أحداث إدلب .. فبراير – مارس 2020
(اعتداءات نظام الأسد، والرد التركي، والمفاوضات التركي الروسية
بدا المشهدُ نهاية الشهر فبراير أكثرَ تعقيدًا من ذي قبل بالنسبة للحكومة التركية برئاسة الطيب رجب أردوغان. فالغارات الجوية مساء الخميس 27 فبراير 2020، والتي أَودت بحياة نحو 33 جنديًا تركيًا ، وضعت أنقرة في مواجهة مباشرة مع موسكو. وهو بالتأكيد ما لا تريده كلا البلدين. فابتداء من ردود الفعل التركية والروسية الأولية، وانتهاء باتفاق الهدنة المنبثق عن قمة جمعت بين الرئيسين -أردوغان وبوتين- في الخامس من مارس 2020، كل ذلك يؤكد على رغبة البلدين في تجنب الصراع المباشر.
يحاول هذا التقرير التركيزَ على المواقف الرسمية لكلا البلدين وغيرهما من البلدان والهيئات والمنظمات الدولية الفاعلة في الأحداث. ويهدف التقدير إلى تحليل مواقف الفاعلين في المشهد، وكذا تحليل بنود الاتفاق الروسي-التركي، ومحاولة استشراف مستقبل هذه الهدنة.
مسئولية الهجوم على الجنود الأتراك
منذ اللحظات الاولى، حاولت روسيا التنصُّلَ من مسئوليتها عن الغارات التي أودت بحياة الجنود الأتراك، فوزارة الدفاع الروسية نَفَت استهدافها أي مواقع للجيش التركي في إدلب مساء الخميس 27 فبراير 2020، حسب رويترز، كما أكدت عدم علمها بتواجد الجيش التركي في هذا المكان، كذلك ذكرت اتخاذها إجراءات لوقف إطلاق النار من قبل النظام السوري بعد إخطارها بأن هناك قتلى أتراك ، وهو ما نفاه وزير الدفاع التركي خلوصي آكار لاحقًا، حين صرح بأن موسكو على علم بإحداثيات تواجد قواته .
في ذات الوقت، دافعت روسيا عن النظام السوري مدَّعيةً أن الجنود الأتراك كانوا في وسط الجماعات المسلحة “الإرهابية” التي كانت تخطط لهجوم كبير على قوات النظام السوري، ومؤكدةً أن من حق الجيش السوري القضاء على “الإرهابَ” بشكل كامل وأنهم لا يستطيعون منع ذلك .
وبالرغم من الرفض التركي للرواية الروسية القائلة بأن الجيش التركي لم يُخطِرنا بتواجده في هذه النقطة، إلا أنها لم تحمل النظام الروسي مسؤولية الهجوم في إدلب، بل حمَّلته للنظام السوري. وهو ما يؤيد ما ذكرناه بعدم رغبة كل من تركيا وروسيا في تصعيد عسكري أو سياسي.
دبلوماسية احتواء التصعيد
وفي مواصلة للجهود الدبلوماسية الروسية الرامية إلى احتواء الموقف وتهدئة الصراع، قدّم وزيرُ الخارجية الروسي العزاءَ لتركيا في مقتل عسكرييها، كما أكد الوزير على أن بلاده لا زالت مستعدةً لمواصلة التنسيق مع تركيا بشأن إدلب.لم يكتف الروسُ بالتصريحات الهادئة، ففي تحذير ضمني لتركيا، صرح وزير الدفاع الروسي بأن أي عملية عسكرية تركية شاملة لن تكون في مصلحة تركيا بالذات.
أعطت روسيا بتصريحاتها المتوازنة بعد الهجوم فرصةً للحوار والتهدئة بينها وبين تركيا، وهو ما حدث بالفعل. فقد نقلت وكالة الأناضول عن الرئاسة التركية أن الرئيسين، بوتين وأردوغان، اتفقا على عقد لقاء ثنائي في أقرب وقت ممكن، وتحديدًا يوم الخميس 5 مارس 2020 .
تجنب المواجهة مباشرة
فروسيا لا تريد مواجهة مباشرة مع تركيا لعدة أسباب؛ يأتي في مقدمتها أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبالتأكيد لن تخاطر روسيا بمعاداة كل أعضاء الناتو، البالغ عددهم 29 دولة، يتركز معظمهم في أوروبا وأمريكا الشمالية.
