خطاب ترامب وتداعيات صفقة القرن
ظل مصطلح “صفقة القرن” مصطلحًا إعلاميًا غير معلوم ماهيته على وجه التحديد منذ نحو 3 سنوات، حتى تكشفت ملامح هذه الصفقة عقب مؤتمر عقده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الثلاثاء 28 كانون الثاني/ يناير لعام 2020 مع رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، والذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تفاصيل مبادرة السلام الأمريكية المعروفة إعلاميًا باسم “صفقة القرن”. صفقة بموجبها تُنقض كل المواثيق والقرارات الدولية التي تعترف للفلسطينيين بحقهم في إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود 1967 بما في ذلك القدس الشرقية.
فمبادرة ترامب – والتي وافق الكيان الصهيوني على بنودها – تقضي بأن القدس الموحدة الكاملة عاصمةٌ لإسرائيل، وتُعطي أطراف القدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية. تنزع المبادرة من الفلسطينيين نحو 40% من مساحة الأرض الفلسطينية المتفق عليها في 1967، هذه المساحة التي تعتبر بالأساس 22% فقط من الأراضي الفلسطينية التقليدية، حسبما ذكر محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية.
كما تسعى المبادرة إلى نزع السلاح من فصائل المقاومة المسلحة مثل الجهاد الإسلامي وحماس.
في مقابل تمويل الدولة الفلسطينية الناشئة بـ 50 مليار دولار، وتوظيف نحو مليون شاب، ومضاعفة الناتج المحلي الإجمالي.
ردود الأفعال…
تباينت ردود فعل الدول العربية والإسلامية حول ما جاء في المؤتمر.. حيث جاءت معظم ردود الفعل العربية والإسلامية مخيبةً للآمال، وكعادتها، ليست على مستوى الحدث، بل إن تصرف بعض الدول العربية كان بمثابة طعنة في ظهر الفلسطينيين.
حضر ممثلو عمان والبحرين والإمارات “الاحتفالية” – كما أسماها ترامب – المنعقدة في البيت الأبيض، في تأييد واضح لمساعي الإدارة الأمريكية لحل القضية الفلسطينية بهذه الكيفية، وشكرهم ترامب على حضورهم ودعمهم لمبادرته.
من ناحية أخرى، بدت مواقف بعض الدول العربية متذبذبةً غير واضحة، فمصر والسعودية ثَمَّنتا الجهود الأمريكية المبذولة من أجل التوصل إلى سلام شامل وعادل للقضية الفلسطينية، حسب قولهم. إلا أن كلا البلدين قد أشارا بشكل او بآخر إلى ضرورة مراعاة حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة. لكن البلدين لم يتطرقا مطلقًا إلى ماهية حدود هذه الدولة المستقلة. وبالتالي، يصح القول بأن البلدين لم يدعما – صراحةً – الحل الأمريكي، وفي نفس الوقت لم يَتَبَنَّيا كذلك موقف الشعب الفلسطيني.
كذلك كان موقف الجامعة العربية، فقد اعتبرت الجامعةُ – على لسان أمينها العام أحمد أبو الغيط – أن خطة ترامب تشير لإهدار كبير لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة.
بدت المواقف أكثر وضوحًا وجرأةً لدى القطريين والأردنيين واليمنيين، فقد ذكرت بيانات الدول الثلاث بشكل واضح أن السلام لا يمكن أن يكون مستدامًا إلا بضمان حق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته على حدود ١٩٦٧. وأن هذا الحق مكفول لهم بالقرارات والمعاهدات الدولية على مدار العقود الماضية.
كانت الوقفة الأبرز والأجرأ – من حيث لغة الخطاب – من نصيب الدولة التركية، فهي الدولة الوحيدة التي عارضت بشكل كامل الخطة الأمريكية ووصفتها بأنها “ولدت ميتة”، وأعلنت بأن الهدف من هذه الخطة هي الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وانها لن تسمح بأي خطوة تضفي الشرعية على “الاحتلال” الإسرائيلي، وذكرت الخارجية انها لن تدعم اي خطة لا تحظى بموافقة اشقائها الفلسطينيين، وان القدس خط احمر. في موقف شبيه هاجمت إيران ما أسمته بـ “مؤامرة ترامب” واعلنت استعدادها لنبذ اي فُرقة وخلاف مع دول الجوار في مقابل التعاون على إحباط المؤامرة الأمريكية، حسب قولها.
