ثورة يناير في الميزان الإسرائيلي
عشر سنوات مرت منذ اندلعت ثورة يناير؛ تلك الثورة التي صنعت حراكا كبيرا في منطقة الشرق الأوسط لما كان متوقعا أن تنجزه من تغيير في أوضاع مصر السياسية والاقتصادية والثقافية.. إلخ، ومن ثم فإن هذه الثورة كانت تنذر بتغيير وجه المنطقة كلها لو كان مقدرا أن تسير الأمور على النحو الذي أرادته، ولذلك كان تفاعل الدول المجاورة لمصر في أغلبه متخوفا مما يجري، ومن احتمال أن تقود الثورة المنطقة إلى مصير مجهول.
تحاول هذه الورقة التعرض للموقف الإسرائيلي الرسمي والإعلامي من ثورة يناير، والتعرف على رد الفعل الإسرائيلي تجاه أحداث الثورة وما صاحبها من أحداث، وكيف كان موقفها من الانقلاب لاحقا، كاشفا عن موقفها الحقيقي من الثورة.
– فشل الاستخبارات الإسرائيلية في توقع اندلاع الثورة، والتنبؤ بمآلاتها
كان أغلب المحللين الإسرائيليين على وعي بما تمر به مصر وسائر دول المنطقة من فساد، وانسداد الأفق السياسي، وأوضاع اقتصادية متردية كانت تنذر بانفجار الأوضاع في أي وقت. وعلى الرغم من وقوع الثورة التونسية التي لم تتوقعها أجهزة الاستخبارات العالمية أو العربية، فإن أحدا لم يتوقع كذلك وقوع الثورة المصرية ولا التنبؤ بمآلاتها.
فبعد وقوع الثورة التونسية، وهروب زين العابدين بن علي كان من المفترض أن يكون ثمة توقع بإمكانية انتقال عدوى الثورة إلى مصر وبقية الدول العربية، وهذا ما عبر عنه الصحفي الإسرائيلي يوني بن مناحم (صحفي إسرائيلي كبير عمل في إذاعة صوت إسرائيل، وتولى لاحقا رئاسة الإذاعة الإسرائيلية الرسمية) في مدونته بتاريخ 17 يناير؛ ففي مقاله “رسالة تونس إلى العالم العربي” أوضح أنه من الضروري أن تكون الثورة التونسية وما حدث فيها عبرة للحكام العرب، وتحذيرا بأنهم لن يبقوا على كراسيهم للأبد، ولن يكون في مقدورهم أن يورثوها لأبنائهم من بعدهم مثلما يخطط الرئيس مبارك في مصر، بعدما زوَّر انتخابات البرلمان لمنع الإخوان المسلمين من دخوله، كما أنه عدل الدستور حتى يمنع أي سياسي من الترشح للرئاسة ضد ابنه مثلما كان يتمنى. وتساءل بن مناحم، هل يمكن أن تنتقل عدوى الثورة التونسية إلى مصر وبقية البلاد العربية، وأن تقوم حركات المعارضة بشيء مماثل في هذه البلدان، خاصة وأن أوضاعها السياسية والاقتصادية تشبه كثيرا الوضع في تونس؟ لقد كان على الحكام العرب – طبقا لنصيحة بن مناحم – أن يفيقوا ويحاسبوا أنفسهم، ويستجيبوا لأصوات الشعوب، وأن يقوموا بإصلاحات تعالج المشاكل المختلفة وإلا فلن يكون مصيرهم مختلفا عن مصير زين العابدين بن علي[1].
