المحتويات |
---|
مقدمة |
المبحث الأول: الحوكمة ومكافحة الفساد.. تعريفات نظرية |
المبحث الثاني: دور الحوكمة في مكافحة الفساد |
المبحث الثالث: أبرز مظاهر الفساد السياسي في العالم العربي |
خاتمة |
مقدمة
رغم قلة الكتابات العربية حول موضوع الحوكمة، إلا أن واقعنا العربي في حاجة إلى مزيد من الدراسات والبحث حول هذا الموضوع، نظرًا لما تعانيه أنظمتنا العربية من فساد مستشر في جسدها. ورغم إن الحوكمة تضع آليات واضحة يمكن قياسها لتخليص الأنظمة من الفساد، مستعينة بالديمقراطية، وحرية الرأي، والمساواة، والعدالة، والشفافية، والمحاسبة، وكل هذه القيم التي تستخلص منها الحوكمة آليات ووسائل تمكن منتهجيها من الوصول إلى منظومة الحكم الرشيد، إلا أن تبني هذه القيم تأخر في دولنا وزاد الفساد بصوره المتعددة من رشوة ومحسوبية، وواسطة، وإهدار للمال العام، وغياب الرقابة والمساءلة وسيادة القانون.
وعلاوة على ذلك، فقد ازدادت نسب الفساد في العشر سنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، خاصة في ظل الأنظمة المستبدة التي أتت معظمها عن طريق القوة والنفوذ، أو التي حملها الفساد حملًا إلى السلطة.
وتحاول هذه الدراسة أن تسلط الضوء على مفهومين يمثلان ركيزتين مهمتين في تكوين تصور مبدئي عن بناء أنظمة سياسية رشيدة في المنطقة، ألا وهما الحوكمة ومكافحة الفساد. وتستعرض الدراسة أهم تجليات الفساد في منطقتنا العربية، وآليات الحوكمة في الحد منه، ودور المنظمات الدولية في مكافحته، مع تحليل لمؤشر مدركات الفساد لعام 2022 والذي تصدره منظمة الشفافية الدولية.
المبحث الأول: الحوكمة ومكافحة الفساد.. تعريفات نظرية
أولًا: الحوكمة:
الحوكمة في المفهوم اللغوي:
كلمة “الحوكمة” مشتقة من الفعل حكم، يحكم، حكمًا، ويقال إن الشخص حكيم أي أنه صار حكيمًا، وأن أفعاله وأقواله تصدر عن رؤية ورأى سديد، وحكم الشيء يعني منعه من الفساد. [1]
وظهرت الحوكمة بمسميات عديدة كالحكم، أو الحاكمية، أو الحوكمة، والحكم الرشيد. ورغم اختلاف مسمياتها إلا أن المضمون واحد. وهي أن الحوكمة تعني إدارة قائمة على النزاهة، والشفافية، والمساءلة، والمحاسبة، ومكافحة الفساد، وتحقيق العدالة دون تمييز، وتطبيق القانون على الجميع مع توفير رقابة داخلية وخارجية.[2]
الحوكمة في الاصطلاح:
وتعني “الحوكمة” في الاصطلاح الممارسة الرشيدة لسلطات الإدارة من خلال الارتكاز على قوانين ومعايير وقواعد منظمة.[3]
كما قام عدد من المنظمات الدولية بتقديم تعريف للحوكمة منها:
أولًا: الأمم المتحدة:
إذ قدمت الأمم المتحدة ثمانية عناصر أساسية للحوكمة الرشيدة وهي:
- المشاركة في اتخاذ القرارات
- لتوافق بين الجهات المشاركة في إدارة شؤون الدولة
- المساءلة.
- الشفافية
- الاستجابة لمتطلبات الناس
- الفعالية والكفاءة
- الإنصاف والشمول
- سيادة القانون.[4]
ثانيًا: برنامج قياس جودة الحكم Worldwide Governance Indicator:
اعتمد برنامج قياس جودة الحكم التابع للبنك الدولي ستة عناصر للحوكمة الرشيدة هي:
- السيطرة على الفساد،
- فعالية الحكومة
- الاستقرار السياسي
- جودة التشريعات وتطبيقها
- سيادة القانون
- المشاركة والمساءلة. [5]
وفي تقرير الأمم المتحدة عن التنمية في الشرق الأوسط. أشار التقرير إلى أن هناك قيمتين أساسيتين للحكم الراشد هما: المساواة والشفافية.[6]
ثالثًا: البنك الدولي
أما البنك الدولي، فقد ربط بين الإدارة الرشيدة لموارد الدولة وديمقراطية الحكم، وعرَّف البنك الدولي الحكم السيئ على أنه شخصنة السلطة، وعدم احترام حقوق الإنسان، واستشراء الفساد، ووجود حكومات غير منتخبة وغير ممثلة للشعوب.
