المشهد الليبي.. ومستقبل الأحداث
أحمد عاطف
مطلع شهر يونيو/ حزيران 2020، أعلنت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا عن اتفاق بين حكومة الوفاق الشرعية وخليفة حفتر قائد الملشيات المسلحة -التي تنازع الحكومة الشرعية، السلطة هناك- على استئناف محادثات هدنة لإطلاق النار[1]، هذه المباحثات -حال إجراءها- ستكون هي الثالثة هذا العام بعد مباحثتين لم يُكتَب لهما النجاح وأُجريتا في موسكو وبرلين، في يناير/ كانون الثاني 2020.
تأتي هذه المباحثات بعد أكثر من عام على الحملة العسكرية التي أطلقها الجنرال الليبي المنقلب، خليفة حفتر، مستهدفًا السيطرة على العاصمة الليبية، طرابلس، والإطاحة بحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًّا برئاسة فايز السراج. وتأتي كذلك بعد شهور متعددة تصاعدت فيها التوترات في ليبيا وانقلبت فيها الكفة جزئيًّا لصالح حكومة الوفاق الوطني بعد دعم تركي جاء إثر عقد اتفاق بين الحكومتين، التركية والوفاق، نهاية العام الماضي.
أتت هذه المباحثات بالتزامن مع مبادرة وقف إطلاق نار، أطلقها نظام عبدالفتاح السيسي من جانب واحد. بيد أن هذه المبادرةَ لم تسفر عن شيء ولم تأبه لها حكومة الوفاق الشرعية في ليبيا، منذ يومها الأول، حيث إنها افتقدت لأبسط معايير المبادرة، فقد دُعي لها طرفٌ دون طرف، وطولِب فيها من طرف أن يستسلم كُلّيًا لطرف آخر دون أي حساب لموازين القوى.
يبقى المتغيران الأبرزان في الأشهر الأخيرة على الساحة الليبية هو التقدم الذي تحرزه حكومة الوفاق بدعم تركي على قوات المنقلب حفتر، وهو ما حدا بقوات حفتر أن تطلب هدنة نهاية شهر إبريل/ نيسان الماضي[2]، ونظرًا لقوة الوفاق ورغبتها في استمرار انتصاراتها، رفضت الوفاقُ الهدنةَ وأعلنت مواصلةَ القتال[3]. علاوة على التداخل المصري العلني المباشر مع الأحداث في ليبيا، وموافقة البرلمان المصري على مقترح إرسال وحدات من الجيش إلى الحدود الغربية ناحية ليبيا.
إلا أنه ومع ذلك، فلا زال الواقع يقول أن أيًّا من الطرفين في ليبيا غيرُ قادرٍ على حسم الصراع عسكريًّا.
ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه منذ نحو عقد من الصراع، هل ستسفر هذه المباحثات والجهود الأممية عن جديد في الأزمة الليبية؟
في السطور القادمة.. يحاول التقدير عرضَ وتحليلَ مواقفِ ومصالحِ الجهات الفاعلة الرئيسية -الداخلية والخارجية- في الأزمة الليبية عقب المستجدات الأخيرة، في محاولة منه لرفع واقع هذه الفواعل على الأرض، وأملًا في الوصول إلى استشراف أكثر واقعية لمستقبل الصراع الليبي.
التقسيم الجغرافي للأرض الليبية
تجدر الإشارة في بادئ الأمر إلى أن الأرضَ الليبية مقَسَّمةٌ -من حيث الحكم والسيطرة- إلى 3 أقاليم، شرق وغرب وجنوب. فالشرق يحكمه قائد ما يسمى بالجيش الليبي، المنقلب خليفة حفتر، مُستترًا خلف حكومة مدنية وبقايا مجلس نواب، وكان يتخذهما واجهة مدنية له، قبل أن يتجاهلهما وينقلب عليهما في نهاية إبريل/ نيسان 2020، ومُنَصِّبًا نفسه حاكمًا للبلاد[4]، وتبلغ المساحة التي يسيطر عليها حفتر نحو ثلث مساحة الأرض الليبية.
