الأزمة في كازاخستان.. الوقائع والسيناريوهات المحتملة
مقدمة
تعد كازاخستان أكبر اقتصاد في آسيا الوسطى، لما تملكه من ثروة نفطية تشكل حوالي عشرين بالمئة من إجمالي الناتج المحلي للبلاد، كما أنها أكبر منتج لليورانيوم في العالم، وتمتلك كميات ضخمة من المنجنيز والحديد والكروم والفحم. وعلى الرغم من الموارد الطبيعية الهائلة وقلة عدد سكان البلاد فإن نطاق الاستياء من الحكومة يتسع بسبب الفساد ومستويات المعيشة والفقر والبطالة.
ومع بداية 2022، شهدت البلاد موجه عنيفة من الاحتجاجات، أسفرت عن مقتل عدد كبير من المتظاهرين ورجال الأمن، واعتقال الآلاف، واستدعت طلب التدخل العسكري الخارجي لإنقاذ النظام بعد أن تحولت الشوارع لساحات اشتباك بين الأمن والمتظاهرين الذين استولوا على منشآت حكومية مهمة.
ولكن المظاهرات التي خرجت احتجاجًا على ارتفاع أسعار المحروقات في البلد الغني بالنفط، تجاوزت مطالبها خفض هذه الأسعار إلى المناداة بتوسيع نطاق الحريات السياسية في الدولة التي لم تخرج من دائرة الحكم الفردي الاستبدادي منذ استقلالها عن الاتحاد السوفيتي السابق.
1 – اندلاع المظاهرات
اندلعت موجة من المظاهرات في كازاخستان في الثاني من يناير/كانون الثاني 2022، احتجاجًا على رفع السلطات أسعار الغاز المسال، الذي يعرف بأنه “وقود الفقراء”، لرخص أسعاره. وطالب المتظاهرون الغاضبون بخفض سعره الذي ارتفع فجأة بنسبة 100بالمئة مطلع العام.
نزل آلاف المتظاهرين إلى شوارع ألماتي، وهي أكبر مدن البلاد وعاصمتها الاقتصادية، وفي منطقة مانغيستاو (غرب) التي تحتوي على حقول النفط، معتبرين قرار رفع الأسعار “غير عادل” في ضوء احتياط الطاقة الكبير في هذا البلد الغني بالنفط والغاز.
تحولت المظاهرات التي امتدت إلى العاصمة الحالية، نور سلطان، إلى اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين، واتسمت بطابع عنيف، حيث تمكن المتظاهرون في بداية الأحداث من السيطرة على مطار ألماتى، في 5 يناير/كانون الثاني[1]، واقتحموا مباني حكومية، وأضرموا فيها النيران، وهو ما وصفه مراقبون بأنه أسوأ اضطرابات تشهدها الجمهورية السوفيتية السابقة.
أدت الأحداث إلى تحول شوارع العديد من المدن إلى ساحة صراع مليئة بالمباني والمركبات المحترقة، وشعر الكثير من السكان بالخوف من الخروج من بيوتهم، خاصّة في الليل، بسبب تواصل الاشتباكات وارتفاع أصوات إطلاق النار والانفجارات.
ولحماية البيوت والممتلكات من النهب، تشكلت مجموعات حراسة من السكان أمام القرى، ووضعت نقاط تفتيش ومتاريس على مداخل مدينة ألماتي. كما امتدت الطوابير الطويلة في محطات الوقود، ووجد السكان صعوبة في شراء الطعام لإغلاق مراكز التسوق والمتاجر، واستمر انقطاع خدمات الإنترنت.
2 – الخلفية السياسية للمظاهرات
على الرغم من أن الاضطرابات ناجمة عن زيادة أسعار الوقود، فإن هناك مؤشرات على تصاعد المطالب لتشمل جوانب سياسية في بلد لم يتخلص بعد من إرث حكم الفرد الذي هيمن عليها لثلاثة عقود، فقد ردد المتظاهرون هتافات مناهضة للحكومة، مثل “لتستقل الحكومة”، و”ليرحل الرجل العجوز”، في إشارة إلى الرئيس السابق «نور سلطان نزارباييف»، داعم الرئيس الحالي وصاحب النفوذ الكبير في البلاد[2].