مع تلك البيانات شديدة اللهجة من قبل الحكومتين التركية والإيرانية، إلا أن إكراهات الواقع تفرض نفسها على افعال البلدين. فهما أمام العديد من المشاكل والأزمات الخارجية والداخلية، وقد تكون المهمة الصعبة أمام البلدين النجاح في إيجاد موقف إقليمي تجاه التوجه الأمريكي في صفقة القرن، وإن كانت كل من تركيا وإيران لا تحظى بدعم كبير من دول الجوار، إما بسبب الخصومات السياسية مع حكومة البلدين، أو بسبب الهيمنة الأمريكية على متخذي القرار في تلك البلدان.
الموقف الغربي والدولي
وتباينت كذلك ردود الأفعال الغربية والدولية على تفاصيل صفقة القرن..ومع أن الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والعديد من المنظمات والهيئات الدولية لم تبت في مواقفها بعد بخصوص الخطة الأمريكية، إلا أن الوقائع تشير إلى انعدام جدوى موافقتهم من عدمها، فليس من الصواب التعويل على مواقف هذه الهيىات بشكل كبير، فالموافقة او الرفض لن يغيرا من الواقع كثيرًا.
كذلك الحال بالنسبة لروسيا، فقد أعلنت عن طريق المتحدث باسم الكرملين دميترو بيسكوف أنها ما زالت تواصل دراسة وتحليل ما يسمى بـ “صفقة القرن”، كما أعلن أن الجانب الروسي سيلتقي الخميس 30 يناير 2020، مع بنيامين نتنياهو لنتلقى المعلومة من مصدرها.
لعب ترامب على وتر قوته وقدرته في خطابه، فذكر – متفاخرًا – أنه من نقل سفارة الولايات المتحدة للقدس – رغم اعتراض الكثيرين – وأنه من اعترف بالجولان أرضًا إسرائيلية، والأكبر – حسب قوله – أنه خرج من الاتفاق النووي الإيراني. جدير بالذكر أن الدول الأوروبية ( E3 ) كانت غير راضية عن خرق الاتفاق النووي مع إيران، وكانت مترددة بخصوص تفعيل آلية فض النزاعات التي قد تؤول في نهايتها إلى القضاء على الاتفاق النووي برمته، إلا أن الابتزاز الأمريكي – حسب وصف وزير الخارجية الألماني – والتهديد برفع الجمارك على بعض الواردات الأوروبية أجبرهم في النهاية على تفعيل آلية فض النزاعات. وهذا يدعم القول بأن الموافقة أو الاعتراض على الخطة الأمريكية لن يؤثر كثيرًا في المشهد.
وفي ظل هذه المحاولات من ترامب لاستمالة الناخبين، عارض العديد من الساسة الأمريكيين الخطة التي أعلنها ترامب، عارض المرشحان الرئاسيان بيرني ساندرز واليزابيث وارن هذه الصفقة قائلين أنها ليست خطة سلام، وإنما إقرار بالضم، كما أنها لا تقدم أي فرصة لدولة فلسطينية حقيقية، كما انتقد العديد من أعضاء الكونجرس هذه الخطوة باعتبار أن إطلاق خطة دون التفاوض مع الفلسطينيين ليس دبلوماسيًا، كما أنهم اعتبروه سلامًا مزيفًا.
الخلافات العربية – العربية
لا شك من أن تفرق الرفقاء يكسر شوكتهم ويضعف أثرهم، هذا ما يحدث تمامًا مع القضية الفلسطينية، فالخلافات السياسية لا شك لها أثرها الكبير على الداخل الفلسطيني والمحور الداعم له.
