الأزمة السعوديَّة اللبنانيَّة في ضوء الصراع السعودي الإيراني
مقدمة
“حينما تتصارع الأفيال لا تسأل عن العشب”، مثل أفريقي، ينطبق على المشهد اللبناني، وذلك بعد أن تحوَّل لبنان إلى ساحةٍ للحرب بالوكالة بين القوى الإقليميَّة والدوليَّة التي تتصارع من أجل مصالحها وحفاظًا على نفوذها في هذا البلد الذي أنهكته المشاكل، ولا يكاد يخرج من أزمةٍ حتى يدخل في أخرى، والضحيَّة دائمًا وأبدًا هي الشعب اللبناني الذي يُعانِي في ظِل أوضاع معيشيَّة صعبة.
كان آخر مظاهر هذا الصراع في نهاية أكتوبر/تشرين الأوَّل 2021، حينما تأزم الوضع بين السعوديَّة ولبنان على أثر تصريحات لوزير الإعلام اللبناني حول الحرب في اليمن، اعتبرتها الرياض معادية لها، وسرعان ما تضخمت الأزمة لتتحوَّل إلى قطيعة دبلوماسيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة، وتمَّ استدعاء إيران إلى مركز الأزمة من خلال الهجوم على “حزب الله” وانتقاد دوره في تنفيذ الأجندة الإيرانيَّة في لبنان والمنطقة.
اتسمت الإجراءات السعوديَّة بالمبالغة والتصعيد ضد “حزب الله”، الأمر الذي يَدفعنا إلى التساؤل عن السبب الحقيقي لهذا الموقف المتشدد من الجانب السعودي، خاصَّة وأنه يأتي بعد أنباءٍ عن مفاوضات سعوديَّة إيرانيَّة لتطبيع العلاقات بين الطرفيْن.
أوَّلًا: الأزمة والتصعيد والمواقف
1 – تصريحات قرداحي:
في 25 أكتوبر/تشرين الأوَّل، بثت قناة “الجزيرة” حلقة مسجَّلة من برنامج “برلمان الشعب”، ظهر فيها وزير الإعلام اللبناني، “جورج قرداحي”، وهو يتحدث عن موقفه من الحرب في اليمن، ويقول: “شعب يُدافع عن نفسِه، هل يعتدون على أحد؟.. في نظري هذه الحرب اليمنيَّة عبثيَّة يجب أن تتوقف”. واعتبر أن “الحوثيّين يُدافعون عن أنفسِهم في وجه الاعتداء الخارجي”.
استنكرت السعودية تصريحات قرداحي الذي خرج بعدها ليوضح أن هذه المقابلة أجريت في 5 أغسطس/آب، أي قبل شهر من تعيينه وزيرًا في حكومة “نجيب ميقاتي”. وأكَّد أنه “لم يقصد ولا بأيّ شكلٍ من الأشكال، الإساءة للمملكة العربيَّة السعوديَّة والإمارات اللتين يكنّ لقيادتيهما ولشعبيهما كلّ الحب والوفاء”. وأضاف: “ما قلته بأن حرب اليمن أصبحت حربًا عبثيَّة يجب أن تتوقف، قلته عن قناعة، ليس دفاعًا عن اليمن ولكن أيضًا محبةً بالسعوديَّة والإمارات وضنًّا بمصالحهما”[1].
ورَدًّا على مطالبات بالاعتذار والاستقالة، قال قرداحي إنه “لا يجوز أن نكون عرضة للابتزاز”، ورفض الاعتذار عن تصريحاته، مُصِرًّا على أنه “لم يُخطِئ بحق أحد”[2].
2 – التصعيد السعودي:
على غرار سيناريو الأزمة التي فرض بعدها الحصار على قطر، اتخذت السعوديَّة وبعض دول الخليج من تصريحات قرداحي حول اليمن ذريعة للقيام بسلسلة من الإجراءات ضد الحكومة اللبنانيَّة، ولم تقبل أيَّ تبرير من جانب المسؤولين اللبنانيَّين، وشرعت في الضغط على لبنان دبلوماسيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.
استدعت السعوديَّة سفيرها في بيروت للتشاور، وطلبت من سفير لبنان مغادرة المملكة. كما قررت وقف كافة الواردات اللبنانيَّة ومنع سفر مواطنيها إلى لبنان. وتأييدًا للسعوديَّة، قامت الإمارات والكويت والبحرين بسحب سفرائها من بيروت، وطلبت من السفراء اللبنانيّين المغادرة.