صب المتظاهرون جام غضبهم على نزارباييف الذي تولى منصبًا مهمًّا في الأمن القومي منذ تنحيه عن السلطة، وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر أشخاصًا يحاولون إسقاط تمثال عملاق من البرونز للزعيم السابق. وذكرت تقارير أن النصب الذي تمَّ تفكيكه يبدو أنه كان في مدينة «تالديكورغان»، مسقط رأس نزارباييف[3].
لقد فاجأت سرعة تحول الاحتجاجات إلى العنف الكثيرين، في كازاخستان وفي المنطقة ككل، وأشارت إلى أنها لا تتعلق فقط بالزيادة في أسعار الوقود، فغالبًا ما يوصف نظام الحكم في كازاخستان بأنه استبدادي، حيث كانت البلاد تدار حتى العام 2019 من قبل الرئيس نزاربييف، الذي تميزت فترة حكمه بإجراءات لإحاطة شخصه بهالة من القداسة، كنصب تماثيله في جميع أرجاء البلاد، وتسمية العاصمة باسمه.
ويُذكر أن معظم الانتخابات في كازاخستان يفوز فيها الحزب الحاكم بنسبة تقترب من مئة في المئة من الأصوات، ولا توجد في البلاد معارضة سياسية فاعلة.
ويقول محللون يتابعون الشأن الكازاخي إنه يبدو أن الحكومة الكازاخية قد قللت من تقديرها لحجم غضب السكان، وأن هذه الاحتجاجات لم تكن مفاجئة في بلد يفتقر إلى الديمقراطية الانتخابية، ولهذا يضطر الناس للخروج إلى الشوارع من أجل إسماع صوتهم[4].
وذكرت منظمة العفو الدولية إن الاحتجاجات التي شهدتها كازاخستان خلال الأيام الماضية كانت نتيجة “قمع السلطات واسع النطاق لحقوق الإنسان الأساسية”.
3 – تعامل السلطة مع الأحداث
حاولت السلطات امتصاص غضب الشارع الكازاخي لمحاصرة رقعة المظاهرات وإبطال أسبابها، وذلك من خلال تحميل الحكومة – التي قدمت استقالتها للرئيس «قاسم جومرات توكاييف» مسؤولية التوتر، واتهام وزرائها بالفشل في مواجهة التضخم. وكان الحدث الأبرز هو إعلان توكاييف، في خطاب عاجل للأمَّة، ترؤسه لمجلس أمن الجمهورية، والذي شغله قبل ذلك الرئيس السابق نزارباييف[5]، الذي يرى الكازاخيون أنه الحاكم الفعلي للبلاد حتى الآن.
ويسيطر نزارباييف، (81 عامًا) الذي حكم كازاخستان منذ 1989، على مقاليد الحكم بصفته رئيس مجلس الأمن وقائد الأمَّة، وهو دور دستوري يمنحه مزايا فريدة في صنع القرار وحصانة من المحاكمة.
كما أعلنت الحكومة كذلك عن فتح تحقيق ضد أصحاب محطات الوقود، فيما وصفته بـ “مؤامرة رفع الأسعار”. وقال المسؤولون إنه تمّ اتخاذ قرار بالفعل لخفض تكلفة الغاز[6].
وعلى الجانب الأمني، قام النظام الحاكم بفرض حالة الطوارئ، وقطع خدمة الإنترنت والاتصالات عبر الهواتف الجوالة، وتصدت قوات الأمن للمتظاهرين بعنف بالغ، أسفر في الأيام العشر الأولى من يناير/كانون الثاني، عن سقوط ما يقرب من 160 قتيلاً، واعتقال حوالي ستة ألاف مواطن[7].
ومنذ اللحظات الأولى لاندلاع المظاهرات، استدعى النظام الكازاخي نظرية المؤامرة والتخوين في تبرير الاحتجاجات، حيث وصف الرئيس الكازاخي المتظاهرين بأنهم عصابات من قطاع الطرق والإرهابيين والمتآمرين الذين تحركهم دوافع مادية. ورفض الرئيس أي إمكانية للتفاوض مع المحتجين، وأصدر أمرًا لقوات الأمن والجيش بفتح النار بشكل مباشر، دون تحذير على المتظاهرين، والسماح بقتلهم، واصفًا إيَّاهم بالمجرمين والقتلة[8]، وقال: “ما نوع المفاوضات التي يمكن أن نجريها مع مجرمين وقتلة؟ كان علينا التعامل مع مجرمين مسلحين ومدربين. يجب تدميرهم وسوف يتم ذلك قريبًا”[9].
