عرض كتاب - اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية
المحتويات
مقدمة المحرر
مقدمة الكتاب
الجزء الأول: الولايات المتحدة وإسرائيل واللوبي
- الفصل الأول: الراعي الأكبر (دعم أمريكي بلا حدود)
- الفصل الثاني: ورقة استراتيجية أم عبء؟
- الفصل الثالث: قضية أخلاقية متراجعة
- الفصل الرابع: ما اللوبي الإسرائيلي؟
- الفصل الخامس: توجيه العملية السياسية
- الفصل السادس: السيطرة على الخطاب العام
الجزء الثاني: اللوبي في الواجهة
- الفصل السابع: اللوبي في مواجهة الفلسطينيين
- الفصل الثامن: العراق وأحلام تحويل الشرق الأوسط
- الفصل التاسع: استهداف سوريا
- الفصل العاشر: إيران في المرمى
- الفصل الحادي عشر: اللوبي وحرب لبنان الثانية
خاتمة الكتاب: ما الذي يتوجب فعله؟
تعليقات على الكتاب
مقدمة المحرر
جددت عملية “طوفان الأقصى”، في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وما تلاها من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة المحاصَر، الحديث حول العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية. ذلك أن الولايات المتحدة ألقت بثقلها خلف دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ اليوم الأول للحرب.
ورغم أن هناك بعض النقاط الخلافية بين الطرفين، والتي رصدها “مركز المسار” في ورقة “تطورات المواقف الأمريكية والأوروبية من الحرب على غزة.. السياقات والدوافع“، إلا أن واشنطن ما زالت تعرقل، في مجلس الأمن الدولي، المساعي الداعية إلى وقف إطلاق النار بشكل كامل، في تماهي مع الموقف الإسرائيلي.
وما زالت الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بالسلاح في حربها المستمرة على القطاع، رغم الدعوات المتكررة لوقف إطلاق النار، من غالبية دول العالم، ورغم التظاهرات التي خرجت في المدن الأمريكية والأوروبية، والضغط الشعبي والإعلامي على الإدارة الأمريكية لسحب دعمها للحرب على غزة.
وإزاء ذلك، تبرز العديد من الأسئلة حول سبب هذا القدر من الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة لإسرائيل على مدار عقود. وقد حاول بعض المفكرين تقديم أجوبة على هذا السؤال، منهم البروفيسور جون ميرشايمر (John Mearsheimer)، أستاذ العلوم السياسية بجامعة “شيكاغو” الأمريكية، والبروفيسور ستيفن والت (Stephen Walt)، أستاذ العلوم السياسية بجامعة “هارفارد” الأمريكية.
وقد أصدر الأستاذان الأمريكيان، في مارس/آذار 2006، دراسة بعنوان “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية” (The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy)، استعرضا فيها أسباب محتملة وراء الدعم الأمريكي السخي لإسرائيل، مؤكدين أن السبب الأبرز هو قوة اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة. وبعد عام تقريبًا، طوّر ميرشايمر ووالت هذه الدراسة وتوسعا في بعض المباحث، ليصدرا عام 2007 كتابًا يحمل الاسم ذاته.
وقد أحدثت الدراسة، ومن بعدها الكتاب، جدلًا ضخمًا حول العالم، خاصة داخل الولايات المتحدة و”إسرائيل”، حتى إن الزعيم الأسبق لتنظيم القاعدة، أسامة بن لادن، ذكر كتاب ميرشايمر ووالت، في خطاب له في سبتمبر/أيلول 2009، وأوصى الأمريكيين بقراءته ليطّلعوا على الحقيقة، وفق وصفه.[1]
وتنبع أهمية هذا الكتاب من شهرة المؤلفَين ومكانتهما في المجتمع العلمي، إذ أنهما من رواد المدرسة الواقعية في السياسات الدولية، ومن أبرز منظّريها في الوقت الراهن، كما تتميز كتاباتهما بالرصانة العلمية، وفق كثيرين. ولذلك، فإنه يجدر -على أقل تقدير- النظر فيما يطرحاه في أفكار، عند الحديث عن أمر يمس المنطقة ومستقبلها، كالدعم الأمريكي لإسرائيل.
علاوة على ذلك، فإن الكتاب يطرح الكثير من الدلائل على سرديته، حيث يناقش عدة أسباب يعتبرها مفكرون آخرون هي السبب الرئيسي للدعم الأمريكي السخي لإسرائيل، ثم يخلص في النهاية إلى أن اللوبي الإسرائيلي هو السبب الرئيسي. هذا مع تناوله لتأثير اللوبي في السياسة الخارجية الأمريكية في أحداث محورية في تاريخ العالم العربي، كحرب العراق، وتأثير اللوبي على صوغ السياسة الأمريكية تجاه لبنان وسوريا وإيران وفلسطين، وغيرها.
وعلى هذا، آثرنا في “مركز المسار” عرض كتاب “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية”، وتلخيص أبرز ما جاء فيه، باعتبار أنه أشمل وأكثر تفصيلًا من الدراسة التي حملت نفس العنوان. هذا مع طرح بعض التعقيبات والانتقادات التي وُجهها مفكرون آخرون للكتاب أو للفكرة التي يحملها.
ويحتوي كتاب “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية” على مقدمة وجزأين وخاتمة. ويركز الجزء الأول، الذي يحمل عنوان: “الولايات المتحدة وإسرائيل واللوبي” على طبيعة العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية. ففي هذا الجزء الذي يحتوي على ستة فصول، يحاول الكاتبان إبراز قوة العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، مع استعراض وجهات النظر المختلفة حول أسباب عمق هذه العلاقات. ثم يركز الكتاب على تعريف اللوبي الإسرائيلي وتحديد دوره في توجيه العملية السياسية ومحاولته للسيطرة على الخطاب العام في الداخل الأمريكي.
أما الجزء الثاني، المعنون بـ”اللوبي في الواجهة”، فيركز على تأثير اللوبي الإسرائيلي على السياسة الخارجية الأمريكية تجاه عدة دول شرق أوسطية، وهي العراق وسوريا وإيران ولبنان، وقبل ذلك تناول ضغوط اللوبي للتأثير على السياسة الأمريكية في الملف الفلسطيني. وفي الخاتمة، يطرح ميرشامير ووالت رؤية لما يجب أن تكون عليه السياسة الأمريكية تجاه “إسرائيل”.
وقبل الشروع في عرض الكتاب يجدر بالذكر أن بإمكان القارئ العربي قراءة الكتاب باللغة العربية، حيث أتاحه بالعربية المترجم أنطوان باسيل، ونشرته “شركة المطبوعات للتوزيع والنشر” اللبنانية. وحملت الترجمة عنوان: “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية”. كما أن الدراسة التي سبقت هذا الكتاب تُرجمت مرتين، وفق رصد مركز المسار. إحداهما للمترجم فاضل جتكر، ونشرتها “مكتبة العبيكان”، تحت عنوان: “أمريكا المختطفة.. اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتحدة الخارجية”، والأخرى للدكتور مدحت طه، ونشرتها “دار نفرو للنشر والتوزيع”، تحت عنوان: “حرب الأفكار واللوبي الإسرائيلي في أمريكا”.
مقدمة الكتاب
تركز مقدمة الكتاب بشكل أساسي على توضيح سلوك السياسيين الأمريكيين تجاه إسرائيل، إذ أوضح أنهم قد يختلفون في مناظراتهم ولقاءاتهم الانتخابية على قضايا عديدة، داخلية وخارجية، مثل الضرائب والتعليم والإجهاض، والعداء الروسي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والقوة المتصاعدة للصين، لكنهم عند الحديث عن إسرائيل، فإنهم “يذهبون إلى أبعد ما يكون للتعبير عن التزامهم العميق بها وبالدعم الأمريكي لها”.
ويشدد المرشحون للمناصب الأمريكية العليا على أنهم سيلتزمون بقوة “بالدفاع عن مصالح إسرائيل في ظل أي ظرف من الظروف، وحتى في ظل جميع الظروف مجتمعة”. و”مهما انتهكت إسرائيل حقوق الإنسان في فلسطين، ومهما ارتكبت من مجازر بحق الفلسطينيين، وبحق اللبنانيين، يبقَ مستوى الدعم الأمريكي لها -في معظمه- إلى ازدياد”.
وهنا يطرح الكاتبان سؤالًا: “لماذا؟ وما الذي يفسر هذا السلوك الأمريكي؟” وبشكل موجز يوضح الكتاب في مقدمته خطأ بعض الأطروحات في الإجابة على هذا السؤال. ومن هذه الأطروحات الخاطئة -وفق المؤلفَين- أن إسرائيل أصل استراتيجي مهم بالنسبة للولايات المتحدة، وبالتالي تنال هذا القدر من الدعم الأمريكي. ومنها أيضًا أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل لأسباب أخلاقية ولأنها أقلية في وسط محيط عربي معاد لها.
كما يعترض الكتاب على الرؤية القائلة بأن هذا الدعم الأمريكي يأتي كتعويض عن جرائم سابقة وقعت بحق اليهود، كمحرقة الهولوكوست، أو لأن إسرائيل بلد ديمقراطي كأمريكا، يعيش في محيط استبدادي.
علاوة على ذلك، يعتقد ميرشايمر ووالت أنه “ليس من الحكمة محاولة تفسير السياسة الأمريكية الراهنة بالإشارة إلى المعتقدات الدينية لحقبة ماضية”، في إشارة إلى “المسيحية الصهيونية”. حيث إن الزعماء الأمريكيون -بحسب الكتاب- لم يقدموا دعمًا مفتوحًا لإسرائيل منذ البداية، بل حاولوا التوصل إلى موقف متوازن بين إسرائيل والعرب، بعد تأسيس إسرائيل في 1948، “خوفًا من تعريض المصالح الاستراتيجية الأمريكية للخطر”. لكن تغير هذا الموقف في العقود اللاحقة ردًا على حرب 1967، والتقارب السوفيتي العربي، والنفوذ المتزايد للوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة.