وطبقا لكلام بن مناحم فإن أجهزة الاستخبارات في العالم العربي – التي لم تكن تتوقع انفجار هذه الانتفاضة العربية في تونس وإسقاطها ابن علي – بدأت تتعافى من الصدمة الأولى وتشدد الرقابة على المعارضة، فبعد أن كانت تسمح سابقا (مثلما هو الحال في الأردن وتونس) للمعارضة بتنظيم مظاهرات في شوارع المدن الكبرى من باب تنفيث الغضب، فإنها وبعد أن تحولت هذه المظاهرات إلى انتفاضة شعبية تمكنت من إسقاط حكم الدكتاتور التونسي سوف تزيد من رقابتها على أي تجمعات يمكن أن تتطور وتصل لمواجهات مع قوى الأمن، ومن المتوقع أن حكام هذه الدول العربية سوف يأمرون رؤساء أجهزتهم الأمنية لقمع مثل هذه المظاهرات بقوة وسرعة حتى لا تخرج الأمور عن السيطرة[2].
إذا انتقلنا للموساد، والمخابرات العسكرية الإسرائيلية (أ م ن אמ”ן) فإن الأمر لم يختلف في شيء؛ وكانت الضبابية هي التي تسيطر. وعلى الرغم من سمعة الاستخبارات الإسرائيلية العالمية فإن فشلها في توقع الثورة التونسية كان كبيرا، وكان فشلها أكبر في مصر بالطبع في ظل وجود سابقة تونسية بفاصل زمني أقل من أسبوعين بين هروب ابن علي واندلاع الثورة في مصر.
يؤكد ذلك أن شاؤل موفاز – رئيس لجنة الخارجية والدفاع بالكنيست الإسرائيلي في ذلك الوقت – حين سئل في لقاء له مع إذاعة جيش الاحتلال عقب جمعة الغضب 28 يناير: كيف لم تتوقع أذرع الدفاع والاستخبارات الإسرائيلية ما يحدث في مصر، خاصة بعد الثورة التونسية؟ كانت إجابة موفاز “إن مثل هذه الأحداث هي من الأمور التي يصعب جدا توقعها، فإذا كان مثل هذا التوقع صعبا في مجتمع صغير، فبالأحرى سيكون كذلك في بلد كبير بحجم مصر. بالفعل لم يستطع أي من أجهزة الدولة في إسرائيل أن يشير إلى أن ما حدث بالأمس في مصر سيحدث”[3]. وعلى الرغم من محاولة موفاز تبرير فشل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، فإنَّ هذا التبرير كان تأكيدا على مدى التقصير الذي ارتكبته هذه الأجهزة.
حالة الفشل هذه ربما كانت ناتجة عن قدر من التراخي في أجهزة الاستخبارات التي كان سببها على الأرجح ثقتها في أن أجهزة الأمن لدى الأنظمة العربية سوف تستخدم كل وسائل القمع الممكنة ضد أي تحرك جماهيري، وأنها بالتأكيد سوف تكون قادرة على قمع أي حراك من بدايته.
– مصلحة إسرائيل، وكيف تعاملت مع الثورة
لم يكن قيام الثورة التونسية وما نتج عنها من هروب ابن علي يشكل خطرا على إسرائيل، ومن هنا فإن اهتمام الإعلام الإسرائيلي بها لم يكن كبيرا مثلما كان الحال في تعامله مع الثورة المصرية. وقد عبرت الصحافة الإسرائيلية عن ذلك صراحة؛ حيث أثارت الثورة المصرية حفيظة إسرائيل لكون مصر الدولة الأهم عربيا، ولقربها الجغرافي من الأراضي المحتلة، ولكونها متخوفة على اتفاقية السلام مع مصر[4].
وحين نتحدث عن ثورة لم يكن أحد يتوقعها، ولا يتوقع مآلاتها، فإن ذلك يعني أن مستقبل العلاقات بين مصر وإسرائيل سيكون بلا شك محل قلق، حتى يتبين مسار الأمور على الأقل.
بالطبع كان التعامل الإسرائيلي مختلفا في يوم الثورة الأول (25 يناير) عن يوم جمعة الغضب وما بعده؛ ففي أول الأمر كان الظن بأن قوات الأمن المصرية ستتمكن من قمع المظاهرات دون صعوبة كبيرة. وقد تحدث الصحفي الإسرائيلي يوني بن مناحم في مقال عنوانه “تونسة الأنظمة العربية” ليلة اندلاع الثورة في مصر 25 يناير، عن أن إسرائيل تتابع بقلق الأحداث في مصر، وأنها تأمل في أن تتمكن قوات الأمن المصرية من الحفاظ على استقرار النظام الذي يقيم اتفاق سلام معها. كما أشار إلى خبرة السلطات المصرية الكبيرة في قمع مظاهرات المعارضة، وأن تقديرات إسرائيل هي أن السلطات المصرية ستنجح في التعامل مع الاحتجاجات الجماهيرية بصورة تقلل من خطورتها إلى الحد الأدنى[5].