والغرب -وتحديدًا الشمال الغربي- بيد حكومة الوفاق الوطني، ومعها عشرات المجموعات المسلحة المتحالفة معها، مُستمدةً شرعيتَها من اعتراف الأمم المتحدة بالحكومة وبمخرجات الاتفاق السياسي الليبي (اتفاق الصخيرات 2015)[5].
ويتبقى الجنوبُ بلا حكومة أو جهة محددة، فهو تحت سيطرة مجموعات مسلحة لا توالي حكومة الشرق أو الغرب، وقد تقترب من الشرق أحيانًا، وتبتعد أحايين أخرى.
المجتمع الدولي في ليبيا
من حيث الاعتراف الدولي، فهو قائمٌ من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وجميع المنظمات والهيئات الدولية لصالح حكومة الوفاق الوطني، برئاسة فايز السراج، إلا أنه يمكن القول أن هذا الاعترافَ لم يتخطَّ كونه اعترافًا دبلوماسيًّا، بيد أن هذا الاعترافَ لم يُترجم إلى دعم دولي حقيقي لصالح الحكومة. فالموقف الفعلي -واقعيًّا على الأرض- للمجتمع الدولي، أعلنه الحياد. ويصل في بعض الأوقات إلى الإجحاف بحق الوفاق.
يمكن القول أن الموقفَ الدبلوماسيَّ الرسميَّ للمجتمع الدولي موقفٌ يبدو واضحًا منذ بداية الأزمة لصالح حكومة الوفاق، إلا أنه على الرغم من هذا الاعتراف الدبلوماسي من قبل الهيئات الدولية الكبرى مثل الأمم المتحدة، إلا أن عددًا من الحكومات لم تقف نفس الموقف، فكل حكومة اتخذت من المواقف ما ترتئيه متوافقًا مع مصالحها ومتماشيًا مع سياساتها واستراتيجياتها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تدعم إيطاليا حكومةَ السراج نظرًا لأن معظمَ شركاتها ومصالحها -أبرزها شركة إيني الإيطالية للنفط- مرتبطةٌ بالغرب الليبي الذي تنشط فيه الجموعات الداعمة لحكومة الوفاق[6]، بينما فرنسا على الطرف النقيض، فمعظم مصالحها في ليبيا مرتبطة بالهلال النفطي الذي تسيطر عليه قوات الشرق، وهو ما تُرجِم بشكل واضح في اسثمارات ضخمة تقوم بها شركة “توتال” الفرنسية للنفط في الحقول الليبية[7]، وهو ما قد يُعزَى إليه الدعم الفرنسي لحفتر. يحدث ذلك بينما الطرفان هما من أبرز أقطاب الاتحاد الأوروبي الذي يدعم -دبلوماسيًّا- حكومةَ الوفاق.
وبناء عليه، لا حرجَ من القول أن المجتمعَ الدوليَّ -إجمالًا- ليس له موقف “فعلي” واضح من طرفي الأزمة الليبية، وأن كلَّ طرف له موقفه على حدة، وينبغي استصحاب تأثير وحماس كل طرف للفعل على الأرض حين الحديث عن المستقبل الليبي.
الدول الفاعلة على الأرض الليبية حتى الآن..
في ظل هذا التخبط الذي يحيط بموقف المجتمع الدولي، حاولت بعضُ الدول ذات السياسات الجريئة استغلالَ هذا التخبط وتثبيتَ أقدامها على الأرض الليبية. على رأس هذه الدول تأتي روسيا وتركيا، ومن ورائهم مصر والإمارات وقطر. ويُعزى لهذه الدول معظم التدخلات الفعلية الواقعية في أرض المعركة، سواء كان التدخلُ في صورة دعم عسكري أو بشري أو مالي.
تركيا وقطر
تقف تركيا، ومعها قطر، في صف حكومة الوفاق، يأتي هذا الدعمُ مرتبطًا باعتبارات عديدة، أول هذه الاعتبارات يمكن القول عنه أنه اعتبار “قِيَميّ أو مبادئي”، فالمعسكر الذي يتمترس فيه الطرفان منذ قيام ثورات الربيع العربي هو الطرف المحسوب على ثورات الربيع العربي والمنبثقة عنها من تيارات وحركات، وهو ما تتمثله حركة الوفاق والتيارات الداعمة لها.