وإجمالًا، يحيل ميرشايمر ووالت سبب الدعم الأمريكي لإسرائيل إلى اللوبي الإسرائيلي القوي، النشط في الولايات المتحدة، والذي وصل نفوذه إلى حد يضر بالمصالح الأمريكية نفسها، حسبما أوضح الكتاب. وتشير مقدمة الكتاب إلى أن “هذا الوضع الذي لا مثيل له في التاريخ الأمريكي… بات يشكّل خطرًا على الأمن القومي للولايات المتحدة”. من ذلك ما وصفه الكتاب بـ”إزكاء نار العداوة لأمريكا في العالمين العربي والإسلامي”.
ويرى ميرشايمر ووالت أن الضعف البالغ للحجج الاستراتيجية والأخلاقية التي يستخدمها اللوبي لتسويغ الدعم الأمريكي لإسرائيل، قادت اللوبي في نهاية المطاف إلى محاولة كبت أي نقاش جدي، وتهميش المنتقدين. إذ بات من الصعب الحديث عن تأثير اللوبي في السياسة الخارجية الأمريكية دون أن يوجَّه الاتهام للمنتقدين بأنهم “معادون للسامية”، وحتى إن كانوا يهودًا، فإنهم يوصمون بأنهم “يهود كارهون لأنفسهم”.
ورغم هذه الانتقادات التي وجهها الكتاب للوبي الإسرائيلي، إلا أنه من السهل ملاحظة أنه احتوى على لهجة اعتذراية أو تبريرية؛ بسبب تعرضه للوبي الإسرائيلي، ولإسرائيل نفسها، بالنقد. وقد ظهرت هذه اللهجة التبريرية في عدة نقاط، خاصة في مقدمة الكتاب. أولها أن الكتاب صُدّر بمقولة للفيلسوف برتراند راسل، يؤكد فيها أن “من المهم في كل المسائل أن تطرح، بين الحين والآخر، علامة استفهام على الأمور التي لطالما اعتبرتها مسلمًا بها”. فبهذا النقل، يريد الكاتبان أن يبررا -خاصة للقراء الداعمين لإسرائيل- تناولهما لهذا الموضوع الشائك.
ولإدراك ميرشايمر ووالت أنهما سيوصمان بمعاداة السامية بسبب انتقادهما لإسرائيل، فإنهما أكدا أن اليهود عانوا في الماضي، وتعرضوا لتاريخ طويل من الاضطهاد، خاصة في أوروبا، إلى أن “بلغت هذه السيرة المشينة أوجها في الإبادة النازية”.
ولإدراكهما أيضًا أن هناك مَن سيرى أنهما يتبنيا نظرية المؤامرة، فإن ميرشايمر ووالت ردّا على ذلك في مقدمة الكتاب، حيث ألمحا إلى كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون”، باعتباره “يضج بنظريات المؤامرة” وأن “تحذيراته الرهيبة من النفوذ اليهودي السري تُعد مادة أساسية للنازيين الجدد وغيرهم من المتطرفين”. وأبدى الكاتبان اعتراضهما على أن “اليهود يمارسون نفوذًا غير مشروع في السيطرة على المصارف ووسائل الإعلام”، حسبما يدعي “بروتوكولات حكماء صهيون”.
وفي المقابل، أوضحا أنهما يناقشان اللوبي الإسرائيلي كفاعل سياسي علني، يعمل وفق القانون الأمريكي. فالنظام التأسيسي للولايات المتحدة يجعل منها دولة مهاجرين، ويسمح القانون الأمريكي لهؤلاء المهاجرين بتشكيل مجموعات ضغط على السياسيين لتنفيذ مصالحهم. ومن هذا المنطلق، فإن اللوبي الإسرائيلي يعمل وفق القانون الأمريكي، ولا يرى أيٌّ من ميرشايمر أو والت أن اللوبي يقوم بأعمال غير شرعية.
وكان الكتاب دقيقًا أيضًا في وصف اللوبي بـ”الإسرائيلي” وليس”اليهودي”، حيث أكد أن ما يشكّل اللوبي هو الأجندة السياسية، وليس الإثنية أو الدين. وأبدى ميرشايمر ووالت رفضهما لأن يوصف اللوبي بـ”اليهودي”، باعتبار أن هناك من اليهود من لا يدعم إسرائيل، وأن هناك العديد من اليهود في الولايات المتحدة لا يعملون تحت مظلة اللوبي الإسرائيلي.
كما حاول المؤلفان إقناع القارئ المتحمس لإسرائيل، أن الكتاب في مصلحة إسرائيل نفسها؛ لأنها تنتهج سياسات، وإن كانت ترى فيها المصلحة الآنية، إلا أنها تضر بها على المدى البعيد. وأوضح الكتاب أن طريقة عمل اللوبي تقلل من القدرة الأمريكية على كبح هذه السياسات، ما يضر بإسرائيل في نهاية المطاف، مشيرًا إلى أن رفض إسرائيل لحل الدولتين أحد الأمثلة على ذلك.
أضف إلى ذلك أن ميرشايمر ووالت أكدا في غير مرة أنهما مع حق إسرائيل في الوجود، بل وأن على الولايات المتحدة واجبًا أخلاقيًا لحمايتها إذا تعرضت لخطر وجودي. وأوضحا أن ما يدعو إليه كتابهما ينحصر في أن تكون علاقة بلادهما مع إسرائيل علاقات طبيعية، وأن تُغَلّب المصلحة الأمريكية على المصلحة الإسرائيلية إن تعارضتا.
كل هذه النقاط تدلل على اللهجة التبريرية التي تضمنتها مقدمة الكتاب، والتي يرجع سببها الرئيسي إلى رغبة عالما السياسية الأمريكيين في تجنب سوء فهم طرحهما، خاصة في ظل وجود داعمين لإسرائيل لا يقبلون أي نقد لأفعالها أو لطبيعة علاقاتها بواشنطن. وقد أقر ميرشايمر ضمنًا بأن الهجوم المتوقع على الكتاب هو سبب لهجته التبريرية، فعندما سُئل عن ذلك، رد ساخرًا: “ليته نفع”.[2]
وفيما يلي، سنحاول تلخيص أبرز أطروحات الكتاب.
الجزء الأول: الولايات المتحدة وإسرائيل واللوبي
الفصل الأول: الراعي الأكبر (دعم أمريكي بلا حدود)
بدأ الفصل الأول من الكتاب بتوضيح مدى الدعم الأمريكي لإسرائيل خلال العقود الماضية، حيث قسّم هذا الدعم إلى: دعم اقتصادي، ودعم عسكري، ودعم دبلوماسي. وجمع ميرشايمر ووالت عشرات الأدلة التي تثبت أن “أموال دافعي الضرائب الأمريكيين دعمت تطوير الاقتصاد الإسرائيلي وأنقذته في فترات الأزمات المالية المتتالية، كما قوّت المساعدة العسكرية الأمريكية إسرائيل في زمن الحرب، وساعدت على الحفاظ على سيطرتها العسكرية في الشرق الأوسط، ووفرت الولايات المتحدة لإسرائيل دعمًا دبلوماسيًا واسعًا في فترات الحرب والسلم”. وسنكتفي هنا بذكر بعض الدلائل التي أوردها الكتاب.
فعلى الجانب الاقتصادي، تحصل إسرائيل سنويًا على متوسط 3 مليارات دولار، وهو مبلغ كان يشكّل عام 2007، حوالي سدس موازنة المساعدات المباشرة التي تقدمها الخارجية الأمريكية على مستوى العالم. وأورد الكتاب أن هذا الرقم -على ضخامته- يُغفل رقمًا كبيرًا جدًا من الفوائد الأخرى، فحسب النائب الديمقراطي، لي هاملتون، فإن الرقم السنوي للمساعدات الأمريكية لإسرائيل بحلول 1991، فاق 4.3 مليار دولار.
أضف إلى ذلك أن إسرائيل هي الجهة الوحيدة التي ليس عليها أن تعلل كيفية إنفاقها للمساعدات الأمريكية، بخلاف البلدان الأخرى التي تُمنح المساعدات لإنفاقها في مشاريع محددة كبرامج مكافحة المخدرات، أو نشر الديمقراطية، وخلافه. ويرى ميرشايمر ووالت أن هذا الاستثناء فيه إشكال، لأنه “يجعل من المستحيل عمليًا على الولايات المتحدة منع استخدام معونتها لأغراض تعارض سياستها، كبناء المستوطنات في الضفة الغربية”.
وعلى الجانب العسكري، فإن الولايات المتحدة حريصة على التفوق العسكري الإسرائيلي على دول المنطقة. فقد ذكر معهد البحوث في الكونغرس أن “الدعم العسكري الأمريكي ساعد على تحويل الجيش الإسرائيلي إلى واحد من أكثر الجيوش المتطورة تكنولوجيًا في العالم”.
كما استعرض الكتاب مسألة تخزين الولايات المتحدة جزءًا من أسلحتها في إسرائيل، كـ”وسيلة لتحسين قدرة البنتاغون على الرد عسكريًا على أي أزمة إقليمية”. لكن في المقابل، أوضح الكاتبان أن هذه الخطوة لا تصب في صالح الولايات المتحدة، إذ أنه يُسمح للقوات الإسرائيلية باستخدام هذا المخزون أيضًا. وبالتالي، فإنه “لا يمكن للولايات المتحدة التأكد قطعيًا من أن الأسلحة والذخائر المخزنة في إسرائيل ستكون متوفرة لدى حدوث أزمة”، هذا فضلًا عن مشكلات لوجستية أخرى.
وعلى المستوى الاستخباري، فقد مُنحت إسرائيل في أوائل الثمانينات حق الوصول إلى أنواع معينة من المعلومات الاستخبارية، هي في الأصل محجوبة حتى عن أقرب حلفاء أمريكا في حلف الناتو، ومنها بريطانيا.
وعلى عكس الضغط الذي مارسته أمريكا على عشرات الدول لتوقيع معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، إلا أنها لم تفعل الكثير للضغط على إسرائيل لوقف برنامجها النووي. بل إن إسرائيل التفت على جهود إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، جون كينيدي، في أوائل الستينات، التي هدفت لتفتيش منشآتها النووية. ويرى ميرشايمر ووالت أن الذي مكّن إسرائيل من هذا الالتفاف هو أنه “لا كينيدي ولا خليفته ليندون جونسون، كانا على استعداد لحجب الدعم الأمريكي في حالة عدم استجابة إسرائيل”.
