المحتويات
- مقدمة
- المحور الأول: مدخل مفاهيمي
- المحور الثاني: قوة الفاعلية السياسية وتأثيرها (عهد ما قبل عهد محمد على)
- المحور الثالث: الضعف والإخضاع (عهد محمد علي وخلفائه)
- المحور الرابع: السيطرة والإدماج (عهد النظام العسكري بعد يوليو 1952)
- المحور الخامس: سمات عامة للدور السياسي للطرق الصوفية في مصر
- خاتمة
مقدمة
يعد التصوف من أهم الأفكار وأكثرها تأثيرا في تاريخ الحضارة الإسلامية، منذ نهايات القرن الأول الهجري حتى يومنا هذا. وقد مر التصوف بتطورات كبيرة من الناحية الفكرية بدايةً من الارتباط حول مفاهيم كالزهد والورع والذكر، إلى الأوراد والأضرحة والظاهرة الاحتفالية. ومن الناحية التنظيمية، بداية من مجرد عبادة فردية، ثم شيخ ومريدين، ثم منظمين في طرق صوفية لها عضوية ورتب تحت إدارة شيوخ هذه الطرق.
وقد مرت الفاعلية السياسية للحركة الصوفية في مصر منذ اتخاذها الهيئة الطرقية على عهد الأيوبيين بتحولات عبر المراحل التاريخية وتغير الظروف السياسية، حيث تراوحت بين الإيجابية السياسية، والدور السياسي المستقل والفاعل، وتصدر الحركة الجهادية ضد الغزاة من الصليبين والتتار، وقيادة الثورات ضد الحملة الفرنسية والمطالبة بحقوق مستضعفي الأمة من ولاتها الظالمين من ناحية.
ومن ناحية أخرى تراجع تلك الفاعلية إلى الاستغلال السياسي للطرق الصوفية فقط من أجل استقرار النظم الاستبدادية وتسكين الغضب المجتمعي. ووصل الاستغلال إلى حد السيطرة عليها، واستئناسها، وجعلها جزءا من مؤسسات الدولة، واعتبارها مساحة آمنة للتدين الرسمي، الذي تمثلته الطرق الصوفية في العصور المتأخرة في مصر.
وتكمن أهمية الدراسة في كونها محاولة لفهم الفاعلية السياسية للطرق الصوفية في مصر كمكون اجتماعي وفاعل سياسي أساسي من مكونات المشهد السياسي والاجتماعي المصري، حيث تتبّع بالتحليل تطور الفاعلية السياسية للطرق الصوفية في مصر على مراحلها التاريخية المختلفة وحتى الآن.
المحور الأول: مدخل مفاهيمي
عرفت مصر منذ القرن الأول الهجري بداية ظهور التصوف الفردي كسلوك يعبر عن الزهد والورع، على الرغم من عدم تأثر هذا النوع من التصوف داخل الأطر الفلسفية التي اتخذت شكل الطرق الصوفية.[1] وبحسب الدكتور أبو الوفا التفتازاني، فإن ذا النون المصري، الذي ولد في النصف الأخير من القرن الثاني الهجري، هو أول من غرز بذور التصوف في مصر وأول من تكلم في علوم المقامات والأحوال، حتى قيل إن جل الشيوخ أخذوا عنه أصول التصوف.[2]
- مفهوم الطرق الصوفية
الطريقة في اللغة تطلق على السيرة والمذهب وتعني الشارع أو السبيل بجانبه المادي المحسوس هو الطريق وجانبه غير المادي وهو الهداية، أما الطريقة في اصطلاح المتصوفة فقد تعددت تعريفاتها، ونختار منها ما يتناسب مع نوعية هذه الدراسة وهدفها، وهي الجماعة المنتسبة لقطب من أقطاب الصوفية كالشاذلية والأحمدية والنقشبندية، أو لمَعلم تربوي كالخلوتية نسبة إلى الخلوة”،[3] ولكل طريقة شيخ ومريدين وبيعه وزِي وأوراد وتراتبية تنظيمية تختلف عن الطرق الأخرى.[4]
واختلف الباحثون في تاريخ نشأة الطرق الصوفية في مصر؛ إذ أرخ معظم الباحثون لها منذ العصر الأيوبي حين أقام صلاح الدين لهم أماكن خاصة للعبادة تسمى “خانقاه”، واستحث أقطاب الصوفية إلى القدوم إلى مصر[5].
وجادل غيرهم أن الحركة الصوفية في مصر تمايزت على الهيئة الطرقية خلال العصر العباسي وتميزت سياسيا بمناهضة الولاة العباسيين مما استدعى الاضطهاد العباسي لهم، فتقاربوا مع البيت العلوي المضطهد أيضا من العباسيين. كما جادل غيرهم أن الدولة الفاطمية دعمت هذا النوع من التدين ولم تقاومه وأن بعض الخلفاء الفاطميون أقاموا للمتصوفة مصاطب في قصورهم ونعتوا أنفسهم بالصوفيين،[6] وخروجا من هذا الجدل التاريخي، آثر الباحث أن يبدأ الإطار الزمني لتلك الدراسة من العصر الأيوبي وينتهي بالفترة التي أعقبت الانقلاب العسكري في مصر.
ولقد تطورت الطرق الصوفية في مصر حتى وصلت مع الزمن إلى 77 طريقة مسجلة في المجلس الأعلى للطرق الصوفية، تضم ما يقرب من 6 ملايين، ما بين مريد ومحب. وتتفرع جميع الطرق الصوفية في مصر من أربعة مدارس أو طرق رئيسية: الطريقة الرفاعية التي أسسها الإمام أحمد الرفاعي، والطريقة البدوية نسبة إلى مؤسسها السيد أحمد البدوي في مدينة طنطا، والطريقة الشاذلية التي أقام صرحها أبو الحسن الشاذلي الحسيني بن عبد الله، أما المدرسة الرئيسية الرابعة فهي القنائية التي أنشأها عبد الرحيم القنائي بمحافظة قنا.[7]
كما تطورت الهياكل الإدارية للطرق الصوفية في مصر، وكان على رأسها المجلس الأعلى للطرق الصوفية والذي يضم 16 عضوا، ووفقا لقانون 1976، ويُعين رئيسه بقرار من رئاسة الجمهورية وتنتخب الجمعية العمومية لمشايخ الطرق 10 أعضاء ممثلين لها، ويختار الأزهر مندوبا عنه، وكذلك وزارة الأوقاف ووزارة الثقافة ووزارة الداخلية ووزارة التنمية المحلية.
وتعين المشيخة العامة للطرق الصوفية وكلاء المحافظات والمراكز والأقسام، ويعين شيخ كل طريقة النواب والخلفاء وخلفاء الخلفاء بالمحافظات والمراكز والأقسام.
- مفهوم الفاعلية السياسية
اختار الباحث المفهوم الذي يتناسب وهدف الدراسة وهو أن الفاعلية السياسية “هي القدرة على التأثير أو التغيير في السلوك السياسي أو النظام السياسي في مجتمع معين”. والورقة البحثية ستحاول الاقتراب من تطور الفاعلية السياسية وطبيعة الدور السياسي للطرق الصوفية في مصر مع مرور الزمن ابتداء من عصر الأيوبيين إلى نهاية الفترة التي أعقبت الانقلاب العسكري في مصر.
المحور الثاني: قوة الفاعلية السياسية والتأثير (عهد ما قبل محمد علي)
مثل عهد الأيوبيين نقطة تحول في مسيرة الحركة الصوفية،[8] حيث لعبت دورا مركزيا في الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية كقوة مؤثرة ومنظمة؛ حيث دعم الأيوبيون الطرق الصوفية ماليا من خلال الأوقاف، وعينوا شيوخا من ذوي الخلفيات الفقهية والعقائدية السنية لتولي مناصب قيادية في تلك الخانقاهات[9]، مما أضفى على التصوف طابعا مؤسسيا ورسميا.
فأصبح منصب شيخ الشيوخ الذي أسسه صلاح الدين يمثل المشرف على التصوف السني الشافعي الغزالي وأنشأ له خانقاه سعيد السعداء، والتي كانت مركزا لنشر الصوفية واجتذاب العلماء والدعاة من كافة بقاع العالم الإسلامي.[10] وظل التحالف مستمرا بين السلطة الحاكمة والصوفيين على عهد المماليك ومن بعدهم العثمانيين وإن لم يخل من بعض التوترات، لكن بشكل عام تميز الدور السياسي للطرق في تلك الفترة بوظائف وسمات عامة، نستعرضها فيما يلي:
- المشاركة السياسية الفعالة
بدأت المشاركة ضعيفة وعفوية عن طريق وعظ العلماء السلاطين وكذا عن طريق منصب شيخ الشيوخ والذي كان يعد منصبا رسميا، ثم ما لبثت أن تطورت أواخر عهد المماليك والعهد العثماني وأصبحت أكثر تعقيدا، فأصبح للصوفية حضور في الدواوين الرسمية المختلفة كديوان القاهرة، بل ووصل نفوذ بعض الصوفية إلى زعم البعض أنهم دولة داخل الدولة، فمثل لُقب الشيخ زكريا الأنصاري بـ “صاحب مصر”.[11]
وذكر ابن إياس أن الشيخ أبو السعود الجارحي كان يتصرف في أمور السلطنة بالعزل والتولية والعقاب والثواب. والأهم هو بروز الأزهر كقوة بارزة بعد سيطرة التصوف عليه فأصبحنا نرى الأزهري المتصوف.