إضافة للبعد القيمي، فإن العديدَ من المصالح السياسية والاقتصادية تجنيها تركيا وتعزز من دوافع تدخلها في ليبيا ودعمها للوفاق. فاتفاق ترسيم الحدود البحرية بين تركيا والوفاق هو تعبير عن وجهة النظر التركية لقانون البحار الذي ترى تركيا أنه يمثل ضررًا على مصالحها الجيوسياسية في البحر المتوسط، فقانون البحار يقضي أن المياهَ الإقليمية للدولة يُحسب من أعلى نقطة في شاطئ الدولة، إضافة إلى أنه حال وجود جزر فإن المياهَ تُحسَب من بعدِ أبعد جزيرة، وبما أن تركيا دولةٌ محاطةٌ بالجزر التابعة للدول المحيطة بها (أبرزها جزيرة قبرص)، فإنها ترى أن هذا القانون يضر بمصالحها، ويفيد الدول الأخرى. لذلك، فإن إعادةَ ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا يصب في النهاية في صالح تركيا.
وتكمن أهمية ليبيا وشرق المتوسط بالنسبة لتركيا، في أن هذه المنطقة مليئة بالغاز الطبيعي، ومن البديهي أن تمثل مصادر الطاقة أهميةً قصوى لدى دولة إنتاجية مثل تركيا، وهي في ذات الوقت تعد مستود صاف للطاقة، حيث إنها تستورد نحو 90% من احتياجاتها من الطاقة.
جدير بالذكر أن نحو 40-45% من واردات الطاقة لتركيا، تأتي من روسيا وحدها، وهو ما سيمثل بعدًا آخر للصراع في ليبيا بين روسيا وتركيا، فتركيا تريد تنويع مصادر حصولها على الطاقة، حتى لا تظل حبيسةَ نفوذ دولة بعينها، وهو ما قد يمثل تخوفًا لدى الحكومة الروسية، حيث إن حصولَ تركيا على ما تريد من شرق المتوسط، سيقلل بلا شك من الاعتماد التركي على الغاز الروسي، علاوةً على أن تركيا تستهدف أن تكون محطةً رئيسيةً تتجمع فيها الطاقة، وتُنقل إلى أوروبا من خلالها، وهو ما سيضر بلا شك -حال حدوثه- بالمصالح السياسية والاقتصادية لروسيا.
كما أن إحكامَ السيطرة أو بسطَ النفوذ في شرق المتوسط يمثل تعزيزًا هامًّا في طريق الاستراتيجية التركية التي تحاول موضعةَ نفسها كقوة إقليمية كبرى، ويكمن تعزيز النفوذ هنا في كون ليبيا بوابة للشمال الإفريقي الغني، وتعد إفريقيا هدفًا للسياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة. علاوة على أن ليبيا تعد كذلك إحدى النوافذ المهمة المطلة على أوروبا، وحال تحقيق تركيا لنفوذ فيها، فإن ذلك قد يمثل سلاحَ ضغطٍ في يوم من الأيام قد تستخدمه تركيا مع دول الاتحاد الأوروبي، سواء عن طريق التلويح بأزمة لاجئين كما فعلت في جانب من جوانب الأزمة السورية، أو عن طريق الضغط بمصادر الطاقة التي تذهب لأوروبا عن طريق ليبيا.
روسيا والإمارات ومصر.