وقد عرف أيضًا الحكم الجيد على أنه الطريقة التي يتم من خلالها ممارسة السلطة في إدارة الموارد الاقتصادية والاجتماعية للدولة.[7]
ثانيًا: مكافحة الفساد:
الفساد في المفهوم اللغوي:
الفساد في اللغة العربية هو المصدر من فسد، فسادًا، وفسودًا، وفسد ضد صلح، والفساد هو البطلان، فيقال فسد الشيء أي بطل واضمحل. ويقول ابن منظور في لسان العرب في باب فسد: الفساد هو نقيض الصلح، وتفاسد القوم أي تدابروا وقطعوا الأرحام.[8]
الفساد في نظر الشريعة الإسلامية:
ولقد ورد لفظ الفساد ومشتقاته في القرآن الكريم فى ٥٠ موضعًا، وكان مقرونًا بالإساءة والتدمير والتخريب والإتلاف في الأرض عامة. حيث أشارت العديد من الآيات إلى جملة من المفاسد بعينها كالشرك، وإتلاف الزرع والثمار، وإهلاك النسل، ونقض عهد الله، ونهب الأموال، وإلحاق الضرر بالبيئة، والغش في الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم.
والفساد هو مرادف للبطلان عند الإمام الشافعي. وهو أيضًا: الانحراف عن الطريق المستقيم بما يتنافى مع الديانات السماوية ومبادئ الأخلاق السوية، وضده الإصلاح.[9] [10]
الفساد في الاصطلاح:
أما التعريف الاصطلاحي للفساد، فعلى الرغم من تعدد التعريفات الخاصة به، إلا أن هناك اتفاقًا على أن الفساد هو الحصول على منفعة شخصية، من الوظيفة العامة، التي هي مرتكز الفساد.
تعريف بعض المنظمات الدولية للفساد
تعريف البنك الدولي: هو إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، كما يمكن للفساد أن يحدث عن طريق استعمال الوظيفة العامة دون اللجوء إلى الرشوة، ويكون ذلك بتعيين الأقارب، أو سرقة أموال الدولة مباشرة.
بينما يعرّف الفساد كل من صندوق النقد الدولي، والبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، ومنظمة الشفافية الدولية، بتعريفات متشابهة إلى حد بعيد، حيث إن مرده عندهم إلى “إساءة استخدام السلطة لتحقيق مكاسب خاصة”.[11]
- صور الفساد:
يمكن تصنيف الفساد وفق مجموعة من المعايير والمتغيرات لعل أهمها:
- حسب طبيعته:
يصنف إلى سياسي، اقتصادي، إداري، اجتماعي، بيروقراطي، ثقافي، أخلاقي، بيئي…
- حسب درجة خطورته:
يصنف إلى فساد كبير وفساد صغير.
- حسب امتداده ونطاقه الجغرافي:
يتفرع إلى فساد وطني محلي، وفساد إقليمي، وفساد عالمي.
- من حيث الانتظام والاتساق:
هناك الفساد المنظم، والفساد غير المنظم.
- – حسب درجة ارتباطه بنظم الحكم:
هناك فساد القمة: وهو فساد القيادة السياسية، أو ما يطلق عليه الفساد الرئاسي. ويشمل هذا النوع من الفساد ذروة الهرم السياسي، إذ ينصرف إلى فساد الرؤساء والملوك وبطانتهم، وهو من أخطر صور الفساد.
وهناك الفساد المؤسسي: وهو فساد بعض أعضاء السلطات الثلاث (التشريعية التنفيذية والقضائية)، أو فساد السلطات الثلاث برمتها. فهو فساد المراتب التي تلي القمة من حيث الترتيب في هياكل سلطات الدولة.[12]
المبحث الثاني: دور الحوكمة في مكافحة الفساد
دائمًا ما يطلق على الفساد أنه مقبرة الدول. ورغم أن الفساد ظاهرة قديمة، لكنها زادت مؤخرًا، وانتشرت في كل دول العالم، وخاصة عالمنا العربي. ويرجع ذلك لأسباب عدة يأتي على رأسها: وجود أنظمة سلطوية وقمعية غيبت الحريات وقزمت دور المواطن، وجعلت الدولة ملكية خاصة لها.
