رغم قصر مدة حكم الرئيس محمد مرسي “رحمه الله” التي لم تتجاوز عاما واحدا إلا أنها خلفت وراءها تجربة ثرية في حرية الصحافة لعلها كانت أحد العناوين الأبرز لتلك السنة، وقد بلغت حرية الصحافة ذروتها خلال ذلك العام، وتنافست الصحف والقنوات القومية والخاصة في كسب جمهور أوسع، وكذا كسب حصة أكبر من كعكعة الإعلانات، والأخطر من كل ذلك كسب حصة من التمويلات الخارجية السخية التي تدفقت على مصر في تلك السنة لصناعة لوبيات إعلامية مناهضة للرئيس وحكومته.
بحكم موقعي كأمين عام مساعد للمجلس الأعلى للصحافة خلال فترة حكم الرئيس مرسي فقد ساهمت بقدر في صناعة المشهد الإعلامي، وأجد نفسي مزهوا بما قدمته خلال تلك السنة في المساحة التي توليت المسئولية فيها وهي تخص بشكل محدد الصحافة القومية بالذات، وبدرجة أقل الصحافة الخاصة والحزبية التي لم يكن للمجلس دور كبير في التأثير عليها، وسأتحدث عن الطفرة التي شهدتها الصحافة القومية لكن في إطار أشمل يضم المنظومة الإعلامية كلها بما فيها من صحافة قومية وفضائيات ومواقع إلكترونية سواء قومية أو خاصة أو حزبية.
وللتذكير فقد بدأ الرئيس مرسي “رحمه الله” عهده بلقاءين أحدهما مع الصحفيين (رؤساء التحرير وكبار الكتاب) والثاني مع الإعلاميين ( مقدمي البرامج وكبار المسئولين في القنوات)، وقد شاركت في ترتيبات اللقاء الأول الذي حضره عدد كبير من رؤساء التحرير والكتاب الصحفيين، وجرى بينهم وبين الرئيس حوار صريح وشفاف، بدد فيه مخاوفهم التي طرحوها خلال اللقاء، وكان منها ما يتعلق بالحالة السياسية والديمقراطية بشكل عام، ومنها ما يتعلق بحرية الصحافة بشكل خاص، وفي نهاية اللقاء تزاحم الحضور لالتقاط صورة تذكارية مع الرئيس، وتنافسوا فيمن يكون الأكثر التصاقا بالرئيس في الصورة.
يمكننا أن نستعرض الحالة الإعلامية في عهد مرسي “رحمه الله” من خلال البيئة الدستورية والقانونية، وشكل المنظومة الإعلامية وأخيرا الممارسة العملية، لنعرف كيف كان وضع حرية الصحافة في تلك السنة، وماذا كانت السلطة الجديدة تعتزم فعله لصياغة منظومة جديدة تناسب ثورة 25 يناير ومبادئها الرئيسية.
- البيئة التشريعية
شهدت الحالة الإعلامية قفزة كبرى في التأسيس الدستوري للحريات الإعلامية خلال سنة الرئيس محمد مرسي بصدور دستور الثورة في العام 2012، وقد تضمن الدستور (2012) العديد من النصوص التي تضمن حرية الصحافة واستقلالها، والتي تؤسس لشكل جديد من المؤسسات المستقلة التي تشرف عليها، وهو شكل يختلف كليًا عن سابقه الذي كان يكرس لهيمنة السلطة التنفيذية.
ومن هذه النصوص المادة 45 المتعلقة بحرية الرأي والفكر والتعبير والتي تمنح كل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل النشر والتعبير، ويلحق بها المادة 46 المتعلقة بحرية الإبداع بأشكاله المختلفة
ثم تأتي المادة 47 لتدشن عصرًا جديدًا فيما يخص الحق في الاطلاع على المعلومات حيث ترتب في نهايتها عقوبات لمن يعطل هذا الحق “الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق، والإفصاح عنها، وتداولها، حق تكفله الدولة لكل مواطن؛ بما لا يمس حرمة الحياة الخاصة، وحقوق الآخرين، ولا يتعارض مع الأمن القومى. وينظم القانون قواعد إيداع الوثائق العامة وحفظها، وطريقة الحصول على المعلومات، والتظلم من رفض إعطائها، وما قد يترتب على هذا الرفض من مساءلة، حيث كان هذا النص في الدساتير السابقة يتحدث عن الحق دون ترتيب عقوبة على من يعطله.