على الجانب الآخر تقف روسيا والإمارات ومصر، يدعمون المتمرد حفتر في حملته العسكرية للسيطرة على الأرض الليبية، ويجمعهم في ذلك قضية مشتركة، قضية “الإسلام السياسي”. فالإمارات ترى أن أيَّ مشروع مرتبط بما يسمى تيارات “الإسلام السياسي” هو تهديد لاستراتيجياتها ونفوذها الإقليمي في الشرق الأوسط، وقد دأبت الإمارات العربية على محاصرة ومهاجمة أيٍّ مرتبط بهذه التيارات، وتحديدًا عقب ثورات الربيع العربي. وعلى نفس النهج تسير مصر عقب الإطاحة بالرئيس المنتخب، محمد مرسي، في يوليو/ تموز 2013. كما أن الروسَ يرون أنهم قد لُدغوا من “الجماعات الإسلامية” قبيل سقوط الاتحاد السوفيتي، فالمقاومة في أفغانستان والشيشان وغيرها من المناطق التي مثلت حجر زاوية مهم ساهم في سقوط الاتحاد السوفيتي فيما بعد، كل هذه المقاومة كانت عن طريق جماعات إسلامية. وعليه، فإن هذه الدول الثلاث تستهدف محاصرة تيارات الإسلام السياسي، وهي تزعم أن هذه التيارات هي المسيطرة على حكومة الوفاق، وبالتالي، فلا يتصور -حال ثبات العوامل الحالية- أن تضع أيُّ دولة من هذه الدول ثقتَها في حكومة الوفاق، والبديل الأمثل لهذه الدول هو حفتر الذي يسوق نفسه دائمًا على أنه يحارب “الإرهاب” و “الجماعات المتطرفة”.
علاوةً على ذلك فإنه لا يجدر إغفال معركة النفوذ الإقليمية القائمة بين تركيا وقطر من جهة، والإمارات ومصر من جهة أخرى، فقد يكون ذلك أحد دوافع ومحددات هذا الصراع في الأرض الليبية.
وبالنسبة لروسيا، فإن تدخلَها في ليبيا قد يعد جزءًا من استراتيجيتها التوسعية “الحذرة” التي تنتهجها السياسة الروسية في السنوات الأخيرة بقيادة بوتين، فالسياسة الروسية تحاول التوسع في مناطق متعددة حول العالم، وخصوصًا في المناطق التي يتلاشى فيها النفوذ الأمريكي، فكما حدث في سوريا، كان التدخلُ رمزيًّا في بداية الأحداث، إلى أن تطور ودخلت روسيا رسميًّا إلى سوريا في 2015، وانتهاء بتعيين مبعوث روسي رسمي في دمشق نهاية الشهر مايو 2020[8]، في خطوة شبيهة للانتدابات التي كانت تقوم بها دول الاحتلال الغربية مع الدول العربية أواسط القرن العشرين. وعليه، فإن سياسة بسط النفوذ قد تكون أحد المحددات الرئيسية التي تحدد الموقف الروسي في ليبيا.
يضاف إلى ذلك أن السيطرةَ على ليبيا تساعد الروسَ في ضغط خصومهم الغربيين، حيث إن السيطرة على نافذة أوروبا وإقامة قواعد عسكرية يعني تطويق أوروبا من الجنوب.
وعلى الرغم من أن روسيا تعد من الدول الكبرى في مجال إنتاج الطاقة، إلا أن السيطرة على النفط الليبيّ قد يكون من دوافع التدخل الروسي، نعم، لن يكون النفط الليبي بذاته هدفًا لروسيا، فهي لا تحتاج هذا النفط، إنما تستهدف النفط لزيادة النفوذ على مصادر الطاقة في العالم، وهو ما يظهر في العديد من النشاطات الروسية التي تسعى لشراء حصص في معظم الشركات التي تعمل في مجال الطاقة في الشمال الإفريقي وغيره من الأماكن حول العالم.
وبلا شك، يزعج النفوذُ الروسي المتصاعد في ليبيا الولاياتِ المتحدةَ وحلفاءَها الغربيين، وهو ما ظهر في الآونة الأخيرة من تصريحات بعض المسؤوليين الأمريكيين[9]، بالإضافة إلى الأنباء الواردة عن العزم الأمريكي على إرسال “وحدات تدريب” إلى تونس وسط التوترات التي يشهدها الشمال الإفريقي[10]. كما أن النفوذَ التركيَّ ليس مرحبًا به كذلك بدرجة كبيرة في الأوساط الأوروبية. وبالتالي، فالطرفان غير مرحب بوجودهما في ليبيا من قبل الولايات المتحدة وحلفاءها في ليبيا.