آليات الحوكمة في مكافحة الفساد
تحاول الحوكمة البحث عن آليات ناجعة لعلاج الأمراض التي تصيب الأنظمة، حتى تتمكن تلك الأنظمة من تطويق الفساد، مما يعود على الدولة والمواطنين بالفوائد المتعددة، ومن هذه الآليات:
- تطوير البنية التشريعية لمكافحة الفساد من خلال السعي لـ: إصدار التشريعات والقوانين التي تنص على العقوبات الرادعة لأي ظاهرة من ظواهر الفساد، وتفعيل القوانين التي تحمي الشهود والمبلغين عن أي جرائم فساد في الدولة، والاهتمام بوضع قوانين تنظم العمل الأهلي والقائمين عليه، وإنشاء الكيانات والهيئات والمنظمات المعنية بالرقابة الادارية والمالية، والمساءلة ومكافحة الفساد على جميع المستويات، وإنشاء اتفاقيات وتعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية التي تختص بمكافحة الفساد.[13]
- العمل على تطوير الجهاز الحكومي وجعله جهازًا كفؤًا وفعالًا من خلال: جعل الجهاز الحكومي قادر على تقديم الخدمات العامة بجودة عالية، وتحسين الخدمات المقدمة للجمهور، والسعي لتقليل نسب الفقر، وتحقيق التوزيع العادل للموارد.
- جعل الجهاز الإداري متطورًا من خلال: بناء منظومات لتبادل المعلومات، ومحاولة ميكنة ورقمنة الخدمات الحكومية، لتسهيل الإجراءات، ولخلق قواعد بيانات ومعلومات تسهل الوصول لأي ثغرة قد تسبب ظاهرة فساد.
- إرساء مبادئ الشفافية في المؤسسات الحكومية من خلال: تعزيز مبدأ الوضوح الإداري داخل المنظمات والأجهزة الحكومية، بمعنى أن تكشف المنظمة عن كل الإجراءات والعمليات الإدارية التي تقوم بها، وتوضيح الأسباب الإدارية والقانونية التي تؤدي لاتخاذ قرارات معينة مثل التعيين والترقية والنقل.
- تعزيز مبادئ المساءلة في المؤسسات الحكومية من خلال: تعزيز الحكومات لمبدأ المساءلة، وحق المواطن، ومنظمات المجتمع المدني في مساءلة الحكومة ومؤسساتها وأجهزتها، وذلك عن طريق وضع نهج يعتمد على المراقبة والمحاسبة والمشاركة المدنية.[14]
- تعزيز دور المجتمع المدني في التصدي للفساد: يجب على المجتمع المدني أن يكثر من التغطية الإعلامية والدبلوماسية لحالات الفساد، لأن أنظمة الحكم تهتم بعرض صورة طيبة عن نفسها، محليًا وعالميًا. كما يجب عليها إبراز نماذج إيجابية عن الجهود المبذولة لمكافحة الفساد.
- استقلال الأجهزة الرقابية: رغم أهمية الأجهزة الرقابية في كشف الفساد إلا أن نجاح هذه الهيئات مرهون باستقلالها السياسي، وبدعمها بالكوادر والموارد المناسبة للتعامل مع ما يشكّل في الغالب أعدادًا ضخمة من الحالات المتقدمة في الفساد. [15]
- تطوير دور المنظمات الدولية في مكافحة الفساد: ينبغي على المنظمات الدولية واللاعبين الدوليين مواصلة الضغط على القادة لاستئصال الفساد، حتى بطرائق بسيطة. فقد أصبح الفساد ظاهرة دولية تمس كل الدول، وأصبح يشكل مخاطر على استقرار المجتمعات وأمنها، ولذلك تهتم العديد من المنظمات بمكافحة الفساد وعلى رأس هذه المنظمات:
هيئة الأمم المتحدة:
تغطي اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي اعتمدتها الجمعية العامة في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2003 (القرار رقم 58 – 04)، ودخلت حيز التنفيذ 14 ديسمبر/ كانون الثاني 2005، العديد من أشكال الفساد المختلفة، مثل: الرشوة، والمتاجرة بالنفوذ، وإساءة استغلال الوظائف، ومختلف أفعال الفساد في القطاع الخاص.
