الشلل السياسي والحكم بمتتالية الصدمات.. دراسة سلوك نظام السيسي
المحتويات
- مقدمة
- أولا: مصطلح الصدمة بين علم النفس وعلم النفس السياسي
- ثانيا: الصدمات السياسية في مصر
- خاتمة
مقدمة
حمل النصف الأول من شهر يوليو/تموز 2024 دعوة جديدة في مصر للخروج إلى الشارع ضد النظام الانقلابي بقيادة عبد الفتاح السيسي، وهي الدعوة التي كانت حبلى بإرهاصات احتجاج جماعية قوية تبدت في محافظات الإسكندرية والجيزة وغيرها؛ لكن هذه الاحتجاجات لم تتسع، ما أعاد فتح الباب للتساؤل عما حدث للمصريين بشكل عام خلال السنوات الأخيرة.
ويميل الباحث لقناعة مفادها أن المصريين في العموم يميلون لموادعة السلطة ما دامت الاعتبارات الاقتصادية-الاجتماعية مرعية، وذلك بالنظر لتمتع مصر بوجود عميق لكل من “الدولة” و”القاعدة المؤيدة للدولة”، وهي ترتيبات بدأت منذ بدايات عهد الرئيس المخلوع، محمد حسني مبارك، وباتت مستقرة بشكل ما.
غير أن اختلال هذه المعادلة تاريخيا دفع المصريين إما للتحرك بالتغيير عبر الثورة كما حدث ضد الإمبراطورية الرومانية في عهد يوليوس قيصر، وإبان الدولة العباسية في عهد الخليفة المأمون، وإبان الدولة العثمانية عبر خبرة محمد علي، وقبله وبعده خبرة مقاومة حملات فرنسا وإنجلترا، أو للتحرك للتغيير عبر استدعاء قوى مجاورة؛ على نحو ما حدث خلال الفتح الإسلامي لمصر، أو عبر استدعاء الزنكيين للفكاك من الدولة الفاطمية، وغيرها من الخبرات.
وتعد ثورة يناير مثال حي على تلك القدرة التي تمكنت من العصف بترتيبات مبارك في أيام معدودات. لكن رغم حضور شرط تحرك المصريين؛ إلا أن العقد المنصرم شهد تراخيا لديهم، وإن خرقته استثناءات محدودة.
ورغم وجود نظريات وسيطة تفسيرية عدة، منها أمننة المجتمع، وتغييب القيادة الشعبية، وضياع رأس المال السياسي لنخبة يناير، إلا أن هذه التوجهات التفسيرية كانت في حاجة لإطار جامع يمكّن من فهم الصورة بالعمق المطلوب.
وتأتي هذه الورقة كمحاولة لتقديم إطار تفسيري يقوم على تحليل سلوك النظام المصري طيلة العقد المنصرم، وصولا إلى تصور حول متتالية الصدمات التي أربكت المصريين. فما هي هذه الصدمات؟ ولماذا أنتجت حالة الشلل السياسي في مصر؟
أولا: مصطلح الصدمة بين علم النفس وعلم النفس السياسي
أ. الصدمة النفسية.. معناها وتداعياتها:
يعرّف “معهد نيتز الألماني لدراسة الاعتلالات النفسية”، “الصدمة النفسية” أو “Trauma”، بأنها الإصابة الجسيمة التي تصيب شخصا ما في وجدانه أو إدراكه، نتيجة حادث استثنائي شخصي يشكل عبئا على المعنِيّ بالأمر، وإذا كانت إمكانيات الفرد المُتاحة غير كافية لتخطي المَوقِف، أو في حالة عجز المتضرر عن التصرف، يتولّد عن ذلك عبئا نفسيا جسيما يقود الإنسان إلى حالة من العجز التام أو الخوف الشديد أو الرُعب.
الحوادث التي قد تؤدي إلى الإصابة بصدمة نفسية هي تلك المواقف التي تكون ذات طبيعة كارثية والتي تجعل معظم الأشخاص يحسون بعدم القدرة على إبداء أي رد فعل حيال الموقف أو عامل التهديد، ومن أمثلة ذلك الكوارث الطبيعية أو الحوادث الخطيرة أو وفاة أحد أقرب المُقربين أو الإصابة بأمراض مهددة للحياة أو التعرض للعنف الجسدي والجنسي[1].
الخلاصة أن ثمة عنصرين يسببان الصدمة، أولهما حدث أو موقف يتعرض له الفرد، ويتصف هذا الحدث بأنه غير اعتيادي، وثانيهما أن هذا الحدث أو الموقف أكبر من قدرة الفرد على التصرف حياله.
ويتسبب هذا الحدث بردة فعل غير متوقعة من الفرد نتيجة عجزه عن التصرف تجاهه، وتأثير هذا العجز عبر إحداث حالة من الخوف أو الرعب أو الإحباط أو مثيلاتها من ردود الفعل السلبية، ما يقود الفرد إلى حالة من عدم القدرة على تبني رد فعل مناسب حيال هذا الحدث لفترة طويلة من الزمن.
وفي مسعاها لتوضيح مسار فرض رؤية مدرسة شيكاغو الاقتصادية على العالم، تجاوزت الكاتبة، نعومي كلاين، تعريف الصدمة باعتبارها نتاج موقف أو حدث لا يهدف لإنتاج الصدمة، باتجاه تعريف قوامه أن الصدمة قد تكون فعلا متعمدا.
ضربت “كلاين” المثل بحصاد خبرة “معهد مكجيل التذكاري” الأمريكي في علاقته بالمخابرات المركزية الأمريكية، ومشروع “غسيل الدماغ”، أو “دراسة السيطرة على العقل”، أو “تطوير تقنيات الاستجواب”، والتي قام خلالها الطبيب النفساني، أيوين كاميرون، يتطوير نظرية قوامها أن الصدمات النفسية بإمكانها أن تحيل العقل إلى صفحة بيضاء يمكن إعادة كتابة المحتوى فيها، وهذه الرؤية كانت بداية المسار الأمريكي لمشروع غسيل الدماغ إكلينيكيا. ورأى “كاميرون” أن تقنية الصدمة وسيلة لعلاج المرض النفسي عبر إلغاء ماضي الإنسان، وتحويل عقله لصفحة بيضاء من خلال الصدمات المتكررة[2].