وعلى الجانب الدبلوماسي، فإن الولايات المتحدة تُفَعّل حق الفيتو لصالح “إسرائيل” في مجلس الأمن الدولي. وقد أوردت تقارير أن السفير الأمريكي الأسبق في الأمم المتحدة، جون نيغروبونتي، قال في 2002 في جلسة مغلقة لمجلس الأمن، إن “الولايات المتحدة ستضع من الآن فصاعدًا الفيتو على أي قرارات تدين إسرائيل، ولا تدين الإرهاب في الوقت نفسه”. كما تدعم واشنطن تل أبيب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، “الأمر الذي يضعها في خلاف مع معظم حلفائها، وفي تناغم مع حفنة صغيرة من الدول الأخرى”، وفق وصف الكتاب.
وذكر ميرشايمر ووالت أمثلة أخرى عديدة ومحطات محورية دعمت فيها الولايات المتحدة إسرائيل، كحرب الاستنزاف بعد عام 1967، وحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. ويمكن تلخيص حجم الدعم الأمريكي لإسرائيل فيما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحاق رابين، من أن سخاء أمريكا حيال إسرائيل “ليس له مثيل في التاريخ الحديث”.
وفي هذا الصدد، يؤكد العالمان الأمريكيان أن بلادهما ورغم تحقيقها بعض المكاسب من دعمها لإسرائيل -خاصة إبان الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي- إلا أنها أعطت أكثر بكثير مما كسبت.
الفصل الثاني: ورقة استراتيجية أم عبء؟
لهذا الفصل وبقية الجزء الأول من الكتاب أهمية خاصة، لأن المؤلفَين، وبعد إثبات استثنائية العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية، حاولا البحث عن سبب ذلك. وخُصص هذا الفصل لدراسة ما يروَّج من أن الدعم الأمريكي لإسرائيل يأتي باعتبارها ورقة استراتيجية لدى الولايات المتحدة وضرورة لأمنها القومي.
إذ تناول ميرشايمر ووالت طرح باحثين آخرين -أمثال ستيفن سبيغل (Steven Spiegel) وأورغانسكي (A. F. K. Organski)- ادعوا أن “إسرائيل أصبحت ورقة استراتيجية رئيسية في الحرب الباردة”، ما يعني أن “الدعم الراسخ لإسرائيل هو انعكاس للمصالح الاستراتيجية الأمريكية العليا”.
ويشير الكتاب إلى أنه عند تأسيس إسرائيل في 1948، لم يعتبرها صانعو السياسة الأمريكيون ورقة استراتيجية. بل ولضعف إسرائيل، أدرك الساسة الأمريكيون أن احتضانها أكثر من اللازم، سيهدد موقع الولايات المتحدة ومكانتها. وحول اعتراف الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، بإسرائيل فور الإعلان عن تأسيسها، يرى الكاتبان أن هذا جاء كنوع من التعاطف مع المعاناة اليهودية، وكقناعة دينية عند البعض، وكوعي لدى الرئيس الأمريكي بأن هذا الاعتراف سيكون له مردود إيجابي عليه في الداخل بسبب دعم كثير من الأمريكيين لهذه الخطوة.
وبالتالي، فإن اعتراف أمريكا بالدولة الناشئة حينها لم يكن لأسباب استراتيجية -وفق الكتاب- وحاولت واشنطن أن تكون على مسافة من إسرائيل، حتى لا تدفع العرب نحو الاتحاد السوفيتي. وهذا ما قاله مخطط السياسات الخارجية الأمريكي، جورج كينان (George Kennan)، من أن تقديم أقصى دعم للأهداف السياسية للحركة الصهيونية سوف يكون “على حساب مجمل الأهداف الأمنية الأمريكية” في الشرق الأوسط.
لكن تآكلت وجهة النظر هذه في أوائل الستينات، وقررت إدارة جون كينيدي زيادة الدعم لإسرائيل، لمواجهة الدعم السوفيتي لمصر، وكانت إسرائيل حينها “تلعب دور الوكيل الأمريكي في الشرق الأوسط”، حسب وصف الكتاب.
ورغم قناعة ميرشايمر ووالت أن الدور الإسرائيلي إبان الحرب الباردة كان في صالح أمريكا، إلا أنهما شككا في أن هذا الدور كان حاسمًا؛ “فقدرة إسرائيل على مساعدة الولايات المتحدة -شريكها الأقوى منها بمراحل- كانت محدودة”. وبذلك، يعتبر الكتاب أن إسرائيل أفادت أمريكا إبان الحرب الباردة، “لكن يجب ألا يُبالَغ في أهمية قيمتها الاستراتيجية”.
ويعتقد العالمان الأمريكيان أن “دعم إسرائيل كان مفيدًا للولايات المتحدة في الماضي، إلا أن هذه المنافع تراجعت بحدة في الأعوام الأخيرة، بينما ارتفعت الكلفة الاقتصادية والدبلوماسية لهذا الدعم”. بل وتحولت إسرائيل إلى “عبء استراتيجي” على واشنطن. وقد ثبت ذلك في عدة محطات، منها حرب الخليج، التي لم تستطع فيها الولايات المتحدة استخدام القواعد الإسرائيلية “حتى لا تُعرِّض ائتلافها الهش ضد العراق للخطر”.
وبعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، أصبح التبرير الاستراتيجي للدعم الأمريكي لإسرائيل، هو أن هناك “دولًا مارقة” تعادي إسرائيل وأمريكا؛ بسبب نفورها من القيم الغربية. لكن يعارض الكتاب هذا الزعم، باعتبار أن هذه العداوة رد فعل على السياسات الإسرائيلية والأمريكية، لا لمجرد كونهم غربيين أو مسيحيين.
ومن هذا المنطلق، يعتقد ميرشايمر ووالت أن الدعم الأمريكي المفتوح لإسرائيل تسبب في “المشكلة الإرهابية التي تواجهها واشنطن”. فالسياسات الأمريكية الجائرة -وفق وصف الكتاب- كلفت واشنطن على مر السنين، حيث ساهمت في نمو العداء لأمريكا في المنطقة، وألهمت تنظيم القاعدة، وسهّلت عليه تجنيد أعضاء جدد.
وفي نهاية هذا الفصل، أشار الكاتبان إلى أن “إسرائيل لا تتصرف كحليف وفي”، واستشهدا ببعض السياسات الإسرائيلية التي تضر بالولايات المتحدة، كتجسس إسرائيل عليها، أو نقلها تكنولوجيا أمريكية إلى بلدان ثالثة، بمن فيها خصوم للولايات المتحدة، كالصين. وعلى هذا، فإن إسرائيل غير جديرة بأن تكون أصلًا استراتيجيًا للولايات المتحدة، وفق الكتاب.
الفصل الثالث: قضية أخلاقية متراجعة
يتناول هذا الفصل الزعم بأن أمريكا تدعم إسرائيل كالتزام أخلاقي. فهناك عدة حجج يستخدمها داعموا إسرائيل في هذا السياق منها أنها دولة ضعيفة محاطة بالأعداء، أو أنها دولة أخلاقية يحاربها فلسطينيون عرب اختاروا العنف على السلام، أو أنها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تشارك أمريكا قيمها.
وقد أشار إلى هذا البعد الأخلاقي المزعوم كثير من المسؤولين الأمريكيين، وعلى رأسهم الرئيس جورج بوش الابن، الذي يرى أن هناك تشابهًا كبيرًا بين طريقة قيام كل من أمريكا وإسرائيل، وأن هناك روابط جعلت منهما “حليفين طبيعيين”.
لكن يعتبر ميرشايمر ووالت أن هذا الزعم، الذي يعتمد بقوة على فهم معين لتاريخ إسرائيل، ما هو إلا “أساطير”. وأورد الكاتبان العديد من الأدلة التاريخية على أن “اليهود غالبًا ما كانوا الضحايا في أوروبا، إلا أنهم في القرن الماضي، غالبًا ما كانوا هم الجلادين في الشرق الأوسط”، وأن إسرائيل تُصوَّر على أنها “داوود” المستضعَف مقابل “جالوت” أو أكثر من جالوت في المنطقة، لكن العكس هو الصحيح، بالنظر إلى فارق التسليح بين إسرائيل منذ نشوئها، وباقي دول المنطقة.
وألمح الكتاب إلى أن التطور التكنولوجي أبرز للشعب الأمريكي “دليلًا فظيعًا وقاطعًا على السياسات الإسرائيلية الوحشية” المتبعة ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وفي جنوب لبنان عام 2006. وعلى هذا، فإن كان على الولايات المتحدة اختيار جانب في القضية الفلسطينية على أسس أخلاقية، فإن عليها دعم الفلسطينيين وليس إسرائيل، حسبما يوضح الكتاب.
علاوة على ذلك، يعارض الكتاب الزعم القائل بأن الدعم الأمريكي لإسرائيل سببه “التعويض عن جرائم سابقة” وقعت بحق اليهود. وذلك من منطلق أن “المرء لا يمكن أن يتجاهل أن إنشاء إسرائيل تضمن جرائم إضافية ضد طرف ثالث بريء، وهم الفلسطينيون”. فالجرائم ضد اليهود تبرر وجود إسرائيل، لكن جرائمها بحق الفلسطينيين تقوض مطالبها بأن تحظى بمعاملة خاصة من الولايات المتحدة، حسب الكتاب.
وردّ ميرشايمر ووالت على الادعاء الذي تروجه وسائل إعلام غربية، وهو أن “إسرائيل متأهبة للسلام، بينما الفلسطينيون ميالون للحرب”، وأثبتا أن هذه الرواية خاطئة تمامًا، نظرًا للشروط الإسرائيلية التي تطلب تنازلات من الفلسطينيين يصعب تقديمها. واستعرض الكتاب -بشيء من التفصيل- مفاوضات كامب ديفيد، والعرض الذي قدمه الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون، في 23 ديسمبر/كانون الأول 2000، لتسوية القضية الفلسطينية. وأوضح أن الطرفين -الإسرائيلي والفلسطيني- قبلا العرض الأمريكي مع إبداء بعض التحفظات، غير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود باراك، انسحب من المفاوضات لأسباب انتخابية حينها، بينما كان ياسر عرفات متمسكًا بها.