ومن أبرز ما يميز الاتفاقية هو إدراج فصل خاص بشأن استرداد الموجودات، والهدف هو إعادة الموجودات إلى أصحابها الشرعيين، بما في ذلك البلدان التي أخذت منها بطريقة غير مشروعة.[16]
منظمة الشفافية الدولية:
نشأت منظمة الشفافية الدولية عام 1993، مقرها برلين، وتُعتبر من أكثر المنظمات الدولية غير الحكومية نشاطًا وفعالية في مجال مكافحة الفساد في العالم. وأكدت المنظمة على عدة مبادئ لمحاربة الفساد، خاصة في الدول النامية.
المنظمة العالمية للبرلمانيين ضد الفساد:
تأسست هذه المنظمة في مؤتمر برلماني دولي عقد في كندا، في أكتوبر/ تشرين الأول 2002، وهي منظمة معنية بتعزيز مبادئ المساءلة والنزاهة والشفافية. وقد توسعت لتضم أكثر من 250 برلماني من 72 بلد. وتقوم المنظمة بدور التنسيق العالمي بين مختلف البرلمانيين، وتعمل فروعها الإقليمية على تفعيل قدرة البرلمانيين في مواجهة قضايا الفساد. [17]
البنك الدولي:
تبنى البنك الدولي منذ عام 1996 خطة لمساعدة الدول من أجل مكافحة الفساد ومحاصرته، تتضمن هذه الخطة ثلاثة عناصر، هي:
أولًا: تشخيص ظاهرة الفساد وأسبابها وعواقبها.
ثانيًا: إدخال إصلاحات على أنظمة الدولة من النواحي التشريعية والإدارية والاقتصادية.
ثالثًا: إشراك المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام في مكافحة الفساد.[18]
منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية:
وهي منظمة دولية قامت بدور قيادي من الناحية الدولية في مكافحة الرشوة والفساد منذ عام 1989.[19]
المبحث الثالث: أبرز مظاهر الفساد السياسي في العالم العربي
إن الآليات التي اتبعت في تسلم السلطة في معظم الدول العربية، لم تكن خيارًا ديمقراطيًا يضفي شرعية حقيقية على النظام، سواء ما يتعلق بالنظام الملكي الوراثي، الذي يتولى فيه الملك وأعوانه سلطات تشريعية وتنفيذية وإشرافية واسعة، أو الحكم الجمهوري، الذي قام على أساس حكم الحزب الواحد، المستمد من قوة القبيلة، أو الطائفة، أو العائلة أو الأيدولوجية السياسية، أو المستمد من التحالف مع النخبة العسكرية والأمنية.
وعند النظر إلى المدة الزمنية الطويلة لحكم دولة من قبل رئيس واحد أو حزب واحد أو قائد عسكري واحد، يمكن الاستنتاج بأن هذه الأنظمة اعتمدت وسائل ومقومات متشابهة لضمان بقائها. تقوم هذه الوسائل على التحكم في القرارات المهمة، والسيطرة على مواقع اتخاذ القرار في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وأجهزة الرقابة الرسمية.
كما تنشئ هذه الأنظمة مؤسسات مجتمع مدني موالية لها لاحتواء العمل والنشاط المدني، وتسطير على أجهزة الإعلام، وتستخدم في ذلك وسائل متنوعة، كمنح الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتعزيز ظاهرة الزبائنية والمحسوبية القائمة على أساس العائلية والطائفية وشراء الولاءات.
وبالأخص ولاءات مسؤولي الأجهزة الأمنية، التي توسعت الأنظمة في تأسيسها، وبأسماء مختلفة، وضمنت لها امتيازات استثنائية. ويمكننا أن نقترب من واقع سلطات وأدوات الدولة لنرى كم المحاولات الممنهجة التي نفذتها الأنظمة العربية لتضمن بقائها في السلطة.
واقع السلطة التنفيذية:
- السيطرة على السلطات في النظم العربية بديلًا عن الفصل بين السلطات:
حيث هيمنت السلطة التنفيذية على باقي السلطات، ما أدى إلى احتكار السلطة والتفرد في اتخاذ القرار، واختطاف الدولة ومواردها. وحال ذلك دون وجود توازن أو توزيع للسلطة بين سلطات النظام السياسي الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، حيث توغلت السلطة التنفيذية عليهما.
- اعتماد مبدأ أن رأس السلطة فوق السلطات جميعًا أفرغ مبدأ الفصل بين السلطات من مضمونه.