تغيرت نبرة المحللين الإسرائيليين الهادئة بعد أحداث جمعة الغضب، وقد لوحظ أن اللقاءات مع المحللين الإسرائيليين في البرامج الإخبارية عكست حالة قلق وعصبية كانت واضحة في حديث المعلقين، وفي تعبيرات وجوههم.
وطبقا لمحلل القناة العبرية الثانية للشئون العربية “إيهود يعري” فإن إسرائيل كانت على حافة كارثة استراتيجية، وأن كثيرين من القادة العسكريين والسياسيين الإسرائيليين لم يعرفوا النوم بعد أحداث اليوم الأخير في المظاهرات المصرية (يعود التقرير إلى 29 يناير 2011، والمقصود هنا بالطبع يوم 28 يناير يوم جمعة الغضب)، وكان واضحا من تدخل الجيش المصري في تهدئة المواجهات، أن حكم مبارك قد اهتز ولم يعد واضحا إن كان يمكنه الاستمرار أم لا، وأنه حتى في حالة استمرار مبارك فإن القادم لن يكون مثل ما مضى. كان المحللون الإسرائيليون يرون أن الثورة المصرية تمثل نهاية مرحلة في الشرق الأوسط، وبداية مرحلة جديدة لا يعرف أحد ماذا تخبئ، وكان واضحا أن وزير الدفاع حسين طنطاوي منذ تدخل الجيش في ليلة 28 يناير أصبح الحاكم الفعلي، وأن الجيش قد يعزل مبارك ويعين حكومة مؤقتة[6].
كانت كل التغييرات في تونس ومصر نذير شؤم لإسرائيل، ورغم أن إسرائيل كانت متيقنة من أن المجلس العسكري في مصر الذي أوكل إليه حكم البلاد لا يشكل أي خطر على إسرائيل لا من ناحية اتفاقية السلام أو نشوب أي عمل عسكري، فإن إسرائيل بعد إزاحة مبارك واحتمالية سقوط نظامه لم تعد واثقة من أن مصر ستبقى “خارج الصورة” في أي حرب قادمة تخوضها إسرائيل، وعلى إسرائيل أن تدرس إمكانية تحديث جبهتها الجنوبية، وزيادة قواتها إن تطلب الأمر[7].
في أحد البرامج الإخبارية وجه مقدم البرنامج سؤالا لتسفي مزال (السفير الإسرائيلي الأسبق في القاهرة): هل أخطأ مبارك حينما ظن أن الخطر الأكبر على نظامه هو الإخوان المسلمون؟ كانت إجابة مزال تعكس حجم الفوضى في الحسابات الإسرائيلية؛ فقد أقر بأن الخطأ كان كبيرا “نعم لقد أخطأ وأخطأنا جميعا حينما ظننا ذلك“، وأضاف بأن ما يحدث في مصر ثورة شعبية حقيقية، وأن الثورة التونسية انتقل تأثيرها لمصر كقطع الدومينو، على عكس ما كان يظن النظام المصري وتظن إسرائيل. وعلق إيهود يعري إن مبارك كحاكم لمصر قد انتهى، وعليه أن يختار بين مصير ابن علي أو الدكتاتور الفلبيني فرديناند ماركوس الذي اضطر أمام الغضب الشعبي أن يخرج بهدوء ويهرب إلى هاواي، أو أن يخرج بصورة مقبولة بقيامه ببعض الإصلاحات لتهدئة المتظاهرين ولكسب بضعة أشهر حتى يخرج في هدوء، كأن يعلن عن عدم ترشحه مرة أخرى للرئاسة، وأن يقوم بتشكيل حكومة وحدة موسعة، وأن يدعو لانتخابات حرة في غضون بضعة أشهر بإشراف دولي[8].