تفاعلات خارجية جديدة
خلال الأشهر الأخيرة، وخصوصًا عقب التقدم العسكري الذي حققته حكومة الوفاق الشرعية، بدأت التدخلات الخارجية تتصاعد على الساحة الليبية من جديد. فبعد أن كان التأثير الأكبر بيد روسيا وتركيا، بدأت أطرافٌ دولية وإقليمية أخرى في التعزيز من تواجدها وتأثيرها في المشهد، بغية تثبيت موطئ قدم لها في أي حل قادم للصراع الليبي.
- الولايات المتحدة
فالولايات المتحدة التي كانت قد آثرت الانسحاب تدريجيًّا من المشهد خلال السنوات الأخيرة، بدأت في محاولة العودة واسترداد النفوذ مرة أخرى خلال الأشهر الأخيرة، وذلك عن طريق مد جسور التواصل مع كافة الأطراف الفاعلة في المشهد الليبي، حيث أجرت الولايات المتحدة خلال الشهرين الماضيين اتصالاتٍ مكثفةً عن طريق مؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية مع تركيا وفرنسا ومصر والإمارات، واتصلت كذلك بالحكومة الشرعية وقوات المتمرد حفتر. يأتي الموقف الأمريكي تزامنًا مع تصاعد الدور الروسي في البلاد، مما يعني تزايد النفوذ الروسي في الشرق الأوسط.
هذا بالإضافة إلى تحركات دولية دبلوماسية بدأ الجانب الأمريكي الحضورَ فيها بقوة في مجلس الأمن والأمم المتحدة وغيرهما من الهيئات.
علاوة على التحركات الدبلوماسية والاتصالات المكثفة، تواردت أنباء عن نية أمريكية للتواجد العسكري في بلاد المغرب العربي، حيث ذكر بيان الجيش الأمريكي أنه “مع استمرار روسيا في تأجيج لهيب الصراع الليبي فإن القلق يزداد بشأن الأمن الإقليمي في شمال أفريقيا”[11]، وعليه تدرس الولايات المتحدة إرسال وحدات من الجيش إلى تونس لتكون متواجدة في المنطقة المشتعلة.
فرنسا
فرنسا كذلك بدأت في الاحتكاك العلني العملي في المشهد، فرغم أنها لا تعلن رسميًّا دعمَها للجنرال المتمرد، إلا أنها دائمًا ما تغض الطرفَ عن العمليات التي يقوم بها حفتر، أو الدعم الذي يتلقاه من حلفاءه. تصاعد التراشق الإعلامي خلال شهر يونيو/ حزيران 2020، بين فرنسا وتركيا، حيث انتقدت فرنسا التدخل التركي في ليبيا[12]، واصفةً إياه بأنه “تدخل عدواني”، واتهمت أنقرةَ بإحباط جهود التوصل لهدنة بزعمها أنها تخرق حظر السلاح الذي تفرضه الأمم المتحدة على ليبيا[13].
وردًّا على ذلك، صدر بيان عن وزارة الخارجية التركية، اتهمت فيه باريسَ بتصعيد الأزمة الليبية عن طريق دعم “القرصان” حفتر، مؤكدة أنه “ما يجب أن يكون مدعاة للقلق في حقيقة الأمر هو علاقات فرنسا المبهمة. من غير المقبول أن يتصرف حليفٌ في حلف شمال الأطلسي بهذا الشكل”[14].
وبالرغم من الموقف الفرنسي المناوئ -عمليًّا- لحكومة الوفاق، إلا أنها قد تكون منزعجةً كذلك من الدور الروسي في المشهد الليبي، وخصوصًا بعد سيطرة مرتزقة شركة “فاغنر” الروسية على حقل الشرارة النفطي، والذي تعد شركة “توتال” الفرنسية من أكبر المستثمرين فيه، وهو ما يعد -واقعيًّا- تهديدًا للمصالح الفرنسية، خاصة بعد تبرؤ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من تبعية “فاغنر” للدولة الروسية في اتصاله مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون.