ب. الصدمة المجتمعية:
مثيل هذا الحدث أو الموقف يواجه الجماعات أيضا، أيا كان عددها، وقد يصل إلى حد إصابة مجتمع بأسره، فيما يعرف باسم “الصدمة الجماعية” أو “Collective Trauma”. وتعرّف الجمعية الأمريكية لعلم النفس الصدمة الجماعية باعتبارها نتاج أحد مصدرين أولهما طبيعي ويتمثل في العنف الاجتماعي كالقمع والاضطهاد وجرائم الكراهية كالعنف الجماعي والإرهاب، وثانيهما ينحدر عن مصدر بيئي كالكوارث والأوبئة[3]. ويؤكد تعريف الجمعية للصدمة الجماعية أنها لا تصيب الفئات المستهدفة بالصدمة فقط، بل تطال الجماعات المتشابهة معها في السمات الاجتماعية.
وفي تحليلها لصدمة المجتمع الأمريكي بعد جائحة كورونا، نقلت الباحثة في علم النفس الطبي، دانييل ريندر ترمود، عن البروفيسور ك. إريكسون الفرضية المتمثلة في قوله بأن الصدمة الجماعية لمجتمع من المجتمعات عادة ما تؤدي إلى تحول في نسيج هذا المجتمع وثقافته وسلوكه الجماعي[4].
ما طرحه “إريكسون” في هذا الصدد كان مدخلا لكي تَنفُذ مدرسة شيكاغو إلى قلب الكوارث الطبيعية لكي تحاول فرض عقيدتها، بحسب تعبير كلاين، وذلك عبر تحويل الدول لأداة تنظيم وإنفاذ لإرادة القطاع الخاص والشركات الكبرى[5]، الأمر الذي نُفذ عبر عدة دول عبر العالم، منها داخل الولايات المتحدة نفسها، سواء عبر استغلال الكوارث كما حدث في فيضانات نيو أورليانز في السبعينات، أو كما حدث في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر؛ والطفرة غير المسبوقة لقطاع شركات الأمن الخاصة؛ وكذا ما حدث من استغلال تسونامي آسيا وجائحة كورونا.
غير أن نعومي كلاين أشارت لترتيبات مصطنعة باستخدام تقنية الصدمة الجماعية لتنفيذ هذه الرؤية، كان من بينها سلسلة انقلابات أميركا اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي، والصفقة الأمريكية الصينية المتمثلة في الانقلاب الاقتصادي للصين من الشيوعية باتجاه الرأسمالية، وسياسة المكاشفة السوفيتية.
وفي طريقها لكشف الصدمات المصنوعة، كشفت “كلاين” أن التوجه العام للقوى الدولية بات واضحا في امتلاكها لتصورات تسعى معها لتوجيه تداعيات أية صدمات تحدث عبر العالم باتجاه “مشروع ما” معد سلفا؛ هو في حالة عقيدة الصدمة كان نموذجا نيوليبراليا.
ج. بين الصدمة والسياسة الخشنة:
اختيار اقتراب الصدمة اختيار تفسيري، أي يرجع لقدرة الاقتراب على تفسير سبب تراجع المصريين رغم الأوضاع الاقتصادية-الاجتماعية التي كان من المفترض أن ترتب مسالك رفض واحتجاج، وبخاصة بعد مرور الشعب المصري بنموذج تثوير، وهو نموذج يناير 2011.
ومن زاوية أخرى، فإن صحة هذا الاختبار تقتضي البحث في داخل إطار علم نفس السياسة عن الخبرات التي تمكنت من عكس تأثير الصدمات المجتمعية، أو الصدمات الجماعية، والتي يمكن أن تكبل مسيرة مجتمع لعقود ما لم ترصد مفاتحها، ويصاغ تصور إعلامي لمعالجتها بالاعتماد على تراكمات علم نفس السياسة، وحتى علم نفس الاجتماع، في هذا الإطار.
ويصطدم اختيار هذا الاقتراب بتساؤل أكاديمي حول سبب قراءة السياسات الأمنية نفسها في ضوء اقتراب الصدمة، وليس في ضوء نفس العلم، علم نفس السياسة، باعتبارها سياسة خشنة، تلجأ لخيارات الأمن، لتعميم القمع، وإشاعة التردد والكمون السياسيين، ما يعود بالشخصية المصرية للفترات التي كانت فيها تعاني مصر مثيلات هذا الوضع من دون وجود قيادة بديلة، سواء من الداخل أو من الخارج. هذا السؤال يمكن وضع إطار لإجابته وفق المدخل التالي:
– العنف المفرط والحرص على إبرازه: عنف السلطة له مستويات، أدناها ذلك المستوى المتعلق بتفعيل خيار العنف في مستوياته الدنيا، من قبيل الاعتقال العشوائي، وإطالة مدة الاعتقال نسبيا، وحتى التعذيب ضيق النطاق في مقرات الاحتجاز، وتوفير الأطر القانونية على الصعيد الشكلي، مع الضغط على القضاء لتكون أحكامه في ظاهرها الالتزام بنص القانون وفي باطنها التماهي مع الإرادة الأمنية، وإخضاع السياسيين لإرادة الأجهزة الأمنية، وانتهاء بصدور أحكام بالسجن، وغن كانت عبر أشكال القضاء الاستثنائي.
أما في الحالة الراهنة، فإن العنف لا سقف له؛ حيث تحرص وسائل الإعلام على إشاعة أخبار القتل خارج إطار القانون، كما حدث في وقائع مواجهات كما في أحداث فض رابعة والنهضة، أو في أحداث مداهمات نتج عنها حالات قتل خارج إطار القانون، والمداهمات المماثلة وهي كثيرة. وكان تكرار نموذج التصفية وإشاعة أخباره مقصودا لإنتاج التأثير الصادم. وبلغ الأمر في الاستهانة بالدم حد السادية المفرطة؛ كما حدث في واقعة سيارة ترحيلات أبو زعبل[6].
وبلغت الاستهانة بالدم، مع الاهتمام الإعلامي غير المباشر في واقعة إعلان القبض على قتلة باحث الماجستير الإيطالي جوليو ريجيني، حيث أطلقت قوات الأمن النار على عربة بها مواطنون، جرى تصويرهم على أنهم قتلة “ريجيني”؛ ما تبين كذبه لاحقا[7].
إن القائمة المتعلقة بالعنف المفرط طويلة جدا. والاهتمام بالأخبار المتعلقة بها مقصود لإشاعة الصدمة، وبخاصة مع إعلام المعارضة الذي من أدواره الرئيسية تغطية حوادث العنف المفرط للسلطة لتتحول مشاهدته إلى مصدر إرهاب لمشاهديه؛ والذين يفترض بهم أن يكونوا أكثر المصريين استعدادا للنزول للشارع ومعارضة النظام.
