تباين المواقف العربية حول مبادرة ترامب للسلام
تباينت ردود الأفعال العربية حول مبادرة السلام الأمريكية التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض يوم الثلاثاء 28 كانون الثاني/ يناير 2020، والمسماة إعلاميًا بـ “صفقة القرن”.
سنحاول في هذا التقرير تحليل ردود الأفعال الرسمية للحكومات العربية، من خلال تحليل محتوى البيانات والتصريحات لقادة هذه الدول.
أتى جُلُّ الخطاب العربي -بشكل عام- مؤيدًا للقضية الفلسطينية وداعمًا لخيارات الشعب الفلسطيني، إلا أن هناك تباين في درجات التأييد، وكذا في لهجة البيان.
مواقف ضبابية
حاول البيانُ الصادر عن وزارة الخارجية المصرية، أن يتعامل بحيادية تامة ولم يُبْدِ أي ميل نحو أي طرف من الأطراف، بل إن الخطاب كان موجهًا في لهجته وصيغته لكلا الشعبين -الفلسطيني والإسرائيلي- سواءً بسواء. فالبيان لم يؤيد صراحةً بنود الخطة الأمريكية، وفي ذات الوقت لم يُظهر امتعاضًا منها. لم يصرح البيانُ كذلك بحق الفلسطينيين في استرداد أرضهم المحتلة، أو -على الأقل- العودة إلى الحدود المتفق عليها دوليًا عام 1967.
من المفارقة أن البيانَ المصريَّ كان الأقربَ من حيث الشكل والمضمون إلى بيان دولتي الإمارات والبحرين اللتين حضرتا مؤتمر الإعلان عن بنود الخطة الأمريكية في إشارة واضحة إلى تأييد هاتين الدولتين -بالإضافة إلى عمان- للمبادرة الأمريكية.
يبدو أن النظام المصري يحاول مَوضعة نفسه كوسيط -لا طرف- بين الجانبين المتصارعين.
من الواضح كذلك أن هناك تقارب بين الرؤيتين الأمريكية والمصرية حول معظم بنود المبادرة، يُذكر أن عبدالفتاح السيسي كان أولَ الشخصيات الرسمية التي تذكر كلمة “صفقة القرن” وأعلن تأييده لها مبكرًا في عام 2017 قبل التراجع مؤخرًا عن معرفته بهذا المصطلح. بالجمع بين البيان المصري “المحايد” وتأييد السيسي المبكر لهذه الصفقة، يبدو أنه لا مشكلة عند النظام المصري في القبول ببنود هذه الخطة، التي وُصِفت بأنها مُجحفة لحق الشعب الفلسطيني.
وجدير بالذكر أن الموقف المصري تبدل في الاجتماع الوزاري لجامعة الدول العربية، وعاد البيانُ المصري إلى إجماع الدول العربية بضرورة التمسك بقرارات الشرعية الدولية لإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس.
بالرغم من أن المملكة العربية السعودية أظهرت ميلًا نحو القضية الفلسطينية، ولم تتعامل بحيادية -كما البيان المصري-، فقد ذكرت في بيانها موقفها الدائم عبر التاريخ بمناصرة الشعب الفلسطيني ودعم خياراته في كافة المحافل الدولية، كما ذكرت تأييدها لأي عملية سلام تؤدي إلى اتفاق يحقق مصلحة “الشعب الفلسطيني الشقيق”.
إلا أنها لم تعترض على بنود الخطة الأمريكية التي تقضي بجعل القدس عاصمة لإسرائيل، بل ثمنت المساعي الأمريكية في تحقيق السلام. فلم يذكر البيانُ حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة محررة من كل احتلال، بل إنها لم تذكر -حتى- حقه في الحدود المتفق عليها دوليًا.