وهو ما أشعر الرئيس الفرنسي بتهديد مصالحه، فأعلن لأول مرة انتقاده لأنشطة “فاغنر” في ليبيا رغم صمته عن نشاطها منذ سنوات، وأعلن كذلك -بعد 14 شهرًا- رفضَه لهجوم حفتر على طرابلس، وهو ما أثار استغراب الحكومة الشرعية، حيث علق وزير الخارجية الليبي، محمد الطاهر سيالة، قائلًا: “ليت كان ذلك قبل 14 شهرا”.
بشكل عام، تصاعد النفوذ الروسي في ليبيا قد يمثل ضغطًا مستقبليًّا على أوروبا، وهو بالتأكيد ما لا ترغب الدول الأوروبية حدوثه، وقد يكون ذلك أحد محددات الصراع في الفترة القادمة.
مصر
بعد أن كان الدعم المصريُّ لحفتر مستترًا غير علني، بدا النظامُ المصريُّ راغبًا في إعلانه في مواجهة التدخل التركي، حيث لَوّح “عبدالفتاح السيسي” بالتدخل العسكري المباشر في ليبيا، مشيرًا أن “سرت” و “الجفرة” -اللتان تبعدان عن الحدود المصرية نحو 1000 كم- خط أحمر، جاء ذلك في خطاب للسيسي أمام قادة القوات المسلحة وبعض مشايخ القبائل والعشائر المصرية والليبية في المنطقة الغربية المتاخمة للحدود الليبية يوم 20 يونيو/ حزيران 2020[15].
حاول السيسي في خطابه أن يبرز ما أسماه “شرعية” التدخل المصري، حيث أكد على أن “البرلمان الليبي المنتخب” هو من يطلب التدخل المصري، في محاولة لشرعنة تدخله “المستقبلي”، في مقابل طلب الحكومة الشرعية التدخلَ التركي طبقًا لاتفاقية مبرَمة بين حكومتي البلدين أواخر العام الماضي.
هذه الخطوة أخذت طابعًا تصعيديًّا خلال الأسابيع القليلة الماضية، فالإعلام المصريُّ بدأ يدقُّ طبولَ الحرب في محاولة للتحشيد والتعبئة الداخلية، علاوة على الماكينة الإعلامية السعودية والإماراتية التي تدفع بكل قوة تجاه إقحام الجيش المصري في ليبيا.
وفي محاولة حقيقية لشرعنة ما أعلن عنه السيسي، أعطى برلمانُ طبرق (الداعم لحفتر) تفويضًا لنظام السيسي وللقوات المسلحة المصرية بالتدخل لحماية الأمن القومي الليبي والمصري المشترك، وبما يضمن دحرَ “المحتل الغازي”، حسب ادعائهم[16].
أعقب ذلك موافقةٌ من البرلمان المصري على إرسال عناصر من القوات المسلحة المصرية في مهام قتالية خارج حدود البلاد “للدفاع عن الأمن القومي المصري في الاتجاه الإستراتيجي الغربي ضد أعمال الميلشيات الإجرامية المسلحة و العناصر الإرهابية الأجنبية إلى حين انتهاء مهمة القوات”، حسب ما نشرته صحيفة الأهرام المصرية[17].
وحول إمكانية التدخل العسكري المصري في ليبيا، من المستبعد أن تغامر مصرُ بدخول حرب شاملة مفتوحة غير معلوم نهايتها، حيث أن الطرفَ المقابل سيكون تركيا، وقد تتدخل الولايات المتحدة أو “الناتو” كذلك، علاوة على أن الحالةَ الاقتصادية المصريةَ لا تسمح لها -نظريًّا- بتحمل تكاليف حرب كهذه[18].