بالغت السعوديَّة في رَدِّ فعلها على التصريحات، واتخذت من الإجراءات ما عَدَّه البعض عقابًا جماعيًّا للشعب اللبناني وإهانة للدولة اللبنانيَّة التي تعاني من الفقر والضعف، حتى إن وزير الخارجيَّة اللبناني، “عبدالله بو حبيب”، وَصَف ما قامت به السعوديَّة تجاه بلاده بالقسوة، وقال: “هناك قساوة سعوديَّة لا نتفهمها، فالمشاكل بين أيّ دولتيْن يتم حلها عبر الحوار وما عملنا حوار”.
لم تكن تصريحات قرداحي هي الأولى في هذا الشأن، فقد وُجّهت للسعوديَّة انتقادات كثيرة من مسؤولين غربيّين اتهموها بالتسبب في مقتل ضحايا مدنيّين والقيام بقصفٍ لا يُميّز وإطالة أمد الحرب التي جَرَّت اليمن إلى حافة المجاعة ودمرت البنى التحتيَّة وأفرغت الاقتصاد. ولعل عدم التناسب بين الفعل ورَدِّ الفعل هو ما دفع بالسعوديَّة إلى الإفصاح عن السبب الحقيقي لتبرير تشددها مع لبنان.
جاء تبرير السعوديَّة لموقفها على لسان وزير الخارجيَّة، “فيصل بن فرحان”، الذي أكَّد أن الأمر أكبر من تصريحات وزير واحد، ولا يمكن وَصْف ما جَرَى بين السعوديَّة ولبنان بالأزمة. وخلص إلى أنه “مع استمرار سيطرة حزب الله على المشهد السياسي، ومع ما نراه من امتناع مستمر من هذه الحكومة والقادة السياسيّين اللبنانيّين عامَّة عن تطبيق الإصلاحات الضروريَّة، والإجراءات الضروريَّة لدفع لبنان باتجاه تغيير حقيقي، قررنا أن التواصل لم يَعُد مثمرًا أو مفيدًا، ولم يَعُد في مصلحتنا”. وقال الوزير إن “تصريحات الوزير عَرَض لواقع، واقع أن المشهد السياسي في لبنان ما زال يسيطر عليه حزب الله، وهو جماعة إرهابيَّة، وبالمناسبة تقوم بتسليح ودعم وتدريب مليشيَّات الحوثيّين”[3].
وهكذا يتضح أن تصريحات قرداحي لم تكن إلَّا ذريعة لاختلاق أزمة واستغلالها في مهاجمة “حزب الله” الذي ترفض السعوديَّة هيمنته على لبنان، وتتهمه بمساعدة الحوثيّين، وتعتبره وكيلًا لإيران في تنفيذ مخططاتها بالمنطقة وسببًا من أسباب انحسار نفوذها على الساحة اللبنانيَّة.
3 – موقف القوى اللبنانيَّة:
حاول الرئيس اللبناني، “ميشال عون”، محاصرة الأزمة في بدايتها من خلال التأكيد على “حرصه على إقامة أفضل وأطيب العلاقات مع المملكة العربيَّة السعوديَّة الشقيقة، ومأسسة هذه العلاقات… بحيث لا تؤثر عليها المواقف والآراء التي تصدر عن البعض”. وعَبَّر رئيس الوزراء، “نجيب ميقاتي”، عن رفضه الشديد والقاطع لكل ما يُسِيء للعلاقات الأخويَّة والعميقة مع السعوديَّة، وأكَّد على أن تصريحات وزير الإعلام تعود إلى ما قبل توليه مهام الوزراة.
أمَّا القوى السياسيَّة فقد انقسمت مواقفها من الأزمة وطغت عليها الولاءات الخارجيَّة والتحالفات الداخليَّة بوضوح. ففي حين طالب البعض وزير الإعلام بالاستقالة، حَث البعض الآخر الوزير على بالتمسُّك بموقفه والاستمرار في منصبه.
