الانتخابات الإيرانيَّة: حسابات الربح والخسارة
شهدت إيران في الحادي والعشرين مِن شهر فبراير سنة 2020م إجراء الانتخابات البرلمانيَّة لاختيار نوَّاب مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان الإيراني) في دورته الحادية عشرة. وجَرت العمليَّة الانتخابيَّة، بداية مِن الترشح ومرورًا بالحملة الانتخابيَّة وانتهاءً بالتصويت وإعلان النتائج، في ظِلِّ ظروف عصيبة لم يَمر النظام الإيراني بمثلها منذ أن انتهت الحرب العراقيَّة الإيرانيَّة سنة 1988م، فالبلاد تعيش في الفترة الأخيرة أزمة سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة طاحنة، وهي الأزمة التي هزَّت ثقة الإيرانيِّين في نظامهم الحاكم، وألقت بظلالها على المشهد الانتخابي.
جَاء الاستحقاق الانتخابي الأخير والنظام الإيراني في موقفٍ لا يُحسَد عليه بعد أن توالت أزماته الداخليَّة والخارجيَّة، فقد شهدت البلاد موجة واسعة مِن الاحتجاجات الشعبيَّة جرَّاء تفاقم الأوضاع الاقتصاديَّة وتدهور الظروف المعيشيَّة، وهي الاحتجاجات التي واجهتها الدولة بقوَّة مفرطة، وخلَّفت أعدادًا كبيرة مِن القتلى والجرحى والمعتقلين، الأمر الذي أثار سخط المواطنين. ولم يَكد النظام يفيق مِن آثار هذه الأزمة حتى وَجَد نفسَه في مواجهة مع أمريكا كادت أن تتحوَّل إلى حرب شاملة بين البلدين على أثر مقتل اللواء “قاسم سليماني” قائد فيلق القدس، ثم جاءت حادثة إسقاط الطائرة الأوكرانيَّة لتُبقِي على نيران الغضب مشتعلة بسبب الضحايا الذين سَقطوا بعد قصف طائرتهم مِن جانب الحرس الثوري.
لهذا كلِّه صَارت الانتخابات البرلمانيَّة فرصة لكلٍّ مِن النظام الحاكم والمعارضة على حَدِّ سواء، فالنظام يَنظر إليها على أنها طوق نجاة في مثل هذه الظروف، وأراد أن يُثبت مِن خلال الحشود الانتخابيَّة أنه ما زال يَحظى بشعبيةٍ تدعم مشروعيته في الحكم، في حين أرادت المعارضة تعرية النظام وإفقاده الغطاء الديمقراطي عن طريق مقاطعة الانتخابات.
هندسة المشهد الانتخابي
يُدرك النظام الإيراني أن الانتخابات البرلمانيَّة الأخيرة ليست كسابقتها، فالبرلمان الجديد سَوف يكون جزءًا مِن منظومة الحكم في فترة يتنبأ الجميع بأنها سَوف تكون مِن أصعب فترات النظام بسبب ما سَتتعرَّض له البلاد مِن صعوبات في ظِلِّ العقوبات الاقتصاديَّة وتشديد الخناق عليها مِن جانب أمريكا وحلفائها. كما أن هذا المجلس جزءٌ مِن منظومة يتم إعادة تشكيلها وظبط مواقفها ترقبًا لِحدثٍ منتظر في أيِّ لحظة، وهو غياب خامنئي عن المشهد والدخول في عمليَّة اختيار مسؤول لأهم منصب في الدولة الإيرانيَّة، وهو القائد الأعلى للثورة. ولهذا فقد لجأ النظام الإيراني إلى استخدام سلاح “رفض الأهليَّة” في هندسة المشهد الانتخابي وإعداد الساحة لصالح أنصاره مِن المحافظين، وذلك بإقصاء المعتدلين والإصلاحيِّين وفتح الطريق للمحافظين عبر معركة انتخابيَّة غير تنافسيَّة ومَنْع الأصوات المعارضة والمشكوك في ولائها الكامل للنظام مِن السيطرة على البرلمان الجديد. وهذا الإجراء جزءٌ مِن صلاحيات “مجلس صيانة الدستور”، حيث يتيح له القانون منع البعض مِن الترشح لفساد أخلاقي أو مالي أو لأسباب سياسيَّة تتمحور حول العمل ضد الثورة ونظام الجمهوريَّة الإسلاميَّة والتعامل مع أعدائها[1].
وقد توسَّع المجلس في رفض أهليَّة الكثير مِن المرشحين المحسوبين على التيَّار الإصلاحي، وكان لافتًا للنظر رفض صلاحيَّة 90 نائبًا مِن أعضاء المجلس السابق مِن بين 247 نائبًا تقدموا للترشح في الانتخابات الأخيرة، وهو عدد كبير، بَرَّره المتحدث باسم مجلس صيانة الدستور، “عباس علي كدخدايي”، بوجود قضايا فساد مالي تخصُّ هؤلاء النوَّاب[2].