كذلك اضطلع الصوفيون بدور الوساطة السياسية والفصل في المنازعات بين المماليك أنفسهم أو بين المماليك والباشا العثماني، فأصبحت دواوين الفصل تعقد حتى في بيوتهم مثلما تعقد في بيوت كبار الأمراء وتفرض شروطها على كافة الأطراف. كما زاد النفوذ الصوفي بشدة أواخر عهد العثمانيين حيث عزلوا خورشيد باشا الوالي العثماني، بل وصل الأمر إلى حصارهم القلعة وضربها بالمدافع لإجباره على الرحيل وتنصيب محمد علي بقيادة نقيب الأشراف عمر مكرم.[12]
- مواجهة النفوذ الشيعي ونشر المذهب السني
لم يمثل سقوط الفاطميين نهاية المذهب الإسماعيلي في مصر لذلك دعم الأيوبيين التصوف السني للحد من النفوذ الشيعي، فأُنشئت المدارس والخانقاهات لنشر المذهب السني ومقاومة دعاة التشيع،[13] فمثلا أُرسل عبد الرحيم القنائي إلى قنا لمقاومة التشيع باسم السنة، حيث اكتسبت الصوفية سريعا تلك القواعد الاجتماعية، وتم إحباط كثير من حركات التمرد مثل حركة كنز الدولة بأسوان 570 هجرية/ 1174 م،[14] وتم استقدام الكثير من رموز الصوفية، ونشأة بعض الطرق الصوفية المستمرة إلى الآن مثل أبو الفتح الواسطي الذي أنشأ الطريقة الرفاعية، وأحمد البدوي الذي تنسب له الطريقة الأحمدية وتلميذه أبو الحسن الشاذلي ومولد إبراهيم الدسوقي، عام 633 هجرية/1235 م، فلم ينته العصر الأيوبي إلا وأصبحت مصر قبلة الصوفية.
- تعزيز شرعية السلطة واستقرار الحكم
مثّل تغلغل الطرق الصوفية داخل كافة شرائح المجتمع وامتلاكهم شبكات اجتماعية هائلة سببا أساسيا لمحاولة السلطة في كافة العصور لنيل رضاها والتحالف معها من أجل الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي، فاستغل الأيوبيون الصوفية لإضفاء الشرعية الدينية ولضمان السيطرة الاجتماعية وتوفير غطاء للقضاء على الاتجاهات المناوئة وكذا المماليك، فكان ينظر المجتمع للحاكم الذي يرعى الطرق الصوفية على أنه عادل وراعي للدين.[15]
أما العثمانيون فكانت الصوفية هي أساس الشرعية الدينية فعندما دخل سليم الأول مصر اهتم بالصوفية، وأغرقهم بالنفقات وجعل منهم أعضاء في ديوان القاهرة، فكان لهم مشاركة في صنع القرار، وتوجه لهم كثير من كبار رجال الدولة بالتقرب والود، مما ساهم في تحول ولاء الصوفية من المماليك نحو العثمانيين.
- المشاركة في الجهاد والمقاومة
استفادت السلطة من تأثير دعاة الصوفية للحشد والتعبئة ضد الغزو الخارجي فها هو صلاح الدين يعتمد على الصوفيين السنة لإلهاب حماس الجنود الذاهبين للحرب ضد الصليبيين. وكذا لما دخل لويس التاسع مصر اتخذ الصوفي الأندلسي أبو الحسن النميري رباطا في دمياط، وقاتل هو ورجاله،[16] ودعا أبو الحسن الشاذلي للنفير بعد أن كف بصره فألهب ذلك حماسة الناس، وتبعه كثير من الأئمة كالعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد وغيرهم.[17]
وحشد العز بن عبد السلام الأموال والجموع للتصدي للتتار مما ساهم في الانتصار في عين جالوت. وكذا قادت الحركة الصوفية المقاومة ضد الحملة الفرنسية 1789، مثل ما حدث في ثورة القاهرة الأولى والثانية التي انطلقت من التكايا والمساجد.[18]
- المنفعة المتبادلة
ظل تحالف الطرق الصوفية والسلطة الحاكمة تحالفا قويا لاحتياج بعضهم إلى بعض حيث مثلت الصوفية غطاء سياسي وشعبي لدعم شرعية السلطة واستقرار الحكم. مقابل الدعم المادي والمعنوي الذي قدمته السلطة من الإنفاق على الخانقاهات والتكايا والبيوتات الصوفية، والاهتمام بالمظاهر والاحتفالات الصوفية كالموالد والمقامات.[19]
- مقاومة المظالم وحماية المجتمع
ظلت الصوفية حائط الصد المجتمعي ضد تغول الحكام وجورهم على الضعفاء فلم تكن سلبية بل كانت في قلب المواجهة وتميزت بما يلى: السلمية و الاعتماد على الحشد المجتمعي وتعبئة العوام فكما ذكر الجبرتي في كتابه عندما نهب أحد سلاطين المماليك شيخ دراويش البيومية، هب الشيخ أحمد الدردير 1201 هجرية/ 1786 م، إلى الجامع الأزهر فأغلقه، وتجمع الكثير من الأهالي ومعهم العوام مما اضطر إبراهيم بيك إلى عقد صلح، وبعث الوزير إلى الشيخ الدردير وأعاد كل ما نُهب،[20] أو عن طريق الاحتجاج الصامت والإضرار كإغلاق الأزهر والحانات كوسيلة للتحذير، أو عن طريق مراسلة السلطان العثماني نفسه، فاستفادت اسطنبول من المتصوفة باعتبارهم أعين على موظفيها في مصر، حيث نقلوا لها بعض من الجور والظلم في معاملة الرعية ولذلك سعى كبار موظفي الدولة لاسترضائهم.[21]
والخلاصة هي تصاعد النفوذ السياسي للصوفية في تلك الفترة باعتبارهم الممثلين عن المجتمع، واحتياج الأمراء لهم لتعزيز شرعيتهم الدينية والسياسة، وبسط السيطرة على المجتمع؛ وبالمقابل استفادت الصوفية من الدعم المادي والمعنوي من الحكام، حيث أصبحوا قوة اقتصادية واجتماعية مؤثرة في شتى ربوع مصر.
المحور الثالث: الضعف والإخضاع (عهد محمد علي وخلفائه)
رغم نجاح الصوفية بقيادة نقيب الأشراف عمر مكرم في عزل خورشيد باشا وتولية محمد علي حاكما على مصر 1805، إلا أن ذلك ساعد في إدراك محمد علي خطورة الدور السياسي للصوفية على بقاء حكمه ومشروعه للسيطرة المركزية على مصر؛ لذلك تميزت تلك المرحلة بسعي الأسرة العلوية لتحجيم الدور السياسي للطرق الصوفية واحتواءها، ونتناول أهم ملامح الدور السياسي للصوفية خلال تلك المرحلة من خلال ثلاثة محاور:
أولا: علاقة الطرق الصوفية بالسلطة الحاكمة
أدرك محمد علي قوة تأثير الصوفية الاجتماعي والسياسي لذلك، مما جعله يسعى إلى السيطرة عليها وتوجيهها لخدمة أهدافه السياسية والاقتصادية. حيث رد الجميل بالتنكيل فقام بنفي عمر مكرم وكبار مشايخ الصوفية ومصادرة أملاكهم، ولم يكتف بذلك، بل اتخذ هو وخلفاؤه خطوات مدروسة ومركزة للسيطرة عليها وإخضاعها، واحتواء تأثيرها السياسي كالتالي:
1. إخضاع الأوقاف الصوفية لسيطرة الدولة: أمم محمد علي الأوقاف، بما في ذلك الأوقاف التابعة للطرق الصوفية. وأُصدرت قوانين لإدارة الأوقاف ووضعها تحت إشراف الدولة، وتحويل معظم أموال الأوقاف إلى خزينة الدولة، مما حد من استقلالية الطرق الصوفية واعتمادها بشكل كبير على الدولة في تمويل أنشطتها.