وقد مثل “تيَّار المستقبل” برئاسة “سعد الحريري” الصوت المؤيد للسعوديَّة، حيث أدان في بيان شديد اللهجة موقف “حزب الله”، معتبرًا أن “اللبنانيّين اعتادوا على خروجه عن مقتضيات المصلحة الوطنيَّة، ووَضْع لبنان في خانة العداء لأشقائه، من أجل عيون أولياء أموره في طهران”، واتهم التيَّار الحزبَ بأنه “يَعتدي على سيادة دول وشعوب عربيَّة، بالتكافل مع الحرس الثوري الايراني وأدواته المعروفة في سوريا والعراق واليمن والبحرين والعديد من دول المنطقة”، واعتبر أن النموذج الإيراني هو المثل الأعلى للحزب في عالم الحريَّات، “أو بالأحرى في عالم القمع والانغلاق واستعداء الشعوب الحرة”[4]. وألقى الحريري بمسؤولية الأزمة على كاهل حزب الله، متهمًا إياه بأنه يُشهِر العداء للعرب ودول الخليج العربي، رافضًا أن تكون السعوديَّة وكلّ دول الخليج العربي “مكسر عصا” للسياسات الإيرانيَّة في المنطقة”[5]. وأيَّد هذا الموقف، “وليد جنبلاط”، رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، و”سمير جعجع”، رئيس حزب القوَّات اللبنانيَّة، وهو الوحيد الذي زاره السفير السعودي قبل مغادرته الرياض.
وفي المقابل، أكَّد رئيس تيَّار “المردة” المتحالف مع حزب الله، “سليمان فرنجيَّة”، أن قرداحي عرض عليه استقالته، بوصفه أحد وزراء التيَّار في الحكومة، إلَّا أنه رفض ذلك، “فهو لم يرتكب أيَّ خطأ”. وقال فرنجيَّة إن “جورج قرداحي أعطى رأيه قبل أن يكون وزيرًا، وقبل أن يعلم بتوزيره، ونحن نعيش في بلد حُر”.
4 – موقف حزب الله:
جاء موقف “حزب الله”، المُستهدَف الأوَّل بالهجوم على أثر هذه الأزمة، من خلال بيان رسمي أشاد فيه بـ”الموقف الشجاع والشريف” الذي اتخذه وزير الإعلام، ونَدَّد بـ”الحملة الظالمة التي تقودها السعوديَّة والإمارات ومجلس التعاون الخليجي ضده”، واعتبرها “اعتداءً على سيادة لبنان وحريَّة مواطنيه بالتعبير عن آرائهم ومواقفهم دون خوفٍ أو تهديدٍ، وابتزازًا مرفوضًا يطعن في كرامة كلّ لبناني”.
ورفض الحزب رفضًا قاطعًا أيَّ دعوة إلى إقالة الوزير أو دفعه إلى الاستقالة، واصفًا هذه الدعوات بأنها اعتداء سافر على لبنان وكرامته وسيادته.
كما ندد بمواقف بعض السياسيّين والإعلاميّين اللبنانيّين الذين شاركوا في الحملة على الوزير قرداحي، ووَصَفهم بالمأجورين وضعاف النفوس، واعتبر موقفهم سقطة أخلاقيَّة كبيرة، وإساءة إلى لبنان وشعبه وسيادته وكرامته الوطنيَّة[6].
وقال نائب الأمين العام لحزب الله، “نعيم قاسم”، إن “السعوديَّة بدأت عدوانًا على لبنان، وعليها الاعتذار على عدوانها غير المبرر”. ورأى أن “السعوديَّة منزعجة لأنها لم تستطع الهيمنة على القرار السياسي في لبنان برغم الأموال التي دفعتها لأتباعها في البلد. كما أن أحد أسباب الأزمة الحالية تكمن في أن السعوديَّة لم تعد تحتمل خسائرها في المنطقة فأتى عدوانها على لبنان كردة فعل”، وشدد على أن “لبنان ليس مكسر عصا، ويتعامل مع السعوديَّة بنديَّة وكدولة مستقلة، ولا نقبل أن تتدخل السعوديَّة بالحكومة”[7].
ثانيًا: الأزمة في ضوء التقارب السعودي الإيراني
1 – التقارب السعودي الإيراني:
تفجرت الأزمة بين السعوديَّة ولبنان بعد تصريحات إيجابيَّة من الرياض وطهران حول تطبيع العلاقات بين الطرفيْن، وذلك على إثر 4 جولات من المفاوضات التي تمَّ الكشف عن استضافة بغداد لها.
