المحتويات
- مقدمة المحرر
- مدخل
- 3 رؤى حول الصعود الصيني
- صحوة روسيا الأوراسية
- مورفولوجية العالم الإسلامي
- الحزام الإسلامي المتصدع
- بناء المناعة الذاتية
- خلاصات الدراسة ومناقشات حولها
مقدمـــــــــة المحـــــــــرر
يتعرض كثيرون في الأوساط الأكاديمية والبحثية والإعلامية لمسألة التغير في النظام العالمي، وانتقاله من نظام أحادي القطب خاضع للسيطرة الأمريكية، إلى نظام متعدد الأقطاب، تبرز فيه كل من الصين وروسيا، بجانب استمرار الولايات المتحدة كأحد الأقطاب الرئيسية بطبيعة الحال.
وقد استعرض أكاديميون وباحثون هذا التحول من زوايا عدة، منها طبيعته ومداه ومآلاته على القوى الكبرى وغيرها من الدول المتأثرة بهذا التنافس.
وفي هذا الصدد، جاءت دراسة “شروق الشرق وغروب الغرب.. انزياحات القوى الدولية ومصائر العالم الإسلامي“، لأستاذ الشؤون الدولية، محمد المختار الشنقيطي، لتسلط الضوء على تلك التغيرات العالمية، ولتحاول رسم إطار عام يسمح للباحثين والدراسين والمهتمين بفهم طبيعة التطورات الأخيرة التي تطرأ على النظام الدولي وموقع العالم الإسلامي منها.
وما يميز هذه الدراسة بوجه خاص أمران. الأول هو أنها تستعرض أهم النظريات السياسية التي حاولت استشراف مستقبل التنافس بين الصين وروسيا من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخرى. كما أن هذه النظريات جاءت مختلفة التوجهات، فبعض المنظرين الذين أوردت الدراسة آراءهم يعتقدون أن صعود الصين -على وجه الخصوص- لن يكون سلميًا، بينما يرى آخرون أن هناك فرصة لتفادي الصدام العسكري بينها وبين الولايات المتحدة، في حين ذكر آخرون أن صعود بكين حتمي وعلى الغرب تقبله. ومن خلال استعراض الدراسة لمختلف هذه التوجهات وما تستند إليه من دلالات ومؤشرات، يتوفر إطار نظري يمكّن القارئ من فهم التحولات على الساحة الدولية بشكل أعمق.
أما الأمر الثاني الذي تميزت به الدراسة فهو تحديد موضع العالم الإسلامي من هذا الصراع وكيف يمكن أن يتأثر به. وفي هذا السياق، استعرضت الدراسة مورفولوجية العالم الإسلامي والنظريات التي ذُكرت عنها، والتحديات التي نجمت عن وقوع الكتلة الأكبر من العالم الإسلامي، بين شرق العالم وغربه. ثم طرحت الدراسة رؤية لما يجب أن يكون عليه موقف العالم الإسلامي بين شرقٍ وصفته بأنه “متحفز للهيمنة”، وغربٍ “متشبث بمواريثه الاستعمارية”.
ونظرًا لوفرة المعلومات والنظريات التي استعرضتها هذه الدراسة، سواء حول مستقبل صعود الشرق وأفول الغرب أو حول موقع العالم الإسلامي منها، آثرنا في “مركز المسار للدراسات الإنسانية” عرضها وتلخيص أبرز ما جاء فيها، هذا مع طرح بعض التعقيبات التي قد تثرى النقاش حول ما أوردته الدراسة أو تكون مدخلًا لدراسات أخرى.
مـــــدخــــــل
استخدمت دراسة “شروق الشرق وغروب الغرب” نظريتين بشكل أساسي لتفسير احتمالية -وربما حتمية- الصراع بين الولايات المتحدة من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، مع تركيزها بشكل أكبر على الصين. وهو تركيز يبدو واقعيًا إلى حد بعيد، إذ أن الصين هي الدولة التي تمثل ندًا للولايات المتحدة، وفق ما أوردته استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2022، التي قالت إن “الصين هي المنافس الوحيد الذي تجتمع لديه النية لإعادة تشكيل النظام الدولي، مع القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية المتزايدة للقيام بذلك”.