بعض القنوات الإسرائيلية أطلقت تسمية الانقلاب على ثورة يناير، وحملت النظام المصري جريرة استمرار المظاهرات وزيادة حجمها واتساع رقعتها، وهذا ما فعله موقع أخبار القناة الثانية الإسرائيلية في 29 يناير 2011، الذي تحدث أيضا عن كيف انضم إلى المظاهرات من تحركهم أهداف سياسية حتى يتسنى لهم الاندماج في النخبة السياسية الجديدة التي ستنتج بعد الثورة. كما أوضح أن المظاهرات في مصر كان مستهدفا أن تكون يوما واحدا فقط للتعبير عن الغضب، إلا أن الرد العنيف للحكومة أدى لاستمرار المظاهرات[9].
في تقرير إخباري آخر وصف مراسل القناة العبرية الثانية في مصر كرمل لوتساطي قمع الشرطة لمظاهرات جمعة الغضب، وفشلها في ذلك، وتزايد المتظاهرين في المقابل، وكيف أن المظاهرات وصلت لكل زاوية في العاصمة المصرية، وعلق مقدم الأخبار بأن مصر على حافة انقلاب[10].
أما على المستوى الرسمي فإن إسرائيل أمام خوفها من تعقيد الموقف بشأن علاقتها مع مصر، ومفاجأة الحدث لها وعدم توقعها لمآلاته فقد اختارت الصمت وعدم التعليق. والحقيقة أن إسرائيل كانت تشعر بالقلق الشديد، وتعلم تماما أنها أمام كارثة استراتيجية مثلما عبر المحللون، وإن ظنت في أول الأمر أن الأمور لن تتطور إلى إزاحة مبارك. يضاف إلى ذلك خوفها من انتقال تأثير الأحداث إلى الأراضي المحتلة، وهذا ما عبر عنه مراسل القناة العاشرة العبرية الذي كان يغطي الأحداث في مصر.
في صباح 30 يناير وبعد ستة أيام من الصمت الرسمي تجاه الأحداث في مصر تحدث رئيس الوزراء نتنياهو “نحن نراقب الأحداث عن كثب.. الجهود منصبة على الحفاظ على الاستقرار والأمن في منطقتنا، السلام بين إسرائيل ومصر مستمر منذ 30 عاما، وهدفنا أن تظل هذه العلاقات مستمرة، من واجبنا التحلي بالمسئولية، ولهذا وجهت الوزراء بعدم التعليق على الموضوع“[11].
وقد عرض الكاتب الصهيوني ليئور لهرس إلى ميل اليسار الصهيوني (وأغلبه كان في المعارضة) بالتفاؤل الحذر بهذه الثورات دون اعتماد على أسباب منطقية، مقابل ذلك ساد التشاؤم أوساط اليمين الإسرائيلي وعلى رأسه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وكان لموقفه هذا أسباب منطقية – حسب الرؤية الإسرائيلية – فقد كانت سياسة إسرائيل في صراعها مع العالم العربي قائمة على أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، ولم يكن مآل الثورات العربية معروفا بعد، يضاف إلى ذلك أن حالة عدم الاستقرار التي ستخلفها هذه الثورات قد تفتح الباب لإيران للتدخل في سياسات الشرق الأوسط، وهو ما سيؤدي لمزيد من التدهور والإضرار بأمن إسرائيل. ونتيجة لذلك اتخذت القيادة الإسرائيلية قرارا بزيادة الميزانية لمواجهة هذه التخوفات، وكان للقيادات الإسرائيلية خطابان؛ داخلي وخارجي. في خطابهم الداخلي كانوا يعرضون لما يحدث على أنه تهديد استراتيجي خطير لأمن إسرائيل، لكن في الخطاب الخارجي كانوا يعربون عن أن هذه الأحداث هي فرصة لتطوير الديمقراطية في الشرق الأوسط وتحسين مكانة إسرائيل، يذكر هنا أيضا أن الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها إسرائيل في صيف 2011 كانت تستخدم نفس شعارات الثورة في مصر والعالم العربي[12].