وأخيرًا، يرفض ميرشايمر ووالت تسويغ النظرة الدينية التي ترى أن “دعم إسرائيل هو إرادة الله”. فهناك قطاع من المسيحيين الإنجيليين يرون أن سيطرة اليهود على فلسطين، وإقامة إسرائيل الكبرى، وبناء الهيكل، مقدمات ضرورية لعودة المسيح. وبينما يؤكد الكتاب أن هناك “بعض المتدينين الذين يجذبهم هذا المنظور بحرارة”، إلا أنه يشير إلى أن “ثمة فصل بين الدين والسياسة في الولايات المتحدة، ولا يُفترض بالآراء الدينية لأي مجموعة أن تحدد السياسة الخارجية للبلاد”.
الفصل الرابع: ما اللوبي الإسرائيلي؟
يحاول ميرشايمر ووالت في هذا الفصل تحديد ماهية اللوبي الإسرائيلي، حيث يعرّفانه على أنه “أفراد ومنظمات تعمل بنشاط لصياغة السياسة الخارجية الأمريكية في اتجاه موال لإسرائيل”. لكن هذا اللوبي -وفق المؤلفين- ليس حركة موحدة ذات زعامة مركزية، ولا يوجد له بطاقات عضوية. كما أنه قد تحدث خلافات داخل المجموعات التي تشكل هذا اللوبي، وبين أفراده أيضًا.
ويبدو أن الكتاب يتبنى مسمى “اللوبي الإسرائيلي” تجوّزًا. إذ أن المؤلفين يعتقدان أن هذا التعبير “مضلل نوعًا ما، لأن هناك منظمات وأفرادًا في هذا الائتلاف غير المنتظم لا تنخرط في نشاطات اللوبي الرسمية، غير أنهم يعملون للتأثير في السياسة الأمريكية بوسائل مختلفة”. وعلى غرار مجموعات المصالح الأخرى، فإنه من الصعب تحديد حدود اللوبي الإسرائيلي بدقة، ما يعني أن هناك أشخاصًا ومنظمات على حافة هذا التعريف، ولا يمكن تصنيفهم بسهولة.
وفرّق ميرشايمر ووالت بين اللوبي الإسرائيلي وبين الأمريكيين الداعمين لإسرائيل، بل وحتى اليهود الأمريكيين الداعمين لإسرائيل. فهناك أمريكيون يدعمون إسرائيل لكنهم ليسوا جزءًا من اللوبي، وهناك يهود معارضون لإسرائيل، وآخرون مؤيدون لها، لكنهم لا ينشطون في اللوبي الإسرائيلي. “فعلى المرء ليكون جزءًا من اللوبي أن يعمل بنشاط لتحريك السياسة الخارجية الأمريكية في اتجاه مؤيد لإسرائيل”، وفق منظور ميرشايمر ووالت.
وفي تكرار لما أكده الباحثان في المقدمة، فإن اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة “ليس دسيسة أو مؤامرة”، بل إن نشاطه علني، وينشط في الساحة السياسية كما تنشط اللوبيات الأخرى.
ورصد الكتاب انزياح اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة بمرور الوقت نحو “اليمين المحافظ”، بحيث باتت هناك شخصيات رئيسية تنتمي لليمين المحافظ تساند مواقف نظرائها في إسرائيل. وهذا التحول نحو اليمين ينعكس في “النفوذ المتنامي لعدد صغير من المحافظين الأثرياء الذين يسيطرون باضطراد على منظمات مثل لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (أيباك)”.
وفي الوقت الذي ينزاح فيه اللوبي نحو اليمين المحافظ، فإن بروز دور “المحافظين الجدد”، بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول على وجه الخصوص، يدعم قوة اللوبي. إذ يلتزم كل المحافظين الجدد تقريبًا بدعم إسرائيل علنًا. وبحسب المفكر الذي ينتمي للمحافظين الجدد، ماكس بوت، فإن دعم إسرائيل يشكّل “عقيدة أساسية” في فكرهم.
كما استعرض الكتاب دور “المسيحيين الصهاينة”، وهم فئة متفرعة من اليمين المسيحي الأوسع، باتت “أكثر ظهورًا وإسماعًا لصوتها في مساندتها لإسرائيل”. وتؤمن هذه المجموعة بأن عودة المسيح تتطلب عودة اليهود أولًا إلى فلسطين. وأوضح الكتاب أن هذا الفكر أثر في بعض السياسيين الإنكليز البارزين، وربما يكون منهم وزير الخارجية البريطاني الأسبق، أرثور بلفور، صاحب “وعد بلفور”. ويعارض “المسيحيون الصهاينة” حل الدولتين وأي شكل آخر من أشكال التنازل للفلسطينيين، باعتبار أن فلسطين هي وعد الرب لليهود.
ويشير ميرشايمر ووالت إلى أن هذه المعتقدات أثرت في عدد من السياسيين الأمريكيين المرموقين، منهم زعيم الجمهوريين الأسبق في مجلس النواب، توم ديلاي، وسلفه في المنصب ريتشارد آرمي، والسيناتور السابق جيمس إنهوف، الذي شرح، في خطاب أمام الكونغرس، سبب اعتقاده أن لإسرائيل الحق في كل فلسطين، قائلًا: “إليكم السبب الأهم: لأن الله قال ذلك… ففي هذا المكان (مدينة الخليل) أوحى الله لإبراهيم وقال له: “أعطيك هذه الأرض”: الضفة الغربية”.
وتتركز أهمية “المسيحيين الصهاينة” داخل اللوبي الإسرائيلي في توفير الدعم المالي للحركة الاستيطانية، والتنديد بأي تنازلات مقترحة، ودعم المواقف المتشددة في الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا بجانب تنظيم رحلات سياحية لإسرائيل تدر دخلًا على إسرائيل قارب المليار دولار بحلول عام 2007. ويرى ميرشايمر ووالت أنه “لولا دعم المسيحيين الصهاينة، لأصبح المستوطنون أقل عددًا في إسرائيل”.
ورغم ذلك، أوضح الكتاب أنه “يجب ألا نبالغ في تقدير نفوذ المسيحيين الصهاينة”، لأنهم لم يمنعوا رؤساء أمثال بيل كلينتون، وجورج بوش الابن الذي له روابط وثيقة باليمين المسيحي، أن يعلنا دعمهما لحل الدولتين، بل وحاول كلينتون أن ينفذ هذا الحل في كامب ديفيد عام 2000. هذا علاوة على أن المسيحيين الصهاينة لم يوقفوا “اتفاقية واي ريفر” في 1998، التي أوعزت بانسحاب إسرائيل من أجزاء من الضفة الغربية.
- مصادر قوة اللوبي:
وعرّج الكتاب على سبب فعالية اللوبي الإسرائيلي ومصادر قوته. فأما سبب فعاليته فيرجع إلى طبيعة النظام السياسي الأمريكي نفسه الذي يتسم بحرية التعبير، ونظام الانتخابات التي يجعلها مكلفة للغاية. هذه البيئة بدورها، تُعطي مجموعات المصالح وسائل متنوعة للتأثير في السياسيين، وتوجيه المساهمات المالية والإعلامية للحملات الانتخابية، بطريقة تدفع لفوز مرشحين بعينهم وخسارة آخرين.
وفي هذا النظام، فإن المجموعات الصغيرة نسبيًا يمكنها أن تمارس نفوذًا كبيرًا، إذا التزمت بدعم قضية معينة لا يبالي بها بقية الأمريكيين. وينقل الكتاب أن سيناتور أمريكي، عندما سُئل عن سبب تصويته لصالح مشروع مثير للجدل دفع به اللوبي الإسرائيلي، قال: “ليست هناك منفعة سياسية في عدم التوقيع، فإذا وقّعت فإنك لن تثير حفيظة أحد، وإذا لم توقّع فربما تزعج بعض اليهود في ولايتك”.
وبدوره، يتمتع اللوبي الإسرائيلي بأفضلية في المنافسة على النفوذ؛ لأن “أبناء الطائفة اليهودية في أمريكا يتبوأون مواقع نافذة نسبيًا في السياسة والاقتصاد، ومثقفون جيدًا، ولهم تقليد في جمع التبرعات يبعث على الإعجاب”، وفق وصف ميرشايمر ووالت. كما أنهم يدعمون الأحزاب السياسة بسخاء ولديهم نسب عالية جدًا من المشاركة السياسية”. علاوة على ذلك، فإن “الأغلبية الواضحة من الأمريكيين اليهود ملتزمة بدعم إسرائيل”، وباقترانها مع المسيحيين الصهاينة، فإنها تشكل قاعدة دعم قوية لإسرائيل.
وفي المقابل، فإن اللوبي يستفيد من غياب معارضة فاعلة له. وهذا ما قاله سيناتور أمريكي من أنه “ليس هناك شعور مضاد… فإذا صوتّ عكس الضغط الهائل من الأيباك (أكبر جماعة ضغط إسرائيلية)، فلن يقول لك أحد: “هذا رائع”.
ويعتبر ميرشايمر ووالت أنه “بالرغم من أن العرب يشكلون أقلية ذات شأن، فإنهم ليسوا على الدرجة نفسها من الثراء، أو التنظيم الجيد، أو العدد، أو النشاط السياسي”. أضف إلى ذلك أن “العرب الأمريكيين لم ينجحوا، كمجموعة، في بلوغ مناصب أكاديمية مرموقة ولا في مجال الأعمال، ووسائل الإعلام، كما أنهم لا ينشطون كثيرًا في السياسة”.
ويُرجع الكتاب ذلك إلى أن المهاجرين العرب حديثو عهد بالولايات المتحدة، وأن الجيل الأول من المهاجرين عادة ما يكون أقل عددًا وأقل تمثيلًا في الوظائف المهمة، وأقل تآلفًا مع العادات والمؤسسات الأمريكية، وأقل نشاطًا في السياسة، وبالتالي فهو “أقل نفوذًا مما تكون عليه الأجيال اللاحقة”.
وربما في تلك العبارة الأخيرة إشارة إلى أن النفوذ العربي في واشنطن -على ضعفه- إلا أنه في تزايد، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الكتاب صدر في عام 2007، ما يعني أن المجموعات العربية في أمريكا ربما هي الآن أكثر تنظيمًا وفعالية مما كانت عليه في ذلك التاريخ.