ذلك أن الإعلام المعارض -وبشكل غير مقصود- ساهم في نشر حالة الصدمة عبر تغطيته لانتهاكات النظام المصري وإبرازها بكافة تفاصيلها. وفي الوقت الذي نجح فيه إعلام المعارضة في كشف تلك الانتهاكات، فإن ذلك، من جانب آخر، ساهم في بث الخوف لدى أفراد الشعب من عنف النظام، ومما يمكن أن ينالهم إذا عارضوه علنا.
علاوة على ذلك، فإن الاهتمام بالتطور الذي أصاب القضاء له أهميته؛ ذلك إن الذي كان سقفه وجود استثناء قضائي، ممثل في محاكم أمن الدولة، وكان منتهى حكمها بالسجن لمدة 5 سنوات، آل إلى حال يصدر فيه أحكاما بالإعدام على المئات في جلسة واحدة، وفي إطار من غياب ضمانات العدالة.
ثانيا: الصدمات السياسية في مصر
لم تكن 30 يونيو وما تلاها من انقلاب هو الصدمة، بل كانا معا السبيل لإخضاع المجتمع المصري لعدة صدمات؛ إذ تبقى متتالية الصدمات المعدة للمجتمع المصري الوسيلة الأساسية لشل حركته، وفي إطار هذه المتتالية؛ تعمل المؤسسات الضبطية المختلفة على إخضاع هذا المجتمع.
هذا المحور يتضمن عدة محاور فرعية، تمثل كل منها مسارا للصدمة. وفي كل محور من المحاور الفرعية سينقسم الحديث على طبيعة الصدمة وشواهدها والفئة المستهدفة بتأثيرات الصدمة.
أ. صدمة تصدع المجتمع السياسي:
الصدمة الأساسية التي تعرض لها المصريون كانت صدمة تمزيق النسيج الوطني السياسي، فبعد ثورة 25 يناير، لم يكن لنظام استبدادي أن يعود لمصر من دون تمزيق النسيج الوطني، وعزل القوة السياسية الأساسية عن القاعدة الجماهيرية، وعن غيرها من القوى السياسية، وبخاصة بعد حالة التآزر، والالتحام الشعبي بالنخب السياسية، التي شهدها ميدان التحرير خلال الثمانية عشر يوما الأولى من عمر هذه الثورة.
وفي هذا الإطار بدأت الحملة الدعائية التي سعت لتسميم العلاقات المجتمعية، بحيث أدت إلى تمزيق المجتمعين الشعبي والسياسي، وإعادة بناء التحالفات على خلفية مصالح مصطنعة، ومهدت الطريق لتصفية المجتمع السياسي لاحقا عبر شقه رأسيا ثم أفقيا على نحو ما سنرى تاليا.
1. صدمة التصدع الرأسي: أو صدمة شيطنة الإخوان. كانت الصدمة الأولى التي صدم بها رأس النظام المصريين مع إرهاصات الانقلاب؛ تلك الصدمة التي شقت المجتمع عموديا بصورة أفقدت المجتمع القدر الأعظم من قوته ومناعته ضد النكسة المحتملة بعد وقوع الانقلاب العسكري. هذه النكسة، والمتمثلة في شيطنة فصيل وطني هام، عبر عنها أحد الشعراء المصريين (مدحت العدل) بقوله: “إحنا شعب وانتو شعب .. لينا رب وليكو رب”، وغناها أحد المطربين المصريين. وعبر هذه الصدمة، أضيف لمصادر الاستثناء القانوني، والاستثناء الأمني كذلك، رافد آخر بخلاف الرافد “الإرهابي”، الذي أدى لفرض “قانون الطوارئ” على مصر طيلة فترة حكم مبارك.
كان من شأن إضافة هذا الرافد الجديد أن يُحدث تحول في بنية الاستثناء لتتضمن فصيلا عاش طيلة الفترة بين 1970 وحتى 2011 يعمل بصورة سياسية، ويبني قاعدة مجتمعية مثلت حجر الزاوية في ثورة يناير من جهة، ومثلت القاعدة التصويتية التي بلغت 30 بالمئة من إجمالي الناخبين المصريين، ما تبدى من المرحلة الأولى لرئاسيات 2012.[8]
وأدت صدمة الشيطنة لفتح الباب لمصادرة المجال العام المصري؛ بعد أن فقد قوته الأساسية، وهي جماعة الإخوان، إلا أن القوى المدنية لم تكن مستعدة لحالة الانفتاح الاستثنائية هذه في غياب الإخوان، حيث إن حضورها الذي تمتع بسند تصويتي بلغ نحو 30 بالمئة؛ كما تبدى من المرحلة الأولى لرئاسيات عام 2012،[9] إلا أنها لم تتمتع بسند نضالي ذي ظهير شعبي، ما أدى إلى انهيار المعارضة المصرية بصورة تدريجية حتى 2015، ولم تلبث أن تلاشت إثر ذلك؛ ليتحول المشهد إلى معارضة أفراد أقرب منها إلى معارضة كيانات سياسية.
وإذا ما نظرنا إلى الجمهور المستهدف بهذه الصدمة سنجد أنه جماعة الإخوان من جهة؛ وعموم القاعدة الشعبية من جهة أخرى. فاستهداف الجماعة بعملية التصدع السياسي كان مدخلا لشيطنتها لاحقا، ما فتح الباب أمام صدمة نوعية أخرى، وهي صدمة الدم.
أما استهداف الجمهور فتمثلت وجهة النظام في السعي لمنع تكوين حاضنة مجتمعية للجماعة عند الانتقال للصدمة النوعية التالية. كما أن استهداف الجمهور كان يرتبط كذلك بالسعي لإعادة المجتمع المصري لحالة “رهاب التدين” التي ارتبطت بفترة الحكم الناصري قبل هزيمة 1967، وهي الهزيمة التي مثلت مدخلا لتقويض مسار رهاب التدين.
2. صدمة التصدع الأفقي: قد تكون الصدمة الأولى فصائلية الطابع إلى حد كبير، وإن كانت عنيفة الوجهة في تداعياتها اللاحقة ما دفع الباحث لتسميتها بـ”الصدمة الرأسية” لأنها شقت المجتمع شقا طوليا مصطنعا، غير أن صدمة التصدع الأفقي أخطر من حيث التأثير، لأنها تستوعب الصدمة الأولى وتبني عليها.