وهذا ما يفتح الباب واسعًا للتكهن حول حقيقة الموقف السعودي على الأرض، خصوصًا أن السعودية كانت مشاركةً في مؤتمر البحرين للسلام الاقتصادي برعاية مستشار الرئيس الأمريكي وصهره جاريد كوشنر في يونيو/ حزيران 2019، والذي يعد بمثابة خطوة أولى لتمرير ما يسمى بـ “صفقة القرن”.
يبدو جليًّا التشابه -لا التماثل- بين مضمون بيانات المحور الثلاثي (مصر-السعودية-الإمارات)، إضافة إلى رابعهم البحرين، فجميع البيانات لم تطالب بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة على حدود عام 1967، وفقًا للمقررات الدولية وقرارات مجلس الأمن. وجميعهم كذلك ثمنوا الدور الأمريكي الساعي لإحلال السلام في المنطقة، حسب قولهم.
في شكل أقل ضبابية من الدول السابقة، جاء البيان القطري والكويتي، فبالرغم من توافق البيانين مع البيانات السابقة في تثمين الدور الأمريكي في المنطقة وعدم الاعتراض صراحةً على بنود المبادرة الأمريكية. إلا أن كلا البيانين اشترطا الالتزامَ بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 67 في أي مبادرة سلام لدعمها. البيان الكويتي كان أكثرَ صراحة من البيان القطري في دعمه للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني. والجدير بالذكر أن قطر -أيضًا- كانت مشاركةً في مؤتمر كوشنر الاقتصادي في البحرين.
يبدو أن الدول الخليجيةَ -جميعَها- باختلاف توجهاتها تجنبت انتقاد الخطة الأمريكية، بل إنهم -مع اختلافهم- يتشاركون جميعًا في العلاقات المتقاربة مع إدارة الرئيس الأمريكي ترامب. جميعهم ،بالإضافة إلى مصر، ثَمَّنوا المساعي الأمريكية في المنطقة، وكذلك شاركوا -جميعًا- في مؤتمر كوشنر. تلك المقدمات عزت بالكثير من المراقبين إلى الافتراض بأن ترامب كان يقصد هذه الدول حين ذكر أن بعض دول الجوار ستدعم الدولة الفلسطينية الناشئة بـ 50 مليار دولار.
دعم القضية الفلسطينية
على النقيض مما سبق، تجاهلت بقية الدول العربية -في بياناتها- الدور الأمريكي في المنطقة، بل إن البعض هاجمها صراحةً. مع اختلاف لهجة البيانات وحِدّتها، إلا آن جميع البيانات الأخرى أبدت ميلًا كاملًا نحو القضية الفلسطينية ودعمًا شاملًا لخيارات الشعب الفلسطيني.
بلاد المغرب العربي، خصوصًا تلك البلدان التي لا زال للشعوب فيها صوتًا مسموعًا لدى الحكومات، أظهرت موقفًا قويًا في دعم القضية الفلسطينية. فالبيان التونسي تجاهل بشكل كامل المبادرة الأمريكية، ولم يذكرها صراحةً لا بخير ولا بِشَرّ. إلا أن الجزائر انتقدت المبادرة بشكل واضح، واصفةً إياها بأنها “موجهة ضد الفلسطينيين”.
اتفق البيانان (التونسي والجزائري) على أن السلام العادل والشامل يمر عبر الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني كاملة، وأن هذه الحقوقَ غيرُ قابلة للتصرف ولا للتجزئة، وأن السلام مبني على أساس الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة.
لم تتجاهل الجزائرُ الكيانَ الصهيوني كما فعلت تونس، بل إن البيان الجزائري نعته بـ “الاحتلال”. يبدو أن بيان الحكومتين مُتّسقٌ مع موقف شعبيهما الداعم للقضية الفلسطينية والرافض للتطبيع بكل أشكاله وصوره. وبالمناسبة، فموقف الشعوب العربية -جميعها- مماثلٌ لموقف الشعبين -التونسي والجزائري-، إلا أن بُعدَ الشعوب عن مراكز اتخاذ القرار وعدم تأثيرها -بالشكل الكافي- في سياسات معظم الحكومات العربية يجعل الفجوة شاسعةً بين مواقف الشعوب وقرارات الحكومات.