ومع أن بعض الأنباء تفيد بأنه ليس من حق تركيا أن تطلب دعمًا عسكريًا من الناتو -كما ذكر وزير خارجية لوكسمبورج-، نظرًا لأنها لم تأخذ موافقة الناتو على عمليتها في إدلب . ولكنه أقر في نفس الوقت بحق أنقرة في الاستفادة من المادة الرابعة في معاهدة شمال الأطلسي، والتي تسمح لأي دولة في الحلف طلب عقد اجتماع له في حال تعرض أمنها ووحدة أراضيها واستقلالها السياسي للخطر.
ولا يُغفل -بأي حال من الأحوال- ورقة الضغط التي تملكها تركيا وتستطيع أن تضغط بها على دول أوروبا والناتو، ورقة اللاجئين التي وظفتها تركيا بالفعل في أول رد على الضربة السورية، فقررت عدم اعتراض الراغبين في النزوح نحو الأراضي اليونانية والبلغارية . وقد بلغ عدد اللاجئين الذين عبروا الأراضي التركية تجاه الحدود اليونانية أكثر من 135 ألف لاجئ حتى صبيحة الأربعاء 4 مارس 2020، طبقًا لما ذكره وزير الداخلية التركي سليمان صويلو .
يستطيع أردوغان تصعيد أزمة اللاجئين السوريين مع أوروبا في ظل تخلي أوروبا عن مسئوليتها المادية التي تعهدت بها من قبل، وكذلك عدم مساعدة تركيا في ضغطها على نظام الأسد في توفير مناطق آمنة داخل الأراضي السورية. وقضية اللاجئين من الشرق الأوسط بشكل عام، ومن سورية بشكل خاص، هو ما تخشاه الحكومات الأوروبية وتسعى للحيلولة دون حدوثه، نظرًا للتأثير الاقتصادي والديموغرافي السلبي للاجئين على المجتمعات الأوروبية، حسب وجهة نظرهم.
كان الهدف من تصعيد هذه الورقة هو التأثير بشكل فعلي في السياسة الأوروبية تجاه الأحداث لتَحُدَّ من تفاقمها وتصاعدها، وهو ما سينعكس بالضرورة على رد الفعل الروسي على الأرض.
وقد نجح أردوغان بالفعل في إحداث نوع من الجلبة في صفوف الاتحاد الأوروبي. حيث هاجم رئيسُ الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس -وهي الدولة الأكثر تضررًا من القرار التركي بفتح الحدود- الاتحادَ الأوروبيَّ قائلًا أن أوروبا لم تَفِ بالتزاماتها تجاه تركيا فيما يتعلق بأزمة المهاجرين ، على الناحية الأخرى، لم تهاجم أيٌّ من البلاد الكبرى في الاتحاد الأوروبي تركيا بشكل واضح، فانحصرت ردود الأفعال بين نداءات للطرفين بضرورة الحل السلمي ووقف التصعيد العسكري، بل صرح البعضُ بدعم تركيا ومهاجمة روسيا والنظام السوري بشكل مباشر عن طريق تحميلهما مسؤولية الأزمة الإنسانية في إدلب .
كل ذلك دفع روسيا إلى اتخاذ موقف أقرب للتهدئة منه إلى التصعيد مع الجانب التركي. بالإضافة إلى أن حجم التبادل التجاري بين البلدين، والذي يزيد عن الـ 25 مليار دولار ، هو في صالح روسيا في المقام الأول، حيث إن معظم الواردات التركية من روسيا هي في مجال الطاقة (الغاز الطبيعي) والسلاح، فلا شك من أن روسيا ستحاول الحفاظ على مصالحها الاقتصادية مع تركيا. ومن ناحية أخرى، فإن دخول روسيا لحرب مباشرة مع تركيا لا يتناسب مع وضعها الاقتصادي، بسبب معاناتها من عقوبات اقتصادية، مفروضة عليها من قبل أمريكا والاتحاد الأوروبي منذ عام 2014.