لقد أثارت هذه الخطوة موجة كبيرة مِن الانتقاد والاعتراض، واعتبرتها القوى السياسية انحيازًا مِن جانب المجلس للمحافظين الذين لا يُطيقون وجود أصوات معارضة أو يُشتم منها رائحة المعارَضة، حتى لو كانت محسوبة على المحافظين أصلًا. وهو ما حدث مع النائب “علي مطهري”، البرلماني المحافظ، وابن مُفكِّر الثورة وفيلسوفها الأوَّل “مرتضى مطهري”، وشقيق زوجة رئيس البرلمان “علي لاريجاني”، لا لشيءٍ إلا أنه يَتبنَّى أحيانًا بعض الآراء التي لا تنسجم مع مواقف النظام.
ووَصَل الأمر إلى حَدِّ اتهام البعض لمجلس صيانة الدستور بالفساد المالي. فقد اتهم النائب البرلماني “محمود صادقي” المجلس بالفساد والرشوة، وأن وسطاء في المجلس قد تلقوا مبالغ ماليَّة ضخمة مِن أجل تأييد أهليَّة مرشحين للانتخابات البرلمانيَّة. وكان صادقي قد أثار هذا الموضوع قبل ذلك في رسالة وَجَّهَها إلى “أحمد جنتي” أمين عام مجلس صيانة الدستور، أكَّد له فيها أن الفساد قد تسلَّل إلى المجلس تحت قيادته، وأن أفرادًا مِن مجلسه قد طلبوا أموالًا مِن مرشحين لتأييد أهليتهم[3].
وقد بَرَّر مجلس صيانة الدستور على لسان المتحدث باسمه التوسُّع في استخدام “رفض الصلاحيَّة” بأنه إجراء قانوني، ولا مجال للتحامل على أحد. وأكَّد أنهم لا يَنظرون الى التوجهات السياسيَّة للمترشحين للانتخابات، بل يَنظرون بعين الاعتبار إلى ملفاتهم ومَدَى تطابقها مع قوانين الانتخابات. ونفى المتحدث وجود ضغوط على مجلس صيانة الدستور للموافقة على أهليَّة بعض المترشحين دون غيرهم[4]. ويتعارض هذا التصريح مع شهادات بعض النوَّاب الذين رُفِضت أهليتهم، وفقدوا فرصة الترشح للبرلمان الجديد، وذكروا ما جَرَى معهم في مجلس صيانة الدستور مِن استجواب حول آرائهم السياسيَّة داخل البرلمان.
الحشد الحكومي ودعوات المقاطعة
لم يكن النظام الإيراني غافلًا عن طبيعة الظروف التي سَوف تجري فيها العمليَّة الانتخابيَّة، فقد كانت كلُّ المؤشرات تدل على احتماليَّة كبيرة لانخفاض نسبة المشاركة في عمليَّة التصويت، الأمر الذي يُمكِن أن يُشكِّك في شرعيَّة البرلمان الجديد ويثير الجدل حول تمثيله لأغلبيَّة الشعب ويُظهِر ضعف التأييد للنظام القائم.
واستشعارًا مِن النظام لخطورة العزوف الشعبي عن المشاركة فقد جَنَّد كلَّ أجهزته لِحشد الناخبين أمام صناديق الاقتراع، وكان القائد الأعلى للثورة والمرجعيَّات الدينيَّة وكبار رجال الدولة على رأس المنادين بالخروج للمشاركة و”التواجد الحماسي” و”حسن الاختيار”. ودارت دعوتهم للمشاركة حول محاور محددة، مستقاة من أقوال خامنئي التي أكد فيها على أن المشاركة في الانتخابات واجب شرعي، ونعمة إلهيَّة، وأنها سَوف تكون أساسًا لعزة النظام الإسلامي وعاملًا مِن عوامل تقوية البلاد وحمايتها في مواجهة المؤامرات إذا ما اقترنت بحضور أغلبيَّة الشعب. وأن اختيار مجلس ضعيف سَوف يكون له تأثير سلبي طويل الأمد. وأن المشاركة واجب وطني وثوري وحق مدني لجميع أفراد الشعب. وأن تواجد الشعب بكثافة أمام صناديق الاقتراع سَوف يكون بركة على البلاد، وأن الانتخابات سَوف تُظهِر لأعداء إيران أن الشعب بجوار النظام ويَدعمه[5].
