كورونا.. بين نظريات المؤامرة..وسيناريوهات المستقبل المفتوحة
وحدة البحوث
تقدمة
مع بدء ظهور فيروس كورونا (COVID-19) أو ما يسمى أيضًا باسم (SARS-COV-2) في ديسمبر/ كانون الأول الماضي بمقاطعة ووهان الصينية، تعالَتْ بعضُ الأصوات الراميةِ إلى أن الفيروس ما هو إلا مشهدٌ من مشاهد حرب بيولوجية تَشنُّها إحدى الدول أو الجهات ضد دول أو جهات أخرى، كان ذلك في بداية ظهور الأزمة، حيث كان الصينيون والإيرانيون والروس -ولا زالوا- هم المروجين الأساسيين لهذه الفرضية. ربما كان لهذه الرواية بعضٌ من وجاهة أو منطقية في بداية الأزمة، حيث كانت الدولتان الأكثر تضررًا من الفيروس آنذاك هما الصين وإيران، وهما من أكبر المتضررين من سياسات الولايات المتحدة على المستوى الدولي أو الإقليمي في الشرق الأوسط.
إلا أنه مع تغَيُّر خارطة انتشار الفيروس وأصبح المتضررون الرئيسيون من الفيروس دولًا أوروبيةً حليفةً للولايات المتحدة، أو يمكن القول أنهم -على الأقل- ليسو خصومًا لها في هذه الآونة، ثم بعد ذلك أصبحت الولاياتُ المتحدة نفسها هي الدولة الأولى من حيث عدد الإصابات بفيروس كورونا على مستوى العالم، والثالثة من حيث الوفيات بعد إيطاليا وإسبانيا. مع هذه التغيرات، تلاشت قليلًا تلك الأصوات التي روجت أن الولايات المتحدة استهدفت غريمها الدولي بفيروس كورونا، وبدأت نظرياتٌ أو فرضياتٌ أخرى تطفو على السطح، ففرضية تقول أن الصينَ هي من صَنَّعت هذا الفيروس وطورته في أحد معاملها في مقاطعة ووهان، وأخرى تزعم أنه صُنِّع في أحد المعامل في أفغانستان.
بين هذه وتلك، برزت فرضيةٌ أخرى مفادها أن الفيروس طبيعيٌ غيرُ مُصَنَّعٍ مِخْبَريًّا، ولكن الحكومات تُضَخِّم خطر الفيروس وتتخذ إجراءات استثنائية تفوق خطر الفيروس، وأن لها مآربَ أخرى من وراء هذا التضخيم المبالغ فيه، حسب هذه الفرضية.
تعددت المآرب التي ذكرها مروجو هذه الفرضيات، فبعضٌ يقول أن الهدف هو التخلص من العجزة وكبار السن لأنهم يمثلون عبئًا اقتصاديًّا كبيرًا على الحكومات، وآخرون يزعمون أن الهدَفَ هو تغيير النظام الاقتصادي العالمي، وتحويله إلى نظام اقتصادي أكثر شمولية وديكتاتورية، أقل حرية، أكثر فقرًا، تسيطر عليه نُظُم الذكاء الاصطناعي (Artificial intelligence)، والذين يستهدفون هذا التغييرَ مجموعاتٌ دينيةٌ واقتصاديةٌ عابرةٌ للدول والقارات وتسعى للسيطرة على العالم، حسب زعم قائلي هذه الفرضيات.
مما سبق يبدو أن نظريات المؤامرة أخذت أحد شكلين أساسيين: الشكل الأول هو أن الفيروس مُصَنَّعٌ مِخْبَريًّا ليساهم في حرب بيولوجية تقودها دولة ضد أخرى أو جهة عابرة للقارات ضد الشعوب، أما الثاني فوباء طبيعي، تضخمه بعضُ الدول والجهات لإنفاذ أجندات معينة ضد خصومها أو شعوبها.
تحاول هذه الورقةُ مناقشة هذه النظريات، والوصولَ إلى منظور راجح لحقيقة الفيروس -من وجهة نظرها، معتمدةً في ذلك على الحقائقِ العلمية المثبتة -حتى الآن، ومبتعدة -قدر الإمكان- عن البروباجاندا والشائعات الإعلامية المصاحبة لانتشار الفيروس، ومنصرفةً كذلك عن التخمينات أو النظريات الناتجة عن بُنَيَّات أفكار قائليها بدون أي رابط علمي أو منطقي سليم.
