خبايا زيادة استهلاك المصريين
عبدالحافظ الصاوي
عادة ما تبحث وسائل الإعلام المصرية على أية إشارة من هنا أو هناك، لتدلل على الأداء القوي للحكومة، وبخاصة في مجال الاقتصاد، ومؤخرًا نشرت وسائل الإعلام، إشادة وكالة “فيتش” بالأداء الإيجابي لقطاع الاستهلاك في مصر.
وعلى الفور صرح أسامة الجوهري مساعد رئيس الوزراء المصري، ليؤكد على ما جاء بتقرير الوكالة، من أن قطاع الاستهلاك في مصر شهد صمودًا أثناء جائحة كورونا، وأن أداء القطاع كان قويًا بعد الجائحة، إذ زاد الإنفاق الاستهلاكي للأسر المصرية بنسبة 15% خلال 2021، مقارنة بما كان عليه في عام 2019 قبل جائحة فيروس كورونا، ويتوقع أن يزيد هذا المعدل إلى 21% في عام 2022 مقارنة بما كان عليه في عام 2019.
- لا جديد
والملاحظة الأولية هنا، أن قياس الاستهلاك بين فترتين، دون أخذ معدلات التضخم في الاعتبار، يؤدي إلى نتائج خاطئة، وهو ما نلمسه في النتائج التي أشار إليها مساعد رئيس الوزراء، والواردة في تقرير وكالة “فيتش”، ومن الطبيعي في ظل معدل ضخم يزيد عن 14.4% تقريبًا في عام 2018، ونحو 9.15% في عام 2019، ويتطلب الأمر القياس في ضوء الأسعار الثابتة، التي تستبعد معدلات التضخم، وتقيس الزيادات الحقيقية.
ومن خلال تحليل الأرقام للاستهلاك العائلي في مصر في الأوضاع الطبيعية، قبل فيروس كورنا يلاحظ أن نسبة الزيادة السنوية، كانت بحدود 24% في عام 2017/2018، و15.6% في عام 2018/2019؛ إذن فكون قطاع الاستهلاك في عام 2021 يزيد بنحو 15%، بعد رفع كافة القيود وممارسة النشاط الاقتصادي بشكل معتاد، فإن ذلك لا يمثل أي إنجاز، أو حالات استثنائية. ويمكن القول بأنه لا جديد فيما نشر من خلال تقرير وكالة “فيتش”.
والمطالع لهذا الخبر دون أن يلم بباقي البيانات الاقتصادية، يتوهم بأن الوضع الاقتصادي في مصر قويٌّ بدليل أن العائلات المصرية خلال كورونا زاد استهلاكها، على عكس معظم دول العالم التي تأثر فيها الإنفاق العائلي سلبيًا.
والحقيقة أن مصر الدولة، كانت الأكثر تصدعًا بالتداعيات السلبية لفيروس جائحة كورونا، إذ سارعت الحكومة بالتوجه لصندوق النقد الدولي للحصول على قروض بنحو 8.5 مليار دولار، والدخول في برنامج إصلاح اقتصادي جديد، يحمِّل أفراد المجتمع، المزيد من التبعات الاقتصادية والاجتماعية السلبية.
فهل عمال مجمع الحديد والصلب – مثلا- الذين تم تسريحهم وتصفية شركاتهم، زادوا من معدلات استهلاكهم، فرحًا بتحويلهم للمعاش المبكر، وتأثر دخولهم سلبيًا بعد خروهم للمعاش؟ وهل غيرهم من العمال الذين يعملون في السوق غير الرسمية، زادوا من معدلات استهلاكهم؟ وهلمَّ جرا. الواقع أنَّ هناك شرائح كبيرة في المجتمع المصري، تظلمهم تلك المؤشرات التي تعتمد على المتوسطات، دون أن تراعى خبايا الطبقتين: الفقيرة والمتوسطة داخل المجتمع.
والسؤال هنا، هل كانت زيادة الإنفاق العائلي في مصر نتيجة للتحسُّن في دخولهم، وبالتالي ظهرت هذه الزيادة من خلال رغبة المصريين في التنفيس عن رغباتهم الاستهلاكية، وتلبية احتياجاتهم الضرورية والكمالية، أم أنهم استدانوا عبر الطرق المختلفة لتلبية احتياجاتهم الاستهلاكية الضرورية؟!!
- تراجع المدخرات
المتابع لأداء الحكومة المصرية في أزمة كورونا، خلال عام 2020 وما بعده، يلاحظ أن الحكومة حمَّلت المواطنين الكثير من الأعباء المالية لتحقيق الوقاية من الفيروس، أو مواجهته، فالمسحات للكشف عن الإصابة بالفيروس كانت بمقابل، كما أن الخدمات الصحية بالمستشفيات العامة، كانت دون المستوى المطلوب(متدنية) ، مما جعل المواطنين يلجؤون في كثير من الأحيان للقطاع الخاص لتوفير الرعاية الصحية.