وكانت “وكالة بلومبرج” قد ذكرت أن المفاوضات قد ركزت على إيجاد صيغة للرياض لإنهاء مشاركتها في حرب اليمن، التي تدور بين الحوثيّين المدعومين من إيران والحكومة المدعومة من السعوديَّة. خاصَّة وأن السعوديَّة تبحث عن مَخرَج من الحرب، وتحتاج إلى التزام الحوثيّين بوقف الهجمات الصاروخيَّة على المدن السعوديَّة والغارات عبر الحدود، في الوقت الذي تتعهد فيه طهران بالتزامات دبلوماسيَّة، يَتعيَّن عليها إثبات أن لديها نفوذًا حقيقيًّا على الحوثيّين[8].
ذهب البلدان إلى طاولة المفاوضات بغية تخفيف التوتر وتحسين العلاقات في ظِل ظروف داخليَّة وتطورات إقليميَّة ودوليَّة دفعتهما إلى التفاوض. فالسعوديَّة تحتاج إلى استقرار ينعكس على وضعها الاقتصادي، وتتشكَّك في دعم واشنطن لأمنها في حالة نشوب صراع واسع النطاق، وتعاني إيران من الأزمات الاقتصاديَّة المستمرة في ظِل وباء كورونا والحصار الغربي، وترغب في كسر هذا الحصار عبر علاقات طبيعيَّة مع السعوديَّة يعقبها تطبيع مع باقي الدول العربيَّة.
ورغم التصريحات الإيجابيَّة فإن المفاوضات بين الطرفيْن صعبة بسبب الملفات الشائكة والأزمات التي تتفجر بين الحين والآخر في وَجْه البلديْن، وآخرها أزمة تصريحات قرداحي وتبعاتها.
2 – موقف إيران من الأزمة:
جاء رَدُّ الفعل الإيراني على لسان المتحدث باسم الخارجيَّة، “سعيد خطيبزاده”، الذي أكَّد وقوف بلاده إلى جانب شعبيْ اليمن ولبنان، وأن بلاده لا تتحدث باسم أصدقائها مع طرفٍ ثالثٍ، في إشارة منه إلى رفض طهران لتناول موضوع الأزمة اللبنانيَّة مع الرياض. وأشار المتحدث إلى أن منطق حصار الدول والضغط عليها لم ولن يُحقق أيَّ نتيجة، وسوف يفقد أثره بعد حين، في إشارة منه إلى الضغوط السعوديَّة على لبنان. وأوصى بأن يتحرك الجانبان في إطار الدبلوماسيَّة[9].
هذا في حين ترك النظام الإيراني مهمة الهجوم على السعوديَّة لرجاله الذين لا يُعبّرون عنه بشكل رسمي، ومنهم آية الله “أحمد خاتمي”، عضو مجلس خبراء القيادة، الذي صرح بأن جميع المؤامرات التي يحيكها الأعداء ضد إيران تنفذ ضد لبنان أيضًا، لعلاقاتها بايران، إلَّا أن حزب الله هو عنصر الاقتدار والأمن في لبنان، ولا يمكن شطبه من الساحة أبدًا[10].
وفي السياق نفسه، سمحت السلطات الإيرانية بتنظيم وقفة احتجاجيَّة لطلاب الجامعات الإيرانيَّة والجالية اللبنانيَّة أمام السفارة اللبنانيَّة بطهران، في 31 أكتوبر/تشرين الأوَّل. وأعرب المتظاهرون عن تضامنهم مع وزير الاعلام اللبناني “جورج قرداحي” وتصريحاته التي دافع فيها عن الشعب اليمني، ورَدَّدوا شعارات ضد السعوديَّة، منها “الموت لآل سعود الخائنين”. ونددوا في بيان لهم بـ”ممارسات شجرة آل سعود الخبيثة وحلفائهم بحق اليمن”، واستنكروا موقف السعوديَّة والدول الحليفة معها المتمثل في قطع العلاقات مع دولة لبنان، وأعلنوا عن دعمهم لـ”مقاومة الشعب اليمني المظلوم”[11].
وتدل هذه المؤشرات على نأيْ النظام الإيراني عن الانخراط الرسمي في هذه الأزمة كطرفٍ، رغم محاولة السعوديَّة جرجرته إلى اتخاذ هذا الموقف، وهو ما يتسق مع ما تكرره إيران من تأكيدات “علنيَّة” على عدم الحديث باسم “الأصدقاء”، وضرورة التواصل المباشر بين السعوديَّة و”أصدقاء” إبران في المنطقة. وهو ما يَعني تمسُّك طهران بمسار التفاوض مع الرياض، وإدراكها لحقيقة الأسباب الي دفعت المملكة إلى اختيار هذا التوقيت للضغط على لبنان.