ويجدر الذكرُ كذلك أنه لا سبيلَ -حتى اللحظة- للجزم بالصحة المطلقة لفرضية أو نظرية ما، والسبيل الوحيد لترجيح تصور ما على تصور آخر هو الاعتماد على الحقائق المثبتة طبقًا للمعطيات الحالية حتى الآن.
فرضية التصنيع المخبري
أول أساس يعتمد عليه مروجو نظرية المؤامرة أن الفيروس هو مشهدٌ في حرب بيولوجية تقودها جهةٌ ضد أخرى، وأن الصين أو الولايات المتحدة قامتا بتخليق الفيروس في المختبرات لهدم صعود اقتصاد الدولة الأخرى أو لتقويض نظام الدولة المنافسة، بيد أن مروجي هذه النظرية لم يأتوا بأي دليل علمي على إمكانية تصنيع الفيروس من الأساس. بل على النقيض من ذلك، بالبحث في الدراسات أو الأبحاث العلمية التي تحدثت عن أصل الفيروس، وُجدَ أن الحقيقيةَ العلميةَ المثبتةَ حتى الآن هي صعوبة أو استحالة تصنيع الفيروس في المختبر، ففي دراسة أجراها الباحثون في مجلة Nature Medicine، خَلُصت الدراسة إلى أن “تحليلاتنا تظهر بوضوح تام أن SARS-COV-2 ليس فيروسًا يمكن بناؤه أو تحويره معمليًّا أو التلاعب به عن قصد”، وتوصل الباحثون في معمل أندرسن Andersen Lab إلى نفس النتيجة[1].
وفي نفس السياق انتقد معهد روبرت كوخ الألماني -وهو هيئة فدرالية مختصة بمكافحة الأمراض المعدية- العادات الغذائية في آسيا[2]، وعزا إلى تلك العادات انتشار فيروس كورونا المستجد، يعلل الدكتور يعقوب الأشهب، مدير المركز الفلسطيني الكوري لأبحاث التكنولوجيا الحيوية، هذه النتيجة بأن مقارنة سلسلة جينوم “كوفيد-19” تُظهِر أن أقرب أقرانه هي لفيروس كورونا تشبه فيروس سارس والتي عُزِلت من الخفافيش (SARS-like coronaviruses) مع وجود نسبة اختلاف تزيد على 10%، أي ما يزيد على 3000 حرف من مجموع سلسلة الجينوم، واللافت للانتباه أن هذه الاختلافات العديدة موزعة بشكل عشوائي تماما على طول الجينوم مما يعزز القناعة بأن فرضية التعديل الجيني المقصود غير واردة تماما، بل إنها شبه مستحيلة[3].
يبدو مما سبق أن العلماء يستبعدون تمامًا إمكانيةَ أن يتم تحوير أو تطوير الهندسة الجينية للفيروس في المعمل بشكل مقصود، وهذا بالضرورة يبطل الفرضية الأولى بأن هذا الفيروس جزء من حرب بيولوجية مقصودة تَشنها جهة ما ضد جهة أو جهات أخرى، سواء كانت هذه الجهة هي الصين أو الولايات المتحدة أو مجموعات عابرة للدول والقارات تسعى للتحكم والسيطرة وتغيير نظام العالم السياسي أو الاقتصادي.
بذلك نكون قد عالجنا المسألةَ من المنظور الطبي، إلا أن هناك عدةَ منظورات تستوجب أن نأخذها بعين الاعتبار، كون أن الأزمة سيكون لها أثرها على مناحي الحياة كافة، وبخاصة الحياة السياسية والاقتصادية في العالم أجمع.