أما المادتان 48 و49 فقد مثلتا ثورة في المجال الإعلامي حيث ضمنتا حرية الصحافة والإعلام ووسائل النشر وحظر وقفها أو غلقها أو مصادرتها إلا بحكم قضائي، وكذا حظر الرقابة على النشر، كما تضمنتا حرية إصدار الصحف بمجرد الإخطار وتملكها للأشخاص الطبيعيين إلى جانب الأشخاص الاعتباريين لأول مرة منذ أكثر من ستين عاما.
حيث نصت المادة 48 على “حرية الصحافة والطباعة والنشر وسائر وسائل الإعلام مكفولة. وتؤدى رسالتها بحرية واستقلال لخدمة المجتمع والتعبير عن اتجاهات الرأي العام والإسهام في تكوينه وتوجيهه فى إطار المبادئ الأساسية للدولة والمجتمع والحفاظ على الحقوق والحريات والواجبات العامة، واحترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين ومقتضيات الأمن القومي، ويحظر وقفها أو غلقها أو مصادرتها إلا بحكم قضائي. والرقابة على ما تنشره وسائل الإعلام محظورة”.
كما نصت المادة 49 على “حرية إصدار الصحف وتملكها، بجميع أنواعها، مكفولة بمجرد الإخطار لكل شخص مصري طبيعي أو اعتباري، وينظم القانون إنشاء محطات البث الإذاعي والتليفزيوني ووسائط الإعلام الرقمي
واستحدث دستور الثورة (2012) هيئات مستقلة لإدارة الشأن الصحفي بدلًا من وزارة الإعلام التي تمثل ميراثًا سلطويًا ينتمي لعصور الحكم الشمولي، وكذا بديلًا لدور مجلس الشورى في إشرافه على الصحافة القومية، وهاتين الهيئتين هما المجلس الوطني للإعلام والهيئة الوطنية للصحافة والإعلام، وقد تم إدراجهما ضمن الهيئات المستقلة التي تتمتع بالشخصية الاعتبارية العامة، والحياد والاستقلال الفني والإداري والمالي وفقا للمادة 200 من الدستور.
وقد استحدثت المادة 215 المجلس الوطني للإعلام، والذي يتولى تنظيم شئون البث المسموع والمرئي وتنظيم الصحافة المطبوعة والرقمية وغيرها. ويكون المجلس مسئولًا عن ضمان حرية الإعلام بمختلف صوره وأشكاله والمحافظة على تعدديته، وعدم تركزه أو احتكاره، وعن حماية مصالح الجمهور، ووضع الضوابط والمعايير الكفيلة بالتزام وسائل الإعلام المختلفة بأصول المهنة وأخلاقياتها، والحفاظ على اللغة العربية، ومراعاة قيم المجتمع وتقاليده البناءة.
كما استحدثت المادة 216 الهيئة الوطنية للصحافة والإعلام التي تقوم على إدارة المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة، وتطويرها، وتنمية أصولها، وتعظيم الاستثمار الوطني فيها، وضمان التزامها بأداء مهني وإداري واقتصادي رشيد.
ورغم أن هذه النصوص الدستورية لم تتحول إلى نصوص قانونية بسبب وقوع الانقلاب في 3 يوليو 2013، إلا أن روح هذه النصوص -التي هي روح ثورة 25 يناير 2011- كانت هي المطبقة في الممارسة العملية، حيث لم نعطل في المجلس الأعلى للصحافة أي طلب لإصدار صحيفة، وقد تصديت بنفسي للروتين الحكومي السابق في هذا المجال انتصارًا لمبادئ ثورة 25 يناير، كما أننا كنا قد أعددنا مسودة لقانون الإعلام الجديد وفقًا لهذه النصوص الدستورية ووفقًا لروح ومبادئ ثورة 25 يناير، ومشروعًا لنقابة الإعلاميين ولكن كانت هناك أولويات تشريعية أخرى في تلك الفترة.
وللحقيقة فإن تعديلات الدستور التي تمت في 2014 كانت أكثر تطورًا فيما يخص حرية الصحافة، وحيث تضمنت عدم وقف أو إغلاق الصحف بشكل تام حتى لو بحكم قضائي، كما حظرت تمامًا حبس الصحفيين وفقا للمادة 71 من الدستور، إلا أن هذه النصوص ظلت حبرًا على ورق، وتم تجاهلها تماما في الممارسة العملية التي جاءت عكسها تمامًا، مثل إغلاق العديد من الصحف والقنوات ومثل حبس عشرات الصحفيين في قضايا نشر، ومثل نقل ملكية العديد من الصحف والقنوات لشركات مملوكة للمخابرات، والتوقف عن منح تراخيص إصدار صحف أو قنوات جديدة.