الفصل الخامس: توجيه العملية السياسية
انطلاقًا من أن السلطة السياسية في الولايات المتحدة موزَّعة بين الجهازين التشريعي والتنفيذي، فإن تكتيكات اللوبي الإسرائيلي تتنوع أحيانًا بحسب الجهاز المعني بالضغط.
وبالنسبة للكونغرس، فإن إسرائيل “محصنة ضد الانتقاد داخله”، وهذا وضع يلفت الانتباه -وفق الكتاب- لأن الكونغرس غالبًا ما يتعاطى مع قضايا خلافية. فكما أوردنا، فإن اللوبي ينشط في العملية الانتخابية لدعم المرشحين المؤيدين لإسرائيل، ورغم أنه لا ينجح في كل انتخاب، إلا أنه خلال العقود الماضية أخرج عددًا من المسؤولين من مناصبهم لأنهم مجافون لإسرائيل، وساعد الكثيرين من الداعمين لإسرائيل على الفوز في الانتخابات.
لكن ليس النواب وحدهم الذين بإمكانهم حرف التشريعات في اتجاه موال لإسرائيل. إذ أن موظفي الكونغرس هم في قلب العملية التشريعية، حيث يعملون على رصد مواقف اللوبيات المختلفة، ويطلعون رؤساءهم عليها، وهو ما ينتج عنه تحديدًا لمختلف خياراتهم السياسية. وحيث إن اللوبي الإسرائيلي هو أكثر اللوبيات قوة وتنظيمًا في الولايات المتحدة، فإنه يكون أكثر المستفيدين من هذا الإجراء. وفي هذا الإطار، أورد الكتاب أن “ممثلين عن مجموعات في اللوبي يشاركون أحيانًا في هذه العملية، حتى إنهم يساعدون الموظفين على وضع مسودات التشريعات”.
ونقل مرشايمر ووالت عن مسؤولين أمريكيين سابقين أن “اللوبي الأمريكي المؤيد لإسرائيل يسيطر سيطرة شبه تامة على الكونغرس”، مشيرين أنه “لا يحصل هناك نقاش مفتوح حول السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل، حتى لو كانت لهذه السياسة تداعيات مهمة على العالم بأسره”.
أما الجهاز التنفيذي للدولة، الذي يترأسه الرئيس الأمريكي، فإن الضغط يمارَس عليه من خلال التبرعات الكبيرة التي يقدمها اللوبي إلى حملات المرشحين من الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، معًا. أضف إلى ذلك أن اللوبي يستخدم الكونغرس كوسيلة للضغط على الرئيس، هذا بالإضافة إلى الأشخاص الذين يحتلون مواقع حساسة في الجهاز التنفيذي، ويشاركون اللوبي رؤيته وسياسته.
ووفق تقييم ميرشايمر ووالت، فإن “الرؤساء الأمريكيين لا يتأثرون بالضغط كما يتأثر الكونغرس، وقد اتخذ معظمهم أحيانًا مواقف عارضتها إسرائيل واللوبي، غير أن مثل هذه الحالات أصبحت نادرة بمرور الوقت”.
والجدير بالذكر هنا أن الكاتبان رصدا في هذا الفصل -كما في فصول الكتاب الأخرى- عشرات الأحداث والتصريحات التي تدلل على الضغوط التي يمارسها اللوبي على الكونغرس والرؤساء الأمريكيين، غير أنه من الصعب إيراد هذا الكم من المعلومات في هذا العرض بطبيعة الحال.
الفصل السادس: السيطرة على الخطاب العام
في هذا الفصل، يشرح ميرشايمر ووالت كيفية عمل اللوبي للسيطرة على الخطاب العام حول إسرائيل، وترديد سردية أن الدعم الأمريكي لإسرائيل مهم، من منطلق المصلحة الاستراتيجية للولايات المتحدة والمنطلق الأخلاقي معًا.
ويؤكد الكتاب أن سبب جنوح اللوبي للسيطرة على النقاش العام هو ضعف السردية الإسرائيلية نفسها، فأي “نقاش مفتوح وصريح حول السياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، وتاريخ إسرائيل، ودور اللوبي في صياغة سياسة أمريكا في الشرق الأوسط، من شأنه أن يدفع المزيد من الأمريكيين بسهولة للتشكيك في السياسة الأمريكية القائمة تجاه إسرائيل”.
وانطلاقًا من اللهجة الاعتذارية التي أشرنا إليها في مدخل هذا العرض، وربما أيضًا ليكون الحديث أكثر تحديدًا، أوضح ميرشايمر ووالت أن ادعاءهم هذا لا يشبه من قريب أو بعيد “الاتهام القديم المعادي للسامية بأن اليهود يسيطرون على وسائل الإعلام”.
ووجه الاختلاف هنا -وفق الكتاب- هو أن هناك بالتأكيد ملّاكًا لوسائل إعلام، وناشرين، ومحررين، وكتّاب، ومراسلين في وسائل الإعلام الأمريكية الرئيسية، لا يحملون مشاعر خاصة حيال إسرائيل، ولا غضاضة لديهم في انتقادها أو انتقاد علاقتها بالولايات المتحدة. بل إن هناك مؤيدين لإسرائيل بشدة، لكنهم يرحبون بخطاب أكثر انفتاحًا حولها.
وعلى عكس “الاتهام القديم المعادي للسامية بأن اليهود يسيطرون على وسائل الإعلام”، يعتبر ميرشايمر ووالت أن “السبب الذي يدفع اللوبي إلى بذل هذا القدر من الجهد لمراقبة وسائل الإعلام والتأثير فيها، هو أنه لا يسيطر عليها”، وبالتالي فهو يسعى للتأثير فيها.
وخص الكتاب بالذكر “لجنة الرقابة في التغطية الصحفية للشرق الأوسط في أمريكا”، المعروفة باسم (كاميرا)، باعتبارها أكثر مجموعات المراقبة النشطة. وأوضح أن من الوسائل التي يستخدمها اللوبي للسيطرة على الخطاب العام شن حملات منظمة لكتابة رسائل اعتراض إلى وسائل الإعلام حول تغطيتها لحدث ما، أو التظاهر، أو مقاطعة وسائل الإعلام التي تنشر محتوى مناوئًا لإسرائيل.
ولإدراك منظمة “إيباك” الحاجة إلى صوت بارز يبدو كأنه “موضوعي”، فإنها تمارس نفوذًا كبيرًا في مراكز الدراسات والبحوث. من ذلك إنشاء “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” (The Washington Institute for Near East Policy)، في 1985.
كما أن هناك نفوذًا كبيرًا للوبي في مراكز أخرى، على سبيل المثال لا الحصر، مركز سياسة الأمن (Center for Security Policy)، ومعهد أبحاث السياسة الخارجية (Foreign Policy Research Institute)، ومؤسسة هيريتيج (The Heritage Foundation)، ومعهد هدسون (Hudson Institute)، ومعهد تحليل السياسة الخارجية (Institute for Foreign Policy Analysis)، والمعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي (Jewish Institute for National Security of America).
وأفاد الكتاب بأن مراكز الدراسات المنضوية تحت اللوبي الإسرائيلي توزع مذكرات مختصرة يسهل على أعضاء الكونغرس وغيرهم من المسؤولين الحكوميين استيعابها، وتنظم حلقات نقاشية، وإفطارات عمل، وتشجع العاملين فيها على نشر مقالات رأي، وهذا كله بهدف صياغة مناخ سائد يناسب توجهاتها.
ولم يغفل الكتاب أيضًا عن ذكر جهود اللوبي للسيطرة على الخطاب داخل الجامعات الأمريكية، منها جهود استهدفت مؤلفَي الكتاب أنفسهم. ويعمل اللوبي الإسرائيلي، منذ السبعينات على الأقل، على تدريب شباب يدافعون عن إسرائيل داخل الجامعات، هذا فضلًا عن مراقبة الأكاديميين المناهضين لإسرائيل.
من هذه الجهود إنشاء موقع إلكتروني يحمل اسم “مراقبة الحرم الجامعي” (Campus Watch)، ينشر ملفات عن الأكاديميين المشكوك فيهم، ويشجع الطلاب على كتابة تقارير عن أي تعليقات أو تصرفات يمكن أن تعتبر معادية لإسرائيل داخل الحرم الجامعي.
وانتقد الكتاب ما وصفها بـ”التكتيكات المستنكَرة”، التي يستخدمها بعض الأفراد والمجموعات الداعمة لإسرائيل، مثل ترهيب منتقديها من الأكاديميين والباحثين، وتشويه سمعتهم، والإضرار بحياتهم المهنية أو تدميرها تمامًا.
وربما من أكثر ما انتقده ميرشايمر ووالت في هذا الكتاب هو ما وصفاه بـ”المُسكت الأكبر”، في إشارة إلى “تهمة معاداة السامية”. ويعتبر الكاتبان أن هذه التهمة “سلاح مستخدم على نطاق واسع ضد منتقدي إسرائيل، خاصة في الولايات المتحدة”. وهو سلاح فاعل في نظرهم لعدة أسباب.
من هذه الأسباب أن “معاداة السامية” قادت لشرور كبرى في الماضي مثل المحرقة، ولا يرضى أحد أن يلطخ بهذه التهمة. كذلك، فإنه إذا ما وُصف شخص ما بأنه معاد للسامية، فإن ذلك يسهّل تدمير وجوده في الشأن العام، ولن تأخذ وسائل الإعلام حججه على محمل الجد بعد ذلك. أضف إلى ذلك أنه من الصعب رد هذه التهمة تمامًا، لأنها مرتبطة بنوايا الأشخاص، وما يصعب ذلك هو خلط اللوبي الصهيوني -عن قصد- بين معاداة السامية وانتقاد إسرائيل.
ومؤخرًا، وفي لقاء له في ديسمبر/ كانون الأول 2023، أوضح ميرشايمر أن كتابه مع سيفين والت، الذي نحن بصدد عرضه، قدم حجاجًا قويًا، ولذلك لم يرد اللوبي بحجاج مماثل، بل تعمد مهاجمته هو ووالت، واتهامهما بمعاداة السامية. كما أوضح ميرشايمر أن تهمة معاداة السامية لم تعد مساوية لمعاداة الصهيونية فحسب، بل تعدت ذلك لتصبح مساوية لأي انتقاد لإسرائيل.