النظرية الأولى هي “شِراك ثوسيديد” (Thucydides’s Trap) التي صاغها المفكر السياسي الأميركي، غراهام أليسون (Graham Allison)، التي تقول بحتمية المواجهة بين القوة الصاعدة والقوة السائدة في النظام الدولي. وقد طور “أليسون” نظريته استنادًا إلى تفسير المؤرخ اليوناني، ثوسيديد (460-400 ق.م) لأسباب الحرب بين إسبرطة وأثينا، إذ رأى أن “السبب الحقيقي الذي قاد إلى الحرب، وإن لم يكن معترَفًا به علنًا، هو تصاعد قوة أثينا، وخوف إسبرطة من تلك القوة (الصاعدة)”.
وفي كتاب له بعنوان: “الحرب الحتمية: هل تستطيع الصين والولايات المتحدة تفادي شراك ثوسيديد؟”، استعرض “أليسون” 16 حالة للعلاقات بين القوى الصاعدة والقوى السائدة خلال القرون الخمسة المنصرمة، فوجد أن 12 منها انتهت بالصدام العسكري.
أما النظرية الثانية التي استخدمتها الدراسة فكانت نظرية “قلب الأرض” (Heartland)، التي صاغها المفكر البريطاني هالفورد ماكندر (Halford John Mackinder)، التي ترى أن “أهم منطقة في العالم هي منطقة أوراسيا التي سماها “قلب الأرض”، وهي تطابق مساحة الاتحاد السوفيتي السابق تقريبًا، ومفتاحها السيطرة على أوروبا الشرقية”.
كما أشارت الدراسة إلى النظرية التي جاءت تعقيبًا على “ماكندر” وهي نظرية “حافة الأرض” (Rimland) التي صاغها المفكر الهولندي الأمريكي، نيكولاس سبيكمان (Nicholas Spykman). ووفق النظرية، فإن المنطقة الأهم استراتيجيًا في العالم هي “حافة الأرض”، وتشمل الهلال الممتد من شمال غرب أوروبا، مرورًا بالشرق الأوسط، وصولًا إلى جنوب شرق آسيا، حيث الصين.
وذكرت الدراسة أن إستراتيجية الاحتواء الأميركية للقوتيْن الشيوعيتيْن العُظمييْن في القرن العشرين: الاتحاد السوفيتي والصين، نبعت من نظرية “سبيكمان”. وقد اعتبر مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، زبيغنيو بريجنسكي (Zbigniew Brzeziński)، أنها امتداد للصراعات التقليدية بين القوى البرية والقوى البحرية على قيادة العالم.
وانطلاقًا من هاتين النظريتين، تناولت الدراسة ثلاث رؤى مختلفة حول الصعود الصيني، أولها للمفكر والدبلوماسي السنغافوري السابق كيشور محبوباني (Kishore Mahbubani)، والثانية للمفكر الأمريكي جون ميرشايمر (John Mearsheimer)، أما الثالثة فهي لرئيس الوزراء الأسترالي الأسبق، كيفين رد (Kevin Rudd). ونستعرض في المحور القادم ما ذكرته دراسة الشنقيطي حول تلك الرؤى الثلاث.
3 رؤى حول الصعود الصيني
1- رؤية محبوباني:
لخص الشنقيطي رؤية محبوباني في عبارة “قبولُ ما ليس منه بدٌّ”، بمعنى أن الدبلوماسي السنغافوري السابق يثبت الصعود الصيني وأن “شعوب العالم لن تقبل أن تتُخذ القرارات نيابة عنها في العواصم الغربية كما حدث على مدار الثلاثة عقود الماضية”.
ويعتقد محبوباني أن الإنسان الآسيوي انتقل من طور المنفعل السلبي بالمبادرات الغربية، إلى طور الفاعل المشارك في صناعة تاريخ العالم المعاصر”، مشيرًا إلى أن الصينيين على مدار العقود الأربعة الماضية استعادوا الثقة في حضارتهم واحترامهم لذاتهم.