- غياب مبدأ الشفافية وضعف نظم المساءلة أتاح الفرص للمتنفذين للسيطرة على الثروة بجانب السلطة.
- عدم اعتماد مبدأ إفصاح المسؤولين عن ممتلكاتهم عزز من قدرتهم على الانتفاع من السلطة، وأتاح لهم التجارة بالنفوذ.
- المعلومات والسجلات العامة محتكرة من قبل المسؤولين، وممنوعة عن العامة.
- السيطرة على عملية اتخاذ القرار في تعيينات كبار المسؤولين، وغياب إجراءات شفافة ونزيهة في تعيينهم، شكّل قاسمًا مشتركًا في غالبية الدول العربية مما أدى إلى انتشار المحسوبية.
- استخدام قوانين الطوارئ كأداة بيد الطبقة الحاكمة، للهروب من احترام سيادة القانون.
واقع السلطة التشريعية:
إن عملية الاحتواء التي شملت البرلمانات سهلت سن تشريعات للمحافظة على بقاء الأنظمة، ووجهت الموازنات لخدمة مصالحها، وحاصرت المعارضين وقزمت دور البرلمانات في الرقابة والمحاسبة.
واقع السلطة القضائية:
- تضعف السلطة التنفيذية استقلالية القضاة، وذلك بالتحكم في تعيينهم وترقيتهم وانتدابهم أو إحالتهم إلى التقاعد.
- استخدام جهاز النيابة العامة في معظم الدول العربية كأداة مباشرة في يد المسؤول الأول، حيث يُستخدم لتعزيز نفوذ النخب الحاكمة وحمايتها من المساءلة وتسهيل الإفلات من العقاب.
- المحاكم الاستثنائية أضعفت من دور القضاء العادي وغيبت العدالة في تطبيق القانون.
نزاهة الانتخابات العامة:
إحكام السيطرة على نتائج الانتخابات العامة، حيث صممت النخب الحاكمة الأنظمة الانتخابية لتمنحها القدرة على التحكم المسبق في نتائج الانتخابات وشكل البرلمان.
إدارة الممتلكات والأموال العامة:
- إدارة الممتلكات والأموال العامة لصالح النظام السياسي الحاكم وأعوانه، والتصرف في إدارة الأموال والممتلكات العامة باعتبارها ملكًا للحاكم وليس للدولة.
- عدم وجود منظومة رقابة فاعلة على إنفاق المال العام شكل مدخلًا لنهبه.
- استخدام أو تخصيص أراضي الدولة أو بيعها لصالح شركاء أو وكلاء النظام أو توزيعها على الموالين.
مؤسسات أجهزة الرقابة العامة وأجهزتها:
- الإصرار على تبعية مؤسسات أجهزة الرقابة العامة للسلطة التنفيذية يعزز حصانة المسؤولين من المحاسبة.
- تبعية أجهزة الرقابة ومسؤوليها لسلطة الحاكم أفرغها من دورها في مكافحة الفساد.
واقع الجيش والمؤسسة الأمنية:
- أصبحت أولويات المؤسسات الأمنية متمثلة في الدفاع عن النظام ورجاله، بحيث تكرست سياسة زيادة أعداد الأجهزة الأمنية وأنواعها، وتوفير الامتيازات لمسؤوليها على حساب تراجع الأدوار الأساسية لها، مع تراجع مبدأ سيادة القانون.
الأحزاب السياسية:
- تقييد حرية تشكيل الأحزاب السياسية، و أضحت السياسة حكر على الموالين للسلطة والمقربين منها.
- معظم الدول العربية سمحت بالعمل الحزبي في إطار شروط تقييدية أفرغت العمل الحزبي والسياسي من مضمونه.
المنظمات الأهلية:
- تقييد دور المنظمات الأهلية، وإضعاف سياسة تحجيم ومحاصرة العمل الأهلي، واحتواء قياداته وتخفيف موارده المالية أضعف المساءلة المجتمعية.
الإعلام:
- استخدام الإعلام الرسمي للترويج للنظام وسياساته ورموزه أضعف من دوره التوعوي والرقابي.[20]
العالم العربي والجهود المحدودة في مواجهة الفساد
ومن الجدير بالذكر أنه وبرغم تراجع أولوية مواجهة الفساد لدى الأنظمة العربية بشكل عام، إلا أنه كان هناك بعض الخطوات العربية المحدودة المعلنة في مواجهة الفساد، ومن أمثلة ذلك ما يرجع إلى اتفاقية التعاون العربية، التي أقرتها جامعة الدول العربية عام 1983، من أجل تعزيز التعاون بين الدول العربية، في تبادل المعلومات والخبرات، والمساعدة القضائية في مجال مكافحة والرشوة.