2. تعيين مشايخ الطرق الصوفية بواسطة الدولة: سعى محمد علي لضمان ولاء القيادة الصوفية له وللدولة. فقد ألغى تقليد تعيين المشايخ من داخل الطرق بناءً على الاعتراف الروحي والأقدمية، وبدأ بتعيين المشايخ بشكل مباشر من قبل السلطات. فأصدر فرمانا عام 1812 يعطي الشيخ البكري سلطة مطلقة على جميع الطرق الصوفية وما يتبعها من زوايا وتكايا. وفي عام 1847، وضع أول اتفاق لتحديد صلاحيات شيخ الأزهر وشيخ مشايخ الطرق الصوفية بمقتضاه انتزعت كل سيطرة الأزهر على الصوفية[22].
3. فرض رقابة صارمة على الأنشطة الدينية والاجتماعية، بما في ذلك الاحتفالات الدينية، والموالد، وحلقات الذكر. كانت هذه الأنشطة تتم تحت إشراف الدولة، وقُيدت حركتها حتى لا تتحول إلى أنشطة سياسية أو تكون بمثابة تجمعات معارضة.
وصدر مرسوم خديوي عام 1859، ألغى بموجبه خضوع خادمي التكايا والزوايا والأضرحة للشيخ البكري. وفي عام 1872 منعت حلقات الذكر في المنازل لتسهيل رقابة البكري علي جميع الأنشطة، بل صدر مرسوم 1881 بأحقية تدخل البكري في شؤون الطرق الداخلية وحُصر العمل الصوفي في الطرق الرسمية فقط.
4. إنشاء المجلس الأعلى للطرق الصوفية: أُنشئ هذا المجلس بقرار من الخديوي عباس حلمي الثاني عام 1895، بهدف تنظيم الأنشطة الصوفية في مصر وضمان ولاء الطرق الصوفية للدولة.
كان تشكيل المجلس في هذه المرحلة يتكون من مجموعة من المشايخ البارزين للطرق الصوفية في مصر وبعض موظفي الدولة، وكان يتم تعيينهم من قبل الدولة. وتركزت صلاحيات المجلس في مراقبة الأنشطة الصوفية، وتعيين المشايخ، وتسجيل الطرق، وتنظيم الموالد والاحتفالات الدينية.
وفي أبريل/نيسان 1905، أصدر المجلس لائحة داخلية بإيعاز من الخديوي أكدت رقابة الخديوي على الطرق الصوفية، ووجد المشايخ أنفسهم مجبرين على الخضوع للدولة حيث عوملت حلقات الذكر التي يقودها خلفاء لا يحملون إجازة رسمية معاملة التجمعات غير المشروعة.[23]
5. حشد الطرق الصوفية لتحقيق الأهداف السياسية للدولة: حاول محمد علي وخلفاؤه توظيف الطرق الصوفية لخدمة الأجندة السياسية والاقتصادية والحصول على الشرعية الدينية، مثل حملات محمد على العسكرية للتوسع في السودان والشام، استخدم الخديوي إسماعيل الصوفية لدعم مشاريعه الإصلاحية في مجالات التعليم والصحة والتنمية الاجتماعية.
كذلك كان يشجع الطرق الصوفية على المشاركة في تلك المشاريع، مما أعطاها دورا سياسيا واجتماعيا موجها نحو الإصلاح والتحديث. وبذلك، تمكنت الأسرة العلوية من السيطرة على الطرق الصوفية وتحجيم نفوذها السياسي والاقتصادي واحتوائها لتحقيق أهدافها ومصالحها.
ثانيا: موقف الصوفية مع الاحتلال الإنجليزي
لقد انقسم موقف الصوفية من الاحتلال البريطاني لمصر فهناك طرق مثل الإدريسية الأحمدية كانت تحصل على مساعدات بريطانية كبيرة. وكان شيخها يمد الانجليز بالمعلومات، وكذلك الطريقة الميرغنية الختمية والطريقة الغنيمية والدمرداشية، التي ارتبط شيخها مصطفى الدمرداش باشا بعلاقات خاصة مع جورج لويد المندوب السامي البريطاني في مصر 1925 – 1929.
وعلى الجانب الآخر عارض الشيخ محمد ماضي أبو العزايم، شيخ الطريقة العزمية الاحتلال، وسمح لجمعية اليد السوداء المناهضة للإنجليز باستخدام مطبعته، وقد اعتقل أكثر من مرة. وكذلك الشيخ محمود أبو الفيض المنوفي، الذي تولى رئاسة جمعية الفدائيين، التي أصدرت مجلة لواء الإسلام فضلا عن الحشد إلى ثورة 1919. وبالمقابل، نجد الشيخ الجمل شيخ الطريقة السمانية يجمع توقيعات ضد ثورة 1919 ويدعم بقاء الإنجليز، كما كانت هناك مشاركة لبعض منتسبي الطريقة العزمية في حرب فلسطين 1948.[24]
ثالثا: موقف الصوفية بالأحزاب والحركات الأخرى
أدركت الأحزاب أهمية القاعدة الشعبية الواسعة للطرق الصوفية، وحاولوا حشدها لصالحهم، بل والتدخل لوضع موالين لها في المناصب القيادية، فمثلا أيد حزب الوفد ترشيح الشيخ أحمد الصاوي ليكون شيخا للطرق الصوفية، وكذا حزب السعديين الذي رشح الشيخ محمد علوان لمقعده في البرلمان، كان مقربا من المشير عامر وعينه شيخا للطرق الصوفية 1957 وانضم الشيخ محمد الحبيبي شيخ الطريقة الحبيبية الى حزب الاتحاد[25]. لكنها لم تتماهي مع الأحزاب السياسية، بل حافظت على وجود مساحة لحفظ تحالفها مع الملك.
أما بالنسبة للجماعات الإسلامية الأخرى فقد اتخذت موقفا عدائيا مع التيارات ذات المرجعية السلفية، مثل جماعة “أنصار السنة المحمدية” و”الجمعية الشرعية”؛ نظرا لأن الأخيرة رأت في الطرق الصوفية أنها “بدعة وضلالة وخطر على السنة ويجب التحذير منها”، ولا تخفى الخصومة التاريخية بين الصوفية والسلفية.
أما موقفها من الإخوان المسلمين، ففي البداية كان موقفا حذرا مترقبا، فمن ناحية استحوذ الإخوان على قطاع كبير من القاعدة الشعبية للطرق الصوفية مما هدد نفوذها، ولكن من جهة أخرى لم تهاجم الاخوان صراحة الطرق الصوفية وإن انتقدت بعض “الممارسات البدعية” بشكل عام. ولا يخفى تأثر الإخوان بالفكرة الصوفية في مناهجها وهيكلها، فقد نشأ البنا في ظل “الطريقة الحصافية”، وأعلن البنا أن دعوته “حقيقة صوفية”،[26] لكن سرعان ما انقلب الموقف إلى عداء وخصومه من الصوفيين؛ محاباةً للدولة في عهد عبد الناصر.[27]
المحور الرابع: السيطرة والإدماج (عهد النظام العسكري بعد يوليو 1952)
رغم ارتباط كثير من البيوت الصوفية الكبرى بالقصر الملكي، إلا أن الضباط الأحرار سرعان ما فتحوا الباب لاحتواء تلك البيوتات الصوفية الكبرى، فقد كان المشير عبد الحكيم عامر وكذلك عبد الناصر يتردد بكثرة على حلقات الذكر وتجمعات الصوفية وذلك لعدة أسباب أهمها:
- استغلال الطرق الصوفية لملء الفراغ الديني الذي خلفه تغييب الإخوان، واحتواء مشاعر الغضب.
- إضفاء طابع من الشرعية الدينية على حكمهم رغم النزعة العلمانية للنظام.
- استغلال تشعب العلاقات الاجتماعية للطرق الصوفية وحشدها الشعبي في دعم سياسات الدولة وقمع المعارضين وتأمين الاستقرار، والوصول إلى الشرائح الدنيا والريف الذي لا تصل إليه وسائل الإعلام.
- رأى عبد الناصر في الصوفية تيارا عابرا للقوميات، ووسيلة دعائية لمشروعه “العروبي التحرري”.
لكن كانت هناك استثناءات قليلة، حيث قضى عبد الناصر على الطريقة الحصافية لاشتباهه في دعمها للإخوان، وصادر أملاك الطريقة البكتاشية 1957، وكذا الطريقة الدمرداشية لاشتباهه في دعمها لنظام ما قبل الثورة.