وضمن البيئة التشريعية الداعمة لحرية الصحافة فقد استخدم الرئيس محمد مرسي “رحمه الله” حقه الدستوري في إصدار قوانين أثناء غياب البرلمان بغرفتيه، وأصدر يوم 23 أغسطس أي بعد شهرين من وصوله إلى قصر الاتحادية تعديلا للمادة 41 من قانون الصحافة رقم 96 لسنة 1996، لإلغاء الحبس الاحتياطي في تهمة إهانة رئيس الجمهورية، والذي أنقذ الصحفي إسلام عفيفي رئيس تحرير صحيفة الدستور من الحبس الاحتياطي، وقد تم إخلاء سبيله فورًا، وهذا مما يحسب للرئيس مرسي أنه لم يُحبس صحفيًا في عهده، وأنه أصدر تعديلًا تشريعيًا لمنع حبس صحفي واحد.
هيكل المنظومة الإعلامية في عهد الرئيس
لم يختلف شكل هيكل المنظومة الإعلامية في عهد مرسي عما سبقه وخاصة بعد ثورة 25 يناير، وقد كان هذا سببا في اتهام خصوم مرسي له ولنظامه بأنه أراد العمل وفقا للمنظومة الإعلامية لمبارك حتى يوظفها لصالحه، وهذا اتهام غير صحيح فقد كانت هناك رؤية لتأسيس منظومة إعلامية جديدة تقوم بالأساس على الانتقال بالإعلام الرسمي من إعلام السلطة إلى إعلام الشعب، وكانت التجربة الماثلة امامنا في هذا الإطار هي مؤسسة BBC البريطانية، وكذا نموذج وكالة الأنباء الفرنسية، وكانت هناك خطوات أولية لتفعيل النصوص الدستورية في شكل تشريعات ومؤسسات لمنظومة جديدة تواكب عصر الحرية والدولة المدنية، وتنهي الاشكال القديمة، وقد أعددنا بالفعل مشروع قانون للإعلام المسموع والمرئي، والمجلس الوطني للإعلام كبديل لوزارة الإعلام التي كنا نعتبرها من مخلفات الحكم الاستبدادي والعسكري، كما أعددنا مشروعًا جديدًا لميثاق شرف إعلامي جامع للمنظومة الإعلامية كلها (كان هناك ميثاق شرف صحفي فقط تتعامل به نقابة الصحفيين في حين لم تكن هناك نقابة الإعلاميين، وقد جهزنا أيضا مشروع قانون لتأسيسها)، لكن قصر المدة لم يسمح لنا بعرض تلك القوانين على مجلس الشورى الذي انتقلت إليه صلاحيات التشريع بعد حل مجلس الشعب.
ويمكن تقسيم المنظومة الإعلامية في عهد مرسي إلى الإعلام القومي (إعلام الدولة سواء كان إذاعة وتلفزيون أو صحافة) والإعلام الخاص أيضًا سواء فضائيات أو صحف ومواقع، والإعلام الحزبي، والإعلام الاجتماعي.
وضع الإعلام الرسمي
الإعلام القومي وتمثل في قنوات ماسبيرو التي بلغت 23 قناة إضافة إلى عشر شبكات إذاعية، والصحف القومية التي بلغت إصداراتها 48 صحيفة يومية وأسبوعية وشهرية، إضافة إلى وكالة الأنباء الرسمية، والهيئة العامة للاستعلامات التي كانت تتبع وزارة الإعلام لكن الرئيس مرسي أصدر قرارا في سبتمبر 2012 بنقل تبعيتها إلى رئاسة الجمهورية.
ورغم أن الإعلام القومي كان تابعا لنظام مبارك مدافعا عنه، كما أصبح لاحقا تابعًا ومدافعًا عن نظام السيسي إلا أنه لم يكن كذلك في عهد الرئيس مرسي، ففي ماسبيرو كانت الروح العدائية هي التي تطبع نفوس غالبية العاملين فيه، والذين كانوا يدعمون بقوة المرشح الرئاسي الفريق أحمد شفيق في انتخابات 2012، كما أن برامج قنوات ماسبيرو ظلت تعمل كسابق عهدها قبل ثورة يناير، حتى تم تعيين صلاح عبد المقصود وزيرا للإعلام فأحدث تعديلا في السياسات التحريرية يقضي بفتح البرامج أمام كل الأطياف السياسية، وكان يتابع بنفسه تنفيذ هذه السياسة في البرامج الرئيسية حتى يرسخ هذه السياسة، وهو ما يدحض الاتهامات التي وجهت له بفتح التلفزيون الرسمي للمتحدثين من الإخوان فقط، وقد كانت إدارة الإعلام في رئاسة الجمهورية داعمًا قويًا لوزير الإعلام في مساعيه لإصلاح السياسات الإعلامية في ماسبيرو من خلال الدور الذي قام به الإعلامي أحمد عبد العزيز.