سبب تسمية هذه الصدمة بالصدمة الأفقية أنها -على عكس سابقتها- أحدثت شرخا عميقا بين القاعدة الجماهيرية في أسفل الهرم السياسي وبين النخبة السياسية، ما جعلها الصدمة المركزية التي أفقدت المجتمع الثقة في نخبته السياسية؛ النخبة القادرة على معاودة قيادته بعد انهيار حزب النور وسقوطه في براثن المؤسسة العسكرية وتأييده للانقلاب، ووضع بقية مكونات التيار الإسلامي على هامش عملية الشيطنة، تمهيدا لجرهم لبؤرة هذه العملية لاحقا، والتي كانت تتموضع فيها “جماعة الإخوان” منذ لحظة الانقلاب الأولى؛ وما زالت على نحو ما أبرزته قضية “حرب الشاشات”[10].
خيبة أمل المصريين في نخبتهم السياسية المدنية، هي الهدف من السعي الدؤوب لإشاعة هذه الصدمة. والهدف معروف تاريخيا. ففي تجارب مقاومة الانقلابات الفاشلة في أمريكا اللاتينية، وحتى في الخبرات الأوروبية، مثل خبرة إسبانيا ما بعد الجنرال فرانسيسكو فرانكو، كانت المؤسسة العسكرية تلجأ للتفاوض مع النخبة السياسية المتبقية والقادرة على قيادة الشارع، وكان دور هذه الصدمة التي نتعاطى معها تجريد مصر من أية ركيزة مدنية قوية يمكن للقوات المسلحة المصرية التفاهم معها سياسيا لتكون غطاء لمراجعة المسار أو لانقلاب مضاد. وحتى لو حاولت بعث هذه النخبة، فإن هذه النخبة قيد التكوين قد تكون نفسها موضوعا لصدمة جديدة في حلقة متسلسلة من الصدمات.
ب. صدمة كسر المحرمات السياسية:
من أهم الصدمات التي عرض النظام الانقلابي المصريين لها صدمة كسر المحرمات السياسية، والتي أعلن معها رأس النظام عدم تقديسه، ولا احترامه، لأية أعراف سياسية استقرت لدى المجتمع لاعتبارها من صميم ثقافته. وهذه المحرمات التي هتكها بمنتهى الاجتراء، صدمات مثل: استهداف الفتيات، واعتقال وإهانة وتعذيب كبار السن، واستهداف الأقباط؛ ما سنتعرف على تفاصيله في موضعه.
واجتهاد الباحث أن رأس النظام اتجهت لتعميم وحشيتها في التعامل مع المعارضين لتطال هذه الفئات؛ لخشيتها من أن تتخذ الحركة الاحتجاجية أي من هذه الفئات وسيلة لتكوين كتلة احتجاجية حرجة يمكن الدعوة معها لتوسيع نطاق أية احتجاجات مستقبلية.
وفيما يلي نلقي أضواء سريعة على تفريعات هذه الصدمات.
1. صدمة استهداف النساء: بدأ انتهاك العرف المتعلق برفض أو منع استهداف النساء مبكرا مع رأس النظام، ونعني بالبكور أي خلال ثورة 25 يناير 2011، حيث بدأ انتهاك هذا الحرام السياسي المصري مع المتظاهرات ضد المجلس العسكري في 9 مارس/آذار 2011، حيث اعتقلتهم المخابرات العسكرية، وأوقعت عليهم ما سمي بـ”كشوف العذرية”، ورغم أن هذه الصدمة قديمة قدم ثورة يناير؛ إلا أن محاولات بعض أطياف المعارضة بعثها يجدد تأثيرها.
انتهاك هذا المحرم السياسي لم يقف عند حدود قضية كشوف العذرية، بل تجاوزها لاعتقال الفتيات، واقترن بهذا الاعتقال قصص بشعة تتعلق بهتك عرض هؤلاء الفتيات. وعلى الرغم من أن التعريف بهذه الانتهاكات الحقوقية أمر مهم، إلا أن نشر هذه القصص، في الوقت نفسه، أدى لتحويل أثرها لما يحاكي الصدمة المجتمعية.
كما أن الاعتقال لم يكن نهاية المطاف، بل بلغ الأمر حد اغتيال الفتيات، وفي مسارات شتى، حيث عانى المجتمع المصري صدمة إثر اغتيال المناضلة اليسارية التي تعتمد نهج اللاعنف، شيماء الصباغ، إذ اغتالها رجل شرطة في تظاهرة سلمية في وسط العاصمة القاهرة بينما كانت تحاول إهداءه زهرة[11]. هذا علاوة على اغتيال صحفيات مثل الصحفية، ميادة أشرف، والتي قُتلت فيما كانت تغطي احتجاجات داعمي الرئيس الراحل د. محمد مرسي في حي عين شمس شرق القاهرة[12].
2. التنكيل بكبار السن: من بين الصدمات التي تعرض لها كل من المجتمعين العام والسياسي، تلك الصدمة المتعلقة بكسر محرم القسوة والتعذيب في التعامل مع كبار السن، وهي الصدمة التي بدأت مع أنصار الرئيس مرسي، مثل المرشد العام الأسبق لجماعة الإخوان أ. محمد مهدي عاكف؛ والذي اعتقل وقد تجاوز التسعين عاما[13]، ومن خارج الإخوان كان اعتقال المستشار محمود الخضيري في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 [14].
ولم يكن حكماء التيار الإسلامي وأنصاره وحدهم من كابدوا هذا الإجراء، بل امتد الإجراء لشيوخ كل التيارات تقريبا. فقد اعتُقل السفير معصوم مرزوق، القيادي ذي التوجه القومي، في 24 أغسطس/آب 2018، إثر تزكيته مبادرة للمصالحة الوطنية[15]. كما اعتُقل المهندس يحيى حسين عبد الهادي عن التيار اليساري[16]، والكاتب هشام قاسم من التيار الليبرالي[17]، وهذه مجرد أمثلة لقائمة تتضمن رئيس حزب مصر القوية عبد المنعم أبو الفتوح، ورئيس أركان القوات المسلحة الأسبق الفريق سامي عنان، وغيرهم.
ولم تسلم النسوة كبيرات السن من هذا النهج كذلك، إذ اعتقلت الشرطة المصرية والدة علاء عبد الفتاح، السيدة ليلى سويف، وأختها أهداف سويف، لتنظيمهم وقفة احتجاجية لإطلاق سراح ابن أولاهما[18]. وجدير أن السيدتان كانتا قد تجاوزتا السبعين عاما عند اعتقالهما الذي دام قرابة الـ 10 ساعات. هذا فضلا عن اعتقال المحامية الحقوقية، هدى عبد المنعم.