ولم تغب أمريكا عن دعوات الحشد، فالنظام يَرى أن الإقبال المرتفع على مراكز التصويت سَوف يكون إشارة واضحة لواشنطن، ألد خصوم إيران، أن البلاد لم ترضخ للعقوبات. وقد أدرك النظام أن ضعف الإقبال سَيُضعِف موقف زعماء إيران ويشجع منتقديهم سَواء في الداخل أو في الخارج مِمَّن يُجادلون بأن الجمهوريَّة الإسلاميَّة تحتاج إلى تغيير سياساتها الداخليَّة والخارجيَّة.
وعلى الجانب الآخر، تصاعدت الدعوات المنادية بمقاطعة الانتخابات البرلمانيَّة مِن جانب جماعات معارضة كحركة “مجاهدي خلق” ومنظمات حقوقيَّة وناشطين سياسيِّين وفنانيين ومبدعين، كما أصدرت مجموعة مِن السجينات السياسيَّات بيانًا رفضن فيه المشاركة في الانتخابات لأنها تعد تأييدًا للنظام الحاكم وموافقة على “جرائمه”[6].
وقد أكَّد الداعون إلى المقاطعة على أن الانتخابات “مسرحية” يَظهَر مِن خلالها النظام الإيراني “الاستبدادي” في صورة ديمقراطيَّة، وأنه يَخدع بها الشعب الإيراني، وأن حق الاختيار قد سُلِب مِن المواطنين الإيرانيِّين في ظِلِّ ممارسات الهيئات التي تتحكَّم في عمليَّة الترشيح وتتمتع بحق إقصاء المعارضين[7].
وفي ظِلِّ هذا التجاذب بين دعوات المشاركة والمقاطعة، جاءت استطلاعات الرأي قبل أيام مِن إجراء الانتخابات متوقعة تدني نسبة المشاركة، ومنها استطلاع مركز (ایسپا) الذي ذكر أن نسب المشاركة سَوف تقل عن ثلث العدد الذي يَحق له التصويت، واستطلاع جامعة طهران الذي ذكر أن 24.2٪ فقط هم الذين سَوف يَذهبون إلى صناديق الاقتراع، واستطلاع مجموعة (گمان) الذي ذكر أن 81٪ لن يشاركوا في الانتخابات[8].
التصويت في أجواء غير تنافسيَّة
بدأت عمليَّة التصويت صباح يوم الجمعة، في 55 ألف مركز للاقتراع موزعة على 208 دوائر انتخابيَّة في مختلف أنحاء البلاد، لانتخاب 290 نائبًا مِن بين 7148 مرشحًا. ولضمان زيادة نسبة المشاركة، تمَّ تمديد مهلة التصويت عِدَّة مرَّات لتصل إلى الساعة 12 مساءً.
وفي ظِلِّ دعوات المقاطعة واستبعاد المرشحين المعتدلين والإصلاحيين، توقع الكثيرون انخفاض نسبة المشاركة وإجراء العمليَّة الانتخابيَّة في أجواءٍ غير تنافسيَّة، وهو ما أكَّده الرئيس “حسن روحاني” نفسُه حينما ذكر أن التنافسيَّة قد غابت عن عشرات الدوائر الانتخابيَّة. ولكن المتحدث باسم مجلس صيانة الدستور، كدخدايي، صرَّح بأن ما قاله روحاني لم يكن دقيقًا، وأنه لم يرجع إلى وزراة الداخلية في الحصول على المعلومات الصحيحة[9].
ويَرى الناشط السياسي “حسن شريعمداري” أن “الجمهوريَّة الإسلاميَّة لم يكن لديها في مثل هذه الظروف سبيل آخر غير إقامة انتخابات غير تنافسيَّة، فقادة هذا النظام يَعرفون منذ مُدَّة أن الشعب لم يَعد مُعنيًّا بالانتخابات التي يُجرونها. والواقع أن الانتخابات بمعناها الصحيح كلمة لا وجود لها في جمهوريَّة إيران الإسلاميَّة. وأن الانتخابات في ظِلِّ هذا النظام إهانة لما يُعرَف مِن انتخابات حرة ونزيهة. وقد تحوَّل النظام الحالي مِن نظام سلطوي انتخابي إلى نظام ديكتاتوري كلاسيكي، وأن هذه الانتخابات سَوف تسهل محاربته في ظِلِّ هذا الوضع السياسي والاقتصادي”[10].