سار البيان الأردني على نفس النسق الداعم للقضية الفلسطينية ولحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
انتقد البيان -ضمنيًا- بنود الخطة الأمريكية، حيث حذر وزير الخارجية، أيمن الصفدي، من التبعات الخطيرة للتصرفات الأحادية الاسرائيلية التي تستاهدف فرض حقائق جديدة على الأرض، مثل “ضم الأراضي وتوسعة المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المقدسة، وانتهاك المقدسات في القدس”، وهذه الأعمال الواردة في البيان هي البنود الأولية المذكورة في بنود الخطة الأمريكية. كما أكد البيان على دور الملك عبدالله الثاني في الحفاظ على المقدسات الدينية في القدس، بصفته وصيًا على المقدسات.
يظهر جليًا أن الأردن تحاول الحفاظ على موقفها ودورها الدائم والداعم للشعب الفلسطيني وخياراته وحقوقه، بالرغم مما يفرض عليها من ضغوطات من قبل الإدارة الأمريكية للقبول ببنود الصفقة.
كذلك بقي العداء التاريخي بين النظام السوري والكيان المحتل، صرح بيان النظام بدعم كل خيارات الشعب الفلسطيني في كفاحه ومقاومته ضد “الاحتلال”، كما ذكر البيان أن “صفقة القرن” ماهي إلا وصفة للاستسلام لكيان “الاحتلال الاسرائيلي الغاصب”.
جاء الموقف اللبناني واضحًا على كافة المستويات الرسمية، فقد توافقت بيانات رئاسة الجمهورية مع مجلسي الوزراء والنواب في الدعم الصريح لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف. كما حرصت البيانات على التأكيد على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، نظرًا لأهمية هذه القضية في الداخل اللبناني.
لا شك أن الموقف اللبناني المناهض للخطة الأمريكية له دوافعه وجذوره المتشعبة، فالعدوان الاسرائيلي على لبنان عام 2006 لا زال حاضرًا في الوجدان اللبناني، إضافة إلى التأثير الإيراني المباشر وغير المباشر في السياسة اللبنانية عن طريق حزب الله.
كما أنه لا يخفى أن هذه الصفقة مؤثرة بشكل كبير على الداخل اللبناني -خصوصًا فيما يتعلق ببند إلغاء حق عودة اللاجئين-، فمعلوم أن قضية اللاجئين الفلسطينيين كانت ولا زالت عاملًا حساسًا وموضوعًا متفجرًا منذ عقود في الداخل اللبناني.
كذلك جاء الموقف العراقي والصومالي والموريتاني داعمًا للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة كاملة، وصمتت السودان بشكل كامل عن ذكر موقفها بخصوص صفقة القرن، فالنظام السوداني السابق بقيادة البشير كان معروفًا بدعمه الكامل للقضية الفلسطينية وقطعه لكافة العلاقات مع الكيان المحتل. إلا أن هذا الصمت يدلل على صحة الأنباء الواردة بحرب مراكز القوى في السودان وتجاذب الولاءات.
الهيئات العربية والإسلامية
الجامعة العربية:
جاء الموقف المبدئي للجامعة العربية واضحًا ومؤكدًا أن الموقف الفلسطيني هو الفيصل في تشكيل الموقف العربي الجماعي من خطة السلام الأمريكية، وذلك وفق ما جاء في تصريح أحمد أبو الغيط، الأمين العام لجامعة الدول العربية في 29/1/2020.
وفي تأكيد على موقف الجامعة العربية من الكيان الصهيوني، أكد أبو الغيط أن السلام لا يمكن تحقيقه بتجاهل حقيقة “الاحتلال الاسرائيلي” للأراضي الفلسطينية، أو بالعمل على شرعنة هذا “الاحتلال”.