وفي خضم الأخبار عن هذه الرموز الوطنية، نشرت أخبار عن منع الزيارة، ومنع الرعاية الطبية، ومنع وصول الدواء[19]، وغيرها من مظاهر التنكيل بهذه الشريحة العمرية.
3. مجزرة ماسبيرو: من خلال العلاقة بين الكنيسة والدولة خلال فترة حكم الرئيس الأسبق مبارك، أمكن للكنيسة أن تكتسب نفوذا كبيرا، وذلك عبر الضغط الدولي والتآزر المتبادل بين نظام مبارك وبين الكنيسة، والتي كان فيها مبارك يمنح الكنيسة بعض المكاسب مقابل مساندتها له داخليا وسكوتها عن الضغط الدولي خارجيا.
وخلال ثورة يناير، أقدمت القوات المسلحة على مواجهة الأقباط في “مجزرة ماسبيرو”، في محاولة منها لحبس هذه الطائفة في مربع مساندة الدولة والمؤسسة العسكرية مقابل ما تحصل عليه من مكاسب كبناء الكنائس والتضييق على إسلام القبطيات، والتسليم للكنيسة بحق تمثيل “الشعب القبطي”، وفق توصيفها.
ولهذا جاءت المواجهة معها في منتهى القسوة، وأدت الصدمة لتقوقع الكنيسة داخل المربع الذي أراده لها النظام. لكن الصدمة الأكبر كانت لعموم المجتمع الذي تعرف على ما يمكن لسلطة عسكرية أن تفعله بالمجتمع.
كما أن النظام لم يكتف بصدمة المجزرة، بل طالبت الكنيسة بإزالة نصب تذكاري لتخليد المجزرة كانت الكنيسة قد أقامته في باحة كاتدرائية العباسية في عام 2012[20].
ومنتهى القول في هذا المحور أن كل فئة أو طائفة كان بإمكانها التحرك سياسيا؛ بما يؤدي لتكوين كتلة احتجاج حرجة، قام النظام بتحويلها لعبرة، لمنعها من التحرك مرة ثانية من جهة، ولتخويف القاعدة الجماهيرية من الالتحام بها حال خروجها من جهة ثانية.
ج. صدمة الدم:
هي الصدمة الأكثر تهديدا للقواعد الجماهيرية، سواء أكانت تهديدا في ذاتها، أو تهديدا في المقدمات الذهنية التي مهدت لها. ولا يقصد الباحث بالمقدمات الذهنية الممهدة هنا عملية شيطنة الجماعات التي استبيح دمها، فهذه المقدمة الذهنية كانت حاضرة بالفعل؛ لكن كانت لها أهداف أخرى. أما المقدمات الذهنية المرتبطة بالصدمة فتمثلت في الدعاية التي استهدفت إخافة الناس. ويمكن الحديث عن صدمة الدم حيال فئتين؛ هما الإخوان والألتراس.
1. صدمة دماء الإسلاميين: أفرط رأس النظام في إراقة دماء الإسلاميين؛ سواء في ذلك جماعة الإخوان التي كانت مركز هذه العملية وشكل أعضاؤها غالبية ضحاياها، أو من سائر الإسلاميين الذين رفضوا الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013. وتعددت المذابح المرتبطة بهذا المسار بدء من “الحرس الجمهوري” في 8 يوليو/تموز 2013، وحتى رمسيس الثانية في 17 أغسطس/آب 2013. وكانت رسالة مجموعة الصدمات تلك تتمثل في منع الكتل الرافضة للانقلاب العسكري من التجمع والكر على قوات الانقلاب.
لكن الأخطر في التحضير لهذه المذابح هي الدعاية التي استهدفت عامة الناس ولم تستهدف الإخوان أو الإسلاميين وحدهم. ويشير الباحث هنا إلى الاستهانة بعدد المصريين، والاستهانة بعدد القتلى الممكن في حال حدوث فض للاعتصامات الرافضة للانقلاب العسكري. وفي هذا الإطار سمعنا نغمة “إحنا كتير.. 100 مليون.. إيه يعني لما يموت ألف”.. وظل العدد يتصاعد حتى بلغ مائة ألف مع الإعلامية لميس الحديدي. هذه المقولة لا تستهدف الإخوان أو الإسلاميين، وإنما تستهدف عموم الناس.
ويلاحظ أنه خلال فترة عِقد من حكم نظام السيسي، ظل خطاب اتهام عدد السكان حاضرا في خطاب رأس النظام. هذا الحضور لا يستهدف التنصل من مسؤولية الفشل فقط، بل يعيد التأكيد على رسالة عدم أهمية الناس، وهو ما برز في مناسبات عدة، منها قول السيسي: “أنا عايز 100 – 200 ألف بس يتعلموا والباقي مش مهم”. ففي هذا الإطار، تدفع السلطة المواطن لاحتقار نفسه، وتقدم له تفسيرا لرخص دمه عندما يعارض. هي ليست رسالة مباشرة، لكن جملة الرسائل الكثيرة الواردة في نفس الصدد تنتج تأثيرا تراكميا في هذا الاتجاه.
2. صدمة مذابح الألتراس: ظاهرة الألتراس من الظواهر المجتمعية التي كانت تمثل مصدر تحد لأجهزة الأمن في مصر، وبدا من خلال ثورة يناير كم أن هذه القوة قادرة على أن تكون مصدر إزعاج لنظام سلطوي، ما دفع السلطة حينها لترتيب “مذبحة بورسعيد” في 1 فبراير/شباط 2012.[21] وفي 8 فبراير/شباط 2015، رتبت سلطة 3 يوليو مجزرة مماثلة لألتراس نادي الزمالك، وذلك في إطار ترتيبات أمنية لإنهاء ظاهرة الألتراس تماما في مصر[22].
استهدفت صدمة الألتراس تهيئة الأجواء لحل جميع هيئات أولتراس الأندية المصرية، على الرغم من أن بعضها كان يميل لدعم رأس النظام، لكن حل كل هيئات الألتراس كان شرطا لكفاءة حل أخطر تنظيمين للألتراس، ناديي الأهلي والزمالك. وكانت الرسالة أنه إذا كان كل ذلك العنف قد ارتكب مع مجموعات ألتراس العاصمة والتي تمتد عضويتها لكل محافظات مصر؛ فكيف ستتصرف السلطة مع مجموعات الأقاليم التي تتسم بعضوية جهوية.