وقد اعترفت الصحف الحكوميَّة والمحسوبة على النظام بتدني الإقبال على التصويت، وراحت تعدِّد على لسان كتَّابها أسباب هذا التدني، كما في صحيفة (جوان) الناطقة باسم “الحرس الثوري”، والتي ذكرت أن نسبة الإقبال على المشاركة في الانتخابات أقل مِن مثيلتها في الانتخابات السابقة. وأرجعتها إلى القرار الخاطئ الذي اتخذته حكومة روحاني بزيادة سعر البنزين، وتنامي الاعتراضات الشعبيَّة، واستغلال وسائل إعلام معادية لمقتل إيرانيِّين في موجة الاحتجاجات التي سبقت الانتخابات، وسقوط الطائرة الأوكرانيَّة. وذكرت صحيفة (وطن امروز) أن قِلَّة المشاركة بمثابة تذكير مُهِم. وقالت إن أداء عدد مِن الحكوميِّين وبعض مِن نوَّاب المجلس السابق سببٌ مِن أسباب إحجام عدد كبير عن المشاركة. وذكرت صحيفة (مستقل) أن بعض المواطنين رفضوا المشاركة احتجاجًا على الأوضاع المعيشيَّة والفساد المستشري في بعض المؤسَّسَات الحكوميَّة، وهو ما أصاب البعض باليأس ودفعهم إلى المقاطعة. وقالت صحيفة (انتخاب) إنه لا يجب أن يكون التجاهل هو طريقة التعامل مع تدني نسبة المشاركة، ولابد مِن البحث في أسباب ذلك، لأن كل يوم يَمرُّ يَزيد معه الخلاف والفرقة[11].
نسبة المشاركة
بعد يومين مِن إجراء الانتخابات، أعلن وزير الداخليَّة “عبدالرضا رحماني فضلي”، في مؤتمر صحفي عقده في مقر “لجنة الانتخابات الإيرانيَّة” أن نسبة المشاركة في انتخابات الدورة الحادية عشرة لمجلس الشورى الاسلامي (البرلمان) قد بلغت 42.57٪، وأن ما يقرب مِن 25 مليون ناخب قد أدلوا بأصواتهم مِن إجمالي عدد الذين يَحِق لهم التصويت، وهو 58 مليون تقريبًا. وتُعدُّ هذه النسبة أقل نسبة مشاركة في جميع الانتخابات البرلمانيَّة التي أجريت في إيران خلال الأربعين عامًا الماضية. وكانت أكبر نسبة مشاركة على مستوى المحافظات مِن نصيب “كهكيلويه” و “بوير أحمد”، حيث وَصَلت إلى 71٪، في حين جاءت طهران في ذيل القائمة، وبنسبة تقدر بـ 26.2٪[12].
وقد أشار وزير الداخليَّة إلى ما أثير عن تأخير إعلان نسبة المشاركة خلافًا لما كان يَحدث في الماضي، حيث كانت النسبة تعلن عن طريق لجنة الانتخابات بعد ساعة واحدة مِن انتهاء عمليَّة الاقتراع، وعلى أساس عدد بطاقات التصويت المستخدمة[13]. ونفى الوزير وجود معلومات عن هذه النسبة في حوزة الوزارة إلى أن أعلنها في المؤتمر. وقد أشارت بعض المصادر إلى تعديل النظام الإيراني لنسبة المشاركة، ورفعها لتتخطى حاجز الأربعين في المائة، حيث ذكرت مصادر لم ترغب في ذكر اسمها لراديو فرنسا الدولي أن هذه الانتخابات شارك فيها 12 مليون ناخب على أقصى تقدير، وهو ما يَجعل نسبة المساركة في حدود 20٪ فقط. وتذهب تقارير أخرى مستقلة إلى أن نسبة المشاركة أقل مِن 15٪ تقريبًا، وأنها كانت بالترغيب والترهيب[14].
وفي تعليقها على نسبة المشاركة، شكَّكَت المعارضة الإيرانيَّة وناشطون سياسيُّون إيرانيُّون في النسبة التي ذكرها وزير الداخليَّة، حيث ذكرت منظمة “مجاهدي خلق” أن النظام قد تلاعب في نسبة المشاركة في “مسرحيَّة” الانتخابات[15]. أمَّا “تقي رحماني”، الكاتب والناشط السياسي الإيراني المقيم في باريس، فقد ذكر أن “الأرقام المعلنة مِن جانب الحكومة لا قيمة لها، لأن هذا النظام له تاريخ طويل مِن كتمان الحقائق”[16].