وزعم توكاييف، أن إجمالي 20 ألف من “قطاع الطرق” هاجموا مدينة “ألماتى”، أكبر مدينة في البلاد، حيث تحتدم الاضطرابات العنيفة، وأن “الإرهابيين” كان يتم توجيههم من جهات خارجية[10]. وأنهم تلقوا تدريبات خطيرة بالخارج.
4 – موقف المعارضة الكازاخية
استغلت المعارضة الفرصة – النادرة – في كازاخستان، ودعت إلى الخروج إلى الشوارع، والتصدي لقوات الأمن. وكان الصوت البارز هو صوت المنشق الكازاخي المقيم في فرنسا، “مختار ألبيازوف”، زعيم حركة “الخيار الديمقراطي لكازاخستان”، الذي رأى “أن النظام الذي حكم كازاخستان منذ سقوط الاتحاد السوفيتي شارف على نهايته في ثورة شعبية اتحد فيها الناس للمرة الأولى للتعبير عن غضبهم”.
وقال ألبيازوف الذي عبّر عن تأييده للاحتجاجات على مواقعه على منصات التواصل الاجتماعي: “أعتقد أن النظام يقترب من نهايته. إنها مجرد مسألة وقت”. وأضاف: “في غضون ثلاثة أيام بالضبط اندلعت ثورة، وهي ثورة حقًّا في وجدان الناس، وقد أدركوا أنهم ليسوا ضعفاء”. وتابع: “بعد سنوات من الاستياء إزاء المشكلات الاقتصادية، انفجر الإحباط المكبوت. جاءت اللحظة وانفجر كل شيء”[11].
وحذر ألبيازوف من تحول كازاخستان إلى دولة خاضعة لروسيا، كما كان الحال أيام الاتحاد السوفيتي السابق، مالم يتدخل الغرب، مطالبًا الشعب بالوقوف في وجه التدخل العسكري الروسي الذي يُعد احتلالًا للبلاد، وخطوة على طريق تحقيق حلم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باستعادة بلاده أمجاد الاتحاد السوفيتي مرة أخرى.
ويقدم ألبيازوف نفسَه على أنه زعيم احتجاجات المعارضة الكازاخية، ويزعم أنه يُستشار يوميًّا بشأن الخطوات على الأرض في البلاد”. ويقول: “أرى نفسي زعيم المعارضة”. ويتابع: “يطلبني المحتجون كل يوم ويسألون: ما الذي يجب أن نفعله؟ نقف هنا.. ماذا ينبغي أن نفعل”[12].
ولكن هذه المزاعم لا يمكن التعويل عليها في الإقرار بوجود قيادة للمعارضة تدير التحركات على الأرض في كازاخستان، خاصة وأن ألبيازوف وزير سابق للطاقة في النظام الحاكم، وشخصية مثيرة للجدل، ومطلوب في كازاخستان في عدد من الاتهامات، منها القتل والابتزاز.
5 – موقف روسيا
لا شك أن روسيا تخشى من أي تطورات تحول الاحتجاجات الكازاخية من مجرد مظاهرات ضد الغلاء إلى انتفاضة مناوئة لنظام الحكم، وذلك لأن الإطاحة بالنظام في دولة مثل كازاخستان – التي توصف بأنها الأكثر أمنا واستقرارًا في وسط آسيا – في مظاهرات شعبية أمر قابل للتحقق في دول أخرى، وهذا يعني أنّ احتمالات حصول مثل هذه الأحداث في محيط روسيا الجغرافي المباشر، لا بل في روسيا نفسها تبقى واردة[13].
في ضوء هذه المخاوف، يمكن تفسير سرعة استجابة روسيا لمطالب كازاخستان بالتدخل العسكري، فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يشعر بالقلق إزاء سرعة تحول الكازاخيين ضد نزارباييف، الرئيس السابق، ولا يرغب الكرملين، الذي اتهم الغرب بإثارة الثورات في دول الاتحاد السوفيتي السابق مثل بيلاروسيا وأوكرانيا في المخاطرة بظهور حكومة موالية للغرب على حدوده في كازاخستان.