د. صدمة انهيار مفهوم الوطن والمواطنة:
الصدمة المتعلقة بانهيار مفهوم الوطن والمواطنة تتضمن مسارين: الأول يتعلق بالوطن كمأوى لمواطنيه، والمسار الثاني يتعلق بالوطن كقيمة سياسية. وخلال العقد المنصرم تعرض كلا المفهومين لصدمات قوية.
1. صدمة المأوى: “العبارة المركزية في صدمة المأوى، والتي مثلت أكبر صدمة في قيمة الوطن هي عبارة: “مش عاجباك البلد سيبها وامشي”. ترددت هذه العبارة لأول مرة على لسان الفنان، نجاح الموجي، في فيلم “أشغال 131″، في موقف لا يشابه سياق إعادة إنتاجها. لكن أضحت هذه العبارة تقال على لسان كل الأذرع الإعلامية التابعة للنظام المصري الحالي[23] لكل من يقدم رؤية نقدية لسياساته. ثم تناقل هذه العبارة العديد من داعمي النظام، ومنهم حارس مرمى النادي الأهلي السابق “إكرامي”[24].
2. صدمة القيمة الرمزية للوطن والرئاسة: المسار الثاني فيما يتعلق بصدمة قيمتي المواطنة والوطن يتمثل في تصريح السيسي عن حديثه مع مجلس القضاء الأعلى عن إمكانية قيامه بـ”هد مصر” بـ”باكتة بانجو” و”شريط ترامادول” و100 جنيه[25]. هذه العبارة لا تثير الغضب عليه بقدر ما تثير القلق من إمكانية الاحتجاج عليه بدون ضمان مؤسسة مكينة قادرة على حماية البلد من هذا المآل.
كما أن هذه العبارة تحمل أمارة صدمة تحول مصر بالفعل إلى رهينة في يد عصبة صغيرة؛ في أعين أهل البلد، وهو ما يستدعي قلقا مضاعفا مقارنة بالقلق من سوء إدارة البلد، خاصة وأن علاقة رأس النظام بالبلطجي صبري نخنوخ وبالمهرب بلال السيوي، وعلاقة (محمود السيسي) بإبراهيم العرجاني، وغيرهم.
هـ. صدمة أخونة غير الإسلاميين:
بعد انقلاب يوليو 2013، بدأت ملامح صدمة جديدة في التشكل، هذه الصدمة تمثلت في اعتبار كل معارض قابل لحمل لقب “إخوان”. ومع تركز المعارضة في التيار اليساري، بدأت سلطة 3 يوليو العمل على وصم كل يساري بأنه يعمل لصالح الإخوان، وأنه يتلقى تمويلا منها، وأن اليسار أصبح بمثابة “عرائس الماريونيت” في يد جماعة الإخوان[26]. ولم تلبث هذه التهمة أن خرجت من حيز المكايدة اللفظية والدعاية إلى مربع التهمة السياسية، والتي سجن بسببها السفير معصوم مرزوق[27].
غير أن قطاعا من التعاطي الإخباري مع النخبة اليسارية خلط الأوراق ليتهم بعض رموز اليسار واليسار القومي في مصر بأنهم انضموا إلى جماعة محظورة، وهي جماعة الإخوان، وكان من بينهم د. يحيى القزاز ود. عبد الفتاح الصعيدي والسفير معصوم مرزوق نفسه، الذي تعاملت صحف معهم باعتبار أن قضاياهم مع السلطة هي قضايا انضمام إلى جماعة محظورة[28].
المعالجة الإعلامية التي تستهدف الخلط بين المسارين، مسار “معاونة جماعة محظورة” ومسار “الانضمام إلى جماعة محظورة”، هو مسار لصدمة القاعدة الجماهيرية التي تتهيب ما يحدث مع بعض الرموز السياسية مثل الأسماء المذكورة عاليه، وتفكر فيما قد يحدث معها لو وضعت في نفس الموقف.
و. صدمة العصف بالمؤسسات:
لم يكن الدخول بمصر في مرحلة الصدمة التي أرادتها لها نخبة 3 يوليو إلا من خلال العصف بالمؤسسات الراسخة، وخلخلة بناها و تفريغها من كوادرها وحجب الكفاءات عن قيادتها حتى تستقر الأوضاع لنخبة 3 يوليو. كان البنك المركزي أسهل الجهات التي تمت تصفيتها بعد رفض رئيسه، هشام رامز، مطالب رأس النظام، ما أدى إلى عزله في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2015.
وفيما يتعلق بجهاز الشرطة المصرية، فقد كان الجهاز منحازا لصالح الدولة العميقة منذ تولي د. محمد مرسي رئاسة الدولة، ما جعل مهمة توجيهه والسيطرة عليه سهلة نوعا ما عبر التوسع في الإنفاق على الجهاز، ومنحه نفوذا فوق القانون.
ولهذا بدأ رأس النظام بجهاز المخابرات العامة، وسعى لعزل كل رجال اللواء عمر سليمان، فيما كان أقرب للمذبحة منها إلى الصدمة. فبعد التمكين لابنه محمود في الجهاز خلال فترة رئاسة محمود فريد التهامي له، قام رأس النظام بتقسيم عملية تفكيك الجهاز على مرحلتين؛ أولاهما تمت خلال رئاسة اللواء خالد فوزي، حيث أصدر 18 قرارا جمهوريا بإحالة أكثر من 200 ضابط وموظف كبير للمعاش أو للعمل الإداري في جهات أخرى، ثم لم يلبث بعد تصعيد ابنه مصطفى في جهاز الرقابة الإدارية أن كلف الجهاز بالتحقيق في عملية تضخم ثروة 40 من وكلاء جهاز المخابرات[29]، ثم أكمل مسيرة إخراج من لا يدين له بالولاء خلال فترة تولي اللواء عباس كامل رئاسة الجهاز؛ بناء على توصيات ابنه.
وخلال مساعي السيطرة الكاملة على جهاز المخابرات العامة، كان رأس النظام يسعى للسيطرة على القوات المسلحة عبر تدوير قياداتها، والتخلص من العناصر الشابة ذات الرؤية، أو ذات التدين حتى وإن لم يقترن برؤية.
