ترقب وحذر بعد مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية
ثمة مستجدات عدة شهدتها الساحة الليبية عقب إعلان الاتفاق التركي-الليبي في شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 2019، بترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط والتعاون الأمني والعسكري بين البلدين. كان الاتفاق بمثابة إلقاء صخرة في بحر راكد.
بمجرد الإعلان عن الاتفاق، بدأت الأطراف الدولية والإقليمية بالتململ من التحركات التركية، وانطلقت التصريحات والتحركات الداعية إلى “وقف أي تدخل خارجي في الشأن الليبي”، في حين أن التدخلات الخارجية لم تتوقف البتة منذ دخول اللواء المتقاعد خليفة حفتر على خط المواجهات في ليبيا منذ عام 2014.
في منتصف كانون الثاني / يناير 2020 كانت أولى الخطوات الجادة للوصول إلى تسوية سياسية بين الأطراف المتصارعة في ليبيا، مباحثات بين الطرفين التركي والروسي أسفرت عن محادثات بين طرفي الصراع تهدف إلى توقيع هدنة بين طرفي الصراع، إلا أن هذه المحادثات باءت بالفشل بعد مغادرة حفتر لموسكو دون التوقيع على الهدنة.
تلت هذه المباحثات زيارة وزير الخارجية الألماني هايكو ماكس لليبيا للقاء حفتر، والذي صرح بدوره بأن حفتر “وافق ضمنيًا” على الهدنة، أعقب ذلك مؤتمر برلين الساعي للبحث عن مخرج للأزمة الليبية، والذي كان قد تم الإعلان عنه في وقت سابق، وجرت وقائعه في 19 كانون الثاني/ يناير لعام 2020.
مؤتمر لأزمة ليبيا دون حضور الليبيين!
حضرت كل الأطراف المتداخلة في الشأن الليبي عدا طرفي الصراع الأصليين حفتر والسراج، حيث لم يستطع الوسطاء – حتى اللحظة – إحداث تقارب أو بناء أرضية مشتركة للحوار بين الطرفين، كما أن مؤتمر برلين هو الخطوة الأولى فقط، وليست الخطوة الأخيرة، مما يعني أن هناك جولاتٍ أخرى تحاول فيها القوى الفاعلة تقريب وجهات النظر بين الطرفين، وهذا بالفعل ما أُعلِن عنه في نهاية المؤتمر. حضر المؤتمرَ زعماءُ دول روسيا والصين والولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا ومصر والإمارات والكونغو والجزائر، إضافة إلى ممثلي الهيئات والمنظمات الدولية، فحضرت رئيسة المفوضية الأوروبية ممثلة للاتحاد الأوروبي، ومبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة، وكذلك مبعوثو الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي.
يُذكَر أن تونس أعلنت عدم مشاركتها في المؤتمر مُعللة ذلك بتأخر توجيه الدعوة إليها، مع أن حضورها كان من الأهمية بمكان، حيث إن الحدود التونسية-الليبية هي الأقرب إلى العاصمة الليبية طرابلس المحكومة من قبل حكومة الوفاق الوطني، وبالتالي فإن استقرار ليبيا هي مسألة أمن قومي بالنسبة لتونس حفاظًا على حدودها وأمنها القومي، كما أنها قادرة على دعم أو تقويض حكومة الوفاق – إن هي أرادت التدخل في الأزمة ودعم أحد الأطراف – باعتبار قربها من طرابلس معقل قوات حكومة السراج.
كما أن المغربَ انتقدت ألمانيا بسبب عدم دعوتها للمؤتمر، مُعْربةً عن عدم تفهمها للمعايير أو الدوافع التي يتم اختيار البلدان المشاركة على أساسها.
تنوعت دوافع المتداخلين في الشأن الليبي، فبين أطراف طامعة في موارد ليبيا النفطية، وأطراف متصارعة على النفوذ الإقليمي، وآخرين مهدَّدين بأزمة لاجئين إذا ما تحولت ليبيا إلى سوريا ثانية.
تجدر الإشارة إلى أن إعادة السلام في ليبيا، أو – على الأقل – عدم تفاقم الأوضاع باتت مسألة قومية لدى الأوروبيين، حيث إن تفاقم الأوضاع سيؤول في نهاية المطاف إلى تدفق اللاجئين إلى أوروبا، تلك القضية التي تعصف بوحدة الاتحاد الأوروبي والتي كانت عاملًا مهمًا في في انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي. حتى أن تركيا تستغل هذه القضية في خطابها بخصوص القضية الليبية، فأشارت الحكومة التركية غير مرة أن توتر الأوضاع في ليبيا سيفجر قضية اللاجئين في أوروبا مرة أخرى.