رقمنة العالم
من أشهر منظري نظرية المؤامرة هو الكاتب الانجليزي والمقدم التلفزيوني السابق ديفيد آيك (David Icke)[4]، يعتمد آيك في تأطيره لنظرية المؤامرة حول أزمة كورونا أن هناك مجموعةٌ دينيةٌ سريةٌ أسماها (CULT) تسعى إلى السيطرة على العالم وإخضاعه والتحكم فيه عن طريق “الرقمنة”، أي تحويل العالم إلى عالم رقمي يُتحكم في تصوراته وتوجهاته واختياراته بأنظمة الذكاء الاصطناعي (Artificial intelligence)، عالم لا وجودَ فيه للنقود، وإنما التعامل بالعملات الرقمية، عالم لا وجود فيه للشركات المتوسطة والصغيرة، وحتى الكبيرة، إنما الوجود فيه فقط لتلك الشركات العملاقة التي تملك البيانات والمعلومات وأنظمة الذكاء الاصطناعي، ونتيجة ذلك هو عالم “أكثر شمولية، أقل حرية، أكثر فقرًا”.[5]
يزعم آيك أن الهدفَ من هذه الضجة حول أزمة كورونا هو تدمير هيكل النظام الاقتصادي العالمي الحالي، والتحول إلى النظام المذكور آنفًا، وأن الإجراءات التي تتخذها الحكومات للحد من انتشار الفيروس والسيطرة عليه ما هي إلا مبررٌ وغطاءٌ لتمرير الأهداف التي تسعى إليها هذه المجموعات، حيث إنها إجراءاتٌ مبالغٌ فيها لا تتناسب مع خطورة الفيروس الحقيقية، فالفيروس -كما هو معلوم- لا يمثل خطورةً حقيقيةً إلا على كبار السن وضعيفي المناعة، وبالتالي فليس هناك ما يدعو إلى أن يُدَمَّر النظام الاقتصادي العالمي بالكامل من أجل فيروس لا يمثل خطورةً إلا على هذه الفئة، ويقترح -لحماية هؤلاء- أن تُرَكَّز مجهودات الحكومات على هذه الفئة فقط عن طريق عزلهم وحجرهم وحيدين بعيدًا عن بقية أفراد المجتمع، وبذلك يُحافَظ على صحتهم ولا يُدَمَّر الاقتصادُ في نفس الوقت.
وبالنظر إلى هذه الفرضية قد تظهر فيها بعض الإشكالات؛ الأولى أن اقتراحَه الأخير بخصوص عزل وحجر كبار السن فقط دونًا عن بقية المجتمع، فهل من المنطقي أن تعزل بلدٌ كالولايات المتحدة نحو 53 مليون شخص تخطوا الخامسة والستين من عمرهم[6]، أو حجر نحو 14 مليون شخص في إيطاليا من نفس الفئة العمرية[7]؟
الإشكالية الثانية أن الدلائلَ المذكورة لا تدل بذاتها على وجود مؤامرة، بقدر ما تدل أن هناك فئاتٍ بعينها قد تستفيد -بحسن أو سوء نية- من الأزمة الحالية ويحققوا أهدافهم ومصالحهم، وهذا لا يصح أن يورَد -وحده- كبرهان على وجود المؤامرة، فسنة الحياة تقتضي أنه بمرور الأزمان والحوادث، تندثر صناعاتٍ وتنهض أخرى، وهذا لا يدل مطلقًا أن أصحابَ الصناعات الناهضة هم من أحدثوا أو دبروا الحوادثَ التي نهضوا إِثْرَها.. وعليه، فإن هذا الدليل لا بد أن تصاحبه أدلة أخرى حتى نستطيع الوصول إلى نتيجة مفادها أن هناك من تعمد تدبير هذه الأزمة. وهو ما لم يذكره الكاتبُ الإنجليزي أو أي ممن يروجون لهذه الفرضية.
بيد أن هذا لا ينفي كون هذه الفرضية قد تكون صحيحةً إذا ما نظرنا إليها من حيث مخرجات أو نتائج أزمة كورونا، فلا شك أن الإقبالَ المتزايدَ على تسيير كثير من الأعمال عن بعد والاتجاه نحو وسائل التواصل الرقمية سيكون له أثره فيما بعد الأزمة.
