أسفرت نتيجة استطلاع الرأي الذي أجراه مركز المسار للدراسات الإنسانية، على موقعه عبر الإنترنت، بخصوص مستقبل الصراع في ليبيا، عن رؤية 47.8% من المشاركين في الاستفتاء أن التوتر العسكري متعدد الأطراف سيتصاعد داخل الأراضي الليبية، في حين رأى 28.2% أن الوضع سيؤول إلى تسوية سياسية بين مختلف الأطراف، ويتوقع ما يقرب من 13% استمرار الوضع الحالي كما هو عليه. كما يتنبأ 10.8% بأن صدامًا عسكريًا سيحدث بين مصر وتركيا.
يسعى هذا التقرير لقراءة نتائج استطلاع الرأي في ضوء ما هو منشور عن تداعيات الأزمة في ليبيا، وبما يؤيد الشواهد الداعمة لكل مسار من هذه المسارات، التي صوت عليها المشاركون في استطلاع الرأي.
أولاً: تصاعد التوتر في ليبيا.
هناك شواهد عدة تدعم هذا الخيار، أولها التدخل الروسي الداعم لقوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا مطلع الشهر الماضي نوفمبر/ تشرين الثاني؛ فقد كشفت النيويورك تايمز عن دخول نحو 200 مقاتل شبه نظامي روسي إلى ليبيا تابعيين لشركة فاغنر الروسية، وهو ما نفاه المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف لاحقا، كما كشفت بعض التقارير عن وجود قاعدتين عسكريتين روسيتين في ليبيا تدعم قوات حفتر، وكشفت القيادة الأمريكية العسكرية في أفريقيا “أفريكوم” عن وجود دفاعات أرضية روسية قامت بإسقاط طائرة أمريكية بدون طيار ديسمبر الجاري، كما ذكر تقرير للأمم المتحدة عن وجود مجموعات عسكرية روسية في ليبيا، في سعي من موسكو لتعظيم دورها داخل الأراضي الليبية.. ومن ناحية أخرى زادت التحركات الأمريكية الساعية إلى الضغط على قوات حفتر ومنعها من مواصلة هجماتها على طرابلس في تحرك مثير جاء بعد تخفيف أعداد “أفريكوم” في ليبيا في السابق، وقد عزا بعض المحللين هذا التحرك إلى انزعاج الدوائر الأمريكية من تعاظم الدور الروسي داخل ليبيا.
في نفس الوقت الذي تواترت فيه الأنباء عن أن الفريق محمد حمدان “حميدتي” أرسل نحو 1000 جندي سوداني من قوات الدعم السريع إلى ليبيا في يوليو / تموز الماضي لدعم قوات حفتر، كما جاء في التقرير الذي أعده فريق الخبراء التابع للجنة العقوبات الدولية المفروضة على ليبيا، وهو الذي أشارت إليه شبكة الجزيرة، وأعلنت أنها حصلت على نسخة منه، كما نقلت صحيفة الجارديان البريطانية مؤخرا انضمام مئات من المرتزقة السودانيين إلى قوات حفتر في الأشهر الأخيرة، حتى بلغ عدد السودانيين المقاتلين إلى جوار حفتر حوالي 3000 مقاتل بحسب الجريدة.
ومما زاد الأمرَ تعقيداً دخولُ تركيا ساحة الصراع الليبية بتوقيعها مذكرتي تفاهم أمني وبحري مشترك مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج. ومن بنود الاتفاقية أن ترسل تركيا قواتها إلى الأراضي الليبية في حال طلبت حكومة الوفاق دعمًا عسكريًا. وقد أثار الاتفاقُ حفيظة الجانب المصري، فأصدرت الخارجية المصرية بيانًا تشجب وتستنكر هذا الاتفاق.. إذن، تدخل عسكري روسي وسوداني لصالح حفتر مع دعم مصري سعودي إماراتي، وتحركات أمريكية واتفاق عسكري تركي – ليبي مع رفض مصري لهذا الاتفاق.. كل هذه المؤشرات قد تدعم تصاعد التوتر العسكري متعدد الأطراف داخل الأراضي الليبية في الفترة القادمة حال ثبات العوامل.
ثانياً: تسوية سياسية.
ضعيفة هي الشواهد التي تؤيد هذا المسار، حيث إن كلًّا من حكومة الوفاق، وقوات حفتر ، والداعمين لهما – أمريكا وتركيا لصالح حكومة الوفاق، وروسيا مع الثلاثي : المصري السعودي الإماراتي لصالح حفتر – لهم مصالح متعارضة لا يلوح لها حل في الأفق، فالتدخل الروسي الساعي إلى تعظيم نفوذه في ليبيا يزعج الإدارة الأمريكية، كما أن تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضد التدخل الروسي تنبئ عن تطورات سلبية في المشهد بين تركيا وروسيا، وكذلك الأهمية التي توليها الحكومة التركية لوجود قواتها على الأراضي الليبية.