وللتذكرة أيضا فقد ظهر على شاشات قنوات ماسبيرو من ينتقد جماعة الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة الذي ينتمي إليه الرئيس، ومن يخرج أحيانًا عن حدود اللياقة والمهنية كما فعلت إحدى المذيعات (بثينة كامل) التي إدعت على الهواء أنها تقرأ نشرة الأخبار الإخوانية، كما خرجت إحدى المذيعات (هالة فهمي) حاملة كفنها على الهواء بدعوى ضياع الدولة المصرية على يد الإخوان المسلمين، وأخونة الإعلام المصري، ( تم مساءلتهما عن هاتين الواقعتين، والغريب أن نظام السيسي الذي كانت المذيعتان من داعميه أوقف ظهورهما ومنع برامجهما)، كما سعى الوزير صلاح عبد المقصود إلى تقوية قناة النيل للأخبار حيث كان يستهدف الوصول بها إلى قناة إخبارية عالمية تنافس الجزيرة وBBC، لكن الظروف لم تساعده.
وفي المجال الصحفي شهدت الصحافة القومية انفتاحًا لم تعرفه من قبل، وجاء هذا الانفتاح بعد ثورة يناير، لكنه تجذر في عهد الرئيس مرسي، حيث أصبحت هذه الصحف قومية بحق، وفتحت أبوابها لمختلف الأراء والتوجهات، ولكن بعض رؤساء التحرير-والنموذج الأبرز هو رئيس تحرير الأخبار محمد البنا – كانوا ولمواقف خاصة بهم يتعنتون مع بعض الكتاب خاصة من ذوي الفكر الناصري واليساري، ويرفضون نشر بعض المقالات بحجة مخالفتها لسياسة التحرير، وقد تدخلت بنفسي لمواجهة هذا التعنت فنجحت حينا ولم أنجح في مرات أخرى، وظلت الصورة العامة هي نشر مختلف الأراء والتوجهات بما فيها التي تتنقد الرئيس وجماعة الإخوان، ولم يكن لوكالة الأنباء الرسمية ولا لهيئة الاستعلامات دور بارز خلال فترة الرئيس مرسي على عكس حالهما قبله وبعده، ولا أقصد هنا الانحياز للنظام والدفاع عنه، ولكن أقصد أداء دورهما المهني المنصوص عليه في القوانين ولوائح تأسيسهما، وربما كان السبب في ذلك هو اختيار شخصيتين ضعيفتين على رأس المؤسستين.
سياسة جديدة لتعيين رؤساء المؤسسات الصحفية
ومن التغيرات الجديدة في مجال الصحافة في عهد الرئيس مرسي هو وضع قواعد ومعايير لاختيار رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف القومية، ووضع آلية جديدة لعملية الاختيار، بعد أن كان اختيارهم يأتي في ظرف مغلق من رئاسة الجمهورية يسلم لرئيس مجلس الشورى الذي يتلو الأسماء للحصول على الموافقة الشكلية للنواب، أما الألية الجديدة، ومعايير الاختيار فقد أوكلت مهمة وضعها لنقابة الصحفيين التي اختارت 50 شخصية نقابية لوضع هذه المعايير، وتحديد الآلية التي تشكلت من عدد من شيوخ المهنة مع بعض نواب مجلس الشورى (بحكم ولايته على المؤسسات القومية من الناحية القانونية)، ووفقا لتلك الآلية تقدم من يريد الترشح لأي منصب بملف لخبراته الشخصية، ورؤيته لتطوير العمل في المنصب المرشح له، وقد جرى اختيار الرؤساء جميعا على هذا الأساس، وبطبيعة الحال لا يمكن القول أن الاختيارات كانت جميعها مثالية لكنها في كل الأحوال تمت وفق آلية ومعايير واضحة وبشفافية تامة، وبالمناسبة لم يكن من بين هؤلاء الرؤساء من ينتمي للإخوان المسلمين على عكس ما زعم الكثيرون، ولكن كان منهم بعض الشخصيات يحملون توجهات محافظة بشكل عام، كما أن بعض رؤساء تحرير الصحف الكبرى انقلبوا على الرئيس مرسي في آخر أيامه، واصبحوا يتلقون تعليمات من المخابرات مباشرة، وظهر ذلك في كتاباتهم المناهضة للرئاسة وللحكومة، كما ظهر في تغطياتهم للترتيبات لمظاهرات 30 يونيو، كما انحاز أغلبهم لسلطة الانقلاب بشكل سريع ظنًا منهم أن ذلك قد يشفع لهم للاستمرار في مواقعهم وهو مالم يحدث حيث تم الاستغناء عنهم جميعًا لاحقًا، ليتم تعيين عدد من المحررين العسكريين في مواقعهم.