التخلص من كبار السن
على غرار الفرضية السابقة التي ترى أن الحكومات تبالغ في إجراءاتها وردود أفعالها للحد من انتشار كورونا، كذلك يرى الطبيب والكاتب الإنجليزي فيرنون كولمان(Vernon Coleman)[8] أن الإجراءات الحكومية الدولية مبالغٌ فيها، وأن الهدفَ من هذه المبالغة هو التخلص من كبار السن لأنهم أصبحوا عبئًا اقتصاديًّا ثقيلًا على كاهل الحكومات، ويعتمد كولمان في طرحه عل التهوين من خطورة فيروس كورونا عن طريق تشبيهه بالانفلونزا العادية، وأنه لا فرق بينهما كبير[9].
ينبغي ابتداء أن نتساءل عن مدى خطورة الفيروس المستجد، وما إذا كان مماثلًا أو مقاربًا لخطورة لآثار الانفلونزا العادية أم لا.
قبل أي شيء، فإن مقارنةَ المجهول بالمعلوم يجعل المقارنةَ عسيرةً بعض الشيء، بل قد يجعلها مستحيلةً حال غياب معظم المعلومات، فالانفلونزا العادية معلومةٌ منذ عشرات السنين، فطبقًا لمنظمة الصحة العالمية، تصيب الانفلونزا سنويًّا من ثلاثة إلى خمسة ملايين إنسان، واستُخدت لقاحاتٌ مأمونةٌ وناجعة منذ أكثر من 60 عامًا، وبحسب المنظمة فإن وفيات الانفلونزا تقدر بنحو 200,000 – 500,000 سنويًّا، أي بنسبة 1% من إجمالي المصابين[10]، أي أنه فيروس معروف وله لقاحاته وعلاجاته التي تستخدمها منظوماتُ الصحة حول العالم لتحد من مخاطره، وكذلك معلومة تبعاته على كافة الأصعدة الاقتصادية والسياسية.
بينما على الجانب الآخر فيروس مجهول غيرُ معلوم ماهيته، ولا تبعاته، ولا تطوراته، وليس له أي لقاح أو مصل حتى الآن، حتى طرق الوقاية منه لم تكن معلومةً بداية اكتشافه في نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي، حتى أن خطرَه ومدى تأثيره غير معروف حتى الآن، فمن حيث النسب المئوية، الصين التي بدأت منها الأزمة بلغت نسبة الوفيات فيها 4.07% من إجمالي الإصابات، وبلغت نسبة الشفاء نحو 94%، في الوقت الذي كانت نسبة الوفيات في إيران 6.2%، والشفاء نحو 61%، لم تكن هذه هي النسبة الأعظم، فوصلت نسبة الوفيات في إيطاليا نحو 13%، وفي إسبانيا إلى 10.2%، هذه التباينات في الأرقام بالتأكيد تجعل طبيعةَ خطورة الفيروس المستجد مجهولةً لدى متخذي القرار، بل وزيادة في الحيرة، حتى نهاية شهر مارس/ آذار، كان يُضرب المثل بألمانيا، فبالرغم من أنها كانت آنذاك تحتل المركز الرابع من حيث عدد الإصابات في العالم إلا أن نسبة الوفيات كانت منخفضة للغاية (0.5%)، إلا أنه بعد مرور نحو أسبوعين فقط، تضاعفت هذه النسبة نحو خمسة أضعاف، فتبلغ نسبة الوفيات الآن (12 ابريل 2020) نحو 2.3%. (كل الأرقام الواردة مستخرجة من موقع worldometer)[11]. هذا التباين الضخم في نسبة الوفيات (0.5% – 13%) يجعل التنبؤ بمدى خطورة الفيروس شبه مستحيل. هذا من حيث النسب.
وبالنظر إلى الأرقام والأعداد، فلن تتأثر الحيرةُ إلا زيادة فيها، ففي مطلع فبراير بلغ عدد الحالات المكتشف إصابتها بفيروس كورونا نحو 12,000 حالة حول العالم، وبنهاية الشهر تضاعف الرقم سبعة أضعاف، وبحلول ختام شهر مارس/ آذاربلغ عدد المصابين نحو750,000 مصاب حول العالم، وبمرور نحو ثلث شهر إبريل بلغ عدد المصابين نحو مليون و800 ألف مصاب حول العالم، ( كل الأرقام الواردة مستخرجة من موقع Statista)[12]،أي أنه خلال شهرين فقط تضاعفت الإصابات نحو 150 مرة.