كما أن دخولَ حرب مثل هذه بين جيشين من أقوى 15 جيشًا في العالم، ستكون له تكاليفه الباهظة على البلدبن، وعلى المنطقة بأسرها. وهو ما يدركه الطرفان بلا شك. وقد حدا ذلك بالتصريحات التركية إلى التزام لهجة هادئة تجاه مصر رغم التحشيد الإعلامي الكبير في الأخيرة، في محاولة لتفادي أي صدام بين الطرفين. حيث صرح إبراهيم قالن، المتحدث باسم الرئاسة التركية، أن “تركيا لا تنوي مواجهة مصر أو أي دولة أخرى في ليبيا، ولا نسعى للتصعيد”[19].
من المرجح أن الدعمَ سيكون في المقام الأول منصَبًّا على الدعم اللوجستي والعسكري غير المباشر لقوات حفتر بدعم إماراتي، (مثلما تفعله تركيا مع حكومة الوفاق حتى الآن)، وهو ما قد حدث خلال الأيام الماضية بالفعل، حيث إن الضربات الجوية التي تعرضت لها قاعدة “الوطية” في الغرب الليبي في ساعة مبكرة من صباح يوم الأحد 5 يوليو/ تموز 2020، شنتها طائرات “رافال” تابعة للإمارات، لكنها أقلعت من مطار حباطة العسكري المصري المتاخم للحدود الليبية، طبقًا لما نقلته “العربي الجديد” عن مصادر مصرية خاصة[20].
كما أنه من المتوقع حال تطور الأوضاع أن تقوم القوات الجوية المصرية ببعض الضربات، علاوة على دخول عسكري بري داخل المناطق الليبية المتاخمة للحدود المصرية، بيد أن ذلك سيكون محدودًا على الأرجح. سيكون تدخلًا يضمن دعم ميليشيات حفتر عسكريُّا، وتعزيز النفوذ والتواجد المصري في القضية الليبية، وبما يضمن -في نفس الوقت- عدم التصعيد الكامل المفضي إلى حرب شاملة.
ويبقى التدخل العسكري المباشر والدخول في حرب شاملة مفتوحة خيارًا مستبعدًا.
ومما يدعم هذه الفرضية أن النظام المصريَّ يحاول تصدير بعض القبائل الليبية في المعارك القادمة، فقد التقى عبدالفتاح السيسي مرتين خلال الأسابيع الماضية ببعض مشايخ القبائل في الشرق الليبي، وألمح إلى محاولة تسليحهم وتصديرهم في المعركة، مع دعم وتدريب مصري. بيد أن هذا المسارَ -حال حدوثه- سيُدخل البلاد في نفق أكثر ظلمة وأشد سوادًا.
نظرة إلى المستقبل
بالعودة إلى السؤال الأول حول إمكانية أن تصل هذه المباحثات إلى حل سياسي “نهائي” للأزمة في ليبيا، ففي ضوء ما سبق، يبدو أن الأطرافَ الداخليةَ المتصارعةَ في ليبيا لا تستطيع حسمَ الصراع عسكريًّا، وهي في ذات الوقت لا تريد التنازلَ أو التراجع نظرًا لتوازن القوى الذي يجعل كل طرف غير قادر هزيمة الآخر.
كما أن مصالحَ الأطرافِ الخارجيةِ -المتواجدة فعليًّا أو الراغبة في التواجد خلال الفترة القادمة-تبدو متعارضةً ومتقاطعةً بصورة كبيرة، وليس هناك أي بوادر تنبئ عن اقتناع أيٍّ منها بضرورة حل نهائي للصراع.
قد تسفر المحادثات الحالية عن هدنة مؤقتة سرعان ما تجد أطراف الصراع مبررًا للنكوص على أعقابهم فيها كما حدث في كل الهدنات السابقة، إلا أنها بالتأكيد لن تسفر عن حل نهائي للصراع.
كما أن التداخلات الأخيرة قد تسفر عن توتر عسكري نترقبه في الأسابيع القابلة، بيد أنه سيكون تصاعدًا محدودًا وليس حربًا شاملة، حربًا بالوكالة وقودُها الأطراف الخارجية، وضحاياها هم الليبيون أنفسهم الذين تسعى الأطراف الخارجية إلى تسليحهم وتوريطهم في حرب أهلية لن يجني الليبيون من ورائها إلا شرًّا.