كان الخوف من احتمالية صعود الإسلاميين إلى المشهد السياسي في مصر أحد العوامل المهمة التي أثارت التخوف في إسرائيل. وقد عكست كتابات المحللين الإسرائيليين منذ وقت مبكر أنهم لم يكونوا واثقين من شيء في مستقبل ثورات الربيع العربي بقدر ثقتهم في وقوع صراع بين القوى الإسلامية والعلمانية في البلدان التي شهدت هذه الثورات. يبدو ذلك واضحا في مقال البروفيسور الإسرائيلي إيلي فوده المتخصص في الدراسات الإسلامية والشرق الأوسط عن الثورة التونسية بعد أقل من أسبوعين من هروب ابن علي، لقد كان التخوف واضحا من أن تتمكن القوى الإسلامية من حسم هذا الصراع لصالحها[13]. وقد اتفق أغلب المحللين في وسائل الإعلام الإسرائيلية كيف أن الديمقراطية في العالم العربي خطر على إسرائيل؛ فقد جاءت بحماس في الانتخابات الفلسطينية، ومن المرجح أنها ستأتي بالإخوان المسلمين في مصر في ظل انتخابات حرة، وهذا كان العامل الأهم لإحساس إسرائيل بأن ما يحدث في مصر كارثة استراتيجية لأمنها القومي[14].
الجمهور الإسرائيلي كان أميل بالطبع إلى تكوين رؤية متشائمة تجاه الثورات العربية عامة، والمصرية بشكل خاص، ويوضح إيلان بيلج أن ردود الفعل السلبية كانت ناشئة عن أن هذه الثورات سوف تمس بالأمن القومي لإسرائيل، كما أنها ستسد كل أفق لأي عملية تسوية سياسية على المستوى العربي عامة، والفلسطيني بشكل خاص، وهذا بالطبع كان راجعا للتوقع الإسرائيلي بتصدر الإسلاميين للمشهد إثر هذه الثورات، أو على الأقل مشاركتهم في الحكومات، ولذلك فعادة ما كان ينظر إلى تأسيس أي حزب إسلامي في البلدان العربية بشكل سلبي. في ظل هذا الوضع كان موقف بنيامين نتنياهو “ننتظر ونرى كيف ستتطور الأمور” يحوز تأييدا متزايدا في إسرائيل. لكن إسرائيل رأت في سياسة الولايات المتحدة التي أيدت ثورة الشعب المصري تخليا عن حليف مهم لها، وهذا كان موضع خلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة[15]. وبدت الولايات المتحدة كمن ينظر إلى الأمام، في حين كانت إسرائيل تنظر تحت أقدامها.
في 15 فبراير وبعد رحيل مبارك وتكليفه المجلس العسكري بإدارة البلاد بدت إسرائيل أهدأ من ذي قبل، لأنها أصبحت تدرك أن رحيل مبارك لا يعني رحيل نظامه، وفي ذلك تساءل يوني بن مناحم هل الرئيس مبارك مستمر في حكم مصر من خلف الستار؟ وتحدث بن مناحم عما كان يتحدث به الثوار في مصر بأن رجال مبارك هم الذين يسيطرون على مصر، وأن المشير طنطاوي رئيس المجلس العسكري حينها – حسب تصريح مسئول إسرائيلي كبير – ليس مصلحا حقيقيا، وأن المجلس العسكري لن يتخلى عن حكمه الكامل لمصر ولن يتعجل في التنازل عن وضعه الذي اكتسبه نتيجة لثورة يناير[16].