ولهذا لم يكن غريبًا أن تتناغم مواقف روسيا وكازاخستان في اتهام جهات أجنبية بالوقوف وراء الاضطرايات، وأن يؤكد الرئيس الروسي على أن دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي لن تسمح بـ”ثورات ملونة”[14]، في إشارة منه إلى رفض أي شكل من أشكال التغيير المدعوم من جهات خارجية.
واتهام المتظاهرين بتلقي تدريبات في الخارج أو العمل على تنفيذ أجندة خارجية هو أمر تقليدي بالنسبة إلى روسيا في مثل هذه الحالات، ويتسق مع الترويج لنظرية المؤامرة، ومفادها أنّ الغرب يقف خلف مثل هذه الأحداث لتقويض أمن روسيا. وبغض النظر عن صدق مزاعم التدخل الخارجي من عدمه، فإن التدخل الروسي يعزز من دور موسكو الأمني في محيطها الإقليمي، لأنه يثبت أن موسكو هي الضامن الأول لأمن الأنظمة الاستبدادية.
وقد برهنت روسيا على أهميتها كضامن لأمن الأنظمة الحاكمة، فبالتزامن مع المواجهة الأمنية للمتظاهرين، استقبلت كازاخستان قوات حفظ السلام التابعة لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تتزعمها روسيا، وذلك بعد أن ناشد توكاييف قادة دول المنظمة أن يساعدوا بلاده، مبررًا ذلك بأن “أعمال الشغب” عدوان خارجي، وأن بلاده تتعرض لتهديد إرهابي يستهدف وحدة أراضيها[15].
وتلبية لطلب توكاييف، كانت القوات الروسية في طليعة القوات التي وصلت كازاخستان، وصرح الروس بأن قواتهم سوف تنتشر للمساعدة في “استقرار” كازاخستان، البلد العضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تمثل تحالفا عسكريًّا يضم دول سوفيتية سابقة، هي روسيا، وأرمينيا، وكازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان.
6 – موقف الولايات المتحدة
تحظى كازاخستان بأهمية كبيرة لدى الولايات المتحدة، لأنها أحد منتجي الطاقة في العالم، وهو ما جعل الشركات الأمريكية الكبرى تستثمر عشرات المليارات في منطقة إنتاج النفط الواقعة غرب البلاد، وهي مركز الاحتجاجات الأخيرة. وعلى الرغم من العلاقات الوثيقة بين كازاخستان وروسيا فإن النظام الكازاخي حافظ على علاقات جيدة مع واشنطن، وينظر إلى الاستثمار النفطي الأمريكي على أنه شكل من أشكال التوازن للنفوذ الروسي في البلاد. ولهذا كانت الولايات المتحدة أقل انتقادًا للاستبداد في كازاخستان منه في دول الاتحاد السوفيتي السابق، مثل روسيا وبيلاروسيا[16].
وقد أثبتت الأحداث الأخيرة ذلك، إذ لم يكن الموقف الأمريكي قويًّا في دعم المتظاهرين في كازاخستان، حيث اكتفى البيت الأبيض بالدعوة إلى الهدوء وضبط النفس، وكان التدخل العسكري الروسي هو الأهم بالنسبة لواشنطن التي ترى أن كازاخستان يمكنها التعامل بمفردها مع الأحداث دون مساعدة من منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وحذرت من خطورة التواجد الروسي على الأراضي الكازاخية على لسان وزير خارجيتها، «أنتوني بلينكن»، الذي قال: “أحد الدروس المستفادة من التاريخ الماضي هو أنه إذا دخل الروس بيتك، قد يكون من الصعب إجبارهم على المغادرة”[17].
وفي ردها على الاتهامات التي وجهت إليها بالتواطؤ في تفاقم الوضع في كازاخستان، وربطت بين ما يحدث من اضطرابات أمنية والأزمة الحالية في الصراع الروسي الأوكراني، والتي تقف فيها الولايات المتحدة إلى جانب أوكرانيا، نفت واشنطن أن تكون لها صلة بالأحداث، وقال مسؤول رفيع المستوى في الإدارة الأمريكية إنه “لا علاقة لنا بتطورات الأحداث هناك”. كما أضاف أن الأسئلة حول التأثير المحتمل للأحداث في كازاخستان على الأوضاع في أوكرانيا والمفاوضات الروسية الأمريكية “يجب توجيهها إلى الكرملين”[18].