أسباب انخفاض المشاركة
تراوحت نسبة المشاركة بين 20٪ (متوسط النسب التي ذكرتها المعارضة) و42٪ (النسبة التي ذكرها وزير الداخليَّة)، وبهذا يكون حجم المشاركة قد تراجع عن الانتخابات الماضية بنسبة 19٪ تقريبًا. وقد اختلفت آراء المراقبين والمحللين والسياسيِّين حول أسباب انخفاض نسبة المشاركة في الانتخابات، وتبادل المحافظون والإصلاحيُّون التهم بإضعاف المشاركة الشعبيَّة، حيث أرجعها النظام وأنصاره إلى أسباب تعود في مجملها إلى فشل الإصلاحيِّين والضغوط الخارجيَّة التي عَقَّدت الوضع الداخلي:
1 – فشل حكومة روحاني في تلبية احتياجات المواطنين وكثرة الوعود التي أطلقها الرئيس الإصلاحي خلال السنوات الماضية ولم تنفذ. وقد رَدَّدت وسائل الإعلام المحسوبة على النظام هذا الاتهام في محاولة لتحميل روحاني ومَن وراءه مِن الإصلاحيين وزر المرحلة السابقة ومَا ترتب عليها مِن ضعف المشاركة الشعبيَّة في الانتخابات.
2 – تدهور الوضع الاقتصادي وصعوبة الظروف المعيشيَّة والتأثر بالأحداث التي سبقت الانتخابات، مِن احتجاجات وصدامات، وسقوط عدد كبير مِن القتلى، وإسقاط الطائرة الأوكرانيَّة.
4 – انتشار فيروس كورونا الذي أحدث حالة مِن الرعب في نفوس المواطنين الذين لزموا المنازل أو حضروا إلى مقرات الاقتراع تحت ضغط نفسي شديد، حتى إن مدينة (قم)، وهي مركز الأصوليِّين ومقر الحوزة العلميَّة، شهدت انخفاضًا ملحوظًا في عدد الناخبين.
3 – المؤامرات الخارجيَّة وحملات الدعاية المعادية للجمهوريَّة الإسلاميَّة. وكان خامنئي قد اتهم أمريكا بأنها تسعى للتأثير على الرأي العام الإيراني وفصل الشعب والشباب عن النظام الإسلامي.
هذا في حين رَدَّها معارضو النظام والناشطون السياسيون إلى أسباب أخرى، منها:
1 – إحباط الشعب الإيراني ويأسه مِن إمكانيَّة حدوث تغيير داخلي في ظِلِّ النظام القائم عن طريق الآليَّات الموجودة، ومنها البرلمان[17]. يقول مواطن إيراني لوكالة رويترز: “أدليت بصوتي عِدَّة سنوات ولم يُحدِث ذلك أيَّ فرق، لم نشهد أيَّ تقدُّم لكي نقول إننا نريد أن يَتقدَّم هذا المرشح أو ذاك”. وتقول مواطنة أخرى: “أنا شخص سبق أن أدلى بصوته، وكان أملي أن تتحسَّن الأمور… بالتأكيد لن أدلي بصوتي”[18].
2 – استبعاد المعتدلين والإصلاحيِّين وغياب التنافسيَّة. يقول “غلامرضا أنصاري”، عضو المجلس المركزي لحزب (اتحاد امت) إن جزءًا كبيرًا مِن أصوات الشعب الإيراني يَعود إلى “الطيف الرمادي”، وهم غير المنتمين إلى تيَّار سياسي مُحدَّد أو حزب مُعيَّن، ولكن تجذبهم الشعارات والبرامج الإصلاحيَّة، ويَخرج عددٌ كبيرٌ منهم للتصويت للإصلاحيِّين والمعتدلين والمستقلين، ولهذا لم يَخرج أكثرهم بعد أن استبعد النظام أكثرهم بواسطة رفض الأهليَّة[19].
3 – رغبة الشعب الإيراني في عدم منح النظام غطاءً ديمقراطيًّا، وسَحْب الشرعيَّة منه، وهو ما يُمكِن استنتاجه مِن شهادات نقلتها وكالة رويترز مِن داخل إيران عن مواطنين قرَّروا مقاطعة الانتخابات، ومنهم طالب شاب يقول: “النظام فاسد، وصوتي يُساعِدهم فقط على البقاء في السلطة. أنا لن أدلي بصوتي”[20].
دلالات المقاطعة
حَمَلت نسبة المشاركة المتدنية دلالات عديدة، ووَجَّهت رسائل مختلفة إلى جميع الأطراف، مِن محافظين وإصلاحيِّين ومُعتدِلين، ويُمكِن إجمالها فيما يلي:
- فشل النظام الإيراني في كَسْب ثقة الشعب وإخراجه بكثافة إلى صناديق الاقتراع، وذلك على الرغم مِن أن النظام لم يَدخر جهدًا في إذكاء روح الوطنيَّة واستخدام التأثير الديني لضمان كثافة المشاركة. ووَصَل الأمر إلى ما يشبه الاستجداء في قول خامنئي: “مِن الممكن ألا يُحبني شخصٌ، لكن إذا كان يُحِب إيران فعليه أن يتوجَّه إلى صندوق الانتخاب”[21]. وقد يَرى البعض أن النسبة المعلنة مِن جانب الحكومة ليست سيئة بالقياس إلى نسب المشاركة في كثير مِن الدول، ولكنها تمثل تراجعًا للنظام بالقياس إلى النسب السابقة في إيران، والتي تخطت الـ 70٪ ولم تقل عن 50٪. كما أنها لا تمثل الشعبيَّة الحقيقيَّة للنظام، لأن طهران لم يخرج 75٪ مِن ناخبيها للإدلاء بأصواتهم، وكانت أعلى النسب في المحافظات النائية، حيث تلعب العصبيَّات العرقيَّة والأسريَّة دورًا مهمًا في الحشد الانتخابي، ولا علاقة لذلك بتأييد النظام مِن عدمه.