هذا التباين الضخم بين نسب الوفيات، وكذلك التضاعف المهول خلال فترة زمنية قصيرة في أعداد الإصابات، يجعل التحديد الدقيق لمدى خطورة الفيروس على البشرية أمرًا عسيرًا. ويجعل المقارنةَ بينه وبين الفيروس أمرًا أقرب للخيال منه إلى الواقع. وعليه، فكورونا المستجد ليس هو الإنفلونزا العادية على الإطلاق، على الأقل تبقى هذه النتيجة صحيحةَ إلى حين انحسار انتشار الفيروس المستجد، أو اكتشاف مصل أو لقاح له. وبالتالي، فإن التهوينَ الذي اتبعه كولمان لا يعبر عن خطورة الفيروس الحقيقية، يكفي تخيل ما إذا استمر تضاعفُ انتشار الفيروس كما هو الحال في الشهرين الماضيين.
ومن حيث العبء الاقتصادي الذي يمثله كبار السن على كاهل الاقتصاد الحكومي، فلا شك أن المعاشات التقاعدية تمثل نسبة كبيرة من نفقات الحكومات، خاصة دول الاتحاد الأوروبي، حيث يبلغ الإنفاق على المعاشات في إيطاليا، وهي الدولة الثانية على مستوى العالم من حيث الإنفاق الحكومي على المعاشات التقاعدية، نحو 16.2% من الناتج المحلي الإجمالي (GDP)[13] البالغ نحو 2 تريليون دولار في 2019[14]، أي أن الحكومة الإيطالية تنفق نحو 320 مليار دولار سنويًّا على المعاشات التقاعدية يستفيد منها نحو 14 مليون شخص[15]. إلا أنه وبالنظر إلى الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي ستخلفها أزمة كورونا على مستوى العالم أجمع، وبخاصة الاقتصادية، فإن خسائر كورونا ستكون أكبر بكثير من هذه الأرقام التي تُنفق على كبار السن. كما أننا لو أخذنا نفس المثال (إيطاليا) ذات الـ 14 مليون شخص من كبار السن ويحصلون على معاشات، وعلى افتراض أن الحكومات تتعمد قتل كبار السن كما يدعي كولمان ورفاقه، فهل ستقتل كورونا هذا العددَ الكبير من المسنين أو نصفَه أو حتى مليون واحد، حتى نستطيع أن نقول أن الحكومات ستتخلص بهذا الفيروس من عبء كبار السن؟
وعليه، بالرغم من أن كبار السن يمثلون عبئًا اقتصاديًّا على بعض الحكومات، إلا أن إثباتَ هذا لا يعني على الإطلاق أن الدول ستتخلص منهم عن طريق الكورونا، ولم يأت مروجو هذه الفرضية بأي دليل كذلك على صحة فرضيتهم من الناحية المنطقية أو العلمية.
ماذا بعد كورونا؟
سواء كانت الأزمةُ مُدَبَّرةً أم غير مدبرة، فإن هذا لن يغير من حقيقة الأزمة شيئًا، وأن تبعاتِها باتت آكدةَ الحدوث، هذه التبعات ستلقي بظلالها على العالمِ كلِّه كما ضرب الفيروس العالمَ كلَّه، الأثر الأكبر الذي سيضرب العالمَ سيكون من الناحية الاقتصادية والسياسية أكثر من أثره من الناحية الصحية.
عمقُ هذا التغيير معتمدٌ بشكل كبير على المدة التي ستستطيع فيها المنظومةُ الصحيةُ العالمية السيطرةَ على المرض، كما سيعتمد كذلك على كفاءة أو عدم كفاءة الدول في مواجهة الأزمة. فكلما كانت المدةُ التي سيُسيطَر فيها على المرض أقل، كلما كان تعافي النظام العالمي من آثار كورونا أسهل وأقرب، والعكس صحيح. وحيثما ستكون الإدارةُ الأقدرُ والأنجح في السيطرة على الأزمة سيكون التغيرُ لصالحها، فإن استطاعت الولاياتُ المتحدةُ إدارةَ الأزمة بشكل فعال فإنها ستتمكن من الحفاظ على موقعها ومكانتها في قيادة العالم، وإذا ما أخفقت الولايات المتحدةُ ونجحت الصين أو روسيا، فإن كفةَ المصلحة والاستفادة ستؤول في نهايتها إلى الشرق. نعم، من المستبعد أن تنتقل القيادةُ إلى الشرق بشكل كامل، إلا أن الدفَّة ستميل قليلًا لصالحه.