7 – سيناريوهات الأزمة
يمكن للأزمة الكازاخية أن تسير في ثلاثة مسارات، وفق السيناريوهات التالية، والتي يرتبط فشلها أو نجاحها بعوامل داخلية وخارجية عديدة ومعقدة، لعل أهمها هو وجود الجارة القوية، روسيا، التي تلعب دورًا كبيرًا في مساندة النظام الحاكم داخليًّا، ولن تتخلف عن حمايته من أي ضغوط خارجيَّة، هذا بالإضافة إلى طبيعة البلاد المحاطة بأنظمة حليفة.
- السيناريو الأول:
وهو اتساع رقعة الاحتجاجات، ودخول الشعب الكازاخي في حالة من العصيان يصعب على السلطات الحاكمة مواجهتها والتعامل معها، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى إسقاط النظام الحالي.
وهذا السيناريو مرهون بالوضع الداخلي المتمثل في تمسّك الشعب الكازاخي بخيار المظاهرات، وتصعيد حركة الاحتجاجات، ورفع سقف المطالب، والانتقال من المطالبة بتحسين الأحوال المعيشية إلى المطالبة بتغيير النظام نفسه. كما أن الموقف الخارجي من الأهمية بمكان بالنسبة لدعم الجبهة الداخلية، من خلال توفير مظلة دولية لحماية المتظاهرين من عملية القمع والبطش التي تنتهجها ضدهم السلطات الكازاخية، ونقل القضية إلى أروقة المنظمات الدولية ووضعها على أجندة المجتمع الدولي.
ويرتبط نجاح هذا السيناريو أيضًا بظهور قيادة معارضة منظمة تقود هذا الحراك، وتبلور مطالبه، وتعبّر عنه في الداخل. هذا بالإضافة إلى رغبة دولية من جانب الغرب تحديدًا، وعلى رأسه الولايات المتحدة، في فتح جبهة جديدة مع روسيا، لخصوصية الوضع الكاراخي بالنسبة لها.
ولكن هذا السيناريو يصطدم بعدة عراقيل، أولها داخلي، يتمثل في التعامل الأمني الشديد من جانب السلطات الكازاخية، وعدم وجود معارضة قوية ومنظمة بسبب التاريخ القمعي للبلاد. وثانيها خارجي، يتمثل في الدعم الروسي غير المحدود للنظام الحاكم، ووجود مظلة أمنية خارجية قوية يستفيد منها هذا النظام، وهي منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي سارعت دولها إلى إرسال قواتها لمساعدة النظام الكازاخي. وثالثها، عدم وجود موقف قوي من جانب الدول الغربية يتجاوز حدود التصريحات حتى الآن.
- السيناريو الثاني:
وهو قمع المتظاهرين وإخماد الاحتجاجات، وتمكن النظام الحاكم من السيطرة على الأمور بشكل كامل، وهو ما يعني استمرار حالة الاحتقان السياسي التي تعيشها البلاد.
وتمتلك السلطات الكازاخية من القناعات والإماكنيات ما يمكنها من فرض هذا السيناريو، فالعقيدة الأمنية الكازاخية لا تتهاون في التعامل مع مثل هذه الأحداث، وهو ما بدا واضحًا في الأيام الأولى من خلال إصدار الأوامر بإطلاق النار من دون إنذار مسبق على المتظاهرين بوصفهم “إرهابيين” و”مجرمين”. هذا بالإضافة إلى ترسانة من القوانين التي تفرض قيودًا مشددة على التظاهرات العامة.
ومع ذلك فإن نجاح هذا السيناريو محفوف بالمخاطر، ويمكن أن يفشل في حال وقوع أعداد كبيرة من الضحايا، وحدوث تطور في تحركات المعارضة على الأرض، وهو ما سيؤدي إلى اتساع رقعة الاحتجاجات لتصل إلى المناطق الجنوبية من البلاد، والتي تعتبر تقليديًّا غير مسيّسة، ما يعني تحول الحالة الكازاخية إلى قضية رأي عام عالمي، وتدخل القوى العظمى من خلال المؤسسات الدولية، وفرض عقوبات على النظام الكازاخي. وإن كان من المستبعد في هذه الحالة أن يكون هناك نوع من التدخل المباشر.