- ضعف المشاركة في انتخابات البرلمان يُمثل رفضًا مِن قطاع واسع مِن الشعب الإيراني للجمهوريَّة الإسلاميَّة ونظام الحكم الحالي. يَرى الناشط السياسي “حسن شريعتمداري” أن السيد خامنئي وباقي قادة الجمهوريَّة الإسلاميَّة يَعتقِدون أن مشاركة الناس في الانتخابات بمثابة مبايعة للنظام الحاكم، وبنفس المنطق يجب أن تُعد قِلَّة مشاركة الشعب بالكثافة المطلوبة في الانتخابات معارضة صريحة لهذا النظام ورغبة شعبيَّة في تجاوزه. وبعبارة أخرى فإن السيد خامنئي حوَّل الانتخابات في هذا البلد إلى بيعة للنظام، والآن لا تمثل قِلَّة المشاركة في الانتخابات رفضًا للبيعة فقط، وإنما هي رغبة في طي صفحة هذا النظام بأكثر الأشكال سلميَّة، وأن أكثريَّة الشعب قالت “لا” لهذا النظام. وفي المقابل، هناك أقليَّة ذهب بعضها إلى صناديق الاقتراع مُجبرًا أو بحثًا عن فرصة أو مصلحة. ولكن المؤكَّد هو أن هذا النظام قد فقد آخر ما يَربطه بهذا المجتمع، وأن توحيد صوت السلطة – بإقصاء الآخرين – هو في الواقع توحيد للقوَّة مِن أجل قمع الشعب الإيراني[22].
- تآكل مشروعيَّة النظام بتقلُّص نسبة مؤيديه عامًا بعد آخر، خاصَّة بين الجيل الجديد مِن الشباب الذين وُلِدوا بعد الثورة، ويَنضم عددٌ منهم كل عام إلى الكتلة التصويتيَّة. وقد ذكرت التقارير أن 3 ملايين ناخب جديد صار لهم الحَق في التصويت في الانتخابات الأخيرة بعد أن وصلوا إلى السِّن القانونيَّة وهي 18 عامًا.
- فقدان الثقة في الإصلاحيِّين والمعتدلين بعد أن أدرك المواطن الإيراني عجزهم عن تحقيق الشعارت التي رفعوها مِن قبل وعدم قدرتهم على تنفيذ برامجهم التي كانت تجتذب أصوات المعارضين للنظام والمنادين بإحداث إصلاحات.
- الإبقاء على شرعيَّة الاحتكام إلى الشارع، واختيار وسيلة الاحتجاج والتظاهر للوصول إلى الأهداف المنشودة، وهو ما أكَّدته نتائج بعض الاستطلاعات التي ذكر أحدها أن 56٪ مِن المشاركين فيه قد فضَّلوا المظاهرات والخروج إلى الشارع على المشاركة في الانتخابات[23].
حسابات الربح والخسارة
بحسابات الأرقام، يُعَد المحافظون هم الفائز الأكبر في هذه الانتخابات، فقد تأكَّد حصولهم على 221 مقعدًا مِن أصل 290 مقعدًا في البرلمان. ووفقًا لقائمة أسماء الفائزين عن دائرة طهران الكبرى، فقد نجح أعضاء لائحة “مجلس التحالف للقوى الثوريَّة” بزعامة عمدة طهران الأسبق والمرشح الرئاسي الخاسر “محمد باقر قاليباف” بالحصول على جميع مقاعد العاصمة، وعددها 30 مقعدًا[24].
ولكن هذا الفوز يَظل فوزًا رقميًّا لا يُعبِّر عن شعبية حقيقيَّة للمحافظين، فقد أجريت الانتخابات في أجواء تخلو مِن التنافس الحقيقي بعد استبعاد معارضيهم، ولم تأت مِن خلال حشدٍ شعبيٍّ كثيفٍ كما أراد له النظام الحاكم. وبالرجوع إلى الأرقام التي أعلنها وزير الداخليَّة نجد أن قائمة المحافظين التي فازت بمقاعد طهران لا تمثل في الحقيقة غير النسبة التي نجحت بها مِن إجمالي 25٪ هم كلُّ الذين شاركوا بالتصويت في أهم منطقة انتخابيَّة في إيران.