أما الحال بالنسبة لتركيا، فلديها الكثير من الإشكاليات التي تمنعها من اتخاذ خيار التصعيد المباشر مع روسيا. فهي بالتأكيد لا تأمن جنب دول الناتو وعلى رأسهم الولايات المتحدة، فاختلاف السياسات والتوجهات بين تركيا والعديد من الدول الأوروبية وأمريكا واضح للعيان، والمناوشات المستمرة بين زعماء أوروبا وأمريكا، وبين أردوغان والقيادة التركية خير دليل على ذلك.
كما أن استنزاف القوتين -التركية والروسية- هدف يصب في النهاية في صالح الولايات المتحدة، فاستنزاف تركيا يعني تقويض نفوذها المتصاعد في دول الجوار، كما أن استنزاف روسيا يعني الحدًّ من السياسة التوسعية التي تتبعها في الشرق الأوسط سعيًا لملء الفراغ الذي تركته أمريكا بعد خروجها من سوريا، وكذلك انسحابها شبه التام من الأزمة الليبية قبل عودتها مرة أخرى بعد الأحداث الأخيرة.
فلا يُستبعد أن الولايات المتحدة قد تسعى لتوريط تركيا في حرب مع روسيا تستنزف الطرفين، وهو ما تحدث به العديد من الخبراء ونقلته صحيفة ترك برس المقربة من الحكومة التركية .
كذلك فإن القوة العسكرية التركية لا تضاهي بالمرة نظيرتها الروسية، صاحبة المركز الثاني لأقوى الجيوش العالمية وفق تصنيف Global Firepower لعام 2020 . كما أن الداخل التركي يَعج بالأزمات السياسية والاقتصادية، فالليرة التركية لا زالت تواصل الهبوط أمام الدولار الأمريكي.
ومع أن تركيا تستطيع توظيف ورقة اللاجئين لتستجلب دعم الناتو وأوروبا، إلا أنها لن تتوقع منهم كذلك دعمًا عسكريًا واضحًا.. بالكاد سيكتفي الناتو بالضغط لمنع تصاعد الأحداث، وهو ما ستضعه تركيا في حسبانها بكل تأكيد.
جاءت ردود الأفعال الأمريكية والأوروبية مُبَرهِنةً على محدودية الدعم الذي قد تتلقاه تركيا من أعضاء حلفِها، فبالرغم من الدعم الدبلوماسي الذي تلقته تركيا من الدول الأعضاء، إلا أن جل البيانات الصادرة عن الناتو والاتحاد الأوروبي ومعظم الدول هي بيانات دبلوماسية هادئة هي أقرب للحياد منها إلى الانحياز “الفعلي” بجانب الأتراك. حتى وإن أخذت بعض التصريحات لاحقًا شكلًا أكثر انحيازًا للموقف التركي نتيجة للتقدم العسكري التركي على الأرض وكذلك إدارة وتوظيف ورقة اللاجئين، إلا أن هذا الانحياز لم يأخذ أي شكل من أشكال الفاعلية على الأرض. ولا يُتوقع بأي حال أن يتحول هذا الدعم إلى دعم فعلي.
الفرضية السابقة -أي: أن الدعم الأوروبي والأميريكي لن يتحول إلى دعم فعلي- تظل سارية بشرط ألا تتعرض تركيا لخطر حقيقي داخل أراضيها، وهذا مرده لسببين؛ الأول أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، والثاني هو أن انتصار الحملة السورية-الروسية في إدلب يعني نزوح أكثر من مليوني شخص من إدلب تجاه أوروبا مرورًا بتركيا، وهو بالتأكيد ما لا تتحمله تركيا ولا أوروبا في الأوضاع الراهنة.
وبالرغم من الدعم الكبير الذي تتلقاه الحكومة التركية من جميع أحزاب المعارضة بعد الهجوم، إلا أنه لا يخفى على أي مراقب للشأن التركي أن هناك شريحة من الشعب التركي تشعر بنوع من السخط الشعبي مفاده أن أبناءنا يحاربون بدل السوريين. وبالتالي، فلا بد من أن يضع متخذو القرار مدى قدرة الشعب على تحمل تكاليف أي مواجهة عسكرية مع روسيا.
سرعة الرد التركي، وكذلك قوته، خففت بلا شك من الاحتقان الداخلي، وكونت نوعًا من التكاتف الداخلي خلف الحكومة التركية في حملتها “درع الربيع” ضد النظام السوري، إلا أن هذا التكاتف والدعم الداخلي مرهونٌ بالانتصار العسكري على أرض الواقع وعدم وقوع ضحايا كثر.