من المهم هنا الإشارة إلى أزمة رئيس تحرير صحيفة الجمهورية جمال عبد الرحيم والذي نشر تقريرًا خبريا عن تحقيقات في ملفات فساد مع كل من المشير حسين طنطاوي والفريق سامي عنان، بعد قرار الرئيس مرسي بإقالتهما، وهذا النشر سبب غضبًا داخل القوات المسلحة، فكان قرار الدكتور أحمد فهمي رئيس مجلس الشورى ورئيس المجلس الأعلى للصحافة بإقالة جمال عبد الرحيم لتهدئة غضب القوات المسلحة، وهو قرار خاطئ عارضته من موقعي كأمين مساعد للمجلس الأعلى للصحافة، وأعلنت هذا الرفض في وسائل الإعلام في حينه، وقد لجأ عبد الرحيم إلى القضاء الإداري الذي حكم بعودته في 28 مايو 2013، وتم تأكيد هذا الحكم أكثر من مرة مع استمرار رفض رئيس مجلس الشورى تنفيذ الحكم، حتى أعاده نظام عبد الفتاح السيسي عقب انقلاب 3 يوليو 2013.
مواجهة الفساد في المؤسسات الصحفية
معركة مواجهة الفساد في المنظومة الإعلامية الرسمية (القومية) كانت تسير على قدم وساق، ونجحت في تحقيق إنجازات لا بأس بها، وسأقتصر هنا في الحديث على الفساد في المؤسسات الصحفية القومية بحكم مسئوليتي في المجلس الأعلى للصحافة.
كان الفساد أحد الأسباب الرئيسية لتدهور وضع المؤسسات الصحفية القومية (الأهرام- أخبار اليوم- دار التحرير- دار الهلال- دار المعارف- روز اليوسف- الشركة القومية للتوزيع- وكالة انباء الشرق الأوسط).
تمثل هذا الفساد في تعيينات وفقًا للمجاملات وليس وفقًا لاحتياجات العمل حتى تضخمت المؤسسات بالموظفين والصحفيين، وصرف مكافآت بلا داع لأهل الحظوة، ومنافسة بين المؤسسات في بناء مباني فخيمة بلا ضرورة وبقروض على المكشوف، وهدايا ثمينة في المواسم المختلفة لكبار المسئولين في الدولة، وأصول غير مستغلة إلخ.
وقد كانت البداية لنا هي معرفة أوضاع هذه المؤسسات بطريقة علمية، فتم تكليف مكتب محاسبي متخصص (مكتب عبد العزيز حجازي) لعمل تقييم للأوضاع المالية والإدارية لتلك المؤسسات، ومعرفة أصولها والتزاماتها، وقد انتهى المكتب من إعداد تقارير عن أوضاع بعض المؤسسات قبيل وقوع الانقلاب ثم توقف بطبيعة الحال بعده، وكانت هذه التقارير ستساعد في خطة إعادة هيكلة هذه المؤسسات وفق رؤية اقتصادية رشيدة، بما كان يلزم في ذلك الوقت من دمج مؤسسات، أو حتى التصرف فيها ببيعها أو تمليكها للعاملين، وكانت تجارب دول أوربا الشرقية التي انتقلت من نظم شمولية إلى نظم ديمقراطية ماثلة أمام أعيننا فيما يخص الطريقة التي أعادت بها هيكلة منظوماتها الإعلامية بما يواكب التطور الديمقراطي.
وفي الأثناء تمكن المجلس الأعلى للصحافة ومجلس الشورى بالتعاون مع المسئولين عن إدارة هذه المؤسسات من وقف العديد من صنابير الفساد، واذكر هنا بعض الأمثلة.