وعلى الطرف الآخر، كانت نتائج الانتخابات ضربة موجعة للرئيس روحاني وأنصاره، حيث لم يَحصل الإصلاحيُّون إلا على 16 مقعدًا فقط، وفاز المستقلون بـ 34 مقعدًا. وفشل جميع المرشحين عن قائمتي حزب “كوادر البناء” و”تحالف مِن أجل إيران” الإصلاحيتين في طهران، وهم الذين اختاروا خوض السباق التشريعي خارج إطار قرار “المجلس الأعلى لوضع سياسات الجبهة الإصلاحيَّة”. وكان المجلس الإصلاحي قد قرَّر عدم طرح أيِّ قائمة انتخابيَّة في العاصمة طهران بسبب رفض مجلس صيانة الدستور أهليَّة أغلب مرشحيه، مؤكدًا أنه يَحترم قرار الأحزاب المنضوية تحت عباءته في خوض السباق الانتخابي بشكل منفرد دون الانتماء إليه[25].
ومَا بين الانتخابات السابقة التي حَقَّق فيها روحاني وحلفاؤه مكاسب كبيرة، وهذه الانتخابات التي فقد فيها الإصلاحيُّون مقاعدهم، تبدو الأمور غاية في الاختلاف، إذْ لا تقتصر خسارة الإصلاحيَّين في هذه الانتخابات على فقدان مقاعدهم في البرلمان الجديد فحسب، ولكنها تتجاوز ذلك إلى ما هو أخطر، وهو سقوط المشروع الإصلاحي في أعين كثير مِن أنصاره، وفشله في الصمود أمام المحافظين، وعدم قدرته على تحقيق ما وَعَد به مِن إمكانيَّة تغيير النظام الإيراني وإصلاحه مِن الداخل، وتبخر ما بشر به مِن رخاء في أعقاب التوقيع على الاتفاق النووي الذي تمَّ التوصُّل إليه مع القوى الكبرى في عام 2015م، وكان الإيرانيُّون يأملون في انتشال إيران مِن عزلتها السياسيَّة ودعم اقتصادها بعد هذه الاتفاق.
وبغض النظر عن خلفيَّات الربح والخسارة، وبعيدًا عن التأييد الشعبي للمحافظين مِن عدمه، فإن المشهد التشريعي والرقابي صَار يتصدره المحافظون الذين سَوف يتولون مسؤوليتهم في ظِلِّ توتر متصاعد بين طهران وواشنطن، وفي ظِلِّ ظروف داخليَّة صعبة. وأن الرئيس روحاني سَوف يواجه مزيدًا مِن الضغوط خلال ما تبقى له مِن فترة رئاسته الثانية والأخيرة، والتي تنتهي في عام 2021م. ويُمكِن للبرلمان بتركيبته الجديدة أن يؤثر على سياسة الانفتاح التي يتبعها الرئيس خارجيًّا، فالمحافظون المتشددون يَرفضون أيَّ مفاوضات مع الغرب، ويَتطلَّعون إلى التخلِّي عن الاتفاق النووي الذي انسحبت منه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في عام 2018م[26].
أمَّا عن المجتمع الإيراني فإن الناشط السياسي “مهران مصطفوي” يَرَى أنه قد دخل بعد الانتخابات الأخيرة في مرحلة جديدة، أهم ملامحها هو أن قسمًا كبيرًا مِن الشعب الإيراني لم يَعد يثق في مؤسَّسَات الدولة في جمهوريَّة إيران الإسلاميَّة، وصَار لا يؤمن بإمكانيَّة الإصلاح الداخلي لهذا النظام، وأن هذا يُعدُّ تحولًا كبيرًا جدًا[27].
الهوامش
[1] کدخدایی: اظهارات روحانی درباره رقابتی نبودن برخی حوزههای انتخابیه دقیق نبود، “خبرگزاري دانشجو”، 30 بهمن 1398ش، https://snn.ir/fa/news/828574
[2] كدخدائي: لا ننظر للتوجهات السياسية في تحديد أهلية المترشحين للانتخابات البرلمانية، “وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء”، 18 يناير 2020، ar.irna.ir/news/83637699
[3] “راديو VOA”، فساد مالی در شورای نگهبان؛ واسطهها برای تایید صلاحیت نامزدها پول میلیاردی درخواست میکنند، 7 بهمن 1398ش، https://ir.voanews.com/a/iran-corruption-elections/5262122.html
[4] كدخدائي: لا ننظر للتوجهات السياسية في تحديد أهلية المترشحين للانتخابات البرلمانية، “وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء”، 18 يناير 2020، ar.irna.ir/news/83637699
[5] رهبر انقلاب: اگر مجلس ضعیف و خودباخته باشد، تاثیر منفی بلندمدت دارد، “جوان آنلاين”، 29 بهمن 1398ش، http://www.Javann.ir/0049tN
[6] “جوانه ها”، بیانیه ۱۲ تن از زنان زندانی سیاسی در خصوص تحریم انتخابات، 29 بهمن 1398ش، https://javanehha.com/2020/02/18/
[7] المصدر السابق.