وكذا بعض الاتفاقية الأمنية بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي، مثل ما تم الاتفاقية التي أقرت عام 1995، لمكافحة الجريمة بين هذه الدول من خلال تبادل المعلومات والخبرات وتسليم المجرمين.[21]
العالم العربي ومؤشر مدركات الفساد:
مؤشر مدركات الفساد هو تقرير سنوي تصدره منظمة الشفافية الدولية، ومنذ إنشائه في عام 1995، أصبح “مؤشر مُدرَكات الفساد” المؤشر العالمي الرائد لفساد القطاع العام.
ويُسجِّل المؤشر النتائج لـ 180 بلدًا وإقليمًا حول العالم وفق مُدرَكات الفساد في القطاع العام، باستخدام بيانات من 13 مصدرًا خارجيًا، بما في ذلك البنك الدولي، والمنتدى الاقتصادي العالمي، والشركات الخاصة للاستشارات وحساب المخاطر، والمجمعات الفكرية وغيرها.
وتمثّل درجات المؤشر آراء الخبراء ورجال الأعمال. ولاعتماد إضافة أي دولة على المؤشر يشترط توفر 3 من المصادر المعتمدة على الأقل، وتمنح الدرجة من صفر إلى 100، حيث صفر يعني الأكثر فسادًا و100 الأكثر نزاهة.[22]
ويقيس مؤشر مدركات الفساد أنواعًا معينة من الفساد على مستوى الدول، منها: الرشوة، وتحويل الأموال العامة إلى غير مقاصدها الأصلية، واستعمال المسؤولين للمنصب العام لتحقيق المكاسب الخاصة دون مواجهة العواقب، ومدى قدرة الحكومات على احتواء الفساد في القطاع العام، والبيروقراطية المفرطة في القطاع العام التي قد تزيد من فرص حدوث الفساد.
هذا فضلًا عن استعمال الواسطة في التعيينات في الخدمة المدنية، ووجود القوانين التي تضمن قيام المسؤولين العامين بالإفصاح عن أموالهم، واحتمال وجود تنازع في المصالح، والحماية القانونية للأشخاص الذين يبلغون عن حالات الرشوة والفساد، واستيلاء أصحاب المصالح الضيقة علي الدولة،[23] وحرية الوصول إلى المعلومات المتصلة بالشؤون العامة والأنشطة الحكومية.[24]
قراءة في مؤشر مدركات الفساد في دول العالم العربي في عام 2022:
تذيلت الدول العربية قائمة الدول في مؤشر مدركات الفساد. وحين نعرج على مستوى الدول العربية في المؤشر نجد الأمر مقلقًا لأن الفساد يطغى عليها إلا ما قل، بدليل أن معدل النزاهة فيها لا يزيد على (34) درجة من (100)، وهذا يقل كثيرًا عن المعدل العالمي للنزاهة وهو (43) من (100).
وإذن، فلا غرابة في أن تحتل ثماني دول عربية ذيل القائمة؛ بسبب توغل الفساد وسيطرته على مفاصل الدول الثماني. وهي: لبنان والعراق والسودان وجزر القمر وليبيا واليمن وسوريا والصومال، حيث إن معدل النزاهة فيها يراوح بين ( 12 و23) درجة من (100). [25]
فيما احتلت الإمارات الصدارة عربيًا بإجمالي 67 درجة في مؤشر “مُدركات الفساد لعام 2022″، بينما جاءت في المرتبة 27 عالميًا، تلتها قطر بـ 58 درجة، والأردن (47)، والبحرين وعُمان، بواقع 44 درجة لكل منهما، كآخر دولتين فوق المتوسط العالمي.
وحلت مصر في المرتبة 130 عالميًا، مسجلة 30 درجة، وهذا تراجع بـ 3 درجات عن العام قبل الماضي 2021.
وجاءت في ذيل القائمة كل من: جنوب السودان (13)، وسوريا (13)، والصومال (12)، واليمن (16)، وكلها دول متورطة في صراعات طويلة الأمد.[26]
تعليق منظمة الشفافية العالمية على التقرير:
علقت منظمة الشفافية الدولية على أوضاع الفساد في العالم العربي، منبهة لمخاطره، وداعية لإصلاح المنظومة السياسية في البلاد العربية، وكانت هذه أبرز تعليقاتها:
- وجود علاقة متينة بين مسألة حقوق الإنسان والديمقراطية، وازدياد الفساد في الدول التي تتعرض فيها الحريات العامة، وعلى الأخص حرية الرأي والتعبير لمزيد من الضغوط.