هدف المؤتمر الأوحد الذي عقد في المانيا حول الأزمة الليبية – حسب ما ذُكِر في بيانه الختامي – هو دعم مساعي الأمم المتحدة للوصول إلى حل سلمي للأزمة الليبية، كما ذكر البيانُ، أن أي حل عسكري في ليبيا غير ممكن.
بيان المؤتمر الختامي سَلّط الضوء على الخطوات الرامية إلى تحقيق السلام في ليبيا، فقد أكد البيانُ على دعم وحدة ليبيا واستقلال قرارها، كما اتفق المشاركون على وقف جميع التدخلات العسكرية الخارجية في الشأن الداخلي الليبي، وحظر بيع الأسلحة للأطراف الليبية.
كانت قضيةُ النفط حاضرةً كذلك في المؤتمر، فقد ذكر البيان الختامي ضرورة عدم المساس بالمنشآت النفطية، كما أن المشاركين اتفقوا في نقاشهم على أن المؤسسة الوطنية للنفط هي الكيان الوحيد المُخَوَّل له ببيع النفط الليبي، بحسب رويترز. جدير بالذكر أن موانئَ النفط أُغْلِقت عشية مؤتمر برلين من قبل القوات الموالية لحفتر، في خطوة يرى محللون أنها تهدف إلى الضغط على المشاركين في المؤتمر، حيث إن وقف تصدير النفط الليبي قد يؤدي إلى زيادة أسعار النفط العالمية. كما أن غلق الموانئ بشكل دائم سيؤثر بشكل كبير على حكومة السراج، حيث إن جُلَّ ميزانيتها معتمدة على عائدات النفط. وقد عَزَت هذه الخطوةُ بالسراج إلى المطالبة برد دولي على مسألة إغلاق النفط.
إذن، فإن المُخرَجَ الوحيد المؤثر على الأرض من المؤتمر – حتى وقت كتابة هذه السطور – هو اتفاق الأطراف الخارجية على وقف التدخلات العسكرية المباشرة وغير المباشرة في الداخل الليبي.
بينما لم يَجدَّ جديدٌ حتى اللحظة بخصوص الأطراف الليبية ذاتها، فما زالت الهُوَّةُ واسعةً بين طرفي الصراع، ووجهات النظر متباينةً بين الطرفين، كما ذكر وزيرا خارجية روسيا وألمانيا. كما أن الاتهامات المتبادلة بخرق الهدنة القائمة بوقف إطلاق النار تجعل الهدنة على حافة الخطر، فقد يتبدد السلام المؤقت في أي لحظة. تراشقات إعلامية مستمرة بين الطرفين، فالسراج يقول أن حفتر ليس مستعدًا للسلام، والأخير يتهمه بالخيانة ودعم الإرهاب والسعي لجلب احتلال خارجي للأراضي الليبية.
يدرك المشاركون في المؤتمر أن المشوار ما زال طويلًا لتحقيق سلام في ليبيا، فالعديد من الوزراء والمسئولين المشاركين أكدوا على أن المؤتمر ما هو إلا خطوة صغيرة لا بد أن يعقبها خطوات أخرى.
في خطوة لجمع طرفي الصراع على مائدة الحوار، أكد أمين عام الأمم المتحدة أنطونيوغوتيريش أنه يجري تنظيم لقاء يجمع قادة عسكريين من طرفي الصراع في ليبيا، وأن هناك قائمةً مقترحةً تضم 10 قادة عسكريين من الجانبين (5+5)، ويُتَوَقَّع أن يتم اللقاء خلال الأسبوع المقبل.
إلى حين إتمام هذا اللقاء، تبقى جميع الأطراف في حالة ترقب حذر، ويُنتظر إلى ما سيتمخض عن هذه المساعي الرامية إلى توقيع هدنة شاملة واتفاق على خارطة طريق تصل بليبيا إلى بر الأمان.
من المُرجَّح أن تفشل هذه المساعي في تحقيق سلام حقيقي دائم، حتى وإن بدا نجاحُها في بادئ الأمر، إلا أنها لن تلبث أن تعود إلى سيرتها الأولى، حيث إن العديد من القضايا الشائكة – التي كانت ولا زالت سببًا أساسيًا ودافعًا رئيسيًا للتدخلات في ليبيا – لا زالت على حالها لم تجد لها حلّا، بل إن المشاركين لم يتطرقوا لها على الإطلاق في المؤتمر.