وعليه، فإن تركيا ستحاول أن تتجنب هي الأخرى الدخولَ في صراع مباشر مع الروس. وما يدعم الفرضية السابقة هو أن السياسة المتبادلة بين كلا البلدين في السنوات الماضية اتَّسَمَت بالقدرة على ممارسة ما يسمى بـ “دبلوماسية المرونة القصوى”، فتمكنتا من التمييز -دائمًا- بين التوترات العرضية أو التقاطعات البينية، وبين مصالحهما الاستراتيجية المشتركة.
خطاب قومي حماسي.. ورد عقلاني
اتسم الخطاب التركي في مثل هذه الأحداث بأنه خطاب قومي شعبوي حماسي، إلا أن تاريخ الساسة الأتراك ينبئنا عن سياسة أكثر حكمةً وتعقلًا من أن تدخل في مواجهات غير محسوبة أو بناء على نظرة عنترية وعاطفية.
يحاول النظامُ التركيُّ أن يُحافظ على صورته بأن تركيا قوة إقليمية لها نفوذها وتأثيرها في الشرق الأوسط وفي السياسة العالمية، كما يحرص على الظهور دائمًا بموقف المستقل صاحب القرار الذي يتعامل مع الجميع بندية، يُسَيِّر سياسته وفقًا لما يحقق مصالح بلاده وفقط، فتارة يتحالف مع روسيا متجاهلًا للولايات المتحدة، وتارة أخرى .يُوَلِّ وجهه نحو أمريكا. هكذا دأبت السياسة التركية في السنوات الأخيرة
حاولت الدولةُ التركيةُ بلا شك أن تحافظ على هذه الصورة التي عملت من أجلها لسنوات قدر استطاعتها. وهذا ما انتهجته الدولةُ فعليًا خلال الـساعات التي تلت الهجوم، فتوالت تصريحات العديد من المسئولين بأن دم التركي لم يسقط يومًا على الأرض، ولن يسقط بعد اليوم، وكذلك جاءت خطبة الجمعة الرسمية في البلاد بعنوان “نضالنا في سبيل الحق، روحنا في الوحدة والاتحاد” ، مذَكِّرةً الشعبَ بمعاركه السابقة من أجل التحرر والاستقلال. كما أن البلديات التركية وضعت في الشوارع لافتات داعمة للجيش في حملته ومكتوب عليها “إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا”.
وعليه، جاءت الردودُ التركيةُ على الأرضِ متماشيةً مع الخطاب التركي الشعبوي القومي الحماسي الذي يذكي روح المقاومة والوحدة لدى الشعب، وكذلك متماشيًا مع العقلانية التي يتسم بها الساسة، فتجنبوا تحميل المسئولية لروسيا، وحَمّلوا المسئولية كاملةً للنظام السوري.
وكذا جاء الرد على الأرض، فقد ردَّت تركيا خلال الساعات الـ 24 التي تلت الهجمات على عناصر الجيش التركي بقصفها أكثر من 200 هدف للنظام السوري بعد الهجوم، وهو ما أسفر عن تحييد 309 عنصر من عناصر النظام السوري وتدمير 5 مروحيات و46 دبابة ومدفعية ومنظومتين للدفاع الجوي، حسب تصريحات وزير الدفاع التركي .
وتوقع المراقبون استمرار التصعيد التركي ضد النظام السوري في الأيام التالية للهجوم، وقد يكون الثمن الذي تكبده النظام ومن خلفه روسيا هو فقدان المناطق التي سيطر عليها مؤخرًا في إدلب، خاصة مع انتهاء المهلة التي حددتها تركيا من قبل لانسحاب النظام السوري من المناطق التي سيطر عليها مؤخرًا في مناطق خفض التصعيد في إدلب .