وفي عهد السادات استغل الصوفية لإعطائه شرعية دينية حتى أنه وصف نفسه بـ”الرئيس المؤمن”، وحرص كثير من القادة والمسؤولين على حضور الاحتفالات والموالد والمناسبات الصوفية، ووضع القانون الجديد للمجلس الأعلى للطرق الصوفية 1976 وإطلاق مجلة التصوف الإسلامي، مما انعكس على تأييد الطرق الصوفية لجميع سياسات السادات مثل اتفاقية كامب ديفيد، حيث استقبل رؤساء الطرق الصوفية السادات بحفاوة بالغة في مطار القاهرة بعد توقيعه الاتفاقية في عام 1979،[28] هذا فضلا عن العداء مع الثورة الخمينية في إيران، وكذلك دعم سياسات الانفتاح الاقتصادي وقرارات سبتمبر 1981.[29]
وبدأ عهد جديد نحو إدماج هذه الطرق في دولاب الدولة العميقة، واستمر ذلك الوضع في عهدي مبارك والسيسي من دمج واستغلال الطرق في الدولة وتحقيق أهدافها، وكذلك استمرت الخصومة بين الطرق الصوفية والحركات الإسلامية، خاصة بعد وصول الإخوان للحكم، وزاد الدعم الإماراتي والغربي لهذا النوع من التدين، ويمكن الإشارة لذلك من خلال النقاط التالية:
- التماهي بين الطرق الصوفية والدولة المصرية
تحمل السلطة في مصر قناعة أكيدة بأن أئمة حركات التصوف ليست لديها مطامع نحو تولي زمام الحكم، كما أنها تستفيد من خصومة الحركات الصوفية مع بعض الحركات الإسلامية التي تجمعها خصومة شبه مستمرة مع الأنظمة العسكرية في مصر.[30] هذا الوضع دفع الدولة ليس فقط إلى استغلال الطرق الصوفية، ولكن إلى دمجها في المؤسسات المكونة للدولة العميقة في مصر مثل الجيش والمخابرات والقضاء،[31] وذلك حرصا على منع انتشار أي أفكار إسلامية أخرى داخل تلك المؤسسات.
ولذا، في تلك الفترة سنرى تماهيا شبه مطلقا بين الدولة والنظام العسكري الحاكم فيها وبين الطرق الصوفية في مصر، وصل ليس إلى الحد الذي يمكن أن نقول فيه إن الدولة “أممت الطرق الصوفية”، لتصبح الصوفية مؤسسة من المؤسسات الدينية في الدولة المصرية، كما أشركت الدولة رموز الطرق الصوفية في مؤسساتها المختلفة. ويمكن ملاحظة هذا التماهي بين الأنظمة المصرية والطرق الصوفية من خلال النقاط التالية:
أولا: خلال عهد مبارك
– استمال نظام مبارك بشكل كبير الطرق الصوفية، وشاركهم احتفالاتهم، ومنحهم حريات واسعة لإحياء موالدهم ومجالس ذكرهم. وجاء التعيين المباشر من قِبله للشيخ عبد الهادي القصبي -في نهايات سنوات حكمه- شيخا للمشايخ، لتصل الصوفية لأوج تبعيتها للسلطة آنذاك.
كانت أشد تجلياته الدعم الذي لاقاه الحزب الوطني من الصوفية من ترشح عدد كبير من أبناء الطرق ومشايخهم في الانتخابات البرلمانية عام 2010 على قوائمه، كان أبرزهم القصبي وأبو العزائم وعصام زكى إبراهيم شيخ العشيرة المحمدية و”الطريقة الشبراوية” ممثلا في “اللواء مشهور الطحاوي” وغيرهم كثير.[32]
– وفي خضم سعي الحزب الوطني لاحتواء الصوفية بشكل كامل، عمد أحمد عز، أمين التنظيم السابق بالحزب الوطني لمصاهرة الشيخ أحمد كامل ياسين، شيخ الرفاعية والرئيس الأسبق لنقابة الأشراف، لضمان أصواتهم في الاستحقاقات الانتخابية وإضفاء مسحة من التدين التقليدي على الحزب.[33]
– ولكن قبيل انطلاق ثورة يناير بأشهر، حدث صدام بين نظام مبارك والصوفيين جراء تعيين “مبارك” لـ الشيخ “عبد الهادي القصبي” رئيسا للمجلس الأعلى للطرق الصوفية؛ نظرا لكونه أحد أعضاء الحزب الوطني، الأمر الذي أغضب مشايخ الطرق الصوفية واعتبروه تدخلا وانتهاكا للأعراف والتقاليد الصوفية. وعبروا عن هذا بتهديد الشيخ “أبو العزايم” بالترشح ضد أحمد فتحي سرور، رئيس مجلس الشعب في انتخابات 2010 عن دائرة السيدة زينب.[34]
– وخلال ثورة 25 يناير 2011، وقف الصوفية إلى جانب السلطة باعتبارهم أداة من أدواتها، وبرر “محمد الشهاوي” شيخ الطريقة الشهاوية هذا الموقف بمبدأ: “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”.
ثانيا: ما بعد انقلاب يوليو 2013
– لم تخالف طرق الصوفية ذات المسار بعد سقوط حسني مبارك، إذ انحازت إلى الفريق أحمد شفيق الانتخابات الرئاسية 2012، بصفته مرشح المؤسسة العسكرية.[35] ودعمت الانقلاب العسكري في مصر، وبعدها كانت الطرق قوة رئيسية داعمة لعبد الفتاح السيسي في جولات الانتخابات الرئاسية المختلفة.[36]
فمع اقتراب الانتخابات الرئاسية الثانية 2014، وإعلان السيسي ترشحه، تسابقت الطرق الصوفية بالإجماع لدعمه، وبادر السيسي إلى لقائهم قبل أن يجتمع بأي فصيل سياسي من شركاء خارطة الطريق، سواء الكنيسة أو حزب النور السلفي، وهو ما يعكس طبيعة التواجد الصوفي التي ستتشكل في المرحلة القادمة.[37]
– مع الدعم شبه المطلق من نظام السيسي للطرق الصوفية بدأت هي، في المقابل، بإعطائه شرعية دينية صوفية، فتحدثت تقارير صحفية إثر الانقلاب العسكري منتصف 2013، عن أن السيسي له جذور صوفية، وكان والده شيخا لطريقة “المرازقة الأحمدية” عن منطقة “الجمالية” بالقاهرة، فيما قال نائب نقيب قبيلة “الجعافرة”، بقنا رضا فتحي، إن السيسي ينتمي للقبيلة “الصوفية”، التي ينتهي نسبها للإمام جعفر الصادق وقبيلة “الأشراف”.[38]
والجدير بالذكر أن التواصل بين الطرق الصوفية والسيسي لم يبدأ مع سيطرته على السلطة عبر الانقلاب، وإنما بدأ حين كان رئيسا للمخابرات العسكرية، وأعلن ذلك بوضوح عبد الهادي القصبي في حواره مع برنامج “الحدث المصري” على فضائية “العربية الحدث”.[39]
– ولم يثن الهجوم على مسجد الروضة في شمال سيناء، والذي كان يستهدف أحد رؤوس الطرق الصوفية في المحافظة، من تنظيم فعاليات داعمة للنظام المصري في حربه ضد ما يصفه بـ “الإرهاب”، وأعلن “القصبي” ذلك بوضوح في تصريحات له عقب الحادث.[40]
– فتح النظام المجال العام للطرق الصوفية ورموزها على مصراعيه؛ إذ تُخصص برامج معينة للدعاية للطرق الصوفية وتفسيراتها حول الإسلام باعتباره الإسلام المعتمد من الدولة ويلقى ترحيبا بين أجهزتها، كما فعل أسامة الأزهري، وزير أوقاف النظام المصري بفضائية “dmc”، المملوكة لجهاز المخابرات يوم 10 يونيو/حزيران 2021، حيث أثار الجدل بحديثه عن الفكر الصوفي، محاولا جذب المصريين له بطرح فكرة الحسابات والأرقام في الذكر وارتباطها بأسماء الله الحسنى والقرآن الكريم، والحديث عن الإذن بالذكر كعادة ما يحدث من أقطاب الصوفية لأتباعهم.
كما امتد الترويج إلى إنتاج أعمال سينمائية تمجد في الصوفية وأصحاب المقامات والأضرحة، حيث طُرح فيلم “صاحب المقام” لإبراهيم عيسى في أغسطس/آب 2020م، والذي قام ببطولته آسر ياسين ويسرا وغيرهم. وأثار الفيلم الجدل بسبب دعايته الفجة للصوفية باعتبارها الإسلام الصحيح الذي يجب اتباعه.
ودعت قصة الفيلم الجميع لأن يكونوا من مرتادي الأضرحة، الماسحين على “شبابيك” الأولياء والإيمان بكراماتهم وقدراتهم الخفية، والزعم بأنهم الوسطاء الشافعون عند الخالق، ومن يؤمن بغير ذلك يتعرض لغضبهم[41].