- قرار وقف التعيينات الجديدة في المؤسسات الصحفية، وجميعها تعاني تخمة في الأعداد.
- ضبط النفقات، وفضح، ووقف كشوف البركة التي كانت تتم من قبل كما هو الحال في أكبر المؤسسات(الأهرام) حيث كانت تصرف مكافآت سخية بعشرات الآلاف من الجنيهات لعدد من كبار الموظفين في المؤسسة، وكانت تصرف بورقة مكتوبة بخط اليد، ولا تمر وفق المسارات الإدارية القانونية.
- مساءلة الصحفيين الذين كانوا يعملون في جلب الإعلانات والحصول من وراء ذلك على عمولات سخية بالمخالقة لقانون الصحافة، وقد تمكنا من رد ملايين الجنيهات من هوامير الصحافة والإعلانات في ذلك الوقت.
- إلزام رؤساء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية السابقين الذين استمروا في مواقعهم خلال حكم مبارك بعد السن القانوني برد كل ما حصلوا عليه من مكافآت وبدلات بعد السن القانوني، وقد تم تطبيق ذلك على إبراهيم نافع، وإبراهيم سعدة، وسمير رجب، ومحمد عبد المنعم.
- وقف البدلات والميزات العينية التي كان يحصل عليها رؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير السابقين بعد تركهم مسئوليتهم (كان مخصصًا لهم سيارات ومكاتب وسكرتارية وبدلات ضيافة وتليفونات إلخ) وقد تم وقف ذلك لكل من ترك موقعه.
- في نفس الوقت تم تخفيض الرواتب والبدلات الممنوحة لرؤساء مجالس الإدارة ورؤساء التحرير الجدد، وإلزامهم بدفع فواتير هواتفهم النقالة إذا تجاوزت مبلغ 300 جنيه شهريا.
- تم فتح ملف هدايا الأهرام والأخبار التي كانت تمنح في المناسبات لمبارك وأسرته وكبار المسئولين في القصر الرئاسي وبقية مؤسسات الدولة، وتم إحالة هذا الملف لنيابة الأموال العامة.
كانت هذه مجرد بدايات لمعركة مكافحة الفساد، وكانت المعركة ستتسع مع الوقت، لكن الانقلاب عاجلنا فتوقفت المعركة، بل إن بعض الذين التزموا برد أموال للدولة بالتقسيط توقفوا عن دفع الأقساط الجديدة بعد الانقلاب.
منظومة الإعلام الخاص والحزبي والاجتماعي
أما الإعلام غير الرسمي فقد تجسد في القنوات الفضائية الخاصة والصحف والمواقع الخاصة، والصحف والمواقع الحزبية، وكانت هذه جميعها صاحبة الصوت الأعلى خلال فترة حكم الرئيس والأكثر عداء ومعارضة له، ووصل الأمر بعمل برامج ساخرة من الرئيس مثل برنامج باسم يوسف، وقد كان الكثير من هذه القنوات والصحف والمواقع يتلقى تمويلات إماراتية سعودية سخية، ولعل من الأخطاء الكبرى هو الفشل في كشف مصادر هذا التمويل مع رفض الأجهزة الأمنية تقديم ما لديها من معلومات، وعلى الأرجح كانت بعض هذه الأجهزة ضالعة في هذه التمويلات، لأنها كانت صاحبة كلمة عليا على هذه المنابر الإعلامية وكانت تعقد مع رؤسائها لقاءات غير رسمية في أماكن مختلفة سواء بعض الفنادق أو المقاهي للاتفاق على خطط الهجوم الإعلامي على الرئيس ورجاله، وكانت هذه التمويلات السعودية الإماراتية سببا في إنعاش هذه القنوات والصحف والمواقع التي دفعت رواتب كبيرة لموظفيها، واستقطبت عددًا كبيرًا من العاملين في ماسبيرو والمؤسسات الصحفية القومية، التي لم تكن عائدات التوزيع أو الإعلانات تكفي لربع تكاليف تشغيلها
لم يكن للسلطة التنفيذية أي ولاية على القنوات أو الصحافة الخاصة والحزبية، فهي لا تتلقى دعمًا ماليًا منها على عكس الحال بالنسبة للقنوات والمؤسسات الصحفية القومية، وهي لا تتدخل في اختيار رؤسائها، ويقتصر دور المجلس الأعلى للصحافة على منح تراخيص الصدور، ومتابعة مدى الالتزام بميثاق الشرف الصحفي، وهو ما قام المجلس من أجله بإحياء لجنة أخلاقيات المهنة، التي قامت بدورها وبالتعاون مع خبراء وأساتذة إعلام بإعداد تقريرين عن الأداء المهني للصحف المصرية تمكنا من نشر أولهما، ولم نتمكن من نشر الثاني الذي كان في مرحلته الأخيرة حين وقع الانقلاب العسكري، وكانت الخطة هي تنبيه الصحف لأخطائها المهنية بطريقة علمية، وحثها على الالتزام بالقواعد المهنية والأخلاقية في عملها، وفي مرحلة تالية توقيع عقوبات على المخالفين.