وهو ما حدث بالفعل، فقد تبع الحملةَ المباشرةَ حملةٌ عسكريةُ موسعة أكثر عنفًا وشراسة أطلق الأتراك عليها اسم “درع الربيع”، وقد أسفرت الحملة حتى صباح اليوم الأربعاء 4 مارس 2020 عن تحييد أكثر من 3000 عنصر من قوات نظام الأسد، و135 دبابة، 5 منظومات دفاع جوي، 16 مضاد طيران، 77 عربة مدرعة، 9 مستودعات ذخيرة. وهو ما يعد تقدمًا تركيًا على الأرض بلا شك، وهو بالتأكيد ما سيكون له أثره في لقاء الخميس 5 مارس 2020 بين بوتين وأردوغان.
بوتين وأردوغان.. واتفاق هدنة
أتى اللقاء بين بوتين وأردوجان، في ظل حملة عسكرية تركية أثبتت فيها تركيا جديتَها في صراعها الحدودي مع النظام السوري، وأثبتت كذلك قدرتها وتفوقها في المواجهة العسكرية مع النظام السوري. إلا أنه في نفس الوقت لم تجد تركيا من حلفاءها في الناتو ما كان متوقعًا من دعم.
أتى اللقاء كذلك في ظل رفض بوتين عقدَ اجتماع رباعي يضم كلّا من أردوغان وميركل وماكرون. وكذلك صرح وزير الدفاع التركي بأن هدف الاجتماع بين أردوغان وبوتين هو الوصول إلى حل سلمي وسياسي. وهو ما ينبئ بإصرارهما على أن يكونا هما “صانعا القرار” في سوريا.
كل المقدمات كانت تنبئ أن الطرفين سيصلا في النهاية إلى اتفاق بوقف إطلاق النار، فالبلدان من البداية لا يريدان صدامًا مباشرًا بينهما. إلا أن التقاطعات فيما بينهما شديدة وحادة فيما يخص القضية السورية، وهو ما يشكل عقبة كؤودًا أمام أي محاولة للتباحث بينهما حول القضية السورية.
في ضوء المعطيات السابقة، انبثقت وثيقة عن لقاء أردوغان وبوتين لم تقدم أي جديد يُذكر سوى أن البلدين أكدا أن رغبتَهما حثيثةٌ في الحفاظ على علاقاتهما البينية المشتركة بعيدًا عن تقاطعات القضية السورية. فلا يُعقل أن لقاءً استمر 6 ساعات كاملة لم ينتج عنه إلا اتفاقًا بنشر دوريات روسية-تركية مشتركة على طريق M4 وفقط! فلم تحل الوثيقةُ أيًّا من القضايا الحقيقية الشائكة، فلم تتطرق إلى مصير نقاط المراقبة التركية، ولا إلى مآل المناطق التي سيطر النظامُ السوريُّ عليها قبيل التصعيد، ولا حتى ذكرت كيفية التعامل مع السوريين الذين نزحوا في المعارك الأخيرة تجاه إدلب.
يبدو أن الطرفين لم يحققا كثيرًا بشأن القضية السورية، ولكنهما من ناحية أخرى يبدو أنهما حققا الكثير بشأن علاقاتهما البينية المشتركة، وأنهما اتفقا على النأي بتلك العلاقات بعيدًا عن اشتباكات القضية السورية. هذا ما يخبرنا به لسان حال الروس والأتراك، فلم يتفق الطرفان -واقعيًّا- على أي جديد يذكر بخصوص القضية السورية، ولكن المُخرج الأكبر هو أن كلَّا منهما يحرص على حفظ ماء وجه الآخر، وأن كلًّا منهما حريصٌ على ألا تتأثر العلاقات بين البلدين بشكل سلبي.
..مستقبل الهدنة
مما سبق يتضح أن الهدنة ما هي إلا اتفاق هش لن يصمد طويلًا، وسينهار مع هبوب أول ريح. فالقضايا المركزية لم تُحل، ولم تَرْق مخرجاتُ الاتفاق إلى تلبية مطالب أي من الأطراف المتصارعة.
وما يبرهن على القول السابق أن مناوشاتٍ تحدث بين الفينة والأخرى -ولا تسفر عن أي خسائر بشرية- بين النظام السوري وحلفاءه من جهة، وبين فصائل المقاومة السورية المسلحة من جهة أخرى، كذلك فإن تركيا احتفظت لنفسها بحق الرد على أي عدوان “محتمل” من النظام السوري. وعلى صعيد متصل، عرقلت الولايات المتحدة مشروع قرار لمجلس الأمن بدعم الاتفاق الروسي-التركي حول إدلب، وهو ما يعزز احتمالية الانهيار السريع للهدنة.