بيد أن هناك تغييراتٍ أوليةً بدأت تتكشف ملامحها حتى اللحظة، وهي حادثةٌ سواء طال أمدُ الوباء أم قَصُر.
لا شك أن شكلَ النظامِ الاقتصاديِّ بعد كورونا سيتباين عمَّا كان عليه قبل كورونا. فوفقًا للواقع الحالي الذي استطاعت فيه دولٌ كالصين وكوريا الجنوبية أن تسيطر على تفشي المرض، وانهار النظامُ الصحيُّ وتخبط في الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا، فإن ذلك سيؤدي بلا شك إلى فقدان الثقة في النظام الاقتصادي العالمي الحالي، سواء كان ذلك على مستوى الشعوب أو حتى على مستوى الحكومات، كما ستتجه الدولُ إلى محاولة الانكفاء على ذاتها لتحاول الاكتفاءَ الذاتيَّ والتعافي من آثار الأزمة، وهذا سيقودُ بالطبع إلى ضعف التجارة العالمية، وقد بدأت بوادر هذا الضعف في الظهور، حيث توقعت منظمة التجارة العالمية تراجع التجارة الدولية هذا العام بنسبة تتراوح بين 13-32%[16]. ولأن سلاسل التوريد والإمداد تعطلت بشكل كبير بسبب أزمة كورونا، وهو ما سبب أزمة في السلع المستهلكة عند بعض البلدان، فإن كثيرًا من الحكومات وأصحاب الشركات سيعيدون التفكير في سلاسل التوريد والإنتاج، وسيبحثون عن آليَّة لتقصير هذه السلسلة قدر الإمكان حتى يسهل الوصولُ إليها والتحكم بها حال حدوث أزمة مستقبلية مشابهة، وسيؤدي تقريب سلاسل التوريد من الدولة إلى الحماية بشكل أكبر من الاضطرابات في المستقبل، حتى وإن تسبب ذلك في تخفيض أرباح الشركات على المدى القريب والمتوسط، إلا أن ذلك سيجعل النظامَ الاقتصاديَّ أكثر مرونةً من ذي قبل.
كما أن تباطؤ التوريد والتصنيع قد يكون سمةً بارزةً على المدى القريب والمتوسط بعد الأزمة، وذلك سيكون نتيجةً لبطء الاستهلاك الذي نتج عن ضعف القوة الشرائية للمواطنين بسبب عزلهم في بيوتهم وتسريح أعداد ضخمة من وظائفهم. وبهذا قد تنهار الكثير من الشركات الصغيرة والمتوسطة.
ورغبةً في الاحتراز من تكرار أزمة مشابهة في المستقبل تؤدي إلى تعطل الإنتاج، فإن الاتجاه العالميَّ بعد كورونا سيكون مُتَّجهًا صوب “الأتمتة”، أي التشغيل الآلي للمصانع والآلات وعمليات الإنتاج، علاوةَ على أن زيادةَ الثقة في التكنولوجيا سيؤدي إلى سياسات “الرقمنة” والعمل من البيت، وهو ما سيؤول في النهاية إلى اندثار العديد من الوظائف وتسريح الملايين ونقلهم من دائرة العمالة إلى البطالة.