3 – أسباب التصعيد السعودي:
قد يَرَى البعض تناقضًا بين المسار التفاوضي بين السعوديَّة وإيران من جهةٍ، ومهاجمة أهم حليف إيراني في الخارج، وهو حزب الله، وتجييش حلفاء الرياض في بيروت ضد النفوذ الإيراني في لبنان من جهةٍ أخرى، ولكن ثمَّة أسباب يمكن القول بأنها كانت وراء “اختلاق” الرياض لهذه الأزمة، وتصعيدها، ثم استخدامها في مهاجمة حزب الله، رغم خطورة ما يمكن أن يترتب على الإجراءات السعوديَّة من آثار سلبيَّة على عمليَّة التقارب التي فرضتها الظروف الداخليَّة والتطورات الإقليميَّة والدوليَّة على البلديْن.
يدفعنا هذا إلى البحث عن الأسباب الحقيقيَّة التي دفعت بالسعوديَّة إلى التصعيد في أزمةٍ قد تُعرّض مفاوضاتها مع إيران للانهيار، والعودة إلى المربع الأوَّل بعد أربع جولات تفاوضيَّة.
لقد ذهب البعض إلى أن النظام السعودي يُصعِّد في هذه الأزمة للتغطية على فشله في الكثير من القضايا التي أدَّت إلى تقلص نفوذه وتدهور سمعته على المستوييْن الإقليمي والدولي. غير أن التغطية على الفشل ليست هي السبب الوحيد لاختلاق أزمة قد تُفقِد السعوديَّة البقيَّة الباقية من نفوذها في لبنان بسبب ما يشعر به اللبنانيَّون من إهانة لكرامتهم الوطنيَّة، وغضبهم من محاصرتهم اقتصاديًّا ورفض مَد يد العون لهم بحجَّة هيمنة حزب الله على البلاد، في الوقت الذي تعلن فيه إيران الوقوف بجانبهم وترسل إليهم الوقود عبر الحزب. ولهذا ينبغي البحث في أسباب أخرى، على رأسها الوضع السعودي في الحرب باليمن والسعي لمحاصرة النفوذ الإيراني في لبنان.
- وقف تقدُّم الحوثيّين في اليمن:
تزامنت الأزمة السعوديَّة اللبنانيَّة مع الأنباء الواردة من اليمن حول تقدُّم الحوثيّين في اتجاه “مأرب” وإعلانهم عن قرب الاستيلاء عليها، وهو ما جعل نائب الأمين العام لحزب الله يقول إن “توقيت العدوان السعودي على لبنان له علاقة بمأرب، والخسارة المدوية للسعوديَّة في اليمن”[12].
ويمثل سقوط مأرب نقطة فارقة في الحرب، وإعلان هزيمة للسعوديَّة في هذه الحرب، لأن المحافظة النفطيَّة هي آخر معقل للقوَّات الحكوميَّة في الشمال. ولمأرب أهميَّة كبرى عند الحوثيّين المدعومين من إيران، إذ أن السيطرة عليها تعني رجوح كفة الحرب لصالحهم سياسيًّا وعسكريًّا. ومن جهتها، تعتبر السعوديَّة المعركة الحاليَّة مصيريَّة لها هي الأخرى، فخسارتها تعني نهاية دور التحالف العربي في اليمن وفشل الرياض في تحقيق الهدف المعلن لتدخلها، ما يُصعِّب الخروج بأيّ مكاسب إستراتيجيَّة في المفاوضات المستقبليَّة[13].
وفي ظل استحالة الحسم العسكري لتنامي قوة الحوثيّين الذين تتهم السعوديَّة إيران وحزب الله بدعمهم، تشكَّلت قناعة رسميَّة لدى الرياض بأن استمرار الحرب ليس في صالحها، ما دفعها إلى فتح باب التفاوض، ولكن مبادراتها تقابل بالرفض من الحوثيّين الذين يشترطون شروطًا تعدها السعوديَّة إعلان هزيمة بالنسبة لها. ولهذا لابد من ضغوط إيرانيَّة على حلفاءط طهران في اليمن للجلوس إلى طاولة المفاوضات وقبول المبادرات السعوديَّة.