فعام 2018/2019 والذي اتخذته وكالة “فيتش” أساسًا للقياس، كانت نسبة مدخرات المصريين فيه من الناتج المحلي 10%، وهي النسبة الأكبر للمدخرات مقارنة بالناتج منذ عام 2014، وبخاصة بعد الإجراءات التقشفية التي فرضتها الحكومة على الأفراد بعد اتفاقها مع صندوق النقد في 2016.
ولكن في ظل كورونا، وخلال العام المالي 2019/2020، والذي أمضى فيها الناس 6 أشهر في ذروة مواجهة كورونا، تراجعت فيه مدخرات المصريين كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 6.2%، ويمكن تفسير ذلك بأمرين: الأول، أن الأفراد تأثروا سلبيًا بسبب تراجع النمو في الناتج المحلي بسبب كورونا، أو أنهم لجؤوا إلى مدخراتهم لتلبية احتياجاتهم الضرورية، على الصعيدين: الغذائي والدوائي.
وأيًا ما كان أحد الخيارات التي أدت لتراجع مدخرات المصريين، فالأثر السلبي، هو وجود فجوة كبيرة بين الاستثمارات الكلية والمدخرات الكلية، مما يؤدي إلى لجوء الحكومة لتمويل هذه الفجوة من خلال الديون الخارجية.
والجدير بالذكر أن وكالة “ستاندرد آند بورز” حذرت مصر، يوم الأحد 6 سبتمبر 2021، من مخاطر كلفة الفائدة على القروض؛ حيث ارتفعت قيمة القروض الخارجية لمصر لنحو 134.5 مليار دولار، وهي قابلة للزيادة خلال الفترة القادمة.
ومنذ نهاية عام 2016، ومصر زبون دائم على السوق الدولية للسندات، حيث تطرح ما قيمته من 8 مليارات دولار إلى عشرة مليارات دولار كل عام، فضلًا عن توريطها في ديون قصيرة الأجل خلال الفترة من 2016 إلى 2020، أدى إلى إرهاق الموازنة العامة بفوائد تلك القروض، وجعل من صانع السياسة المالية، مجرد ائتماني يعمل بجد في مجال تدوير القروض.
- دولة استهلاكية
من الطبيعي أن يذهب أي إنسان إلى استنتاج أن زيادة الاستهلاك عمل إيجابي، لأنه يترتب عليه استمرار عملية الإنتاج، والتوزيع، وما يتبعهما من خدمات، واستمرار إيجاد فرص عمل، وكل ذلك له مردود إيجابي على مصر.
لكن للأسف بيانات التقرير المالي لوزارة المالية عن شهر يونيو 2021، تكشف لنا المعادلة المختلة بين الاستثمار والاستهلاك في مصر، واعتماد مصر بشكل كبير على الخارج؛ فالناتج المحلي الإجمالي لعام 2019/2020، بلغ 5.82 تريليون جنيه، منها 5.45 تريليون جنيه للاستهلاك، ونحو 804 مليار جنيه للاستثمار فقط، أي أن الاستهلاك يمثل 93.8% من الناتج، بينما الاستثمار يمثل 13.8%.
وحتى تظهر قضية اعتماد مصر على الخارج فيما يتعلق بالاستهلاك، فإن بيانات صادرات مصر من السلع والخدمات بلغت في نفس العام 1209 مليار جنيه، بينما صادرات مصر من السلع والخدمات بلغت 767 مليار جنيه، أي أن هناك عجزًا بلغ نحو 441 مليار جنيه.
وهذه المعادلة توضح أن مصر دولة غير إنتاجية، فهي ذات استثمارات محدودة، واستهلاك كبير، وعجز في التعاملات مع العالم الخارجي، بما يساعد على التبعية بشكل كبير.
فلا مانع أن تبقى معدلات الاستهلاك مرتفعة، ولكن من خلال إنتاج محلي، يعتمد على مستلزمات الإنتاج المحلي، مما يزيد من القيمة المحلية داخل الاقتصاد المصري، وفي نفس الوقت يقلل من الواردات الخاصة بمستلزمات الإنتاج. وهو الأمر الذي سيساعد على زيادة دخول الأفراد، وبالتالي زيادة مدخراتهم، وتوفير فرص للدولة لتمويل الاستثمارات الكلية من خلال مدخرات محلية، وليس طلبًا للاستثمار الأجنبي، أو القروض الأجنبية.
وتحتاج مصر إلى معادلة جديدة، في قضية الاستهلاك، لأنها ذات عدد سكان يزيد على 100 مليون نسمة، وهو ما يستلزم أن يزيد الإنتاج المحلي بشكل كبير في القطاعات المهمة، الزراعة والصناعة والخدمات، فمن غير المعقول أن يستمر العجز في الميزان التجاري للغذاء في مصر عند نحو 8.5 مليار دولار، ويجعل اقتصادها عرضة لتقلبات الأسعار في السوق الدولية. وبخاصة في سلع إستراتيجية مثل القمح والحبوب الأخرى، وزيوت الطعام، وكذلك اللحوم.