المصادر
[1] رويترز، الأمم المتحدة: الطرفان المتحاربان في ليبيا يتفقان على محادثات هدنة، 2 يونيو/ حزيران 2020.
[2] رويترز، قوات شرق ليبيا تعلن وقف العمليات العسكرية بعد انتكاسات، 30 إبريل/ نيسان 2020.
[3] المصدر السابق، حكومة الوفاق الليبية تقول إنها ستواصل القتال بعد إعلان خصومها عن هدنة، 30 إبريل/ نيسان 2020.
[4] بيان خليفة حفتر، 27 إبريل 2020.
https://www.youtube.com/watch?v=8V-8bW0gHB4
[5] اتفاق الصخيرات (2015) أوالاتفاق السياسي الليبي هو اتفاق شمل أطراف الصراع في ليبيا وتم توقيعه تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة في مدينة الصخيرات في المغرب بتاريخ 17 ديسمبر 2015 بإشراف المبعوث الأممي مارتن كوبلر لإنهاء الحرب الأهلية الليبية الثانية المندلعة منذ 2014، وقد بدأ العمل به من معظم القوى الموافقة عليه في 6 أبريل 2016. وقع على هذا الاتفاق 22 برلمانياً ليبياً على رأسهم صالح محمد المخزوم عن طرف المؤتمر الوطني العام الجديد ومحمد علي شعيب عن طرف مجلس النواب الليبي.
[6] Libya business، يمكن الاطلاع على أرشيف يظهر حجم العلاقات الاقتصادية والصفقات التجارية بين شركة إيني الإيطالية وحكومة الوفاق.
[7] مركز برق للسياسات والاستشارات، دراسة: فرنسا في ليبيا، 11 مارس/ آذار 2020.
[8] وكالة سبوتنيك، بوتين يعين السفير الروسي لدى دمشق مبعوثا خاصا لتطوير العلاقات مع سوريا، 25 مايو/ أيار 2020.
[9] رويترز، أمريكا تحذر من محاولة روسية لإقامة معقل في ليبيا بعد تسليم طائرات حربية، 30 مايو/ أيار 2020.
[10] المصدر السابق، أمريكا تدرس إرسال وحدة “تدريب” لتونس وسط توتر في شمال أفريقيا، 30 مايو/ أيار 2020.
[11] رويترز، أمريكا تدرس إرسال وحدة “تدريب” لتونس وسط توتر في شمال أفريقيا، 30 مايو/ أيار 2020.
[12] المصدر السابق، فرنسا تنتقد التدخل التركي في ليبيا، 15 يونيو/ حزيران 2020.
[13] المصدر السابق، فرنسا تريد إجراء محادثات بشأن موقف تركيا “العدواني” في ليبيا، 15 يونيو/ حزيران 2020.
[14] المصدر السابق، تركيا تتهم فرنسا بتصعيد أزمة ليبيا، 16 يونيو/ حزيران 2020.
[15] قناة TeN TV على موقع يوتيوب، الرئيس السيسي يتفقد عناصر القوات المسلحة بالمنطقة الغربية على الحدود الليبية ” لقاء كامل”، 20 يونيو/ حزيران 2020.
[16] بيان صحفي، الموقع الرسمي للبرلمان الليبي (طبرق)، 13 يوليو/ تموز 2020.
[17] الأهرام المصرية، مجلس النواب يوافق على إرسال عناصر من القوات المسلحة في مهام قتالية خارج البلاد، 20 يوليو/ تموز 2020.
http://gate.ahram.org.eg/News/2441009.aspx
[18] عبدالحافظ الصاوي، هل مصر جاهزة للحرب؟، الجزيرة مباشر، 21 يونيو/ حزيران 2020.
[19] CNN عربي، المتحدث باسم أردوغان: تركيا لا تنوي مواجهة مصر أو أي دولة أخرى في ليبيا.. ولا نسعى للتصعيد، 20 يوليو/ تموز 2020.
[20] العربي الجديد، قصف إماراتي مصري لقاعدة الوطية، 5 يوليو/ تموز 2020.