- السيناريو الثالث:
وهو التفاوض بين المتظاهرين والنظام الحاكم للوصول إلى توافق بينهما، وذلك من خلال اتخاذ بعض الإجراءات لاسترضاء الشارع الكازاخي وتشجيع المحتجين على التوقف عن مواصلة المظاهرات، وبما يحافظ على سلامة النظام وبقائه، وذلك من خلال السير في مسارين:
أولهما: تحسين الظروف المعيشية، بمحاصرة التضخم وتخفيض أسعار المحروقات، والسيطرة على أسعار السلع الأساسية.
وثانيهما إحداث انفراجة في الوضع السياسي في البلاد التي مازالت تعيش أجواء الاتحاد السوفيتي، ولم تعرف غير الزعيم الأوحد، نزارباييف، حتى بعد تخليه عن منصب الرئاسة.
ويعتمد هذا السيناريو على قبول النظام الحاكم لمبدأ التفاوض من ناحيةٍ، وامتلاك المعارضة الكازاخية لأوراق ضغط تدفع السلطة للجلوس معها من ناحيةٍ أخرى.
ولكن هذا السيناريو يواجه برفض تام من جانب الحكومة الكازاخية التي ترفض التفاوض مع المعارضة، مستندة في ذلك إلى ما تملكه من قوة باطشة ودعم روسى وإقليمي كبير، في حين تفتقد المعارضة للوجود القوي على الأرض والدعم الخارجي الذي يمثل ظهيرًا دوليًّا يساعدها، لأن المصالح الأمريكية في كازاخستان، وفي مناطق إنتاج النفط التي انطلقت منها المظاهرات بالتحديد، سوف تكبل يد أمريكا عن الإقدام على خطوة كهذه.
- السيناريو الرابع:
وهو دخول كازاخستان في حالة من الاضطرابات الشديدة والفوضى العارمة، وتسليح المتظاهرين، وتحول العمل السياسي والمقاومة السلمية إلى حركة مسلحة تشتبك مع القوات الكازاخية، الأمر الذي يمكن أن يحول البلاد إلى سوريا جديدة في وسط آسيا.
ويعتمد تحقق هذا السيناريو على وجود جهات خارجية راغبة في تمويل وتدريب وتسليح أي معارضة مسلحة داخل الأراضي الكازاخية، بالإضافة إلى وجود عمق إستراتيجي يمكن هذه المعارضة من التحرك والمناورة.
ولكن وضع كازاخستان الجغرافي والسياسي والإقليمي يستبعد هذا السيناريو إلى حد كبير، فالبلاد محاطة بأنظمة حليفة، تخشى على نفسها من أي اضطرابات قد يمتد أثرها إليها، ولذلك لن تسمح بالفوضى والانهيار وتحول بلادها إلى عمق إستراتيجي لمعارضة مسلحة.
ولعل التدخل الروسي في التجربة السورية يبيّن لنا ما يمكن أن تفعله موسكو في جارتها كازاخستان حال تحول الصراع في البلاد إلى إشتباكات مسلحة أو حرب أهلية.
وتشير المعطيات الحالية إلى أن السيناريو الثاني، وهو قمع المظاهرات والقضاء على حالة الاحتجاج، هو الأقرب للتحقق، إن لم يكن قد تحقق الجزء الأكبر منه بالفعل، خاصة وأن الأوضاع على الأرض تشير إلى تمكن السلطات من محاصرة الاحتجاجات وقمع المتظاهرين. كما أن التجارب السابقة تشير إلى نجاح السلطات الكازاخية في استعادة السيطرة على الأمور، وهو ما حدث في عام 2011.
ولكن هذا لا يمنع من إمكانية لجوء النظام الحاكم إلى اتخاذ بعض الإجراءات التي يمكن أن تخفف من وطأة الحل الأمني، وتحقق حالة من الهدوء، مثل إقالة بعض المسؤولين، وتقديم البعض الآخر للمحاكمة، والتراجع عن بعض القرارات الاقتصادية المرفوضة شعبيًّا، ولكنه هدوء نسبي، سرعان ما سيزول مع توفر الفرصة لاشتعال الأوضاع مرة أخرى.
