017, https://foreignpolicy.com/2017/02/24/the-deep-state-comes-to-america/.
[91] سامح المحاريق، “دليل أردوغان في تفكيك الدولة العميقة،” القدس العربي، 6 ديسمبر 2018، https://www.alquds.co.uk/%D8%AF%D9%84%D9%8A%D9%84-.