كما أن العديد من المصانع والشركات ستحاول تخفيض ساعات العمل لموظفيها، أو بالأحرى تسريح العديد من الموظفين لديها والإبقاء على الحد الأدنى من العمالة في مواقعها، وقد قدرت منظمة العمل الدولية أن ساعات العمل ستنخفض في الربع الثاني من عام 2020 بنسبة 6.7%، وهو ما يعادل دوامًا كاملًا لنحو 195 مليون، مما يعني أن هذا التخفيضَ في ساعات العمل (تسريح العمالة) يهدد نحو 600 مليون إنسان على الأقل (بحساب أسر المتضررين) حول العالم. هذا بالإضافة إلى أن الإجراءات الحالية من حظر كامل أو جزئي أثرت على 2.7 مليار عامل (81% من القوى العاملة حول العالم)، وأن العمال الأكثر تضررًا هم أولئك العمال غير المحميين والأكثر ضعفًا في منظومات الاقتصاد غير الرسمي. صندوق النقد الدولي توقع كذلك أن تداعيات الأزمة الحالية ستكون أشد من تداعيات الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، كما توقعت مديرة الصندوق، كريستالينا جورجييفا، أن تشهد أكثر من 170 دولة حول العالم تراجعًا في دخل الفرد هذا العام[17].
يُتوقَّع أن يطول التغييرُ المنظومةَ التعليميةَ العالميةَ كذلك، فبعد تجربة العشرات من البلدان لآلية التعليم عن بعد، واكتساب المنظومات التعليمية الخبرةَ اللازمة لإدارة المنظومة الكترونيًّا، قد يتولد اتجاه في العديد من البلدان لتعزيز هذه الآلية في المستقبل، وقد يشكل ذلك فرصةً جيدةً للعديد من البلدان النامية التي يشكل بناءُ المدارس وإقامة الصروح التعليمية عبئًا ثقيلًا لا تقوى على حمله اقتصادياتُ تلك البلدان الفقيرة.
يتوقع الخبراءُ الاقتصاديون تذبذبًا في سعر الدولار في ظل اهتزاز الثقة بالنظام الرأسمالي، حيث سيبحث الناسُ عن ملاذ آمن يحفظون فيه أموالهم بعيدًا عن العملة الأمريكية، كما أن ذلك سيتيح الفرصةَ لبعض الدول -كالصين وروسيا- في أن تحاول الفكاكَ والتخلص من قبضة الدولار كعملة عالمية.
على الناحية السياسية فإن الوباءَ سيغير من الشكل السياسي للعالم، سواء كان التغييرُ داخليًّا في كل بلد على حدة، أو في السياسات الخارجية بين الدول بعضها بعضًا.
سيتمخض الوباءُ عن تعزيز فكرة القومية وتقوية الدولة التي ستتعامل بكفاءة مع الأزمة وتداعياتها، كما أننا سنشهد تصاعدًا للتيارات القومية والشعبويَّة في البلدان الأوروبية، وهو ما سيؤثر على السياسات الخارجية الداخلية لهذه البلدان، فسيتم التركيز على الأوضاع الداخلية بدلًا من الاستغراق في السياسات الخارجية، كما سيزيد التركيز على الاستثمار في المنظومة الصحية لتطويرها وجعلها أكثر كفاءة وفاعلية.
أما التغير الأكبر فسيكون من حيث موازين القوى الدولية الكبرى، فمن المرجح أن تسفر أزمة كورونا عن خلخلة للقبضة الأمريكية على السياسات العالمية، وهذا سيكون في حال فشلت أمريكا في قيادة العالم خلال الأزمة، بالإضافة إلى أن هَلْهَلَةً ستحدث في بنية الاتحاد الأوروبي، وقد ظهرت بوادرها خلال الأزمة بتصريحات بعض المسؤولين أو بتوجهات شعبوية أن الاتحادَ خذل أعضاءه، ومن المتوقع حدوث تقارب كبير بين السياستين الصينية والروسية، هذه الخلخلة الأمريكية والهلهلة الأوروبية والتوحد الروسي الصيني، سيجعل من الممكن أن يخترق المعسكرُ الصينيُّ الروسيُّ الاتحادَ الأوروبيَّ وانتهاجَ سياسةٍ تقاربيةٍ مع بعض أعضاء الاتحاد، وهو بالتأكيد ما سيمثل تغيرًا كبيرًا في الموازين الدولية وفي الصراع الجيوستراتيجي بين دول الشرق من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى.
الخلاصة..
