أسس الشيخ محمد بن عبد الوهاب لفكر ديني ذي طابع سياسي، وتحالف مع آل سعود حكام الدرعية، بموجب “اتفاق الدرعية” بين الشيخ ومحمد بن سعود حاكم الدرعية وقتها، والذي ربط فيه الحفاظ على شرعية حكم آل سعود بحفظهم للتوحيد، حيث جاء فيه قول الشيخ لابن سعود: “وهذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم، فمن تمسك بها، وعمل بها ونصرها، ملك بها البلاد والعباد“، كما توافق طرفي الاتفاق على أن يكون “الحكم لابن سعود وذريته، وتكون المشيخة والتوجيه الديني للشيخ محمد وذريته من بعده”.
دخلت الحركة الوهابية في صراع مع العثمانيين حكام بلاد الحجاز وقتها، انتهي بهزيمة الوهابيين وحلفائهم من آل سعود في معركة الدرعية سنة 1818م، خفت بعدها نجم الوهابية لمدة قرن من الزمان تقريبا، حتى قام الملك عبد العزيز آل سعود سنة 1911م بإعادة الإحياء العسكري للحركة، تحت مسمي حركة (إخوان من أطاع الله)، متخذا من نشر الدعوة الوهابية ركيزة أساسية وسببا للصراع من أجل توحيد أراضي الجزيرة العربية تحت زعامته، واستطاع من خلالها تأسيس المملكة السعودية، والتي استمرت في تبني الأيديولوجيا الوهابية منذ قيامها سنة 1932م، واتخذ الملك عبد العزيز آل سعود لقب الإمام، وكان ذلك بالنسبة للوهابيين زعامته لجميع الموحدين المناهضين للمشركين من مسلمي البلدان الأخرى.
ما لبث عبد العزيز أن قضى على حركة (إخوان من أطاع الله) بمساعدة بريطانيا في موقعة السبلة عام 1929م، وأسس لفكر وهابي جديد نزع منه كل ما يتعلق بالسياسة والحكم، صممه ليكون حائط صد عن نظامه الناشئ ضد أي منازع سياسي محتمل، عن طريق تصوير الجانب الاجتماعي من الشريعة على أنها مسلك الأنبياء ومنهجهم، وتصوير الجانب السياسي والمشاركة السياسية على أنها طريق الفتنة والشر وغضب الرب.
وبذلك عملت المملكة الناشئة على قطع جذور الإحياء السياسي الوهابي مرة أخرى، وفي نفس الوقت استفادت من السلطان الديني للحركة، مستنبتة لشكل مختلف من الوهابية، تضخمت فيه وصاية الدولة على الدين، وتبني التوحيد في صورته الاجتماعية، في مقابل بتر التوحيد في صورته السياسية، إلا حين يكون ثمة حاجة لتنزيلها في موضع معين، أو في ظروف تخدم النظام السياسي على وجه الخصوص.
يكثر أن تجد في المملكة والجماعات المتأثرة بها، منكرون يشددون الإنكار على شاب أو فتاة خالفوا بعض تعليمات الدين المختلف فيها، ولو كانت في أبسط الأحكام، ويندر أن تجدهم ينكرون على آل سعود قتل أطفال اليمن، ولا عملهم لإفساد ثورات الشعوب العربية، وقتلهم وتشريدهم، ولا حتى ينكرون عليهم استيراد الراقصات لتقديم عروضهم في أرض الحجاز، بل تجد من علماءهم من ينبري للدفاع عن الحاكم في أفعاله تلك، وإيجاد مخرج شرعي لفعله!! ولو فعل أقل من ذلك بكثير رجل من عامة الناس لطبقوا عليه شتى العقوبات؛ فصار العرف بين الحاكم والشعب (لا يسأل عما يفعل، وهم يسألون).
الملك سلمان ورؤية 2030:
تميزت فترة الملك سلمان وولي عهده محمد بن سلمان، بالإعلان عن القيام بإصلاحات اقتصادية واجتماعية في المملكة، ضمن ما أُطلق عليه رؤية 2030، وظهر أن أول هذه الإصلاحات الاجتماعية كان التخلي عن الطابع الاجتماعي الديني للمملكة، بالمخالفة لما تأسست عليه الدولة السعودية أو “اتفاق الدرعية”، فبدأت بإعطاء تراخيص وفتح دور السينما في المملكة، وإقامة الحفلات الغنائية، وإذاعة الأغاني في التليفزيون السعودي في سابقة لم تحدث في المملكة منذ 35 عام، بل وإنشاء هيئة خاصة تابعة للدولة لإقامة الحفلات الغنائية والعروض الاستعراضية، والألعاب الرياضية، وغيرها، تحت بند تنشيط السياحة.