– هل كشف الانقلاب موقف إسرائيل من الثورة
في أعقاب الانقلاب كان السؤال الأكثر طرحا في الصحافة الإسرائيلية هو هل كانت التطورات التي حدثت في مصر في صالح إسرائيل أم لا؟ كان الأمر أكثر وضوحا هذه المرة، فقد كانت إسرائيل وداعمو الثورة المضادة في الخليج ينتظرون هذه اللحظة منذ ترك مبارك السلطة، لكن بالرغم من ذلك آثرت إسرائيل الصمت. لقد كان إفشال تجربة وجود الإخوان المسلمين في السلطة في مصر أمرا جيدا لإسرائيل على المدى القريب والبعيد، لأن أيديولوجيتهم كانت ستعرض السلام بين مصر وإسرائيل للخطر، كما أنهم كانوا سينشرون القوات في كل أنحاء مصر، وهو ما سيكون بمثابة تملص من اتفاق السلام الذي وقعه السادات[17].
تضليل إسرائيلي لمساعدة الانقلاب
الصحف والمفكرون الإسرائيليون بدورهم كانوا يروجون للرواية المصرية عن الانقلاب، وأنه جاء لإصلاح مسار ثورة يناير، كما أنه سوف يدمج الإسلاميين في سلطة ما بعد الانقلاب. فبعد الانقلاب مباشرة بأيام كتب يورام ميطل أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن جوريون مقالا بعنوان “إزاحة مرسي، والصراع لإعادة الثورة المصرية إلى مسارها” تحدث فيه عن أن القيادة المدنية والعسكرية الممسكة بلجام السلطة في مصر أعلنت عن نيتها إعادة ثورة يناير إلى مسارها الأصلي، لكن من الصعب أن نفترض أن تكوين نظام حكم يتأسس على قيم الحرية والعدالة الاجتماعية سوف يتحقق دون دمج الإسلاميين[18].
لقد كان الانقلاب العسكري في مصر بقيادة السيسي أكبر دليل على أن ثورة يناير كانت كارثة على إسرائيل بغض النظر عمن كان يحكم مصر بعد الثورة، فقد كانت الحرية في مصر أكبر خطر على إسرائيل وأنظمة الحكم القمعية في العالم العربي. وعلى الرغم من أن إسرائيل على المستوى الرسمي اختارت الصمت هذه المرة أيضا، ولم تعرب رسميا عن ارتياحها تجاه الانقلاب، فإن ذلك لم يخف حجم الرضا عنه. يقول المحلل الإسرائيلي في جريدة هآرتس أنشيل بابار: إنه من الصعب إخفاء حجم الرضا في إسرائيل من إزاحة الرئيس محمد مرسي، على الرغم من أن نتنياهو أعطى تعليماته للوزراء ألا يتعرضوا لما حدث في مصر، ومما لا شك فيه أنهم جميعا سعداء بالحدث الذي وقع[19].
يظهر ذلك بوضوح أيضا من وقوف إسرائيل إلى جانب مصر ومساندتها عقب الانقلاب العسكري في يوليو 2013؛ وهذا ما كشفته لاحقا – في السنوات التالية للانقلاب – مقاطع الفيديو المسجلة لسياسيين ومفكرين إسرائيليين يتحدثون عن دور إسرائيل قبل الانقلاب وبعده.
وقد تحدث عاموس هرئيل في مقال له بجريدة هآرتس بعنوان “الانقلاب في مصر جدد العلاقة بين مصر وإسرائيل” عن أن أحد نتائج الانقلاب العسكري في مصر هو أنه أعاد العلاقات بين البلدين من جديد لأفضل مما كانت عليه قبل الثورة؛ بحيث إن الأمر لم يعد متعلقا فقط بالتنسيق على الأرض، بل أصبح تلاقيا استراتيجيا ومصلحيا بين البلدين. ورغم أن إسرائيل لا تعرف كيف ستتطور الأمور بعد الانقلاب على المدى الطويل في مصر، فإنَّ تغيرا أمنيا كبيرا قد حدث لصالحها في الجبهة الجنوبية والغربية. اللافت هنا أن إسرائيل بذلت جهدا ضخما لدى واشنطن في الأسبوع الأول من الانقلاب حتى تخفف من حدة ردة الفعل الأمريكية، وتمكنت بعلاقاتها أن توقف صدور قرار أمريكي بوقف المعونة الأمريكية لمصر. وظلت مصر أسيرة لهذا الجميل وتكونت علاقة خاصة بين القاهرة وتل أبيب، وباركت إسرائيل جهود مصر لمكافحة الإرهاب في سيناء، وجهودها ضد سلطة حماس في غزة. واضطرت حماس التي تدير قطاع غزة لشراء المحروقات بستة أضعاف سعرها من إسرائيل مما أدى لحدوث أزمة طاقة خانقة في القطاع[20].