- محاصرة حزب الله في لبنان:
كان تشكيل حكومة “نجيب ميقاتي” المدعومة من حزب الله مشهدًا من مشاهد انحسار النفوذ السعودي في لبنان، فقد تشكَّلت الحكومة بعد مشاورات شاركت فيها إيران وقوى إقليميَّة ودوليَّة، ما دفع الرياض إلى رفض التعامل معها، اعتراضًا على فرض حزب الله لسياسته الخارجيَّة على الحكومة الرسميَّة، ووقوف الحزب في مواجهة السعوديَّة بالمنطقة.
ولهذا، كان شرط السعوديَّة لإنهاء الأزمة الأخيرة هو “الحَد من دور حزب الله”، وهو الشرط الذي وَصَفه وزير الخارجيَّة اللبناني بالمستحيل، مؤكدًا أنه إذا أرد السعوديُّون “رأس حزب الله، فنحن لا نستطيع أن نعطيهم إيَّاه، نحن كلبنان. لأن تصريحات وزير الخارجيَّة (السعودي) أن حزب الله وليس جورج قرداحي المشكلة”[14].
وفي سياق متصل بالتصعيد، ولمزيدٍ من الضغط على حزب الله، صَنَّفت رئاسة أمن الدولة السعوديَّة، في 27 أكتوبر/تشرين الأول، جمعيَّة “القرض الحسن” الماليَّة التابعة لحزب الله اللبناني “كيانًا إرهابيًّا”. وقالت رئاسة أمن الدولة في بيان لها إن تصنيف جمعية “القرض الحسن” ومقرها لبنان “كيانًا إرهابيًّا”، جاء لارتباطها بأنشطة داعمة لـ”حزب الله” الذي تصنفه السعوديَّة “تنظيمًا إرهابيًّا”[15].
وحول استعصاء حزب الله على المحاصرة والعزل، نقلت “رويترز” عن مسؤول إيراني كبير ومُقرَّب من المرشد الأعلى الإيراني “علي خامنئي”، أنه “بينما قد تكون الرياض قادرة على عزل لبنان، فإنها لن تكون قادرة على عزل حزب الله”[16].
ثالثًا: مسارات الأزمة والتقارب السعودي الإيراني
1 – مسارات الأزمة السعوديَّة اللبنانيَّة:
تشير تطوُّرات الأزمة ومواقف الأطراف المختلفة إلى وجود مساريْن محتمليْن يمكن أن تسير الأزمة في أحدهما، وهما كما يلي:
- مسار التهدئة، ويقوم على تراجع أحد الطرفيْن، كأن تقبل السعوديَّة محاولات الاسترضاء من جانب المسؤولين اللبنانيّين المشفوعة بوساطات عربيَّة ودوليَّة، وتتخلى عن شروطها، أو أن يقوم لبنان بتنفيذ شروط السعوديَّة كاملة، والاعتذار لها بالإضافة إلى استقالة وزير الإعلام أو إقالته.
- مسار التصعيد، ويقوم على تمسُّك أحد الطرفيْن بموقفه، كأن تُصِر السعوديَّة على شروطها، أو أن يُصِر وزير الإعلام على موقفه، مستندًا إلى دعم حزب الله وحلفائه.
وإذا كان المسار الثاني هو الأقرب بسبب تمسُّك كلّ طرفٍ بموقفه، واشتراط السعوديَّة شروطًا يصعب تحقيقها، وهي الخاصَّة بتحجيم دور حزب الله في السياسة اللبنانيَّة، فإن نتيجة المسار الأوَّل حال السير فيه لن تختلف عن نتيجة المسار الثاني، فعودة العلاقات الدبلوماسيَّة لن يتبعها تخفيف الضغط الاقتصادي أو عودة التعامل السياسي، وسوف يؤدي كلا المساريْن إلى سقوط الحكومة، أو تعطيلها وتحوُّلها إلى حكومة تصريف أعمال على أقل تقدير، وهو ما سَيزيد من حالة التردي الاقتصادي والتخبط السياسي التي تعاني منها البلاد.