الجزء الثاني: اللوبي في الواجهة
يحاول أستاذا العلوم السياسية جون ميرشايمر وستيفن والت في هذا الجزء توضيح خطر نفوذ اللوبي الإسرائيلي على المصالح الأمريكية. فلم يكن نفوذ اللوبي يدعو للقلق لو أن برنامجه اقتصر على ضمان تزويد الكونغرس بالمساعدات الخارجية لإسرائيل، لكن دوره في توجيه السياسات الخارجية للولايات المتحدة نحو الشرق الأوسط بات يضر بالمصالح الأمريكية.
وبداية، حدد ميرشايمر ووالت ثلاث مصالح أمريكية رئيسية في الشرق الأوسط: الإبقاء على تدفق نفط الخليج إلى الأسواق العالمية، وكبح انتشار أسلحة الدمار الشامل، وخفض الاستقطاب المعادي لأمريكا في المنطقة. ثم أوضح الأكاديميان في الفصول التالية أن نفوذ اللوبي أضر بتلك المصالح، بل حتى أضر بمصالح إسرائيل نفسها أحيانًا.
وفي المقابل، تتمحور أهداف اللوبي الخاصة بالشرق الأوسط حول “ضمان استخدام القوة الأمريكية لتدجين بيئة الشرق الأوسط، بوسائل يعتقدون أنها تقدم مصالح لإسرائيل، خاصة في المجال الأمني”. وهذا يعني -وفق الكتاب- دعم إسرائيل في سياساتها ضد الفلسطينيين، وتوجيه القوة الأمريكية صوب حركات أخرى أو دول قد تكون على خلاف مع إسرائيل.
وأفرد الكتاب خمسة فصول للحديث عن كيفية تأثير اللوبي الإسرائيلي على سياسة واشنطن تجاه الفلسطينيين، والعراق في عهد صدام حسين، وسوريا، وإيران، ولبنان خاصة خلال الحرب اللبنانية الثانية.
الفصل السابع: اللوبي في مواجهة الفلسطينيين
يعتبر ميرشايمر ووالت أن هجمات 11 سبتمبر/ أيلول ولّدت قناعة لدى صانعي السياسة الأمريكيين أن إنهاء ملف الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني من شأنه أن يقوض أساسات الدعم لتنظيم القاعدة، وأن يسهل بناء تحالف دولي لمحاربة الإرهاب. غير أن إدارة بوش لم تتمكن من إقناع تل أبيب بتغيير سياساتها تجاه الفلسطينيين، وانتهت بدلًا من ذلك إلى تأييد المقاربة الإسرائيلية المتشددة تجاه الفلسطينيين.
وسرد الكتاب تفاصيل عن علاقات بوش الابن بحكومة آرييل شارون، ومحاولاته لـ”كبح أعمال إسرائيل التي تزيد من معاداة أمريكا في العالمين العربي والإسلامي، وتقوض حرب إدارته على الإرهاب”، عبر الدعوة لقيام دولة فلسطينية بحلول 2005، والضغط على إسرائيل للانسحاب من مناطق رئيسية في الضفة الغربية. غير أن بوش “مُنيَ بهزائم مذلة” أمام اللوبي، الذي استخدم الكونغرس بفاعلية للضغط على الإدارة الأمريكية حينها.
ويرى ميرشايمر ووالت أنه “لولا وجود اللوبي، لكانت إدارة بوش أكثر صلابة في الدفع إلى سلام بين إسرائيل والفلسطينيين”. ورغم ذلك، فإنه أورد بعض أوراق الضغط التي كانت بإمكان واشنطن استخدامها لإنفاذ رؤيتها، كقطع الدعم الدبلوماسي والاقتصادي عن إسرائيل، وإذا لم يكفِ ذلك، “فلن تواجه واشنطن صعوبة تُذكر في جمع دعم دولي لعزل إسرائيل”، كما فعلت مع جنوب أفريقيا، إبان الحكم العنصري فيها. وردّ العالمان الأمريكيان على مَن يشككون في واقعية هذا التحليل، بإيراد استطلاعات للرأي تثبت أن “الشعب الأمريكي سيكون مستعدًا للضغط على إسرائيل إذا شكّل هذا جزءًا من صفقة سلام”.
كما يعتقد ميرشايمر ووالت أن سياسات اللوبي في هذا الباب تضر بإسرائيل نفسها، لأنها برفضها للحلول السياسية تدفع الفلسطينيين لاستخدام العنف، وهذا ليس في صالحها من المنظور الأمني.
الفصل الثامن: العراق وأحلام تحويل الشرق الأوسط
في هذا الفصل يوضح المؤلفان كيف أن العراق تحول إلى كارثة استراتيجية، بعد الحرب التي شنتها إدارة بوش عليه في عام 2003. ووفق الكتاب، فقد كان هناك سياق استراتيجي اتُّخذ فيه قرار الحرب، غير أن هناك متغيرًا آخر ساهم بقوة في اتخاذ القرار، وهو اللوبي الإسرائيلي.
وتشكّل هذا السياق الاستراتيجي من أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، وقناعة كثير من الأمريكيين بضرورة القضاء على التهديدات الأمنية لأمريكا حتى ولو كانت بعيدة، وقناعة المؤيدين للحرب بأن الإطاحة بنظام صدام حسين قد تُقنع “دولًا مارقة” أخرى بأن أمريكا لديها القوة لمواجهة أنظمة هذه الدول وإجبارها على الانصياع للرغبات الأمريكية. لكن لولا وجود مجموعة من صانعي السياسات الأمريكيين الداعمين لإسرائيل -خاصة من المحافظين الجدد- لما كانت الحرب لتحدث بشكل أكيد، وفق تقييم الكتاب.
فقد كانت هذه الفئة التي ساهمت في اتخاذ قرار الحرب تعتقد أن الإطاحة بنظام صدام ستحسن المكانة الاستراتيجية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وستطلق عملية تغيير إقليمية تصب في صالح إسرائيل وأمريكا معًا، وستجعل إسرائيل أكثر أمانًا.
وأورد ميرشايمر ووالت عشرات الأدلة على دور اللوبي الإسرائيلي في دفع إدارة بوش لغزو العراق، منها التلاعب بالمعلومات الاستخبارية من خلال تصوير صدام كخطر داهم. ورغم أن الحماسة للحرب كانت غائبة لدى وزارة الخارجية الأمريكية وجهاز الاستخبارات وقيادة الجيش الذين كانوا في الخدمة، إلا أن الحملات التي شنها اللوبي -وفي القلب منه المحافظون الجدد- قادت إلى شن الحرب في نهاية المطاف.
وأوضح الكتاب كيف أن “إيران أصبحت المستفيد الأكبر من هذه المغامرة سيئة الإعداد”، وأن الحرب على العراق شهدت “مخاض ولادة شرق أوسط جديد”، لكنه ليس أكثر أمنًا كما رغبت إسرائيل، بل بات أقل استقرارًا وأكثر خطورة على إسرائيل وعلى المصالح الأمريكية معًا.
الفصل التاسع: استهداف سوريا
في هذا الفصل، استعرض الكتاب جهود اللوبي الإسرائيلي لعرقلة أي تقارب بين الولايات المتحدة وسوريا. وكما أوردنا، فإن كتاب “اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية”، نُشر في عام 2007، ما يعني أن ما ذكره عن سوريا لا يتضمن شيئًا مما حدث بعد الثورة السورية في عام 2011.
ووفق ميرشايمر ووالت، فإن “للولايات المتحدة علاقة شائكة مع سوريا”، وغالبًا ما تصوَّر على أنها “دولة مارقة” تهدد المصالح الأمريكية، غير أن دمشق وواشنطن تعاونتا في عدد من المناسبات لمصلحتهما المتبادلة.
وذكر الكتاب أنه في عام 2006، رأت إدارة بوش “الدخول بجد في حوار دبلوماسي مع سوريا من دون شروط مسبقة”، وزار أربعة سيناتورات أمريكيون دمشق للحديث إلى بشار الأسد، لكن لعبت إسرائيل دورًا مركزيًا، في المقابل، لدفع إدارة بوش لمواصلة سياستها التصادمية مع سوريا، والتخلي عن مسار التقارب.
ومع تماهي بوش مع ضغوط اللوبي واستكمال المسار التصادمي مع دمشق، لم تنل أمريكا إلا عواقب سلبية -وفق الكتاب- منها توقف سوريا عن تزويد الولايات المتحدة بالمعلومات الاستخبارية حول تنظيم القاعدة، ودعم مساعدة الأسد لواشنطن لوضع حد للتمرد في العراق، بل ربما ساعدت دمشق على استمرار هذا التمرد لحماية نفسها، وفق الكتاب.
وفي المقابل، يرى ميرشايمر ووالت أنه كان بإمكان إمريكا -لو لم تستجب لرغبات اللوبي- أن تنسج علاقة أكثر وفاقًا مع دمشق، بل ربما أمكنها التوصل إلى معاهدة سلام سورية-إسرائيلية، الأمر الذي كان من شأنه أن يعمق مشروعية إسرائيل وتفوقها الإقليمي. وبهذا تسبب اللوبي الإسرائيلي في ضرر للولايات المتحدة، وفي الوقت نفسه فوّت على إسرائيل المصالح التي قد تنجم من فرصة التقارب مع الأسد.
الفصل العاشر: إيران في المرمى
وبالمقارنة مع سوريا، فإن إيران تمثل تحديًا أكبر بالنسبة لواشنطن، إذ أنها تسعى لامتلاك سلاح نووي، هذا بجانب ترسانتها الصاروخية. وبالنسبة لإسرائيل، فإن إيران تهديد وجودي، أما بالنسبة للولايات المتحدة، فليس بإمكان إيران ضرب المدن الأمريكية بصواريخ ذرية إذا ما امتلكتها، وفق الكتاب. لكن في المقابل، فإن بإمكان إيران استخدام أي أسلحة تطورها ضد القوات الأمريكية المتمركزة في الشرق الأوسط، أو ضد دول أوروبية. هذا علاوة على أن إيران الدولة الإسلامية الأقوى في الخليج، وقوتها المتنامية ليست خبرًا سارًا للولايات المتحدة، التي تسعى لمنع أي دولة من أن تنفرد بالسيطرة على الخليج.