فعلى سبيل المثال، قضية غاز شرق المتوسط المتنازع عليها من قبل مصر وتركيا واليونان، والتي تعد من الأسباب الرئيسية للتدخل التركي في ليبيا، كما أنها العامل الرئيسي المعزو إليه دعم اليونان لحفتر، فقد أعلنت أثينا قبيل المؤتمر أنها سترفض أي حل داخل الاتحاد الأوروبي لا يضمن إلغاء اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وحكومة السراج. وعلى الجانب الآخر، فإن تركيا كذلك لن تقبل بهضم حقوقها في محروقات شرق البحر المتوسط، بالإضافة إلى حاجتها الملحة لتدبير موارد بديلة للنفط، حيث إنها تستورد ما يقرب من 90% من احتياجاتها النفطية.
كما أن صراع النفوذ الممتد في الشرق الأوسط بين تركيا من جهة، والإمارات والسعودية ومصر من جهة أخرى، قادرٌ على إفشال أو تعطيل أي مساعٍ للحل. فالجبهة الثلاثية جنحت دومًا للحرب لا السلم، للعنف لا الحوار، واليمن ليس عنا ببعيد، وكذلك الحال في مصر، كان الخيار الحاضر حسمًا عسكريًا لا حوارًا مجتمعيًا ولا إجراءات ديمقراطية. السلاح، وفقط.
وبالتالي، فليس من المرجح أن يجنح حفتر المدعوم من قبل هذه الجبهة الثلاثية إلى سِلْمٍ دائم. وبالنسبة لتركيا، فبالإضافة إلى مصالحها في معركة غاز شرق البحر المتوسط، إلا أن تدخلها له بعد قيمي، يدعم الديمقراطية في المنطقة، فالقيادة التركية دومًا ما تقاربت وتآلفت مع الحكومات التي أعقبت الربيع العربي، وكانت ضدًا وندًا شرسًا للثورات المضادة، وقد صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أنه لن يسمح بتكرار ما حدث في مصر مرة أخرى في ليبيا، في إشارة إلى الانقلاب العسكري على الرئيس مرسي – رحمه الله – في الثالث من تموز/ يوليو لعام 2013، وفي تصريحه دلالة على البعد الأيديولوجي في الدعم المقدم من قبل الحكومة التركية لحكومة السراج.
كذلك، ليس من المرجح أن يتراجع أحد الأطراف الفاعلة عن موقفه، فجميع الأطراف أخذت موقفها بناء على تصورها ونظرتها لمصالحها، فالأطراف الداعمة لحفتر يرفعون لافتة محاربة الإرهاب، ففرنسا وإيطاليا الداعمتان لحفتر، وكذلك مصر والسعودية والإمارات، جميعهم متوافقون على رفع نفس اللافتة منذ قرابة العقد من الزمان.
فليس هناك جديد يدفعهم لأن يتنازلوا عن نهجهم الذي دأبوا عليه وبنوا سياساتهم عليه كل هذه السنوات. كذلك الحال بالنسبة لتركيا وقطر الداعمتين لقوات السراج، حيث تنظر تركيا وقطر لحفتر على أنه انقلابي، وأن داعميه هم داعمي الثورات المضادة.
بالطبع، لا ثبات في السياسة، وعدو الأمس صديق اليوم، وصديق اليوم عدو الغد. وفي عالم السياسة والعلاقات الدولية، لا مستحيل.
ولكن لا شيء – حتى اللحظة – يجبر أيًا من هذه الأطراف أن يتنازل عن موقفه للطرف الآخر. خصوصًا في ظل غموض موقف الولايات المتحدة من الصراع في ليبيا، فمع أن الولايات المتحدة تعلن دعمها واعترافها بحكومة السراج، إلا أن هناك غموضًا يشوب موقف الولايات المتحدة مذ وصل ترامب إلى سدة الحكم.
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يردع جميع الأطراف ويجعلهم يجنحون إلى تهدئة الصراع والعمل على بناء ليبيا قوية ديمقراطية هو التفكير الجاد في مصلحة ليبيا والليبيين، إلا أن التاريخ والواقع يُنبِئان أن الإنسان هو آخر ما تفكر فيه تلك الأطراف، وأن مصلحة بلدان الشرق الأوسط في ذيل اهتماماتهم، بل خارج اهتماماتهم من الأساس. وما سورية واليمن عنا ببعيد.