– وفوق كل هذا، مكن النظام رموز الطرق الصوفية من جل المناصب في المؤسسات الدينية في الدولة،[42] وهي: الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء والطرق الصوفية ونقابة الأشراف[43]، فالشيخ أحمد الطيب منتسب للطريقة الخلوتية، والمفتي السابق علي جمعة شاذلي ومؤسس الطريقة الصديقية العلية، كما أن وزراء الأوقاف ومفتي الجمهورية كانوا كذلك صوفيين.
– على الرغم من هدم نظام السيسي لمئات المساجد في حملات متتالية في 2014، إلا أنه في المقابل لعب في الآونة الأخيرة على تطوير تلك الأماكن والأضرحة والمساجد الصوفية لحسابات سياسية، تتجاوز الطبيعة الدينية والاجتماعية لهذه المنابر.
واتفق السيسي مع طائفة البهرة على ترميم المساجد والأضرحة الخاصة بالجماعات الصوفية في مصر، تحت بند “خطة جذب السياحة الدينية”. وتضمن الترميم مساجد وأضرحة الحسين، والسيدة فاطمة، والسيدة رقية، والسيدة سكينة، والسيدة حورية، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، والسيد أحمد البدوي بطنطا. فيما افتتح السيسي، في 18 أغسطس/آب 2023 مسجد وضريح السيدة نفيسة بعد أعمال تجديد وترميم، كلفت نحو 50 مليون جنيها (1.6 مليون دولار).[44]
- انحياز علماني وعداوة للحركات الإسلامية
كانت خصومة الطرق الصوفية تجاه الحركات الإسلامية العاملة في المجال الاجتماعي والسياسي المصري مدفوعة بمجموعة من العوامل، على رأسها التحيز شبه الدائم لسياسة الدولة ضد تلك الحركات. ويمكن تتبع ملامح الموقف الصوفي من الحركات الإسلامية في تلك الفترة من خلال النقاط التالية:
أولا: في الفترة بين ثورة يناير وانقلاب يوليو 2013
– تعاونت الكيانات الصوفية مع القوى العلمانية، حيث وجدت فيها بديلا عن نظام مبارك في خصومته مع غرمائهم التقليديين من الإسلاميين.[45]
ففي استحقاق الاستفتاء الدستوري، مارس/آذار 2011، تبنت القوى الصوفية التصويت بـ “لا”، وفي الانتخابات البرلمانية لمجلسَيْ الشعب والشورى انحاز الصوفيون إلى تحالف “الكتلة المصرية”، بل إن شيخ الطريقة الرفاعية، طارق الرفاعي، ترشح لخوض انتخابات مجلس الشعب بالجيزة على قائمة حزب “المصريين الأحرار”.
ليس هذا فحسب، ولكنه انسحب من السباق الانتخابي لصالح “عمرو الشوبكي “أحد الرموز الليبرالية المعروفة، وقد أعلن أنه انسحب لصالح الشوبكي، لأن “المرحلة المقبلة تحتاج إلى توحيد جهود جميع الأحزاب المدنية ضد القوى الإسلامية التي تريد استغلال الدين”، وفق وصفه.[46]
كما جاء على لسان “إسماعيل توفيق” أحد مشايخ الطرق الصوفية بأن “أصوات المتصوفة في الانتخابات البرلمانية (2011/2012) لن تذهب لأي مرشح ينتمي للتيار السلفي أو الإخواني أو الجماعة الإسلامية”.[47]
– كما أن هناك عدة أحزاب صوفية ظهرت بعد ثورة يناير بدافع مواجهة تصاعد الدور السياسي للإخوان والسلفيين،[48] وكان من أبرزها “حزب التحرير” الصوفي التابع للطريقة العزمية الصوفية،[49] و”حزب النصر” الصوفي التابع للطريقة الجعفرية، و”حزب نهضة مصر” الذي ضم أعضاء من عدة طرق صوفية مثل الطريقة الشبراوية والطريقة الرفاعية والتيجانية.[50]
وصرح “علاء أبو العزايم” شيخ الطريقة العزمية الصوفية بأن الهدف الذي جعل الصوفيين يدخلون إلى الحياة السياسية المصرية بعد ثورة يناير هو مساعي جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية للانخراط في العمل السياسي الرسمي، الذي يهدد التسامح الديني، بحسب زعمه. حيث رأى أن هذا الأمر يلزم الصوفيين بأن ينحوا المنحى نفسه وخاصة مع “التطرف والتشدد” الذي يعتنقه السلفيون،[51] كما أنه كان هناك تخوف عند الصوفيين من إلغاء مشيخة الطرق الصوفية في حال تقلد السلفيون أو الإخوان زمام الحكم.
ثانيا: الفترة ما بعد انقلاب يوليو 2013
– كانت الحركات الصوفية جزءا أساسيا من تظاهرات 30 يونيو 2013 لإسقاط الرئيس المنتخب، محمد مرسي. ومما شجع تأييد الصوفيين للانقلاب العسكري هو شرعنة المؤسسة الدينية ممثلة في شيخ الأزهر أحمد الطيب، والمفتي الأسبق علي جمعة (الصوفيين) للإطاحة بالرئيس المنتخب، محمد مرسي.
وحينها انضم محمد مهنا الأمين العام للعشيرة المحمدية الشاذلية، وعليه فتحت شاشات الفضائيات لأئمة التصوف في مصر خلال مشهد فض اعتصامات أنصار الرئيس مرسي في ميداني رابعة العدوية والنهضة، في مشهد يوحي بمباركة قتل من قُتل خلال فض الاعتصامات.
وبدا ذلك على لسان على جمعة في تحريضه لضباط الجيش والشرطة “طوبى لمن قتلهم وقتلوه، من قتلهم دخل الجنة”، وتصريحه الآخر “دي ناس نتنة لا يستحقون مصريتنا”. وطالب محمد صلاح زايد رئيس حزب “النصر الصوفي” بطرد الإخوان على شاكلة طرد الإنجليز عن مصر، بالتوازي مع تصريحات أبو العزائم بأن الإخوان المسلمين جماعة بلا وطن أو دين.
وأفتى شيخ الطريقة العزمية محمد أبو العزايم، شخ الطرق الصوفية، بتكفير الملايين من المصريين المشاركين في مظاهرات رفض الانقلاب العسكري في مداخلة على قناة “التحرير” في يناير/كانون الثاني 2014، مدعيا أنهم “ليسوا مصريين وليسوا مسلمين”.[52]
– لم تُجد محاولات التقارب في تغيير هذا الموقف؛ إذ حاول طارق الرفاعي التقدم خطوة نحو الإخوان، من خلال الزيارة الأولى من نوعها لمكتب الإرشاد. وكان “الرفاعي” يطمح لأن يصلي المرشح الرئاسي في مسجده بالقلعة، إلا أن الجماعة لم تتجاوب مع مساعيه.
– وفي خطوة لاحقة، عين الرئيس مرسي شيخ المشايخ عبد الهادي القصبي عضوا في مجلس الشورى، إلا أنها كانت خطوة متعارف عليها، وباتت طبيعية في سياق تعيينات مجلس الشورى.
ويجدر بالذكر أن موازين التحالفات في ذلك الوقت أسهمت في ابتعاد الصوفيين عن جماعة الإخوان والرئيس مرسي. فإلى جانب الأسباب التي أشرنا إليها سابقا، والتي شكّلت موقف الصوفيين من الإخوان، جاء تحالف الجماعة مع السلفيين بعد ثورة يناير كدافع إضافي للحركات الصوفية للانضمام إلى صفوف المعارضة.
- الاهتمام الخارجي بالصوفيين
يحظى الصوفيون باهتمام من الدول الغربية والخليجية،[53] وفي تفسير هذا الاهتمام الغربي بالصوفية يقول المؤرخ والباحث، دانيال بايبس، مؤسس ومدير منتدى الشرق الأوسط، “الغرب يسعى إلى مصالحة التصوف الإسلامي ودعمه؛ لكي يستطيع ملء الساحة الدينية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصاؤه نهائيا عن قضايا السياسة والاقتصاد”.