ولهذا السبب، وأيضًا لوجود أنظمة عربية متخوفة من إيران، فإن الولايات المتحدة ملتزمة -حتى لو لم توجد إسرائيل- بكبح إيران. ورغم ذلك، يعتبر ميرشايمر ووالت أن السياسة التي اتبعتها الولايات المتحدة منذ التسعينات حيال إيران هي “سياسة حمقاء على المستوى الاستراتيجي”، ويرجع سبب ذلك إلى ضغوط إسرائيل واللوبي.
إذ يطلق الطرفان خطابًا تهديديًا حول استخدام القوة العسكرية لتدمير المنشآت النووية الإيرانية، وهذه التصريحات -وفق منظور ميرشايمر ووالت- تصعّب منع إيران من أن تصبح نووية.
كذلك، فإن السياسات القمعية التي تمارسها إسرائيل بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة صعّبت من تعاون واشنطن مع دول إقليمية للتعامل مع إيران، منها المملكة العربية السعودية، التي أوضحت لواشنطن أنه “ليس في وسعها العمل على سياسة فعالة في الملف الإيراني بالتعاون مع واشنطن، إذا ما استمر هذا القدر من الغضب في العالم العربي؛ بسبب سياسة أمريكا تجاه القضية الفلسطينية”، وفق الكتاب.
ويعتبر ميرشايمر ووالت أن الخيار الأقل سوءًا الذي كان من الممكن حينها أن تتبعه واشنطن حيال الملف النووي الإيراني هو محاولة التوصل إلى اتفاق مع طهران.
وهذا ما طبقه الرئيس الأمريكي، باراك أوباما، بعد ذلك في 2015، ثم ألغاه الرئيس دونالد ترامب بعد ذلك. ومن الواضح أن اللوبي الإسرائيلي لعب دورًا في تأخير عقد هذا الاتفاق ثم الانسحاب منه بعد ذلك.
الفصل الحادي عشر: اللوبي وحرب لبنان الثانية
في هذا الفصل، انتقد ميرشايمر ووالت الموقف الأمريكي من حرب إسرائيل على لبنان في صيف عام 2006، والتي استمرت 34 يومًا. فقد استغلت إسرائيل قتل وأسر عدد من جنودها على يد حزب الله، وشنت حملة عسكرية قتلت أكثر من 1100 لبناني، ثلثهم من الأطفال. وبينما تعرض الرد الإسرائيلي المفرط إلى إدانة عالمية، فقد قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل دعمًا قويًا، وفق الكتاب.
ويرى الكاتبان أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها من الحرب، بينما ارتفعت شعبية حزب الله على امتداد العالمين العربي والإسلامي. وشكلت الحرب “نكسة كبرى للولايات المتحدة”، إذ أضعفت الحكومة اللبنانية آنذاك برئاسة فؤاد السنيورة، التي كانت تحظى بدعم البيت الأبيض، ورسخت الحرب من تحالف حزب الله وسوريا وإيران، وزادت حدة المشاعر المعادية لأمريكا، وبالتالي قوضت “الحرب على الإرهاب”، وشوّشت على الجهود الأمريكية لتكوين إجماع إقليمي بشأن العراق وإيران.
ورغم تأكيد الكتاب على تحمل المسؤولين الإسرائيليين المسؤولية عن سوء إدارة الحرب، إلا أنه ذكر الكثير من الأمثلة الدالة على أن “الولايات المتحدة شجعتهم على أخطائهم، عبر توفير دعم غير مشروط لهم قبل الحرب وخلالها، وتقويض جهود وقف إطلاق النار”. وعلى عكس كل الديمقراطيات في العالم تقريبًا، لم تنتقد واشنطن تل أبيب إبان الحرب، ووفرت لها دعمًا دبلوماسيًا وعسكريًا واسعًا، وعمل اللوبي خلال الحرب على إبقاء الولايات المتحدة على هذا الموقف.
وردّ ميرشايمر ووالت على دعاوى اللوبي الإسرائيلي بأن الدعم الأمريكي لإسرائيل خلال الحرب كان تماهيًا مع موقف الشعب الأمريكي نفسه، وانعكاسًا للالتزام العميق بدعم إسرائيل لدى الجمهور الأمريكي. وفي هذا السياق، نقل الكاتبان العديد من استطلاعات الرأي عن مؤسسات أمريكية تؤكد أن الغالبية العظمى من الأمريكيين كانت ضد الحرب، أو ضد دعم إسرائيل فيها.
كما رد ميرشايمر ووالت أيضًا على ما روجه اللوبي الإسرائيلي من أن الحرب على لبنان كانت بإيعاز أمريكي لإسرائيل، أو بعبارة أخرى: كانت إسرائيل تقاتل نيابة عن أمريكا، وحزب الله كان يقاتل نيابة عن إيران. ويرفض الأكاديميان ذلك، معتبرين أن واشنطن أعطت بالفعل الضوء الأخضر لإسرائيل لضرب حزب الله، إلا أن قرار الحرب ليس أمريكيًا بالأساس.
ويدلل الكاتبان على ذلك بأن إسرائيل لم تقتصر في حربها على جنوب لبنان فقط، الذي تمركز فيه حزب الله، ولم تتخذ إجراءات لتجنيب حكومة بيروت -المقربة من واشنطن- الخطر. هذا علاوة عن أن “تاريخ إسرائيل يتناقض مع تصويرها على أنها دولة مدجنة تابعة لأي بلد، بما في ذلك الولايات المتحدة”، وفق وصف الكتاب.
ويعتبر الباحثان أن “إسرائيل لطالما كانت لاعبًا صعب المراس وأنانيًا على المسرح الدولي”، مستشهدين بمقولة لرئيس الموساد الإسرائيلي الأسبق، شبطاي شافيت، قال فيها: “نحن نفعل ما نعتقد أنه الأفضل لنا، وإذا صدف أنه يتطابق مع المتطلبات الأمريكية، فإن هذه علاقة بين صديقين وحسب”. أو كما ذكر وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، موشى ديان، قائلًا: “يقدّم إلينا أصدقاؤنا الأمريكيون المال والسلاح والنصح. ونحن نأخذ المال والسلاح، لكننا نرفض النصح”.
وخلص ميرشايمر ووالت إلى أنه “ما من تبرير منطقي أو استراتيجي أو أخلاقي دامغ يفسر توفير واشنطن هذا الدعم لإسرائيل، في الوقت الذي انتقدت فيه بقية العالم بشدة سلوك جيشها”. وأكد الباحثان أن “اللوبي لعب دورًا حاسمًا في إبقاء انحياز الولايات المتحدة الحاسم لإسرائيل خلال الحرب، بالرغم من الأثمان الاستراتيجية، وما استوجبه هذا الدعم من موقف أخلاقي مشبوه”.
خاتمة الكتاب: ما الذي يتوجب فعله؟
وقبل مناقشة بعض النقاط التي أتى بها الكتاب، فإننا سنلخص هنا البديل الذي يطرحه ميرشايمر ووالت، والشكل الذي يجب أن تكون عليه العلاقات الأمريكية-الإسرائيلية في منظورهم.
باعتبارهما ينتميان للمدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، فإن الباحثين يعتقدان أن المصالح قد تتعارض مع المبادئ الأخلاقية أحيانًا، وفي هذه الحالات يجب تقديم المصلحة على المبدأ. لكن بالنسبة لهما، فإن قضية فلسطين اجتمعت فيها المصلحة الاستراتيجية مع المبادئ الأخلاقية، وبالتالي فإن على واشنطن تغيير سياساتها تجاه إسرائيل من منظور مصلحي وأخلاقي معًا.[3]
ويتلخص هذا التغير المنشود في معاملة الولايات المتحدة إسرائيل كـ”دولة طبيعية”، وعدم معاملتها معاملة استثنائية، ذلك أن “أمن إسرائيل في النهاية ليس ضرورة استراتيجية حاسمة للولايات المتحدة”. ويعتقد ميرشامير ووالت أنه “إذا تعرضت إسرائيل للغزو -وهو أمر مستبعد تمامًا نظرًا لتفوقها العسكري وامتلاكها قوة ردع نووية- فإنه لا سلامة الأراضي الأمريكية ولا قوتها العسكرية ولا ازدهارها الاقتصادي ولا قيمها السياسية الأساسية، ستصبح عرضة للخطر”.
وتعني معاملة إسرائيل كدولة طبيعية “الكف عن التظاهر بأن المصالح الإسرائيلية والأمريكية متطابقة، أو التصرف كما لو أن إسرائيل تستحق دعمًا أمريكيًا راسخًا بغض النظر عما تفعله، ويجب أن تحصل إسرائيل على الدعم عندما تتصرف بطريقة ترغب بها الولايات المتحدة. وعليها، عندما لا تفعل، أن تتوقع مواجهة معارضة أمريكية، تمامًا كما يحدث مع الدول الأخرى”.
كما يعني ذلك، وفق ميرشايمر ووالت، “فطام إسرائيل تدريجيًا عن المساعدة الاقتصادية والعسكرية التي توفرها الولايات المتحدة حاليًا”، ذلك أن لدى إسرائيل اقتصادًا متقدمًا و”ليس هناك من سبب وجيه في استمرار العطاءات التي يوفرها دافعو الضرائب الأمريكيون منذ أوائل السبعينات، وبخاصة مع وجود دول كثيرة ذات حاجات أكبر”.
كما شدد الكتاب على أهمية أن تستخدم واشنطن ثقلها “لوضع خاتمة للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني”. فلطالما انخرط القادة الأمريكيون في كل شكل تقريبًا من أشكال عملية السلام، غير أنهم لم يستخدموا أبدًا كامل ثقلهم لدفع هذه العملية قدمًا.
وعلى هذا، ينبغي على الولايات المتحدة أن تأخذ موقفًا ثابتًا ضد سياسة إسرائيل الاستيطانية -وفق الكتاب- وأن توضح لإسرائيل أن عليها الانسحاب من كل الأراضي التي احتلتها في يونيو/حزيران 1967، بحيث تُقام دولة فلسطينية، وسيكون هنا على الإسرائيليين والفلسطينيين أن يتوصلوا لاتفاق حول حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى الأراضي التي هُجروا منها عام 1948.