لعب ترامب على هذه النقطة كذلك، فقد ذكر أن النقطة المشتركة التي تجمعه مع جل القادة العرب هي نقطة استئصال الإرهاب، وقطع الدعم المادي عن الإرهابيين، في إشارة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية والقوى الإقليمية الداعمة لها. وهذه بلا شك قنبلة موقوتة في العلاقات العربية – العربية، فالرؤية الإماراتية السعودية بخصوص الإرهاب تتفق مع رؤية ترامب، وهي على النقيض تمامًا من الرؤية التركية القطرية الأردنية. كل هذا ينبئ عن استحالة التوافق العربي على موقف واحد بخصوص القضية الفلسطينية يقوي ظهرها ويدعم موقفها.
كذلك فإن الخلافات السياسية هي الفاعل الأبرز في الحصار المفروض على حركات المقاومة في قطاع غزة – بزعم انها إرهابية -، ولولا هذه الخلافات لما كان هذا الضعف في الإمكانات والإمدادات داخل القطاع.
محاولات عزل المقاومة
حاول ترامب أن يداعب الأحلام الفلسطينية بالحياة الكريمة والعيش المستقر، في محاولة لاجتذابهم إلى القبول بصفقة القرن، فذكر في خطابه أن الدولة الفلسطينية الجديدة سيتم تمويلها بنحو ٥٠ مليار دولار، كما أن الناتج المحلي الإجمالي سيتضاعف مرتين أو ثلاث مرات، علاوة على توفير مليون وظيفة خلال العشر سنوات المقبلة.
حاول ترامب أن يعزل المقاومة عن أفراد الشعب عن طريق تحميلهم المسئولية عن تدهور أوضاعهم المعيشية.
ظهر جليًا التمايز بين الخطاب الموجه للشعب الفلسطيني والخطاب الموجه للمقاومة المسلحة وداعميها، فمع التلطف والتودد للشعب، إلا أنه كان شديد اللهجة تجاه المقاومة التي سماها “إرهابية”. فقد ذكر أن الفلسطينيين يستحقون حياة أفضل من ذلك، ولكنهم يُستخدمون كبيادق – في إشارة إلى المقاومة -، وقد ذكر نصًا أنه إذا ما أراد الشعب الفلسطيني استغلال تلك الفرصة – التي ربما ستكون الأخيرة – في إنشاء دولتهم وتحقيق رفاهيتهم، فإن عليهم أن يتحملوا إيقاف الحركات الجهادية المسلحة مثل حركتي الجهاد الإسلامي وحماس وإيقاف خطاب الكراهية والعنف ضد الإسرائيليين، ونزع السلاح من تلك الحركات.
يحاول ترامب جاهدًا أن يوصل رسالة مفادها أن وجود المقاومة هو سبب شقاء الفلسطينيين وضنك معيشتهم، بغية ضرب المقاومة بالشعب.
مفارقة التوقيت
ليس غائبًا بالطبع الوضع السياسي للضلعين الرئيسين في الصفقة – ترامب ونتنياهو – فكلاهما مقبلان على انتخابات، كما أن كليهما يواجهان أزمة داخلية قد تعصف بوجودهما، فالأول كان الثلاثاء الموافق 21 يناير 2020، تدشين أولى جلسات محاكمته من قبل الكونجرس بهدف عزله، والأخير لم يبت الكنيست بعد في طلبه بالحصول على الحصانة في مواجهة الاتهامات بالفساد التي تلاحقه.
وبالتالي، كلاهما يسعيان إلى تخفيف الضغط الداخلي عليهما، كما يسعيان كذلك إلى إحراز أي انتصارات تدعم موقفهما في الانتخابات المقبلة.
ظهر ذلك بقوة في محاولات ترامب المتكررة الحطَّ من قدر المحاولات السابقة للرؤساء الأمريكيين لتسوية القضية الفلسطينية، ذاكرًا – بشل استعراضي – أنه قد انتُخب لإنجاز المسائل والقضايا الكبرى وليس للهرب منها، كما عدد انتصاراته في السياسة الخارجية بالقضاء على داعش وقتل زعيمها، وتقليم أظافر إيران عن طريق اغتيال واحد من أهم قادتها العسكريين ولم يستطع الإيرانيون الرد، علاوة على خروجه من الاتفاق النووي الإيراني “الفظيع”، وأخيرًا ها هو ينجز مهمة تسوية وحل الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الذي لم يستطع أحدٌ قبله إنجازَه.