كما يعتبر الباحث شادي حامد أن “الحكومات الغربية تميل إلى إضفاء طابع غريب على الصوفيين ورفعهم إلى مرتبة المسلمين الأفضل والأكثر سلمية”. لكنه يشير إلى أن “النظر إلى مجموعة من المسلمين باعتبارها مجموعة أفضل يعني النظر إلى المسلمين الآخرين باعتبارهم مشاكل تحتاج إلى حل”.[54]
– وبحسب تقرير “مؤسسة راند” الأمريكية الصادر عام 2007 بعنوان “بناء شبكات مسلمة معتدلة”، فقد سعت دوائر سياسية غربية لفتح قنوات التواصل مع جماعات المتصوفة في مصر والعالم العربي، وفي العام التالي 2008 وجهت الدعوة للشيخ علاء ماضي أبو العزائم لحضور مؤتمر عن التصوف في ولاية كاليفورنيا الأمريكية، وقال أبو العزائم إن مشاركته في المؤتمر تسهم في إعطاء صورة صحيحة عن الإسلام والعالم العربي للأمريكيين، مرحبا بإمكانية لقاء مسئولين أمريكيين على هامش المؤتمر باعتبارها “فرصة لتصحيح الفكر الأمريكي تجاه الإسلام والمسلمين”.
وتعول الدوائر الاستشراقية الغربية على أن منظومة القيم الأخلاقية والثقافية الصوفية لا تتعارض مع مفاهيم الديمقراطية الغربية، ما يعزز فرصها في صناعة نموذج إسلام حداثي يستوعب قيم العلمانية الغربية.
– ونشرت مجلة “U.S. News & World Report” الأمريكية، في طبعتها الالكترونية الصادرة في 25 أبريل/نيسان 2005، تقريرا بعنوان “عقول وقلوب ودولارات”، جاء في أحد فقراته: “يعتقد الاستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية بأفرعها العالمية قد تكون واحدا من أفضل الأسلحة، ولذا فإنهم يدفعون علنا باتجاه تعزيز العلاقات مع الحركة الصوفية، ومن بين البنود المقترحة استخدام المعونة الأمريكية لترميم المزارات الصوفية في الخارج والحفاظ على مخطوطاتها الكلاسيكية التي تعود للقرون الوسطى وترجمتها ودفع الحكومات لتشجيع نهضة صوفية بلادها”.
وكذلك ترميم الأضرحة الصوفية بواسطة “صندوق السفراء الأمريكيين”: ففي بيان صحفي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية، في 8 يونيو/حزيران 2009، جاء فيه أن: “صندوق السفراء الأمريكيين” لصيانة الثقافة سيقدم منحا لمشاريع مهمة هذه السنة لترميم عدد من المعالم التاريخية والثقافية، بينها مساجد قديمة وأضرحة ومقامات لشخصيات من الفترة الصوفية المبكرة.[55]
وفي هذا الإطار يمكن استعراض نموذج للدبلوماسية الأمريكية في تنفيذ برنامجها الميداني للتقارب مع صوفية مصر، وذكر النماذج الموجزة التالية حول التقارب الصوفي الأمريكي:
– لقاء السفير الأمريكي بمصر (فرنسيس ريتشارد دوني) الشيخ حسن الشناوي، شيخ مشايخ الطرق الصوفية.
– زيارة السفير الأمريكي الطريقة الجازولية ومشاركته أبناء الطريقة وهم ينشدون المدائح النبوية والأناشيد الدينية.[56]
– زيارة السفير الأمريكي لمولد “السيد البدوي” بمدينة طنطا للعام الثالث على التوالي، ولقاؤه مشايخ الطرق الصوفية.[57]
– زيارة جواند كاردنو القنصل الأمريكي في الإسكندرية ضريح الشيخ مرسي أبي العباس.[58]
– اختيار المجلس الأعلى للطرق الصوفية، في مايو/أيار عام 2009، وفدا صوفيا من 15 شيخا من الطرق الصوفية للمشاركة في مؤتمر “رجل السلام العالمي” بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو مؤتمر يعقد بهدف توضيح الصورة السمحة للإسلام.[59]
– قيام 16 شيخا من شيوخ الطرق الصوفية، على رأسهم الشيخ علاء أبو العزايم (شيخ الطريقة العزمية)؛ بعقد اجتماع مع سكرتير السفارة الأمريكية ممثلا للإدارة الأمريكية في مقر الطريقة العزمية بمنطقة “السيدة زينب”، بحضور ممثل لجهاز مباحث أمن الدولة.[60] وخلص اللقاء إلى أن تستضيف الإدارة الأمريكية مشايخ الصوفية على نفقتها الخاصة لتنظيم عديد من الفعاليات والأنشطة، والقيام بزيارات إلى الولايات المتحدة لنشر الصوفية بين المسلمين الأمريكيين.
– ومن جهة ربط التصوف المصري بالتصوف العالمي، أُسس فرع للمجلس الصوفي العالمي المسجل في بريطانيا، ليكون أول منظمة مصرية عالمية تحت اسم “المجلس الصوفي العالمي” لنشر الفكر الصوفي، وهو برئاسة شيخ الطريقة الشهاوية البرهامية (محمد الشهاوي)[61] وقد أُنشئ هذا المجلس الصوفي بدعم من الحكومة البريطانية وحزب العمال في مواجهة المجلس الإسلامي البريطاني.
– حاليا تعمل الإمارات نشر التصوف في العالمين العربي والإسلامي باعتباره التأويل المعتمد من النظم والحكومات والمقبول من الغرب والأمريكان، في مقابل الحركات الإسلامية التي تنظر إلى الإسلام نظرة شمول باعتباره دينا ودولة ودعوة وجهاد. فأنشأت الإمارات في 2014 مجلسا تحت اسم “مجلس حكماء المسلمين” للوقوف في وجه “اتحاد علماء المسلمين” الذي تعاديه الإمارات.
ومن اللافت في “مجلس الحكماء” أن أغلبية أعضائه هم من المحسوبين على “الصوفية”، في محاولة إلى الدفع بالحركات الصوفية إلى واجهة العمل الإسلامي في المنطقة، وهو ما رأى فيه مراقبون سعيا إماراتيا لإبراز هذه الحركات وتقديمها كنموذج “معتدل” للإسلام، وذلك لأنها تتميز عن غيرها من الحركات الإسلامية بالابتعاد عن السياسية، والدوران في فلك الحكام والأنظمة.[62]
المحور الخامس: سمات عامة للدور السياسي للطرق الصوفية في مصر
لا يمكن إنكار أهمية التأثير السياسي للطرق الصوفية في مصر فهي قوة من الصعب تجاهلها، ورقم له حضور في معادلة الحكم بغض النظر عمن يحكم، وذلك ظل ثابتا رغم تبدل العصور وتغير الحكام. وفيما يلي نستخلص سمات عامة ميزت الفاعلية السياسية للطرق الصوفية بشكل عام وإن كانت لا تخلو من استثناءات قليلة.
- تحالفها المستمر والثابت مع النظام الحاكم
لا يخفى أن نشأة الطرق الصوفية الحديثة في مصر كانت على أيدي الدولة الأيوبية وبتشجيع ودعم منها وظل هذا التحالف مستمرا وثابتا عبر الأزمان وكان قائما على المنفعة المتبادلة فنظرا لوجود شبكة علاقات اجتماعية واسعة للطرق الصوفية أعطاها نفوذا اجتماعيا واقتصاديا واسعا استغلته الدولة في حشد التأييد الشعبي لسياساتها والمساعدة في استقرار حكمها، وكذلك للحصول على نوع من الشرعية الدينية، وتوفير مساحة من التدين الآمن المَرضي عنه من قبل الأنظمة، وكذلك مواجهة حركات التمرد والمعارضة.
أما الصوفية فاستفادت من ذلك التحالف في الحصول على دعم كبير للإنفاق على البيوتات الصوفية والزوايا والتكايا، وكذلك الرعاية الرسمية للاحتفالات والموالد حيث تعد الآن جزءا من المؤسسة الدينية الرسمية وذلك حمى نفوذها الديني والاجتماعي والاقتصادي.
- غياب مشروع سياسي للوصول للسلطة
تتسم الطرق الصوفية بضعف شديد في التنظير السياسي، مما سلبها القدرة على بلورة مشروع سياسي ينظم تحركاتها وتطلعاتها.[63] لذلك كان الدور السياسي قائما وفقط على الرؤية الشخصية لشيخ الطريقة فهو الذي يتخذ القرارات السياسية بناء على انطباعاته وآرائه ومهاراته وليس بناءً على أيديولوجية واضحة.
وحيث إن شيخ الطريقة في نظر مريديه له هيبه وسمات غير عادية وتأييد من الله، فلا توجد مساحة معتبرة لنقاش القرارات السياسية، وبالتالي اتبعت كل طريقة توجه شيخها، الأمر الذي أحدث اختلافا كثيرا في المواقف السياسية بين الصوفية أنفسهم،[64] وظهر هذا الخلاف في محطات عديدة، منها تأييد بعض الطرق الصوفية لبعض المماليك أو حتى انقسامها ضد الاحتلال الانجليزي، وثورة 1919، وكذلك تعدد انتماءاتهم الحزبية بعد ثورة 25 يناير.