تعددت تفسيرات ونظريات المؤامرة المصاحبة لظهور أزمة كورونا، إلا أنّ جميعها -فيما وصلت إليه الورقة- لم تأتِ بدليل علمي كامل موثوق على صحة فرضياتها، بل كل الأبحاث والأوراق العلمية أثبتت صعوبة أو استحالة تصنيع الفيروس مخبريًّا.
بل ظهر أن معظم الأدلة تخلط بين نتائج محتملة أو متوقعة إثر انتهاء الأزمة وبين أسباب فعلية أدت لظهور الفيروس. فاستفادة بعض الجهات أو الصناعات من حدثٍ ما لا يعني بالضرورة أن المستفيدين هم من أحدثوه. فقد يكون الأطباءُ أولَ المستفيدين بعد كورونا، إلا أن ذلك لا يعني على الإطلاق أنهم من صنعوا الفيروس.
العالم بعد كورونا يتجه نحو تغيير في البِنَى السياسية والاقتصادية للنظام العالمي، عمق هذا التغيير معتمد على طول أمد الأزمة أوقصرها، كما أنه يعتمد كذلك على كفاءة الدول أو عدم كفاءتها في التعامل مع الأزمة وتداعياتها.
العالم قد يتجه بعد كورونا نحو الرقمنة والأتمتة، نحو سيطرة أكبر وتداخل أعمق للتكنولوجيا في حياة البشرية، وهو ما يعني أن العالمَ -بشكل كبير- سيكون بين راحَتيْ أولئك الذين يمسكون بتلابيب شركات التكنولوجيا العملاقة. فبيانات العالم كلها ستكون بين يدي أصحاب تلك الشركات، ومسارات توجيه العالم وتغيير التوجهات والقناعات سيكون كذلك في قبضتهم.
قد تحدث تغييرات في سلاسل التوريد والإنتاج التي تبدأ في معظمها من الصين.
ومن حيث التغييرات السياسية، فيتوقع حدوث صعود سياسي نسبي للمعسكر الشرقي بقيادة روسيا والصين، واختراق وهلهلة في الاتحاد الأوروبي، كما أن الثقة ستهتز في الولايات المتحدة والنظام الرأسمالي وقدرته على قيادة العالم.
وهو ما يعني أنه على الشعوب والحكومات والحركات والهيئات والمنظمات أن تدرس وتترقب هذا التغييرَ المحتمل في وجه العالم، حتى تستطيع أن تحقق أكبر المكاسب والمصالح الممكنة عقب هذه الأزمة، وكذلك حتى تستطيع تفادي الخسائر المتوقع حدوثها.
الهوامش
[1] Kristian G. Andersen, Andrew Rambaut, W. Ian Lipkin, Edward C. Holmes & Robert F. Garry. “The proximal origin of SARS-CoV-2”, Nature Medicine, 16th March 2020.
[2] الجزيرة نت، هيئة علمية ألمانية: ثقافة الأكل في آسيا ساهمت في انتشار كورونا، 30 مارس 2020.
[3] د. يعقوب الأشهب، ما هو مصدر فيروس كورونا؟، موقع ميدان.
[5] https://www.youtube.com/watch?v=gMTZu6_TjU8
[6] https://www.statista.com/statistics/457822/share-of-old-age-population-in-the-total-us-population/
[7] https://www.statista.com/statistics/785104/elderly-population-in-italy/
[9] https://www.youtube.com/watch?v=N2wRhoMJdBw&t=615s
[10] منظمة الصحة العالمية
https://www.who.int/ar/news-room/fact-sheets/detail/influenza-(seasonal)
[11] https://www.worldometers.info/coronavirus/
[12] https://www.statista.com/statistics/1103040/cumulative-coronavirus-covid19-cases-number-worldwide-by-day/
[13] https://data.oecd.org/socialexp/pension-spending.htm
[14] https://countryeconomy.com/gdp/italy
[15] https://www.statista.com/statistics/785104/elderly-population-in-italy/
[16] الجزيرة نت، منظمة التجارة العالمية تتوقع تراجع التجارة بنسبة 32%، 8 إبريل 2020.
[17] BBC عربي، فيروس كورونا: التداعيات الاقتصادية ستكون “أسوأ من أزمة الكساد الكبير”، 10 إبريل 2020.
https://www.bbc.com/arabic/business-52238160