أما الإعلام الحزبي فقد كان ضعيفًا كشأنه منذ أيام مبارك، وإن نشط مع بقية وسائل الإعلام في حرب الشائعات ضد الرئيس ورجاله، وهو أمر مفهوم من إعلام حزبي يقدم أصحابه أنفسهم كبديل للحزب الحاكم.
لكن الإعلام الاجتماعي الجديد، المتمثل في مواقع التواصل فقد بلغ ذروته في منذ ثورة 25 يناير واستمر في الصعود خلال فترة حكم الرئيس مرسي، وكانت متاحة أمام مؤيدي ومناهضي الرئيس، وعموم المصريين، ولم تتعرض هذه المواقع لأي ملاحقات كما حدث في ظل سلطة الانقلاب العسكري التي أغلقت أكثر من 600 موقع وصفحة حتى الآن.
الممارسات العملية شاهدًا على الحرية
من حيث الممارسات العملية كان واضحًا أن حرية الإعلام بلغت في عهد الرئيس مرسي مبلغا لم تصل إليه من قبل ولا من بعد، حيث تجاوز الكثيرون حدود النقد المباح إلى السب والقذف للرئيس ورجاله وعائلته، وحين تقدمت الإدارة القانونية برئاسة الجمهورية بشكل وظيفي بتقديم بلاغات ضد بعض الإعلاميين أمر الرئيس مرسي بسحب هذه البلاغات، وقد أشرنا أنفًا إلى تدخل الرئيس بنفسه لإنقاذ صحفي من الحبس (إسلام عفيفي رئيس تحرير جريدة الدستور التي كانت الأكثر سبا وقذفا) وذلك بإصدار تعديل تشريعي يمنع الحبس في تهمة إهانة رئيس الجمهورية، كما أن الرئيس تدخل لإنقاذ صحفية مصرية دخلت بعض مناطق سودانية محظورة، بطريقة غير مشروعة (شيماء عادل من صحيفة الوطن التي كانت من أشد الصحف معارضة للرئيس أيضا، وحرص الرئيس على اصطحاب الصحفية الشابة على طائرته الرئاسية من الخرطوم، ولم تقم الرئاسة أو الأجهزة التنفيذية الأخرى بإغلاق أي صحيفة أو قناة( وكانت المحاولة اليائسة الوحيدة التي لم تنجح ضد توفيق عكاشة صاحب قناة الفراعين لامتناعه عن دفع مستحقات مدينة الإنتاج الإعلامي ولتنفيذ حكم قضائي نهائي لصالح طليقته)، كما لم يتم منع أي صحفي من السفر، ولم تسع الرئاسة للانتقام أو معاقبة الصحفيين والإعلاميين الذين سبوا وقذفوا بل حرضوا على القتل كما فعل توفيق عكاشة، وقد اعتبر البعض وخاصة من أنصار الرئيس هذا المسلك الرئاسي تخاذلًا عن مواجهة ضرورية يسندها القانون، وأن هذا التخاذل شجع على المزيد من الانفلات والقذف الذي صار عملًا ممنهجًا للحط من هيبة الرئيس كما اعترف الكثيرون منهم لاحقًا، لكن الرئيس كان يرى أن الديمقراطية تصحح نفسها بنفسها.