فتركيا لن تتنازل عن دعمها لحكومة الوفاق نظراً لأن تركيا تسعى لإيجاد مصادر بديلة للطاقة بسبب محدودية موارد الطاقة لديها، وجدير بالملاحظة كذلك أن غالبية الاتفاقيات التركية – الروسية بخصوص الطاقة ستنتهي بحلول عامي 2021 و 2022، وتعد ليبيا المصدر الأقرب والأكثر ضمانًا لسد حاجاتها من البترول، إذ تنتج ليبيا أكثر من مليون برميل نفط يومياً.
كما أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية يضمن لتركيا نصيبًا من موارد الغاز الطبيعي تحت مياه البحر المتوسط، وبالنسبة لمصر فإنها تريد تأمين حدودها مع حليف مضمون مثل حفتر، كما أن المحور السعودي الإماراتي لن يسمح – كعادته – بصعود حكومة الوفاق الوطني المعبرة بشكل أو بآخر عن الثورة الليبية، وهو ما دأبت عليه السياسة الإماراتية بالتحديد في العقد المنصرم، فدائمًا ما تدعم قوى الثورات المضادة – المتمثلة في حفتر – ضد قوى الربيع العربي – المتمثلة في حكومة الوفاق…إذن، تدخل روسي وتحركات أمريكية مضادة، وتصريحات تركية ضد التدخلات الروسية، وخصومة دائمة بين المحور الثلاثي وتركيا، ورغبة مصرية في تأمين حدودها مع حليف قوي، ودعم عسكري ومادي وسياسي لقوات حفتر من قبل السعودية والإمارات.. كل هذه المؤشرات المتعارضة تجعل خيار التسوية السياسية مستبعدًا في الوقت الراهن حال ثبات العوامل الأخرى.
ثالثاً:استمرار الوضع الحالي.
يدعم هذا الطرحَ محدوديةُ التحركات الروسية حتى اللحظة، كما أنه من الممكن اعتبار التدخل الروسي المحدود – حتى اللحظة – داخل الأراضي الليبية ما هو إلا محاولة روسية لإيجاد موطئ قدم لها داخل ليبيا لتكون جزءًا من أي حل قادم، ويأتي هذا في إطار سياسة غض الطرف التي تتبعها الدول الأوروبية مع روسيا في تدخلاتها المتكررة في الشرق الأوسط.
ومن ناحية أخرى فالوجود التركي في مواجهة الوجود الروسي داخل ليبيا قد يجعل خيار المواجهة مستبعدًا بعض الشيء.. فالتوافقات التركية – الروسية في أعلى مستوياتها، بداية من التعاون في الشأن الروسي، وانتهاء بصفقات اس-400 التي استوردتها تركيا من سوريا وتسببت بكثير من التوترات مع الجانب الأمريكي، كما أن الحكومة التركية تلعب في سياستها الخارجية على توازن العلاقات بينها وبين روسيا من جهة، وبين أمريكا من جهة أخرى، فلن تغامر الحكومة التركية بأي تصعيد ضد روسيا بأي حال من الأحوال، كما أن روسيا كذلك لن تغامر بالتصعيد لأنها ستجد أمريكا في مواجهتها مباشرة ، كما أن التعاون الروسي – التركي بخصوص الداخل السوري يؤمن مصالح الطرفين… كل ما سبق يدعم فكرة بقاء الوضع كما هو عليه، لا تسوية شاملة، ولا حرب تصاعدية كاملة.
رابعا: صدام عسكري بين مصر وتركيا
بالرغم من الخصومة الدائمة بين النظامين المصري والتركي منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 في مصر، فإنه من المستبعد أن يغامر أي من الطرفين بالدخول في مواجهة عسكرية لن يجني الطرفان منها سوى الخسارة، كما أن الأوضاع الداخلية للبلدين لا تتحمل أي مغامرة من هذا النوع.. النظام التركي يواجه مصاعب اقتصادية ومنافسة سياسية داخلية شديدة، كما أنه مُحاط بالصراعات الإقليمية من جميع الجوانب، وما زال الوجود العسكري التركي قائمًا في سوريا، فلا يتوقع أن تُحَمل تركيا نفسها هذا العبء وتخوض معركة خارجية بهذا الحجم. كما أن النظام المصري كذلك غارق في مشاكله وأزماته الداخلية، بالإضافة إلى أزمة المياه الكبرى، التي تعكسها قضية سد النهضة، وهي التي يظهر فيها فشل النظام في التعامل معها يومًا بعد يوم.. كما أن المصالح الاقتصادية المشتركة بين البلدين تشهد تطورًا كبيرًا في السنوات الأخيرة، وهو ما يعني وعي الطرفين، لأن الخصومة السياسية لن تؤثر على مصالحهما المشتركة في المجالات الأخرى.