وبالنسبة لميرشايمر ووالت، فإن إنهاء النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، سيساهم في تعزيز المصالح القومية الأمريكية، فعندها لن تدفع الولايات المتحدة ثمنًا دبلوماسيًا لدعمها إسرائيل، وستتمكن إسرائيل من الانضمام للولايات المتحدة وحلفائها العرب عندما تبرز تهديدات إقليمية خطيرة. وباختصار، “ربما تصبح إسرائيل، إذا تم حل الصراع، ذلك النوع من الأصل الاستراتيجي، الذي يدعي داعموها أنها تشكله”.
لكن الجدير بالذكر هنا أنه الآن وبعد نحو 16 عامًا من نشر هذه الرؤية، بات ميرشايمر يرى أن حل الدولتين لن يتحقق؛ لأن “مركز الثقل السياسي في إسرائيل تحرك إلى أقصى اليمين بمرور الوقت، ومن المرجح بمرور الوقت أيضًا أن يتحرك أكثر فأكثر نحو اليمين (الرافض لحل الدولتين)”، الأمر الذي يجعل “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني” بلا أفق للحل. وقد فصّلنا في ذلك في الورقة البحثية التي حملت عنوان: “تطورات المواقف الأمريكية والأوروبية من الحرب على غزة.. السياقات والدوافع“.
وعَودًا للوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، فقد استعرض الكتاب عدة مقترحات للتعامل معه، أولها إضعاف اللوبي عبر التمويل الحكومي لكل العمليات الانتخابية، الأمر الذي يسحب منه ورقة التأثير على المرشحين. وثانيها هو إنشاء لوبي مضاد، وثالثها، رعاية خطاب أكثر انفتاحًا في الداخل الأمريكي حول إسرائيل والتاريخ الحقيقي لتأسيسها وحقيقة الصراع العربي-الإسرائيلي، ورابع هذه المقترحات وجود مجموعات من داخل اللوبي تقتنع بأهمية اتباع سياسات مختلفة، تقدم المصالح القومية الأمريكية. وقد ناقش الكتاب بشيء من التفصيل كل خيار منهم، مع ميله للخيارين الثالث والرابع.
تعليقات على الكتاب
تُعد الفرضية الأساسية للكتاب هي أن السبب الرئيسي لهذا الحجم من الدعم الأمريكي لإسرائيل هو قوة اللوبي الإسرائيلي. وإذا كان الأمر كذلك، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أين مؤسسات الدولة الأمريكية أو ما تُسمي أحيانًا بـ”الدولة العميقة”، التي من المفترض بها أن تحمي المصالح الأمريكية؟ بعبارة أخرى، إذا كان السياسيون في واشنطن يتماهون مع رغبات اللوبي الإسرائيلي لأغراض انتخابية وشخصية، فما موقف المؤسسات الأمريكية من تغليب السياسيين للمصلحة الإسرائيلية على المصلحة الأمريكية حسبما يوضح الكتاب؟
والحديث عن المؤسسات الأمريكية أو الدولة العميقة هنا ليس بعيدًا عن ميرشايمر ووالت، فكلاهما من المدرسة الواقعية، التي تعطي وزنًا أكبر لمؤسسات الدولة في عملية اتخاذ القرار على الأفراد الذين يترأسونها. فعلى سبيل المثال، يعتبر ميرشايمر أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، غزا أوكرانيا لأن الأمن القومي الروسي بات في خطر من توسع الناتو، وأنه لو كان هناك غير بوتين في السلطة لفعل الأمر ذاته.[4]
وباستخدام نفس المنطلق، نجد أن من المستغرب تركيز ميرشايمر ووالت على السياسيين الأمريكيين المتعاقبين، وعدم استعراض رؤى المؤسسات الأمريكية بإسهاب. فمن المفترض -وفق النظرية الواقعية التي يتبناها الكاتبان- أن تتحرك المؤسسات الأمريكية إذا تعرضت مصالح البلاد للضرر.
وربما هذا أيضًا جوهر انتقاد المفكر الأمريكي، نعوم تشومسكي (Noam Chomsky)، لكتاب ميرشايمر ووالت. فرغم تأكيده على القيمة الأكاديمية لمؤلفي الكتاب، إلا أنه يعتبر أن طرحهما غير منطقي بتاتًا. والسؤال الذي طرحه تشومسكي هو: ما رد فعل المؤسسات الأمريكية عندما ترى اللوبي يدفع باتجاه سياسة مضرة بأمريكا؟
ويعتقد تشومسكي أن إجابة هذا التساؤل حاضرة، وهي أن هناك اختلافًا بين ما تراه مراكز القوة في السياسة الأمريكية مصلحة للأمن القومي الأمريكي، وما يراه جون ميرشايمر وستيفن والت مصلحة للأمن القومي الأمريكي. فالمؤسسات كانت لتتخذ موقفًا حيال هذا الواقع، إذا اتفقت مع ميرشايمر ووالت على ضرر اللوبي الإسرائيلي بالمصالح الأمريكية. إلا أنها لم تفعل؛ لأنها “لا تعتقد أن سياستها تجاه إسرائيل تضر بها”.
ويشير تشومسكي إلى أن بإمكان “الولايات المتحدة تحييد اللوبي في خمسة دقائق”، لكن المسألة لا تتعلق بقوة اللوبي وتأثيره على صانع القرار الأمريكي، بقدر ما تتعلق بإرادة صانع القرار الأمريكي نفسه. ويركز تشومسكي -في تفسيره لسبب الدعم الأمريكي لإسرائيل- على المنفعة الاستثمارية للشركات الأمريكية الكبرى من التعاون مع إسرائيل، خاصة شركات السلاح الأمريكية التي تنتفع من الدعم الأمريكي لإسرائيل.[5]
وربما يتفق المفكر المصري، عبد الوهاب المسيري، مع طرح تشومسكي. فالمسيري -صاحب موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية- يرى أن اللوبي الصهيوني في غاية الضعف أمام الولايات المتحدة، وأنه لا يستطيع إنفاذ أمر خلافًا للرغبة الأميركية، لأنه في الأساس أداة بيد واشنطن. واستشهد المسيري بتراجع إسرائيل عن صفقة طائرات مسيّرة للصين، بسبب غضب واشنطن من هذه الصفقة بعدما علمت بها، واضطرت إسرائيل حينها لدفع تعويضات للصين.[6]
وبالتالي، فإن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل لا تُفهم في إطار تأثير إسرائيل على القرار الأمريكي، بل تُقرأ باعتبار إسرائيل جزءًا من المشروع الأمريكي في المنطقة، وفق منظور المسيري. ويذهب المسيري إلى أبعد من ذلك، مفترضًا أنه حتى لو اختفت إسرائيل تمامًا من الوجود، فإن السلوك الأمريكي تجاه المنطقة لن يتغير، لرغبة أمريكا في السيطرة على موارد المنطقة.
فعلى سبيل المثال، يعتبر المسيري -خلافًا لميرشايمر ووالت- أن الولايات المتحدة غزت العراق “انطلاقًا من رؤية استعمارية غربية تضرب بجذورها في التشكيل الحضاري الغربي الحديث، وترمي إلى نهب العالم وتوظيفه لصالح طغمة حاكمة في واشنطن”، ويرفض المسيري أن يكون غزو العراق جاء “من أجل اليهود أو بسبب الضغط الصهيوني أو انصياعًا إلى ما جاء في التوراة والتلمود”.[7]
وليس المقام هنا مقام ترجيح بين الرؤيتين أو محاولة التوفيق بينهما، إلا أنه ربما يكون من المناسب الإشارة إلى أهمية رؤية ميرشايمر ووالت، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن كتابهما موجه بالأساس للداخل الأمريكي. فما يقدمه الكتاب من تفكيك لرواية اللوبي -القائلة بتطابق المصالح الأمريكية والإسرائيلية- يصب في صالح المناوئين لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وبالأخص الذين يوجهون خطابهم للدول الغربية. إذ أن تبني الداعمين للقضية الفلسطينية لما يراه ميرشايمر ووالت من افتراق للمصالح الأمريكية والإسرائيلية، يُضعف سردية اللوبي الإسرائيلي في الداخل الأمريكي، حتى ولو أمام قطاع من الشعب.
علاوة على ذلك، فإن من مصلحة القضية الفلسطينية -ولو جزئيًا- ما تبناه ميرشايمر ووالت من إخراج لإسرائيل من دائرة المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط. فحتى لو لم تكن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تتصرف وفقًا لهذا المنظور، إلا أن تبنيه -في الخطاب الموجه للشعوب الغربية على وجه الخصوص- يبدو أكثر مناسبة من ترديد الرواية التي يريد لها اللوبي أن تستقر في الوعي الجمعي الأمريكي، من أن المصلحة الاستراتيجية الأمريكية تقتضي دعم إسرائيل.
وإجمالًا، فقد حاولنا هنا توضيح أهم أفكار الكتاب وهيكله الرئيسي، غير أنه احتوى على مئات المصادر، من تصريحات وأحداث ومواقف، تدلل على السرديات والرؤى التي يطرحها. كما عرض عشرات -وربما مئات- الأسماء لمسؤولين ومؤسسات في اللوبي الصهيوني، وكيفية تأثيرهم في السياسة الأمريكية. ولذلك، يُنصح بقراءة الكتاب، خاصة للمتخصصين والمهتمين بدراسة السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، والعلاقات الأمريكية-الإسرائيلية.
المصادر
[1] فلسطين اليوم، مقتطفات جديدة من خطابه..بن لادن: تمسكنا بفلسطين أعظم من تمسكنا بأرواحنا، 14 سبتمبر/أيلول 2009
[2] The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy: John J. Mearsheimer. The University of Chicago, August 28, 2015
[3] John Mearsheimer and Stephen Walt – The Israel Lobby and US Foreign Policy, GBH Forum Network, August 13, 2012
[4] John J. Mearsheimer, Why the Ukraine Crisis Is the West’s Fault: The Liberal Delusions That Provoked Putin, Foreign Affairs, page: 5, September-October 2014
[5] Noam Chomsky – The Jewish Lobby, Chomsky’s Philosophy, July 20, 2016
[6] عبد الوهاب المسيري، حقيقة اللوبي الصهيوني في الغرب، قناة الهاديات تيوب، 21 أكتوبر/تشرين الأول 2020
[7] عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والحضارة الغربية، دار الهلال، صفحة رقم 7، سبتمبر/أيلول 2003