وذكر محبوباني أنه “من غير المجدي أن يتصور 12 بالمئة من سكان العالم (سكان الغرب) أنهم يمكنكم أن يقرروا مصائر الـ 88 بالمئة الباقية”. وبالتالي، فهو يؤكد أن على الغرب تقبل الصعود الحتمي لآسيا، وأن هناك فرصة للتعايش بين الشرق والغرب.
وانطلاقًا من هذه الحتمية التي يتبناها “محبوباني”، جاءت نصيحته للغرب بأن يتقبل الصعود الآسيوي، وألا يتصدى له كي لا يخسر الغرب مكانته الدولية وينكفئ على نفسه، باعتباره أقلية عددية في العالم.
كما جاءت نصائحه للأطراف المتحالفة مع الولايات المتحدة بألا تتصادم مع الصين، وأن تركز على استقلالية قرارها الاستراتيجي. فعلى سبيل المثال، خاطب محبوباني أوروبا، قائلًا إن “أفضل ما تفعله هو أن تكون فاعلًا مستقلًا: إذا كنتَ كبيرًا بما فيه الكفاية، فلستَ بحاجة إلى الدوران في فلَك طرف آخر”. كما خاطب أستراليا قائلًا: “نصيحتي هي أنه بما أن أستراليا محاطة بأربعة مليارات آسيوي، فعليها التكيف مع هذه الحقيقة”.
غير أن الشنقيطي يرى أن محبوباني ينطلق من هوية آسيوية واضحة، وأن نصائحه للأطراف المختلفة “ليست بريئة ولا هي مدفوعة بدوافع السلم والتعايش فقط، وإنما لها مآرب أخرى، أهمها تسهيل الصعود الآسيوي عمومًا، والصيني خصوصًا، دون عوائق”، معتبرًا أن محبوباني يعبّر عن “منطق القوى الصاعدة التي تسعى إلى طمأنة القوى السائدة، حرصًا على التمكن بأقل ثمن ممكن”، ولو أن الشنقيطي يعتقد أن الغرب الذي اعتاد تصدر العالم لا يستمع لهذه النصائح كثيرًا.
أما العالم الإسلامي، فقد اهتم به محبوباني بشكل إيجابي، إذ اعتبر أن آسيا الصاعدة تتكون من الصين والهند والعالم الإسلامي خاصة شطره الآسيوي. لكن يخالف الشنقيطي هذه الرؤية رغم ثنائه على محبوباني الذي ابتعد عن نزعة التعصب ضد المسلمين. فالعالم الإسلامي -بحسب الشنقيطي- ليس مجرد مكون من مكونات الظاهرة الآسيوية، بل هو حيز حضاري واحد مستقل.
2- رؤية ميرشايمر:
تؤكد دراسة الشنقيطي على أن هناك مخاوف غربية قديمة متجددة من الصعود الصيني، فعلى سبيل المثال، بدأ أليسون، صاحب نظرية “شِراك ثوسيديد”، كتابه الذي أشرنا إليه آنفًا عن الصين بالقول: “منذ مئتي عام، قال نابليون منذرًا: (دعوا الصين تغط في نومها، فإنها إذا استيقظت ستزلزل العالم). وقد استيقظت الصين الآن وبدأ العالم يتزلزل”. وفي 1904، حذر ماكيندر، صاحب نظرية قلب الأرض، مبكرًا مما وصفه بـ”الخطر الأصفر” الصيني.
الآن وبعد نحو قرن وربع القرن من تحذير “ماكيندر”، يرى “ميرشايمر” حتمية الصدام الصيني-الأمريكي. فمفتاح الهيمنة الدولية -حسب منظور الواقعية الهجومية التي يؤمن بها ميرشايمر- يتكون من شقين، الأول هو أن تهيمن دولة ما على إقليمها أولًا، مثلما تهيمن الولايات المتحدة على الشق الغربي من الكرة الأرضية. هذه الهيمنة الإقليمية تعطي الدولة التي تتمتع بها أريحية للتحرك حول العالم لتحقيق الشق الضروري الثاني -وفق ميرشايمر- وهو حرمان أي دولة قوية حول العالم من أن تهمين على إقليمها.