ولعل هذا الوضع هو ما تريده السعوديَّة قبل الاستحقاق الانتخابي المقبل، والذي يمكن أن يكون فرصتها الأخيرة لاستعادة نفوذها في لبنان، وذلك من خلال التصويت العقابي ضد حزب الله وحلفائه بسبب سوء الأوضاع، خاصَّة وأن خصوم الحزب سوف يستخدمون ورقة الضغوط الاقتصاديَّة السعوديَّة والقطيعة الخليجيَّة في إظهاره كسبب رئيس في المشاكل الحياتيَّة التي يُعانِي منها المواطن اللبناني، وهو ما يمكن أن يمثل ضغطًا على الحزب في المرحلة المقبلة.
2 – التأثير المتبادل بين الأزمة ومفاوضات التقارب:
ثمَّة تأثير متبادل بين الأزمة السعوديَّة اللبنانيَّة والتفاوض بين الرياض وطهران من أجل تحسين العلاقات. فمِن جهةٍ، يمكن الربط بين الأزمة والمفاوضات السعوديَّة الإيرانيَّة، وتفسير التصعيد السعودي ضد حزب الله، ومن ورائه إيران، في ضوء رغبة الرياض في إحداث حالة من توازن القوي بين الطرفيْن المتفاوضيْن، وتزويد المفاوض السعودي بورقة ضغط يمكن استخدامها في مواجهة المفاوض الإيراني الذي يمتلك أوراق كثيرة للضغط على النظام السعودي، أبرزها الوضع في اليمن، وذلك من خلال مهاجمة حليف إيران في لبنان والضغط عليه لدفع طهران إلى التأثير على الحوثيّين لقبول التفاوض حول إنهاء الحرب اليمنيَّة من ناحيةٍ، واستعادة بعض النفوذ المفقود في لبنان عبر إغراق حزب الله في أزمة داخلية خانقة، قد تضرب شعبيّته قبل الانتخابات المقبلة، وتشغله عن التحرُّك إقليميًّا ومساعدة الحوثيّين من ناحيةٍ أخرى.
ومن جهةٍ أخرى، وفيما يَخصُّ أثر الأزمة على المفاوضات، فقد ظهرت بوادر ذلك في تغيُّر لهجة المسؤولين، وهو ما يمكن رؤيته في تصريحات المتحدث باسم الخارجيَّة الإيرانيَّة الذي ذكر أن الجولة المقبلة من المفاوضات بين البلديْن مرهونة بجديَّة الرياض، وأن “التقدُّم في المحادثات مرهون بامتناع الرياض عن الإدلاء بتصريحات إعلاميَّة بحتة”[17]. وهو ما يُوحي بأن طهران ترى أن الرياض غير جادة في المفاوضات، وأنها تستغل المفاوضات لأهداف دعائيَّة.
وإذا كانت الأزمة قد وُلِدت من رحم المفاوضات ولأداء مهمة محددة هي الضغط على المفاوض الإيراني، فإنها سوف تلقي بظلالها على مسيرة المفاوضات أيضًا، خاصَّة وأن المسارات المحتملة للأزمة تشير إلى صعوبة إزالة أسبابها “المعلنة” وتجاوز آثارها في المستقبل القريب.
وفعليًّا، توقفت المفاوضات عند الجولة الرابعة، ولم يَصِل البلدان إلى نتائج يمكن أن تمثل تقدمًا حقيقيًّا، ولا يُنتظر أن يحدث هذا التقدُّم في ظِل اقتراب الحوثيّين من الاستيلاء على مأرب، واستبعاد أيّ استجابة من جانب طهران لمطالب الرياض بالضغط على الحوثيّين للذهاب إلى التفاوض وقبول المبادرات السعوديَّة، وهو ما سَيَدفع الجانب السعودي إلى الاستمرار في هجومه على حزب الله، الأمر الذي سوف ينعكس تأثره بالسلب على مفاوضات التطبيع بين البلديْن.