- التحول من القوة والممانعة إلى الإخضاع والاستئناس
كانت الصوفية قبل محمد علي فاعلا رئيسيا ومؤثرا في الحياة السياسية المصرية، بل وصل نفوذها الى التصرف أحيانا في أمور البلاد وإمضاء قرارات العزل والتولية، فهم الذين ولوا محمد علي حكم مصر، وكذلك تولت قيادة المقاومة ضد الاحتلال الخارجية، كالتصدي للحملات الصليبية والحملات الفرنسية، وظلت دائما المدافع الأكبر ضد مظالم وجور الحكام على الشعب المصري ولذلك رأى محمد علي خطورتها على حكمه، فبدأ سلسلة من الإجراءات للسيطرة عليها واخضاعها وسار عليها الحكام حتى الآن وهي كالتالي:
- تأميم الأوقاف لصالح الدولة.
- إنشاء المجلس الأعلى للطرق الصوفية للرقابة على أنشطتها.
- تعيين المشايخ من قبل الدولة.
- إدماج البيوتات الصوفية الكبرى داخل دولاب الدولة العميقة.
- الرقابة على أنشطتها وجعلها جزءا من المؤسسة الدينية الرسمية، كالأزهر والأوقاف ودار الإفتاء ونقابة الأشراف.
- مواجهة الحركات والجماعات الإسلامية غير الصوفية
ترى الصوفية في الجماعات الإسلامية الأخرى مصدر تهديد، وخاصة الجماعات ذات المرجعية السلفية كأنصار السنة المحمدية ومشايخ السلفية وتنظيمات الجهاد، وبدرجة أقل الإخوان المسلمين؛ وذلك لعدة أسباب منها: خطاب هذه الجماعات المهاجم والمنتقد للصوفية باعتبارها بدعة وضلالة وخطر على السنة، وأيضا خوف الصوفية من تآكل حاضنتها الشعبية لصالح هذه الجماعات فكلاهما يستهدف الشريحة المتدينة.
لذا رأت الأنظمة الحاكمة في الطرق الصوفية بديلا معتدلا لهذه الجماعات. ودعت كثير من مراكز الفكر الأمريكية والأوروبية لبناء إسلام معتدل الذي تمثله الصوفية كبديل آمن ومرضي عنه لـ”الإسلام الراديكالي” الذي تمثله الجماعات الإسلامية، وفق زعمهم.
- وجود ظلال سياسية للقيم التي تحملها الصوفية
رغم قيام الفكر الصوفي على قيم مثل المعرفة اللدنية والزهد والمحبة والولاية، إلا أن هذه القيم تحمل آثارا سلبية على الفاعلية السياسية، مثل الانسحاب من الواقع والهروب منه تحت دعوى الزهد أو الخضوع للاستبداد، فالمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل.
والقيم السلبية تغلب في الممارسة على الإيجابية، لتجعل من الخضوع للحكام والانسحاب من ساحة المواجهة الحقيقية وقت الحسم هو السمة الواضحة للصوفيين. ويستثنى من ذلك ومضات متفرقة وفردية لمقاومة سلطة غاشمة أو مواجهة الاحتلال، فمثلا حارب الصوفيون مع المماليك ضد العثمانيين، لكن مع غلبة العثمانيين تبدل ولائهم سريعا لهم. فلا نجد أي حركة تمرد لإعادة المماليك، وأيضا تخاذلهم عن نصرة نقيبهم السيد عمر مكرم، والتخلي عن الملك فاروق لصالح الضباط الأحرار، والتخلي عن مبارك لصالح المجلس العسكري، فولاؤهم يكون -على الأرجح- لمن غلب.[65]
- ترهل الأداء السياسي وضعفه الشديد
في الفترات التي بدأت الطرق الصوفية ممارسة الحياة السياسية بأدوات الدولة الحديثة من التصويت والترشح في الانتخابات وتأسيس الأحزاب خاصة بعد ثورة 25 يناير، بدا أن الأداء السياسي للطرق الصوفية هش وضعيف، وينظر ذلك من نقص في الخبرة وقلة في الثقافة السياسية مما جعلهم، ليس فقط أدوات في يد السلطة، وإنما هم من يقدمون أنفسهم لها في مقابل بعض المنافع.
ويعترف الشيخ محمد علاء الدين أبو العزائم، شيخ الطريقة العزمية للإذاعة الألمانية “دويتشه فيله” في مارس/آذار 2014، بأن القيادات الصوفية في مصر فاشلة ولا تمتلك وزنا حقيقيا داخل المجتمع المصري؛ لأنها تقبل بتوظيفها من قبل السلطة، لا سيما إبان نظام مبارك. ويقر أن الطرق الصوفية كانت أداة لخدمة أمن الدولة ضد الإخوان المسلمين، واستشهد بالحرب الإسرائيلية على غزة وإغلاق نظام مبارك للمعابر الحدودية، حيث، وفقا له، “لم يجرؤ أحد من الصوفية انتقاد النظام حينها”.
ويتهم أبو العزايم القيادات الصوفية بالهرولة نحو السلطة قائلا إن “السلطة حاليا لا تستخدم الطرق الصوفية، ولكن القيادات الصوفية هي من تقدم نفسها للسلطة لتحقيق مصالحها الشخصية”. وأضاف أن “مساندتهم للسيسي ليست عن قناعة شخصية، بل لركوب الموجة، لأنهم يستغلون النظام الحاكم أيا كانت توجهاته”.
وبحسب دراسة أجراها “المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام” خلال الأعوام الأخيرة، يشير مدير المركز، مصطفى خضري، إلى أن عدة خلاصات مهمة أبرزها أن أبناء الطرق الصوفية ناشطون اجتماعيا خاملون سياسيا، حيث يفضل أكثرهم النأي بنفسه عن السياسة وصراعاتها.
يبرهن على ذلك أن نسب مشاركة أبناء الطرق الصوفية في الفعاليات الانتخابية التي رصدها المركز تؤكد ذلك، حيث كانت أعلى نسبة مشاركة في الانتخابات البرلمانية 2011 ووصلت إلى 21 بالمئة من المنتمين للطرق الصوفية، بينما بلغت أقل نسبة 3.5 بالمئة، وكانت في انتخابات 2014 الرئاسية.[66]
خاتمة
تُظهر هذه الدراسة أن الطرق الصوفية في مصر قد لعبت دورا سياسيا واجتماعيا معقدا ومتنوعا عبر العصور. فقد بدأت هذه الطرق كحركات دينية تهدف إلى نشر القيم الروحية والإصلاح الاجتماعي، لكنها تطورت لتصبح فاعلا سياسيا مهما على مر القرون.
ومن خلال تحالفاتها مع السلطات الحاكمة أو معارضتها لها، تميزت الطرق الصوفية بقدرتها على التكيف مع التغيرات السياسية والاجتماعية، مما منحها تأثيرا واضحا في تشكيل المشهد السياسي المصري. ففي العصور الوسطى، كانت الطرق الصوفية شريكا مهما في مواجهة النفوذ الخارجي وتعزيز المذهب السني، واستمرت في هذا الدور حتى العهد العثماني. ولكن مع ظهور الأسرة العلوية وسياسات محمد علي الإصلاحية، بدأت هذه الطرق تفقد بعضا من استقلالها وفاعليتها السياسية نتيجة للسياسات التي سعت إلى السيطرة عليها واحتوائها.
وفي العصور الحديثة، استمرت الطرق الصوفية في المشاركة السياسية، ولكن بشكل مغاير، حيث أصبحت في كثير من الأحيان أداة في يد السلطة لتحقيق أهدافها السياسية والاجتماعية، وهو ما انعكس في مواقفها تجاه الحركات الإسلامية الأخرى، ودعمها للأنظمة العسكرية.
وفي ظل السياسات الحالية، يبدو أن الطرق الصوفية في مصر تظل جزءا لا يتجزأ من المشهد السياسي، ولكن مستقبل الدور السياسي للطرق الصوفية في مصر سيظل مرهونا بالسياسات العامة للنظام السياسي القائم؛ إذ أن تبعية الطرق الصوفية في مصر للنظام السياسي العسكري متجذرة، ولا تظهر في الأفق أي ملامح لتغيير تلك السياسة للطرق الصوفية في مصر.