وفي نفس السياق يصر كلٌّ من النظام السوري والروسي على أن هدفهما هو تطهير إدلب من الإرهاب، ولا يخفى أن هدف النظام السوري هو تحرير إدلب من فصائل الثورة وإحكام القبضة على آخر المناطق التي لا زالت في قبضة الثوار.
جل المراقبين والمهتمين بالشأن السوري يتوقعون انفجارًا وشيكًا للأحداث حال حدوث خرق فعلي -وسيحدث عاجلًا أو آجلًا- من أي من الأطراف المتصارعة. من المؤكد أن الطرفين -الروسي والتركي- لن يصعدا بنفسيهما على الإطلاق، ولكن سيكون التصعيد عن طريق أي من الأطراف الأخرى.
ماذا لو تدخل حلف شمال الأطلسي؟
قد يطول أمد هذه الهدنة قليلًا إذا ما تدخل الاتحاد الأوروبي والناتو بشكل واضح وفعال للحيلولة دون تصاعد الأحداث مرة أخرى، فلا زال الإصرار التركيُّ قائمًا بخصوص موقفه من أزمة اللاجئين، كما أن أزمة اللاجئين لا زالت شبحًا يطارد حكومات أوروبا، وقد بدأ الضغط الداخلي الأوروبي في التصاعد للسماح بدخول اللاجئين، فقد اندلعت عدة احتجاجات في ألمانيا واليونان مطالبةً بالسماح للاجئين بالدخول.
ولكن حتى لو تدخل الناتو، فليس متوقعًا أن يختلف الوضعُ كثيرًا على أرض الواقع، لن يحدث إلا إطالة لأمد الهدنة شيئًا ما.
الداخل التركي
جدير الذكر أنه قد عَلَتْ في الأيام الأخيرة بعض الأصوات المعارضة في الداخل التركي للحملة التركية في إدلب، زاعمين أن الجنود الأتراك يحاربون ويموتون بدلًا عن السوريين في إدلب، ومع أن هذه المزاعم لا ترقى بأن تكون رأيًا عامًا يتبناه الشعب التركي الذي آوى ورحب بأشقاءه السوريين طيلة السنوات الماضية، إلا أن ذلك لا يمنع أن هذه المزاعم تجد لها عند البعض آذانًا صاغية. وهو ما قد يسبب مشكلة للقيادة التركية حال اندلاع المواجهات العسكرية مرة أخرى.
قد يكون مَردُّ ذلك أن البعض قد لا يدرك بشكل جيد مدى أهمية الحملة للأمن القومي التركي. وأن هزيمة إدلب ووقوعها في قبضة النظام السوري أو في قبضة الأكراد سيضر بأمن تركيا ووحدتها قبل أي شيء.
الخلاصة
– يحاول كل من الروس والأتراك تجنب المواجهة المباشرة فيما بينهما، نظرًا للخسائر التي سيتكبدها الطرفان حال المواجهة.
– أكثر ما يُحَجِّم روسيا هو تجنب مواجهة دول حلف الناتو -وتركيا جزء منه-، كذلك لا يريد الروس خسارة المصالح الاقتصادية التي تجمعهم مع تركيا.
– أكثر التحديات التي تواجه تركيا، هو القوة العسكرية لروسيا، وكذا انعدام الثقة في الدعم الأمريكي والأوروبي وإمكانية توريطهم في حرب استنزاف خاسرة.
– أوروبا مضطرة للتصرف للحيلولة دون تصاعد الأحداث، فأردوغان لَوّح لهم بوجوب تحملهم دفع فاتورة أزمة لاجئين جديدة.
– سرعة الرد التركي وقوته وتصاعده ضد النظام السوري أمَّن للأتراك يدًا قوية في لقاء بوتين وأردوغان.
– يحاول الطرفان -خاصة الروس- الحفاظ على أن يكونا هما صاحبا القرار في سوريا بعيدًا عن الفاعلين الدوليين.
– الاتفاق الذي عقده الطرفان قد يكون وثيقًا من ناحية الحفاظ على المصالح المشتركة بينهما بعيدًا عن إدلب، إلا أنه هش بشأن القضية السورية، وسينهار في أقرب وقت.