كان المسعى الأول لتدوير قيادات القوات المسلحة يقضي بالعودة للوتيرة السريعة لتغيير قيادات القوات المسلحة، مع العصف الاستثنائي بالفريقين صدقي صبحي ومحمود حجازي ذوي الطموح، والاحتفاظ لفترة طويلة بقيادة غير ذات طموح مثل الفريق محمد زكي، ومنح الأولوية في التغييرات للولاء. ومع التسارع غير الطبيعي للتغيير حاولت بعض الأطراف النافذة في القوات المسلحة الضغط عبر احتجاجات 2019 و2020[30]، ما دفع مؤسسات إعلامية للربط بين المؤسسة والاحتجاجات[31] وذلك في إطار رفض خبراء عسكريين اعتبار أن اعتقال الفريق أسامة عسكر قد حدث بسبب واقعة فساد[32]، علاوة على ما أعقب هذه الاحتجاجات من الإفراج عن الفريق سامي عنان، ثم التصالح المؤقت مع عدد من القيادات القوية، ومن بينهم الفريق “عسكر” نفسه. وبعد سنوات، تمت ترتيبات أفضت إلى إبعاد الأخير من القوات المسلحة، وشمل ذلك أيضا الإطاحة بوزير الدفاع ورئيس الأركان في يومين متتاليين.
وكانت صدمة المؤسستين الاستخباراتية والعسكرية تحمل 3 أهداف، الأول رسالة للقاعدة الجماهيرية بالسيطرة على أجهزة الدولة الباطشة. والهدف الثاني يتمثل في تجريد أية حركة للدولة العميقة ضد نخبة 3 يوليو من المشروعية المؤسسية، وثالث الأهداف تمثل في إحكام السيطرة على المؤسسات التي يمكن أن تصنع فارقا، ومحاولة ضمان ولائها باستمرار عبر التغيير والمزايا.
ز: الرهق الاقتصادي:
ترتب على كل ما سبق من صدمات قدرة النظام على تمرير قرارات تعويم العملية ورفع الدعم، دون كثير معارضة فاعلة من الشارع المصري.
فقد قادت القرارات السياسية للنظام إلى تجريد المجتمع الاقتصادي المصري من قدرته على التماسك، وحتى الإنتاج الضروري، وأدت سياساته الاقتصادية الاجتماعية إلى وضع القوات المسلحة المصرية، ثم ضباطها، في مركز التفاعلات الاقتصادية، وبالتالي جُرد المجتمع الاقتصادي من قدرته على مراكمة القوة الاقتصادية الذاتية.
وبناء على هذا، تضاعفت صعوبات الحياة، لتصدم فئات المجتمع بتراجع مستواها الاجتماعي بصورة حادة، وتبدأ في محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من هذا المستوى “Survival”، بينما أصبحت فرص نجاة الأفراد من هذا المأزق الاقتصادي تمر عبر بوابات العمل مع القوات المسلحة في المشروعات الاقتصادية، أو العمل مع شركات الأمن الخاصة، أو الفرص الاقتصادية التي يمنحها للنخب الموالية له.
هذا الفشل الاقتصادي قاد غالب المواطنين إلى الانصراف إلى شؤونهم الخاصة، بينما منعتهم الصدمات السابق توضيحها في هذه الورقة من اتخاذ موقف شعبي ضد هذا الرهق الاقتصادي المتزايد الذي يعانون منه.
خاتمة
ثمة صدمات أساسية عانى منها المجتمع المصري طيلة العقد الماضي، أنتجت ما يمكن أن نسميها حالة الحكم بمتتالية الصدمات، حيث بدأ نخبة 3 يوليو حكمها بصدمة تصدع للمجتمع، حاولت على إثرها عزل جماعة الإخوان عن القاعدة الجماهيرية من جهة، وعن سائر مكونات المجتمع السياسي الذي تجمع حول مسمى جبهة الإنقاذ، لكن الصدمة الأولى كذلك تمكنت من إحداث شرخ أفقي بين نخبة يناير وبين القواعد الجماهيرية، ما أدى لتآكل رأس المال السياسي لهذه النخبة، ومن ثم لم تلبث أن انهارت.
وجهت نخبة 3 يوليو صدمة لكل مركز من مراكز حيوية المجتمع بعد ذلك، حيث كانت صدمة الدم لضرب الجسارة السياسية المتبقية بعد مشروع يناير 2011، ثم صدمة الأخونة؛ بتخويف الشارع من تحمل هذه الصفة بعد إلصاقها بالتائبين من ذنب 30 يونيو، أو الداعين للعودة لما يونيو 2012، مثل السفير معصوم مرزوق والمهندس علاء عبد الفتاح والناشر هشام قاسم والأكاديمي الجيولوجي يحيى القزاز، وغيرهم.
الصدمة الثالثة وجهت لمفهوم الوطن والمواطنة، عبر تحويل الإيمان برأس النظام إلى معيار للمواطنة، وأن من يكفر به (مجازيا) فليرحل عن مصر، ووجهت هذه الرسالة لكل من كان ينتقد النظام حتى 2019.
العصف بالمؤسسات كانت صدمة أخرى، حيث بدت مؤسسات المجتمع التي كانت تتمتع بصفة الرسوخ والقوة، أو هكذا بدت خلال فترة حكم الرئيس مرسي رحمه الله، بدت هذه المؤسسات مهتزة مرتعشة غير قادرة على الصمود في وجه رأس النظام، حيث تلاعب بقياداتها لتنتهي هذه المؤسسات تابعة له.
ونتج عن هذه الصدمات عزوف المواطنين -حتى الآن– عن الخروج إلى الشوراع بأعداد غفيرة، رغم الرهق الاقتصادي المتزايد.
متتالية الصدمات تأتي في إطار السعي لكبح احتمالات ثورة المصريين ضد النظام الحالي، غير أن التاريخ يؤكد أن الضغط المتزايد سيؤول في نهاية المطاف إلى الانفجار، كما حدث قبل عقد ونيف في ثورات الربيع العربي.
المصادر
[1] هيئة التحرير، الصدمة النفسية، موقع “سايكي نت”.
[2] نعومي كلاين.. عقيدة الصدمة.. صعود رأسمالية الكوارث، ترجمة: نادين خوري، بيروت، شركة المطبوعات للنشر والتوزيع، ط: 3، 2011، ص: 77 – 87.
[3] Collective Trauma, American Psychological Association (APA).
[4] Danielle Render Turmaud, What Is Collective Trauma? How it could be impacting us., Psychologyt Today, May 23′ 2020.
[5] نعومي كلاين.. عقيدة الصدمة.. مرجع سابق، ص:43 – 49 .
[6] المحرر – وكالات، مجزرة سيارة الترحيلات.. الجريمة ما زالت حاضرة.. اتهامات للنيابة العامة بالقصور الشديد في تحقيقات القضية، الجزيرة نت، 28 فبراير 2014.