كانت إسرائيل تدرك أن ما فعله السيسي هو انقلاب على الديمقراطية، لكن ذلك لم يكن يعنيها في شيء، لأن انقلاب السيسي جاء – بالنسبة لها – ليصلح ما أفسدته ثورة يناير، وهو ما عبر عنه بوعز بسموط في مقالته “مصر في حاجة لمبارك جديد” في إشارة إلى ما كانت ترغب فيه إسرائيل من وجود قيادة عسكرية تعيد الاستقرار لمصر، وتسير على خطى مبارك[21]. في ذلك أيضا كتب يارون فريدمان – في شهادة متأخرة بتاريخ 23 سبتمبر 2019 في سياق المظاهرات التي كان المقاول المصري محمد علي قد دعا إليها – أن الانقلاب الذي قام به السيسي كان بالتأكيد ضد الديمقراطية، ويطبق قانون الطوارئ طوال الوقت، إضافة لسلطات مطلقة بيد الرئيس لقمع أي احتجاجات، بما في ذلك القيام بالاعتقالات التعسفية دون سند قانوني، مع إعلام غير حر موال للنظام[22].
– خاتمة
لقد كان الموقف الإسرائيلي من ثورة يناير مرتبطا بتقديرها لمصالحها في المنطقة التي تتعارض بالطبع مع المصالح الحقيقية لشعوب المنطقة، وبالتالي فقد كان من المنطقي أن أي تحرك لهذه الشعوب تجاه حريتها يعني تعارضا مع مصالح إسرائيل، خاصة وأن كثيرا مما حققته إسرائيل على حساب شعوب المنطقة كان راجعا لأنظمة فاسدة ضيعت مصالح شعوبها في كثير من القضايا (كبنود اتفاقية السلام وانتشار القوات المصرية في سيناء، وعدم تنمية سيناء، واتفاقيات تصدير الغاز لإسرائيل بأقل من الأسعار العالمية..). ومن الطبيعي أن هذه الثورات – إن كتب لها النجاح – كانت ستعيد النظر في هذه الاتفاقيات. ومن هنا كان موقف إسرائيل الرافض للثورة ولو صمتا، والساعي مع أعدائها من أجل إفشالها.
المصادر
[1] – יוני בן מנחם: המסר של תוניסיה לעולם הערבי. (مدونة ِ Arab Expert بتاريخ 17 / 1 / 2011).
http://www.arabexpert.co.il/2011/01/blog-post_17.html
[2] – יוני בן מנחם: السابق
[3] – המודיעין לא צפה את ההפיכה במצרים. (موقع N12 بتاريخ 30 / 1 / 2011).
https://www.mako.co.il/news-military/israel/Article-07e60b9d246dd21004.htm
[4] – יוסרי חיזראן & מחמד חלאילה: נטושה לדורלה, החברה הערבית בישראל בצל “האביב הערבי”. אוניברסיטת תל אביב, 2019 ص. 39.