…بناء على ماسبق
دفعت الأحداث الفصائل الفلسطينية جميعها إلى التغاضي عن خلافاتها السابقة والتوحد في موقف واحد رافض للمبادرة الأمريكية. فقد اجتمعت جميع الفصائل الفلسطينية – للمرة الأولى منذ وقت طويل – في اجتماع مساء الثلاثاء 28 يناير 2020، للتباحث حول كيفية مواجهة صفقة القرن.
من الملاحظ أنه لا صوت يعلو فوق صوت السياسة، فحتى كتابة هذه السطور، فإن جميع الخطابات والبيانات والتصريحات الصادرة عن قادة الفصائل الفلسطينية تشترك في لغتها الدبلوماسية السياسية الهادئة، الحريصة على تأكيد التزامها بالعمل تحت الأطر والقوانين الدولية، وأنهم لا يريدون سوى تنفيذ ما اتُّفق عليه في المحافل الدولية.
السيناريوهات المتوقعة..
يرى بعض المحللين أن صفقة القرن ولدت ميتة، وأنها غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع دون موافقة الفصائل الفلسطينية عليها، وأن ما يحدث الآن هو من باب المقامرات السياسية لا أكثر ولا أقل. إلا أن هذا الرأي لا شواهد عليه من الواقع، فالسياسة الأمريكية الحالية تتعامل بمبدأ الصدمة وفرض الأمر الواقع، فتعاملها مع إيران وداعش وغيرها يدلنا على أن هذه السحابة لن تمر مرور الكرام، وأن إدارة ترامب مصرة على إحراز تقدم حقيقي في القضية الفلسطينية عن طريق تقويض قدرات الفصائل المقاومة.
على النقيض من ذلك، تعلو أصوات يمينية متطرفة داخل الكيان الصهيوني ترفض حل الدولتين، وتقول أنه لا يجدر بنا أن نسمح بقيام دولة فلسطينية يحكمها العرب. وبالمناسبة، فهذا الرأي يتبناه وزير الدفاع والزعيم اليميني نفتالي بينيت. ولكن ذلك أيضًا مستبعد، فلا زالت المقاومة الفلسطينيةُ قائمةً على أصولها، فلن يكون اجتياح جميع الأراضي الفلسطينية بالأمر الهين أو اليسير على القوات الإسرائيلية، وسيكلفهم ذلك الكثير.
وبين هذا وذاك، يبرز رأي قائل بأن الأمر لن يخلو من مضايقات وتضييقات، بل وتقدم إسرائيلي كذلك، لكنه مع ذلك يستبعد أن تكون هذه المضايقاتُ حاسمةً في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. قد تكون هذه التقدمات عن طريق سيطرة إسرائيلية كاملة على المستوطنات الموجودة في الضفة الغربية. ويدعم هذه الفرضية وجود مباحثات في الفترة الأخيرة بهدف إصدار قرار بالسيطرة على المستوطنات داخل الضفة، وتتوارد أنباء عن عقد اجتماع لمجلس الوزراء برئاسة نتنياهو يوم الأحد القادم للبَتِّ في هذا القرار. في نفس الوقت، يعد هذا القرار – إن تَمّ – بمثابة مكسب سياسي يستخدمه نتنياهو في الانتخابات المقبلة، كما أن الكلفة لن تكون مرتفعة.
تبقى المقاومة أمام نقطة حرجة وتحد تاريخي، نظرًا لتشابك الخيوط وتعقدها، فمن ناحية لا بد من الحفاظ على لغتها الدبلوماسية والسياسية حتى لا تستعدي الجميع. ومن الناحية الأخرى، لا بد من الحفاظ على قوتها العسكرية، بل والسعي في زيادة قدراتها وكفاءتها حتى تبقى قوة الردع قائمةً وقادرةً على الإيلام حال مبادرة الآخر بالهجوم. فالعالم لا يعترف إلا بلغة القوة، ولا يفل الحديد إلا الحديد.