- إن الصرف وميزانيات الأمن والعسكرة في الدول العربية يفسح المجال لإنفاق الأموال دون مراقبة من الجمهور. وفي منطقةٍ بها هذا الكمّ من النزاعات، تُعدّ مثل هذه الميزانيات كبيرة، ما يوفّر مكاسب ضخمة للجهات الفاسدة. وبذلك تُصنّف غالبية البلدان على أنها “عالية المخاطر جدًا”، حتى البلدان التي لا تنخرط في صراعات عسكرية.
- هناك “حاجة ماسة للإصلاح بشكل عام”، ووقف دائرة العنف والفساد، ويجب على القادة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا السير عكس اتجاه الاستبداد وفتح المجال للجميع للمشاركة في صنع القرار.
- يجب أن توجد مؤسساتٌ للدولة لمكافحة الفساد وتقديم الدعم لمن هم في أمسّ الحاجة له، بدلًا من استنزاف الموارد العامة لتوطيد سلطة النخبة القليلة.
- يجب أن يكون انخفاض مؤشر مُدرَكات الفساد هذا العام بمثابة دعوةٍ للاستيقاظ لإجراء إصلاحات عاجلة وحماية الحقوق والحريات الأساسية في جميع أنحاء المنطقة”. فقد كان متوسط للدول العربية التقييم أدنى بصورة كبيرة من المتوسط العالمي، بواقع 33 درجة فقط، متأثرًا بدول؛ الصومال، وسوريا، واليمن، وليبيا، وجزر القمر، وجميعها تحت مستوى 20 درجة. [27]
خاتمة
يبدو أن الطريق أمام القضاء على الفساد في العالم العربي طويل، حيث لا تتوافر الإرادة السياسية للتخلص منه أو مكافحته. فأنظمة الحكم العربية والتي اعتلت سدة الحكم بطرق غير ديمقراطية، مضطرة لسداد استحقاقات الفساد حتى تحافظ على بقائها، وذلك بسيطرة رأس الحكم على السلطات الثلاث، وحصر المناصب الهامة في الدولة على الموالين له، وتقزيم دور المجتمع المدني، والتحكم في نتائج الانتخابات ووسائل الإعلام، والتنكيل بالمعارضين، وزيادة نفوذ الأجهزة الأمنية وغيرها من الوسائل التي ربما لا تستطيع الكثير من الأنظمة العربية ضمان بقائها، بدون هذه الإجراءات التي تصب جميعها في صالح الفساد.
وهذا بدوره يؤثر على الأوضاع السياسية والاقتصادية والمجتمعية، حيث يضطر المواطن العربي لدفع فاتورة الفساد، فتزداد معدلات البطالة والفقر، وتتراجع التنمية، والخدمات العامة من صحة وتعليم، ويزداد بؤس وشقاء المواطن العربي، كلما زاد حجم الفساد ووصل إلى قمة هرم السلطة.
ويبقى التعويل على البحث عن مسارات بديلة لمواجهة الفساد، و نشر الوعي لدى النخب السياسية بآليات الحوكمة وأهميتها، وتعميق الوعي الشعبي بذلك، والسعي لتكثيف وجود منصات إعلامية غير حكومية، وضغط المنظمات الدولية واللاعبين الدوليين المهتمين بهذا الملف، وغيرها من البدائل التي يصعب على أنظمة الحكم ملاحقتها واحتوائها.