خاتمة
لم يكن ارتفاع أسعار الغاز إلا القشة التي قصمت ظهر البعير، في بلدٍ مثل كازاخستان التي تعاني من استبداد سياسي، وظلم اجتماعي، وأزمات اقتصادية لا يمكن تبريرها بالنسبة لهذا البلد الغني ذي الكثافة السكانية المنخفضة.
ولكن أوضاع كازاخستان الداخلية وعلاقاتها الإقليمية بروسيا ودول الجوار وامتلاكها لثروات نفطية ومعدنية كبيرة يحتاج إليها الغرب قد تحول دون تطور الاحتجاجات الشعبية وتحولها إلى أداة ضغط يمكن استغلالها في دفع النظام الحاكم إلى السير في مسار الإصلاح السياسي ورفع المظالم الاجتماعية وتحقيق الرفاهية الاقتصادية.
وإلى أن تظهر قيادة معارضة تنظم هذه الاحتجاجات وتوجه حركة المظاهرات وتعمل على تحقيق المطالب الشعبية، وإلى أن تتوفر الظروف الإقليمية والدولية المناسبة لدعم هذه المعارضة، فإن مثل هذه الاحتجاجات لن تجد إلا التعامل الأمني القوي من جانب النظام، حتى وإن أجريت بعض الإصلاحات “الشكلية” التي لن تفضي إلى التغيير المنشود.
[1] إيلاف، متظاهرون ضد ارتفاع أسعار الغاز يحتلون مطار ألماتي في كازاخستان، 5 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3qhu5i6
[2] France 24، كازاخستان: الرئيس يتهم “إرهابيين” بقيادة أعمال الشغب في البلاد ويطلب المساعدة العسكرية من موسكو، 5 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3zLoiEn
[3] BBCعربي، احتجاجات كازاخستان: مقتل العشرات في حملة قمع ضد المحتجين المناهضين للحكومة، 5 يناير/كانون الثاني 2022، https://bbc.in/3nhjS33
[4] BBC عربي، احتجاجات كازاخستان: مقتل العشرات في حملة قمع ضد المحتجين المناهضين للحكومة، 5 يناير/كانون الثاني 2022، https://bbc.in/31IwZml
[5] RTعربي، كازاخستان.. الرئيس توكاييف يعلن توليه منصب رئيس مجلس الأمن بدلا من نزارباييف، 5 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3K3ocww
[6] الجزيرة، الجزيرة نت تعرض جذور الأزمة.. كازاخستان تدخل 2022 بـ “ثورة” تحت الرماد، 5 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3HSFj2a
[7] الشرق الأوسط، اضطرابات كازاخستان: 164 قتيلاً و6 آلاف معتقل، ، 10 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3fdWWgU
[8] DW، رئيس كازاخستان يصدر أوامر لقتل المتظاهرين وانتقادات دولية، 7 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3tdAUmz
[9] BBCعربي، كازاخستان: الرئيس توقاييف يرفض التفاوض مع المحتجين وروسيا ترسل قوات عسكرية لدعم السلطات، 7 يناير/كانون الثاني 2022، https://bbc.in/3qb22R7
[10] DW، رئيس كازاخستان يصدر أوامر لقتل المتظاهرين وانتقادات دولية، 7 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3tdAUmz
[11] صحيفة النهار، وزير كازاخي سابق: انهيار النظام مسألة وقت، 7 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3K3uxrR
[12] صحيفة النهار، وزير كازاخي سابق: انهيار النظام مسألة وقت، 7 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3zTtPc7
[13] ترك برس، احتجاجات كازاخستان.. حسابات روسيا وتركيا، 9 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/33bn2yt
[14] DW، بوتين يتعهد بحماية حلفاء بلاده من “الثورات الملونة”، 10 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/33mB4NI
[15] Sputnikعربي، رئيس كازاخستان: عصابات إرهابية تنظم الاحتجاجات وطلبت مساعدة دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي
5 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/34DpDBR
[16] العربية، روسيا تدخلت وبكين صمتت وأميركا قلقة.. ما أهمية كازاخستان؟، 7 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3ratkq4
[17] MSN، البيت الأبيض يعلق على تصريحات أمريكية “أثارت غضب موسكو”، 9 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/3tgkRUV
[18] الدستور، البيت الأبيض: لا علاقة للولايات المتحدة بالأحداث فى كازاخستان، 8 يناير/كانون الثاني 2022، https://bit.ly/338uAlI