خاتمة
لم تكن تصريحات قرداحي سوى ذريعة لافتعال أزمة من جانب السعوديَّة التي دفعتها الظروف الداخليَّة والإقليميَّة والدوليَّة للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إيران. وبحثًا عن أوراق ضغطٍ تقوّي بها موقفها التفاوضي السيء بسبب خسائرها في المستنقع اليمني وتقلص نفوذها في لبنان وانحسار دورها في سوريا والعراق وانشغال الحليف الأمريكي عنها بالخطر الصيني والروسي المتنامي، وَجَدت الرياض ضالتها المنشودة في لبنان، فاستغلت تصريحات قرداحي في مهاجمة حزب الله، ودفعت الأمور في البلاد إلى حافة الهاوية، بغية ضرب النفوذ الإيراني على الساحة اللبنانيَّة من خلال تضييق الخناق حول حزب الله، في محاولة منها لدفع إيران إلى الضغط على الحوثيّين من جهة، وسعيًا إلى استعادة بعض نفوذها المفقود في الشأن اللبناني من ناحية أخرى. أمَّا ثمن هذه المغامرة السعوديَّة فسيتم دفعه – على حد تعبير سعد الحريري – من “رصيد الشعب اللبناني المنكوب أساسًا باقتصاده ومعيشته، ويتعرض يوميًّا لأبشع الإهانات دون أن ترف لأهل الحكم وحماته من الداخل والخارج جفون القلق على المصير الوطني”[18]. ولكن الحريري لم يملك شجاعة الاعتراف في بيانه بأنه أحد أسباب الأزمة اللبنانيَّة بولائه التام للسعوديَّة وتمثيله لمصالحها في لبنان، مثله في ذلك كمثل حزب الله الذي يوالي إيران ويمثل مصالحها في البلاد. وما بين الولاء للسعودية والولاء لإيران، لا يُهان إلَّا الشعب اللبناني الذي حول حكامه البلاد إلى ساحة حرب بالوكالة.
[1] الجزيرة، بعدما قال إن الحوثيين يدافعون عن أنفسهم.. الوزير قرداحي يوضح موقفه وميقاتي يرفض تصريحاته، 26 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3qoRWN9
[2] المصدر السابق.
[3] عربي 21، وزير الخارجية السعودي: التعامل مع لبنان لم يعد مثمرا ومفيدا، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، https://bit.ly/30aJ5Dv
[4] CNNبالعربية، “المستقبل” يرد على حزب الله و”التطاول” على السعودية والإمارات بقضية جورج قرداحي، 29 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://cnn.it/3D4LRsz
[5] صحيفة النهار، الحريري: السعودية وكل دول الخليج العربي لن تكون مكسر عصا للسياسات الإيرانية، 30 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3qkyAc1
[6] العلاقات الإعلامية في حزب الله، بيان حزب الله تعليقا على الحملة الظالمة ضد معالي وزير الإعلام الاستاذ جورج قرداحي، 28 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3nVF2TW
[7] قناة المنار، الشيخ قاسم: السعودية منزعجة لأنها لم تستطع الهيمنة على القرار السياسي في لبنان، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، https://bit.ly/3koznVA
[8] Bloomberg, Will Saudi Arabia and Iran Make Peace Over Yemen?, 14-10-2021, https://bloom.bg/30hK9WC
[9] خبركزاري مهر، آمریکا باید تحریمها را یکجا بردارد، 17 آبان 1400ش، https://bit.ly/3kh182o
[10] وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء (إرنا)، آية الله خاتمي: تحريض الجيران ضد ايران مؤامرة مخطط لها من قبل العدو، 29 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3mIJmGC
[11] وكالة الجمهورية الإسلامية للأنباء (إرنا)، طلبة الجامعات الايرانية يطالبون السعودية بوقف الجرائم ضد اليمن، 31 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3bDmdz1
[12] وكالة الأناضول، حزب الله”: السعودية تمارس عدواناً على لبنان وعليها الاعتذار، 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، https://bit.ly/3EYV9aj
[13] الجزيرة، مركز اقتصادي وحصن عسكري.. لماذا ستحدد مأرب مصير حرب اليمن؟ 16 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/3H3wcfC
[14] العربي، وزير الخارجية اللبناني: لا نستطيع إعطاء رأس حزب الله إلى السعودية، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2021، https://bit.ly/3bUc7tN
[15] RTعربية، السعودية تصنف جمعية “القرض الحسن” اللبنانية كيانا إرهابيا، 27 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/302UeGz
[16] Reuters, Analysis: Lebanon is dragged back into eye of Iranian-Saudi storm, 2-11-2021, https://bit.ly/3bWYytQ
[17] شهرآرا نيوز، تماس ها بين ايران وعربستان قطه نشده است، 17 آبان 1400ش، https://bit.ly/3Fi7IOf
[18] تيار المستقبل، الحريري: ارفعوا يد إيران عن لبنان، 30 أكتوبر/تشرين الأول 2021، https://bit.ly/2Yu5lIi