المصادر
[1] مساعد جابر سالم العنزي، توظيف المتصوفة في عهد صلاح الدين الأيوبي لإرساء قواعد الحكم الأيوبي في مصر، المجلة العربية للعلوم الإنسانية، مجلد 39، عدد 154، سنة 2021
[2] أبو الوفا التفتازاني، الطرق الصوفية في مصر، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1963
[3] حماده محمد عيسى فرج، نشأة الطرق الصوفية في مصر، مجلة كلية البنات بطيبة، جامعة الأزهر، 2024، ص31
[4] عبد الله بن دجين السهلي، الطرق الصوفية: نشأتها وعقائدها وآثارها، دار كنوز إشبيلية للنشر والتوزيع، 2005، ص10
[5] الدكتور محمد السيد المليجي، الأبعاد الحضارية والثقافية للطرق الصوفية في مصر: الطريقة العزمية نموذجا، مجلة الجامعة الأسمرية، 2006، المجلد 6
[6] مساعد جابر سالم العنزي، مصدر سابق
[7] “خريطة الطرق الصوفية وتطوراتها في مصر”، مركز الأهرام للدراسات، 3 أغسطس/آب 2017، الرابط
[8] Hofer, N. (2015). The Popularisation of Sufism in Ayyubid and Mamluk Egypt, 1173-1325. Edinburgh University Press.
[9] هي مراكز تجمع الصوفية، حيث تُدرس وتوجد أماكن للإقامة والطعام.
[10] Hofer, Nathan. “The Origins and Development of the Office of the Sufi Studies.” Journal of Sufi Studies, vol. 3, no. 1, 20 Aug. 2014 – Link
[11] محمد صبري الدالي، التصوف وأيامه: دور المتصوفة في تاريخ مصر الحديث، دار الكتب والوثائق، 2012، ص 139
[12] عز الدين عمر، الباشا والرعية.. كيف استغل محمـد علي ثورات المصريين لصالحه؟، الجزيرة نت، 30 يوليو/تموز 2021 – الرابط
[13] Hofer, N. (2015). The Popularisation of Sufism in Ayyubid and Mamluk Egypt, 1173-1325. Edinburgh University Press – Link
[14] ابن خلدون، العبر، ج 5، ص 288-289
[15] Baker, C. (2023). The popularisation of Sufism in Ayyubid and Mamluk Egypt, 1173-1325. Edinburgh University Press
[16]أحمد الطوخى، مصر والأندلس: دراسة في العلاقات، مركز الدلتا للطباعة والنشر، الإسكندرية، 1988، ص 53
[17] عاطف وفدي، التصوف والطرق الصوفية في مصر: دراسة مقارنة، المعارف الحكمية.. معهد الدراسات الدينية والفلسفية، 15 فبراير/شباط 2021 – الرابط
[18] محمد جلال كشك، ودخلت الخيل الأزهر، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الثالثة، 1990، ص 210
[19] محمد صبري الدالي، مصدر سابق، ص 51
[20] عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، ج 1، ص 611، (بيروت: دار الجيل، بدون طبعة، بدون تاريخ)
[21] عبد الوهاب الشعراني، لطائف المنن والأخلاق الجالبة للسرور والبشرى، مطبعة بولاق، القاهرة، 1871، ص 152، 153
[22] عمار علي حسن، الصوفية والسياسة في مصر، مركز المحروسة، 1997، ص 94
[23] بيير جان لويزار، الصوفية المصرية المعاصرة، مجلة مصر والعالم العربي، 2 يونيو/حزيران 1994، القاهرة: مركز الدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية والاجتماعية، ص 144
[24] بيير جان لويزار، مصدر سابق، ص 170، 171
[25] زكريا سليمان بيومي، الطرق الصوفية بين الساسة والسياسة في مصر المعاصرة: دراسة تاريخية وثائقية 1903 – 1984، (القاهرة: دار الصحوة للنشر، أغسطس 1990م)، ص 53
[26] Joseph Croitoru, Who was the architect of Islamism?, Qantara, November 30, 2022 – Link
[27] “الصوفية: النشأة والتكوين والتوظيف السياسي”، الشارع السياسي، 27 أغسطس/آب 2021 – الرابط
[28] Ahmed Maged, Debating political Sufism, Daily News Egypt, August 7, 2015 – Link
[29]بيير جان لويزار، مرجع سابق، ص: 173/172، 175
[30] Harvard Divinity School. (n.d.), Sufism in Egypt, The Religious Literacy Project, Harvard Divinity School. Retrieved October 29, 2024 – Link
[31] ممدوح غالب، إشكالية العلاقة بين التصوف والسياسة في المشرق الإسلامي، المركز الديمقراطي العربي، 18 يناير/كانون الثاني 2016 – الرابط
[32] مصطفى زهران، المشهد الصوفي المصري، الجزيرة نت، 26 مايو/أيار 2014 – الرابط
[33] مصطفي زهران، مصدر سابق
[34] الصوفية.. النشأة والتكوين والتوظيف السياسي، مصدر سابق
[35] الصوفية.. النشأة والتكوين والتوظيف السياسي، مصدر سابق
[36] Ghada Tantawi, Who are Egypt’s Sufi Muslims?, BBC, November 28, 2017 – Link
[37] مصطفي زهران، مصدر سابق
[38] لمن ينحاز المتصوفة.. للسيسي “حبيب الله” أم “للشريف” عنان؟، عربي 21، 23 يناير/كانون الثاني 2018 – الرابط
[39]مصطفى الأسواني، “الأعلى للطرق الصوفية”: الصوفيون كانوا يتواصلون مع السيسي منذ توليه رئاسة المخابرات الحربية، الشروق، 9 مايو/أيار 2014 – الرابط
[40] هل يستفيد السيسي من الطرق الصوفية؟، الجزيرة نت، 8 ديسمبر/كانون الأول 2017 – الرابط
[41] الصوفية.. النشأة والتكوين والتوظيف السياسي، مصدر سابق
[42] Hoffman, V. J. (2015). What role can Sufism play in contemporary Egypt? In M. Faghfoory & G. Dastagir (Eds.), Sufism and social integration: Connecting hearts, crossing boundaries (pp. 127-145). Kazi Publications.
[43] عماد الدين حسين، “شيخ الأزهر ووزير الأوقاف”، جريدة الشروق، 9 سبتمبر/أيلول 2024 – الرابط
[44] داود علي، صفقة الدراويش.. لماذا يرمم السيسي مساجد الصوفية في مصر؟، صحيفة الاستقلال، 2023 – الرابط
[45] Jonathan Brown, Salafis and Sufis in Egypt, Carnegie Endowment for International Peace, December 20, 2011 – Link
[46] مصطفي زهران، مصدر سابق
[47] مصطفي زهران، مصدر سابق
[48] Muedini, F. (2012). Sufism, Politics, and the Arab Spring. American Journal of Islam and Society, 29(3), 23–41 – Link
[49] Egypt Elections: Egyptian Liberation Party, Carnegie Endowment for International Peace, November 7, 2011- Link
[50] Marian Brehmer, Cairo’s mystic revival, Qantara, January 30, 2023 – Link
[51] Ghada Tantawi, Who are Egypt’s Sufi Muslims?, BBC, November 28, 2017 – Link
[52] الصوفية.. النشأة والتكوين والتوظيف السياسي، مصدر سابق
[53] Ahmed Maged, Debating political Sufism, Daily News Egypt, August 7, 2015 – Link
[54] Shadi Hamid, Commentary Misunderstanding the victims of the Sinai massacre, Brookings Institution, November 27, 2017 – Link
[55] العبور الأمريكي عبر (الزاوية الصوفية)، موقع طريق الإسلام، 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 – الرابط
[56] انظر: مجلة التصوف الإسلامي، العدد: 323، ذو القعدة 1426هـ/ ديسمبر 2005
[57] انظر: صحيفة اللواء الأردنية، نوفمبر/تشرين الثاني 2007
[58] العبور الأمريكي عبر (الزاوية الصوفية)، موقع طريق الإسلام، 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 – الرابط
[59] 15 من مشايخ الطرق الصوفية يشاركون في مؤتمر «رجل السلام العالمي» بالولايات المتحدة، المصري اليوم، 1 مايو/أيار 2009 – الرابط
[60] فهمي هويدي، تنسيق (روحي) مع أمريكا، جريدة الشروق، 8 أغسطس/آب 2010 – الرابط
[61] انظر: القبس الكويتية، عدد 27، فبراير/شباط 2012
[62] الصوفية.. النشأة والتكوين والتوظيف السياسي، مصدر سابق
[63] Ladjal, T., & Bensaid, B. (2015). Sufism and Politics in Contemporary Egypt: A Study of Sufi Political Engagement in the Pre and Post-revolutionary Reality of January 2011. Journal of Asian and African Studies, 50(4), 468-485.
[64] Ladjal, T., & Bensaid, B. (2014). Sufism and politics in contemporary Egypt: A study of Sufi political engagement in the pre and post-revolutionary reality of January 2011. Journal of Asian and African Studies, 50(4), 363-379 – Link
[65] التنشئة السياسية للطرق الصوفية، مصدر سابق
[66] الصوفية.. النشأة والتكوين والتوظيف السياسي، مصدر سابق