[5] – יוני בן מנחם: התוניסיזיצה של המשטרים הערביים. (مدونة ِ Arab Expert بتاريخ 25 / 1 / 2011).
http://www.arabexpert.co.il/2011/01/blog-post_25.html
[6] – מדריך להפיכה במצרים, אהוד יערי: אסון אסטרטגי לישראל. (تجميع من موقع أخبار القناة الثانية العبرية بتاريخ 29 / 1 / 2011).
https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1000618974
[7] – יוני בן מנחם: תחילת העידן החחדש. (مدونة ِ Arab Expert بتاريخ 12 / 2 / 2011).
http://www.arabexpert.co.il/2011/02/blog-post_12.html
[8] – מצרים: דיווח מיוחד מלב המהומות. (تقرير إخباري للقناة الثانية العبرية “بعنوان: מצרים על סף הפיכה مصر على حافة انقلاب” بتاريخ 28 / 1 / 2011). https://www.mako.co.il/news-world/arab/Article-905fd1f6bddcd21004.htm
[9] – מדריך להפיכה במצרים, السابق
[10] – מצרים: דיווח מיוחד מלב המהומות. (تقرير إخباري للقناة الثانية العبرية “بعنوان: מצרים על סף הפיכה مصر على حافة انقلاب” بتاريخ 28 / 1 / 2011). https://www.mako.co.il/news-world/arab/Article-905fd1f6bddcd21004.htm
[11] – המודיעין לא צפה את ההפיכה במצרים. السابق
[12] – יוסרי חיזראן & מחמד חלאילה: ص. 41 – 42.
[13] – אלי פודה: אל תזלזלו בתוניסיה. (هآرتس 26 يناير 2011)
https://www.haaretz.co.il/opinions/1.1158864
[14] – סופו של משטר מובארק. (تقرير إخباري للقناة الثانية العبرية “بعنوان: מצרים על סף הפיכה مصر على حافة انقلاب” بتاريخ 28 / 1 / 2011). https://www.mako.co.il/news-specials/egypt/Article-0b4662ea38dcd21004.htm
[15] – יוסרי חיזראן & מחמד חלאילה: ص. 40 – 41.
[16] – יוני בן מנחם: האם הנשיא מובארכ ממשיך לשלוט מאחורי הקלעים?. (مدونة ِ Arab Expert بتاريخ 15 / 2 / 2011). http://www.arabexpert.co.il/2011/02/blog-post_15.html
وانظر كذلك لنفس الكاتب: מי יחולל את השינוי? (14 / 2 / 2011)
http://www.arabexpert.co.il/2011/02/blog-post_14.html
[17] – הושלמה ההפיכה במצרים. (موقع Israeldefense بتاريخ 3 / 7 / 2013).
https://www.israeldefense.co.il/he/content/%D7%94%D7%95%D7%A9%D7%9C%D7%9E%D7%94-%D7%94%D7%94%D7%A4%D7%99%D7%9B%D7%94-%D7%91%D7%9E%D7%A6%D7%A8%D7%99%D7%9D
[18] – יורם מיטל: הדחת מורסי והמאבק להשבת המהפכה המצרית למסלולה. (موقع معهد أبحاث الأمن القومي 7 يوليو 2013)
https://www.inss.org.il/he/publication/%D7%94%D7%93%D7%97%D7%AA-%D7%9E%D7%95%D7%A8%D7%A1%D7%99-%D7%95%D7%94%D7%9E%D7%90%D7%91%D7%A7-%D7%9C%D7%94%D7%A9%D7%91%D7%AA-%D7%94%D7%9E%D7%94%D7%A4%D7%9B%D7%94-%D7%94%D7%9E%D7%A6%D7%A8%D7%99%D7%AA/
[19] – אנשיל פפר: ארבע סיבות שבגללן ישראל עוד תתגעגע למורסי. (هآرتس 3 يوليو 2013)
https://www.haaretz.co.il/news/politics/.premium-1.2062807
[20] – עמוס הראל: ההפיכה במצרים חידשה את הרומן בין קהיר וירושלים. (هآرتس 7 سبتمبر 2013)
https://www.haaretz.co.il/news/politics/1.2114477
[21] – בועז ביסמוט: למצרים דרוש מובארק חדש. (يسرائيل هيوم 7 يوليو 2013)
https://www.israelhayom.co.il/article/99631
[22] – ירון פרידמן: המהפכה שלא הייתה במצרים. (يديعوت أحرونوت 23 سبتمبر 2019)
https://www.ynet.co.il/articles/0,7340,L-5594392,00.html