[8] “ايران اينترنشنال”، آخرین نظرسنجی انتخاباتی در تهران؛ مشارکت کمتر از یک سوم مردم، 1 اسفند ۱۳۹۸ش، https://iranintl.com.
[9] کدخدایی: اظهارات روحانی درباره رقابتی نبودن برخی حوزههای انتخابیه دقیق نبود، “خبرگزاري دانشجو”، 30 بهمن 1398ش، https://snn.ir/fa/news/828574
[10] “RFI فارسي”، انتخابات مجلس و “نه” اکثریت بزرگ به جمهوری اسلامی، 21 فوريه 2020، http://www.rfi.fr/fa
[11] “سازمان مجاهدين خلق ايران”، اعتراف مهرهها و رسانههای حکومتی به تحریم نمایش انتخابات، ۵ اسفند 1398ش، www.mojahedin.org
[12] “خبرگزاري جمهوري اسلامي”، میزان مشارکت در ۱۱ دوره انتخابات مجلس چگونه بوده است؟، ۵ اسفند ۱۳۹۸ش، www.irna.ir/news/83687482
[13] “ايران اينترنشنال”، ادامه خودداری دولت ایران از اعلام آمار مشارکت در انتخابات مجلس، 3 اسفند، 1398ش، https://iranintl.com
[14] “ايران كارگر”، خامنه ای تحریم گسترده انتخابات مجلس از سوی مردم را به ویروس کرونا نسبت داد، 4 اسفند 1398ش، https://irankargar.com
[15] “سازمان مجاهدين خلق”، انتخابات؛ شکست سنگین و موقعیت بغرنج خامنهای، ۵ اسفند 1398ش، https://article.mojahedin.org
[16] “RFI فارسي”، “عدم مشارکت گسترده در انتخابات مجلس یک پیروزی تاکتیکی برای جامعه مدنی ایران است” ــ گفتگو با تقی رحمانی، 23 فوريه 2020، http://www.rfi.fr/fa
[17] “RFI فارسی“، انتخابات مجلس و “نه” اکثریت بزرگ به جمهوری اسلامی، گفتگو با مهران مصطفوی و حسن شریعتمداری، 21 فوريه 2020، http://www.rfi.fr/fa
[18] “رويترز”، “من سيء لأسوأ”.. خيبة الأمل قد تدفع إيرانيين كثيرين لتجاهل الانتخابات، 18 فبراير 2020، https://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKBN20C1EO
[19] “خبرگزاري جمهوري اسلامي”، پس انتخابات مجلس و بایدهای لازم در تحقق اراده ملی، ۵ اسفند 1398ش، https://www.irna.ir/news/83688383
[20] “سازمان مجاهدين خلق”، تحریم انتخابات، پاسخ شایسته مردم به خون شهدای آبان، 4 اسفند 1398ش، https://article.mojahedin.org
[21] “رويترز، “من سيء لأسوأ”.. خيبة الأمل قد تدفع إيرانيين كثيرين لتجاهل الانتخابات، 18 فبراير 2020، https://ara.reuters.com/article/worldNews/idARAKBN20C1EO
[22] “RFI فارسي”، انتخابات مجلس و “نه” اکثریت بزرگ به جمهوری اسلامی، 21 فوريه 2020، http://www.rfi.fr/fa
[23] “ايران اينترنشنال”، نظرسنجی دانشگاه تهران از مردم پایتخت؛ تنها ۲۴ درصد در انتخابات شرکت میکنند، 27 بهمن 1398ش، https://iranintl.com
[24] “الجزيرة”، بعد إعلان نتائج الانتخابات.. ما تأثير البرلمان المحافظ على السياسة الخارجية الإيرانية؟، 23 فبراير 2013، https://www.aljazeera.net/news/politics/2020/2/23
[25] المصدر السابق.
[26] “فرانس 24″، إيران: نسبة مشاركة هي الأضعف منذ عقود في انتخابات يتوقع أن يفوز فيها المحافظون بالأغلبية البرلمانية، 22 فبراير 2020، https://www.france24.com/ar/20200222
[27] “RFI فارسي”، فارسي”، انتخابات مجلس و “نه” اکثریت بزرگ به جمهوری اسلامی، 21 فوريه 2020، http://www.rfi.fr/fa