وانتقد تصريح أبو الغيط -بشكل ضمني- الخطة الأمريكية، حيث ذكر أنها رؤية أمريكية غير ملزمة لنا، وأن تحقيق السلام مرهون بإرادة الطرفين، وليس بإرادة طرف دون آخر.
وأكدت الجامعة العربية على موقفها عقب اجتماعها الوزاري الطارئ يوم السبت 1 فبراير/ شباط لعام 2020، بل كان بيانها الختامي أشد لهجة من تصريح الأمين العام. حيث رفضت الجامعةُ رفضًا قاطعًا التعاطي مع الصفقة الأمريكية بأي حال من الأحوال. وأكدت الجامعةُ مرارًا وتكرارًا على موقفها تجاه إسرائيل، فهي تصفه بكيان الاحتلال الاسرائيلي، ونعتته مراتٍ عديدة في البيان بأنه “القوة القائمة بالاحتلال”.
أكد البيانُ أن الدول العربية لن تتعاطى مع أي مبادرة لا تحقق الحد الأدنى الذي اتفقت عليه الدول العربية عام 2002، والذي يقضي بقيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الحدود التي احتلتها إسرائيل عام 67، بما فيها القدس الشرقية، ومجالها الجوي والبحري، ومياهها الإقليمية، ومواردها الطبيعية.
منظمة التعاون الإسلامي:
وفي تأكيد للبعد الإسلامي للقضية الفلسطينية، وأنها ليست قضية تخص فلسطين وحدها، أو الوطن العربي وحده، أكدت العديد من الهيئات الإسلامية رفضها لما يسمى بـ “صفقة القرن”. أكدت منظمة التعاون الأسلامي، ثاني أكبر منظمة حكومية دولية بعد الأمم المتحدة، وتضم 57 دولة، دعمها الكامل للقضية الفلسطينية، وأن القدس جزء لا يتجزأ من الأرض الفلسطينية.
دار الإفتاء المصرية:
لم تصدر دارُ الإفتاء بيانًا واضحًا بخصوص صفقة القرن. إلا أنها نشرت على صفحتها على الفيسبوك كلامًا مقتضبًا عامًا من غير تخصيص مفاده أن القدس والمسجد الأقصى هويتهما عربية إسلامية، وستبقى كما هي عربية إسلامية إلى يوم الدين. ولم يذكر المنشور -لا تصريحًا ولا تلميحًا- أي شيء بخصوص موقف دار الإفتاء من صفقة القرن.
الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين:
في تأكيد على الهوية الإسلامية للقدس، وتأكيدًا لدور العلماء في المحافظة على الهويات الإسلامية، كان الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أول من أصدر بيانًا يحدد فيه موقفه من صفقة القرن ويستحث فيه جموع الأمة للعمل على إسقاطها.
أكد البيان استنكاره الشديد لصفقة القرن، ذاكرًا أن مصيرها إلى مزبلة التاريخ. يستحث البيانُ الأفرادَ والمجتمعات والمؤسسات الوطنية والدولية إلى القيام بواجبهم لمناهضة هذه الحرب الاستئصالية التي تستهدف تصفية القضية الفلسطينية والاعتراف بإسرائيل.
رابطة العالم الإسلامي:
في صمت غريب غير معهود في حدث مهم كهذا، لم تنطق الرابطة بأي شيء حيال صفقة القرن، ويكأن الأمر لا يعنيها، مع أنها قد أدانت التدخل التركي في ليبيا منذ أقل من 3 أسابيع.
الخلاصة
لا زال الخطاب الجمعي العربي مناصرًا للقضية الفلسطينية ومناهضًا للمبادرة الأمريكية بالرغم من وجود بعض الخلاف للإجماع العربي من بعض الدول، خصوصًا في منطقة الخليج.
ومن الملاحظ أن مستوى الحرية والديمقراطية يتناسب طرديًا مع مناصرة الحكومات للقضية الفلسطينية. وتظل البياناتُ بياناتٍ ما لم تترجم إلى إجراءات عملية واقعية على الأرض. وهذا ما سنراه في قادم الأيام.