ويبدو أن ولي العهد في توجهه الجديد لم ينس أن الدولة السعودية قامت على أن الحكم لآل سعود والتوجيه والإرشاد لآل الشيخ، فاختار للقيام بمهمة التغيير الأيديولوجي للمملكة بعيدا عن الدين، أحد أفراد آل الشيخ، وصار لهم التوجيه أيضا، لكن هذه المرة نحو الحفلات الغنائية والديسكو الحلال واستيراد الخمور العالمية، وذلك بعد تجميد عمل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الإصلاح الاقتصادي على الطريقة السعودية:
إذا نظرنا بشكل خاطف لتاريخ الشعوب المتقدمة في الأميركتين وأوروبا؛ سنجدها وقد اعتمد تقدمها على الصناعات الإنتاجية، وخاصة الثقيلة منها، وتحقيق فائض في الإنتاج الزراعي، وفي آسيا اعتمدت اليابان أواسط القرن الماضي في نهضتها على التعليم، ونقل التكنولوجيا من أوروبا، ثم التوسع في الصناعة، وكذلك اعتمدت الصين على نسخ التكنولوجيا الغربية، والتوسع في الصناعات المختلفة، واعتمدت ماليزيا على نقل التكنولوجيا من خلال اتفاقيات نقل تكنولوجيا خطوط الإنتاج، حتى استطاعت تصنيع سيارة كاملة محلية الصنع؛ ومن ثم استطاعت هذه الشعوب الاكتفاء التام من حاجاتها الأساسية، ثم تحقيق فائض يمكنها من المنافسة في سوق التجارة العالمية.
أما بالنسبة للمملكة السعودية، فقد اعتمدت أولا في طريقها للنهضة على فكرة جديدة مبتكرة، مفادها نقل “تكنولوجيا الترفيه” واستيراد أدواتها من الراقصين والراقصات من كل أنحاء العالم، والديسكو وآلاته الصاخبة، والخمور المصنعة عالميا، لتوسيع صناعة السياحة، وذلك في بلد يستورد كل شيء تقريبا، ولا يوجد عنده بنية صناعية لتغطية حاجاته الأساسية، ولم يستطع بمفرده طيلة هذه السنوات استخراج البترول من أرضه أو تكريره، أو حتى امتلاك تكنولوجيا اللازمة، مع أنه ثاني أكبر منتج للبترول في العالم.
هيئة الترفيه وتدنيس الرموز الدينية:
ومع اعتبار المملكة القبلة الأولى للسياحة الدينية للمسلمين، لما تتميز به من وجود المشاهد الدينية في مكة والمدينة، وغيرها، فكان من البديهي أن تقوم الفكرة الجديدة على تطوير ما هو قائم من السياحة الدينية، والتي لا ينافسها فيها أحد، ولكن اقتضت حكمة ولي الأمر تطوير السياحة في الاتجاه المضاد.
أقامت هيئة الترفيه منذ إنشائها الحفلات الغنائية الصاخبة، وعروض المصارعة النسائية، وقامت بجلب مشاهير المغنين والراقصين والموسيقيين العرب والأجانب من خارج المملكة، وتسهيل التأشيرات لراغبي حضور هذه الحفلات، وما استتبع هذا من لوازم كاستيراد الخمور، حيث كان آخرها الإعلان عن منظمة “مختلف” السعودية لحماية حقوق الشواذ والمتحولين جنسيا، وفي تحدى صارخ لمكانة أرض الجزيرة العربية الدينية، ومخالفة واضحة لتوجهات المملكة التي عليها نشأت.
وبالطبع السياحة الجديدة تحتاج لمشاهد وأماكن سياحية أثرية يتوجه السياح لزيارتها، ومن هنا لم تسلم مدينة الدرعية، مهد الدولة السعودية، وموطن الدعوة الوهابية الأول من إقامة الحفلات الغنائية وعروض الرقص، في تعرض مباشر لرمزية الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وتحويل مركز دعوته لمزار سياحي تاريخي، يقصده الناس للرقص والغناء واللهو، وربما لشرب الخمر الحلال، كما لم تسلم من ذلك مكة المكرمة ولا مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. في إشارة واضحة لهدم رمزية الأماكن المقدسة.
والمستغرب أن الهيئة حققت أهدافها سريعا، حيث لاقت حفلاتها رواجا شديدا بين سكان المملكة، إذ نشرت الهيئة على موقعها الرسمي حضور 5.6 مليون شخص لعروضها وحفلاتها المختلفة، ولك أن تتصور أن الإحصاءات الرسمية تقدر عدد سكان المملكة الكلي بنحو 33.4 مليون نسمة، حيث يبلغ عدد السعوديين منهم نحو 21 مليون نسمة، بمعنى أن حفلات الهيئة حضرها ما يساوي ربع السكان الأصليين!! مما يشير عن تفشي عدم الرضا عن سياسات المملكة السابقة في حوالي 25% من السكان.
ولكن يزول هذا الاستغراب سريعا، إذا عرفت أن هيئة كبار العلماء، بقيادة علماء ومشايخ آل الشيخ صامتة، مفسحة الطريق للنسخة الجديدة المتمثلة في “تركي آل الشيخ”، بل تثبت على موقعها الرسمي تأييدها المفتوح لولي الأمر قائلة “المملكة العربية السعودية تأسست على الكتاب والسنة، ونحن مع ولاة أمرنا في كل ما يرونه مصلحة للبلاد والعباد، وهذا مقتضى البيعة الشرعية”.