[7] دعاء عبد اللطيف، في مصر قاتل ريجيني مجهول.. فماذا عن الخمسة الذين قتلوا بهذه التهمة؟، الجزيرة نت، 15 ديسمبر 2020.
[8] يفضل الباحث التوقف عند نتائج رئاسيات 2012، لأن تشريعيات 2011 شهدت تحالفات لا يمكن معها تخصيص التيارات بنسبة تصويت تخصها. وكانت تشريعيات 2011 قد خيضت من خلال تحالفات كان أبرزها التحالف الديمقراطي من أجل مصر، واستقر هذا التحالف قبيل موعد التصويت على عضوية 11 حزب أشهرها حزب الحرية والعدالة المنبثق من جماعة الإخوان المسلمين وحزب الكرامة (ناصري) وحزب غد الثورة (ليبرالي)، وحزب العمل المصري (إسلامي يميني). وهذه الصورة وحدها من شأنها أن تثير تساؤلات عدة بشأن الحصص التصويتية؛ خاصة وأن انسحاب عدد من الأحزاب من هذا التحالف جاء بسبب نسبة تمثيلهم في قوائم التحالف.
[9] وسام فؤاد، في وزن القوى المدنية الديمقراطية المصرية، موقع “صحيفة العربي الجديد” اللندنية، 6 سبتمبر 2018.
[10] المحرر، “حرب الشاشات تندلع في القاهرة“.. بعد واقعة شارع فيصل شاشات عملاقة تعرض صورا لأفعال الإخوان (صور)، موقع “قناة روسيا اليوم” بالعربية، 16 يوليو 2024.
[11] مادة: شيماء الصباغ، موقع “قتل في مصر“.
[12] مادة: ميادة أشرف، موسوعة ويكيبيديا.
[13] أحمد حربى، مصدر: القبض على مهدى عاكف المرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين، موقع “صحيفة اليوم السابع” المصرية، 4 يوليو 2013.
[14] نرمين سليمان – هناء أبو العز، التفاصيل الكاملة للقبض على محمود الخضيرى بالإسكندرية.. المستشار متهم بالتحريض على تعذيب محام فى أحداث 25 يناير.. ونيابة وسط القاهرة تنتظر وصوله لبدء التحقيق اليوم، موقع “صحيفة اليوم السابع” المصرية، 26 نوفمبر 2013.
[15] المحرر، النيابة بمصر تحبس معصوم مرزوق على ذمة التحقيق وتتهمه “بتحقيق أهداف جماعة إرهابية“، موقع “قناة بي بي سي” بالعربية، 24 أغسطس 2018.
[16] علي جمال الدين، من هو يحيى عبد الهادي الذي اعتقلته السلطات المصرية؟، موقع “قناة بي بي سي” بالعربية، 29 يناير 2019.
[17] عبدالبصير حسن، ماذا نعرف عن حبس المعارض السياسي المصري هشام قاسم؟، موقع “قناة بي بي سي” بالعربية، 9 سبتمبر 2023.
[18] علاء عمران، القبض على والدة علاء عبدالفتاح و3 أخريات لتنظيم وقفة احتجاجية أمام “الوزراء“، موقع “مصراوي“، 18 مارس 2020.
[19] عبد الله حامد، أبو الفتوح بمحبسه.. حرمان من الدواء والحقوق، الجزيرة نت، 6 مايو 2018.
[20] محمد سيف الدين، الأمن المصري يطالب الكنيسة بإزالة نصب تذكاري لضحايا مذبحة ماسبيرو، الجزيرة نت، 6 أكتوبر 2019.
[21] المحرر، “مجزرة” بورسعيد: النادي الأهلي المصري يحيى الذكرى التاسعة للحادث الذي أودي بحياة 72 من مشجعيه موقع “قناة بي بي سي” بالعربية، 1 فبراير 2021.
[22] المحرر، أحداث استاد الدفاع الجوي: شهادات المشجعين حول “الرعب“، موقع “قناة بي بي سي” بالعربية، 9 فبراير 2015.
[23] منصة فيسبوك، تامر امين الي مش عاجبه البلد عشان ارتفاع الاسعار ياخد الباسبور ويغور من البلد.
[24] حسن مجدى، إكرامى: “اللى مش عجباه البلد يسيبها ويمشى.. ومصر مفيهاش حد بينام جعان“، موقع “صحيفة اليوم السابع” المصرية، 20 نوفمبر 2016.
[25] المحرر، السيسي: ممكن أهد مصر بـ“باكتة” و30 مليون دولار و“شريط ترامادول“، موقع “قناة سي إن إن” بالعربية، 1 أكتوبر 2023.
[26] إيمان على – محمد مجدى السيسي، عرائس الماريونيت.. قصة تحول 8 يساريين لأداة تخريبية فى يد الجماعة الإرهابية.. محللون: التعاون بينهم قائم على المصالح… ومحمود بدر: اليسار وقع تحت سيطرة الإسلاميين منذ فترة والسلطة هدفهم الوحيد، موقع “صحيفة اليوم السابع” المص
[27] المحرر، النيابة بمصر تحبس معصوم مرزوق على ذمة التحقيق وتتهمه “بتحقيق أهداف جماعة إرهابية“، موقع “قناة بي بي سي” بالعربية، 24 أغسطس 2018.
[28] المحرر، الإفراج عن معصوم مرزوق ورائد سلامة ويحيى القزاز وآخرين استجابة لمناشدات حقوقية، موقع “صحيفة اليوم السابع” المصرية، 20 مايو 2019.
[29] وكالات، السيسي يعيد هيكلة المخابرات العامة… ويخطط لعزل 40 ضابطاً، موقع “صحيفة السبيل” الأردنية، 3 فبراير 2018.
[30] بهي الدين حسن، المؤسسة العسكرية المصرية نحو صراع سياسي جديد.. النقاشات الداخلية حول التعديلات الجديدة في مصر تكشف عن تجدُّد الصراع بين الرئيس والجيش على السيطرة السياسية، 9 مايو 2019.
[31] المحرر، هل غيّر السيسي سياسته بعد أزمة محمد علي؟ 5 مشاهد تكشف تأثير فيديوهات المقاول المتمرّد على الجنرال، موقع “عربي بوست“، 23 ديسمبر 2019.
[32] مراسلون، سر الخلاف بين السيسي وأسامة عسكر، موقع “المنار”، 24 مايو 2018.