المصادر
[1] عاطف محمد أبو هربيد ، الحوكمة في المؤسسات المالية الإسلامية ودور هيئات الرقابة الشرعية في تعزيزها ، جامعة اليرموك الأردن – كلية االقتصاد والعلوم الإدارية ، https://cutt.us/kXXRw
[2]عادل بن أحمد الشلفان، دور الحوكمة والشفافية في الحد من الفساد الإداري، المجلة العربية للإدارة، https://cutt.us/Znenp
[3] أثر تطبيق الحوكمة على تعزيز أهداف التنمية المستدامة: دراسة تحليلية مقارنة بين التجربتين (الماليزية والمصرية) 2015 – 2022 ، المركز الديمقراطي العربي ،27 يوليو / تموز 2022 ، https://democraticac.de/?p=83580#_ftn23
[4] United Nations Economic and Social Commission for Asia and the Pacific(UNESCAP) (2009). What is Governance?Retrieved 022011/10/ from. https://cutt.us/3U2RO
[5] الطريق الصعب لاستئناف العلاقات المصرية الإيرانية ،ستراتيجيوس،27 مارس / ازار 2023، https://cutt.us/MPuCm
[6] موقع البنك الدولي ، https://cutt.us/8jGvW
[7] مفاهيم وسياسات الحوكمة في الادبيات العربية والغربية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، https://cutt.us/xCOUO
[8] ابن منظور ، لسان العرب ، المكتبة الشاملة ، https://shamela.ws/book/1687
[9] عاطف محمد أبو هربيد ، الحوكمة في المؤسسات المالية اإلسالمية ودور هيئات الرقابة الشرعية في تعزيزها ، جامعة اليرموك الأردن – كلية االقتصاد والعلوم الإدارية ، https://cutt.us/kXXRw
[10] كريمة بقدي ،الفساد السياسي وأثره على الاسنقرار في شمال افريقيا ، رسالة ماجستير ، https://cutt.us/K6ie3
[11] سامية بابوري ،الإصلاح السياسي والحوكمة الرشيدة: دراسة في العلاقة والمضامين ،جامعة قسنطينة الجزائر، https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/120/10/19/78049
[12] شريف جمال الدين نوفل، الحوكمة وآلياتها في محاربة الفساد ، المدرسة الوطنية العليا للاحصاء والاقتصاد التطبيقي enssea جامعة الجزائر، https://www.enssea.net/enssea/majalat/2545.pdf
[13] قطوش، بشرى ،دور تطبيق الحوكمة ومكافحة الفساد في تحقيق التنمية المستدامة في الدول العربيــــة، ، مجلة البحوث الاقتصادية والمالية، 20يونيو / حزيران2018، https://www.asjp.cerist.dz/en/article/5518
[14] قطوش، بشرى ،دور تطبيق الحوكمة ومكافحة الفساد في تحقيق التنمية المستدامة في الدول العربيــــة، ، مجلة البحوث الاقتصادية والمالية، 20يونيو / حزيران2018، https://www.asjp.cerist.dz/en/article/5518
[15] الحوكمة ومستقبل العالم العربي، مركز كارنيجي، 21 يناير/ كانون ثان 2019، https://carnegie-mec.org/2019/01/21/ar-pub-78165
[16] اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد ،https://www.unodc.org/romena/ar/uncac.html
[17] أثر تطبيق الحوكمة على تعزيز أهداف التنمية المستدامة: دراسة تحليلية مقارنة بين التجربتين (الماليزية والمصرية) 2015 – 2022 ، المركز الديمقراطي العربي ،27 يوليو / تموز 2022 ، https://democraticac.de/?p=83580#_ftn23
[18] موقع البنك الدولي، https://www.albankaldawli.org/ar/who-we-are
[19] حنان قاجي،دور المنظمات الدولية في مكافحة الفساد، رسالة ماجستير ،جامعة عبد الرحمان ميرة /الجزائر، https://cutt.us/xX1aH
[20] الفساد السياسي في العالم العربي ،الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان)،حزيران 2014 ، https://cutt.us/bNKYB
[21] حنان قاجي،دور المنظمات الدولية في مكافحة الفساد، رسالة ماجستير ،جامعة عبد الرحمان ميرة /الجزائر، https://cutt.us/xX1aH
[22] موقع الشفافية الدولية ، https://cutt.us/9xmTz
[23] قراءة تحليلية عن وضع الدول العربية في مؤشر مدركات الفساد ، شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية ،1 مارس / آزار 2021 ، https://cutt.us/A9vmE
[24] موقع الشفافية الدولية ، https://www.transparency.org/en/cpi/2021
[25] قراءة في مؤشر مدركات الفساد ، الجزيرة ،16 فبراير/ شباط 2023 ، https://www.al-jazirah.com/2023/20230216/ar5.htm
[26] مؤشر الفساد العالمي” يدق ناقوس الخطر.. وهذا ترتيب دول عربية، العربية،2 فبراير / شباط 2023، https://cutt.us/Orbpd
[27] مؤشر مدركات الفساد لعام 2022م، تطور مركز البحرين على المؤشر وحالة الدول العربية، شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية ،27 فبراير / شباط 2023 ، https://cutt.us/LC1sB