ومن الغريب أن بعض منظمات حقوق الانسان الدولية المعروفة مثل مراسلون بلا حدود، واللجنة الدولية لحماية الصحفيين أصدرت تقارير تنقد فيها التضييق على حرية الإعلام في عهد الرئيس مرسي، والمتصفح لتلك التقارير يجد انها تورد بيانات القوى المعارضة للرئيس دون التثبت من صحتها، ومن ذلك وصف الرئيس مرسي بالدكتاتور لمجرد أنه أصدر إعلانا دستوريا ما لبث ان ألغاه لاحقا استجابة لمطالب القوى السياسية، كما أن هذه التقارير تحدثت طويلًا عن أزمة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، والسرعة في جلستها الختامية لإقرار مسودة الدستور، وهو ما كانت تردده قوى المعارضة في ذلك الوقت، وهو ليس متعلقًا بحرية الصحافة بل كان محض خلاف سياسي بين القوى الحزبية، وكان من الانتقادات أيضًا النص في الدستور على الشريعة الإسلامية والمادة المفسرة لها (219)، واعتبار المادة 45 التي تمنع إغلاق الصحف إلا بحكم قضائي مسًا بحرية الصحافة رغم ان هذا هو المعمول به دوليًا، كما انتقدت شمول اختصاص المجلس الوطني للإعلام لعموم وسائل الإعلام وهو ما اعتبرته مخالفًا لقواعد التنظيم الذاتي، علما أن التنظيم الذاتي هو نظام اختياري عالمي لا تلتزم به كل الدول بل بعضها مثل بريطانيا، وللتذكير فقد كانت هناك نقاشات حول تطبيق هذا النظام في مصر لكنها لم تكتمل، كما تحدثت تلك التقارير عن ما وصفته بالمخالفات في تعيينات رؤساء التحرير التي منها منح العديد من المناصب لأعضاء حزب الحرية والعدالة وهو أمر مخالف للواقع تمامًا كما أسلفنا، كما تحدث عن الدعاوى الكثيرة التي رفعت من الإدارة القانونية برئاسة الجمهورية ضد بعض الصحفيين بتهم سب وقذف الرئيس، وتجاهلت سحب هذه البلاغات بتعليمات من الرئيس نفسه، وتحدثت عن ملاحقة الإعلامي باسم يوسف صاحب البرنامج الساخر(البرنامج) قضائيًا دون أن تذكر أنه لم يتعرض لأي أذى، وأن تلك التحقيقات حفظت في النيابة، كما ادعت أن أنصار الرئيس قتلوا الحسيني أبو ضيف وهو ما يخالف الحقيقة أيضًا، حيث قتل معه في تلك الأحداث 8 من شباب الاخوان أنفسهم ما يعني أن الرصاصات التي قتلتهم جميعًا هي لجهة أخرى (الطرف الثالث) وأخيرا تحدثت عن مطالب تطهير الإعلام التي رفعها أنصار الرئيس باعتبارها تحريضا ضد الإعلاميين متجاهلة أن هذا المطلب لم يكن مقتصرًا على انصار الرئيس بل كان مطلب ميدان التحرير بكل قواه السياسية.
خلاصة
لا يمكن الحكم على أداء أو توجهات نظام حكم خلال سنة واحدة، في مرحلة صعبة مرت بها مصر بعد ثورة 25 يناير 2011، ولكن كملمح عام لتلك السنة فقد كانت الحريات الصحفية في أوجها، حيث حرية إصدار الصحف وتأسيس القنوات، والمواقع، وحيث حرية التعبير عبر وسائل الإعلام المختلفة وهو ما ساهم في ازدهار وسائل الإعلام بصورة لم يسبق لها مثيل.
كما لم يحبس صحفي ولم تغلق صحيفة أو قناة، وحتى حين فكر مجلس إدارة المنطقة الإعلامية الحرة في إيقاف بعض القنوات الخاصة في مدينة الإنتاج الإعلامي بسبب مخالفات إعلامية ومالية منسوبة لها، فقد اعترضت الرئاسة على هذا القرار، وحالت دون تنفيذه.
كما أثمرت جهود مكافحة الفساد عن وقف هدر ملايين الجنيهات، ورد ملايين أخرى من المال العام، المنهوب بطريقة غير قانونية، وكانت المعركة ستتواصل وتتصاعد لولا وقوع الانقلاب.
ومع ذلك حدثت بعض التجاوزات مثل حصار مدينة الإنتاج الإعلامي من قبل أنصار الشيخ حازم أبو إسماعيل، والاعتداء على صحيفتي الوطن والوفد من قبل بعض المتظاهرين، وتقدم بعض المحامين ببلاغات ضد بعض الصحفيين والإعلاميين حفظت في أدراج النيابات، والرابط بين هذه التجاوزات جميعها أنها لم تكن من السلطة الحاكمة، سواء الرئاسة أو الحكومة أو الأجهزة التنفيذية الأخرى، كما أنها تعتبر جزءًا من حالة الفوران الثوري التي ميزت تلك الفترة، وتبقى مثل هذه الاستثناءات دليلًا على صحة القاعدة العامة وهي ازدهار حرية الصحافة الأمر الذي افتقدته مصر منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013 وحتى الآن.