ومن هذا المنظور، يحذر ميرشايمر من أن الصين “ستترجم على الراجح قوتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية، ثم تسعى إلى الهيمنة على جنوب شرق آسيا”، ما يعني أن الصين ستعمل على زيادة فجوة القوة بينها وبين جيرانها كالهند واليابان وروسيا، ثم سترسم “حدود السلوك المقبول من طرف جيرانها”، مثلما حرصت الولايات المتحدة على إضعاف جارتيها، كندا والمكسيك.
ومع تأكيد ميرشايمر على أن الصين ستتبع خطى الولايات المتحدة في مسار صعودها الدولي، فإن الشنقيطي يبدي تحفظًا على نظرية ميرشايمر، باعتبار أنها قد تكون “مجرد أثر من آثار المركزية الثقافية الأمريكية”، وأنها “قد لا تصلح بالضرورة لتفسير المسار التي ستتَّبعه النهضة الصينية، أو الصحوة الروسية، أو صعود أي قوة دولية أخرى في المستقبل، بما فيها الكتلة الإسلامية”، إذ قد تتبنى تلك القوى “واقعية دفاعية” بدلًا من “الواقعية الهجومية” السائدة في التاريخ الأمريكي.
وبالحديث عن الصين، فإن هذه المسألة ربما تحتاج توسعًا أكبر لفهم طبيعة السياسات التي قد تتبعها بكين لدى صعودها؛ ذلك أن منطقة الشرق الأوسط هي إحدى نقاط الصراع بين الولايات المتحدة والصين كما سيأتي ذكره، وستكون طبيعة الفعل السياسي الصيني إحدى العوامل التي قد تحدد المنطقة على أساسها موقعها بين بكين وواشنطن.
وبالتالي، فإن من الأهمية بمكان تقييم نظرية ميرشايمر حول “اقتداء الصين بالعم سام”، وهذا بدوره قد يتطلب دراسة للتاريخ السياسي الصيني والثقافة السياسية في الصين، والمرجعيات التي يعتمد عليها صناع القرار في بكين، وطبيعة تفاعل الصين مع القوى الأخرى في إقليمها وحول العالم، خاصة في فترة حكم الحزب الشيوعي الصيني الممتدة منذ 1949 وحتى الآن.
أما العالم الإسلامي فهو جزء من ساحة الصراع بين الشرق والغرب، وفق ميرشايمر، حيث يرى أنه “إذا كان الأمريكان والسوفيت قد تنافسوا بقوة في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، فإن الصين والولايات المتحدة ستتنافسان غالبًا في آسيا والشرق الأوسط فقط”. ومع استبعاد ميرشايمر لاجتياح الصين للشرق الأوسط، إلا أنه يعتقد أنها ستؤسس لحضور عسكري دائم في المنطقة، إذا استعان بها حليف مقرب كإيران.
وألمح الشنقيطي هنا إلى دقة توقع ميرشايمر، الذي ذكره عام 2010. ففي عام 2021 وقعت الصين وإيران اتفاقية تعاون استراتيجي لمدة ربع قرن في كل المجالات، بما فيها المجال العسكري.
3- رؤية كيفين راد:
رغم أن الدراسة نوهت في بدايتها أنها ستستعرض رؤية رئيس الوزراء الأسترالي الأسبق، كيفين راد، إلا أنها لم تُفرد لها مساحة كتلك التي أعطتها لرؤيتي محبوباني وميرشايمر، واكتفت بإشارة عابرة إليها. ولذلك تتبعنا ما قاله الشنقيطي عن تلك الرؤية في لقاءات تلفزيونية استعرض فيها دراسته، في محاولة لفهم رؤية الكاتب وتقييمه لما قاله “راد”.[1]
وربما تتلخص رؤية “راد” في عنوان كتابه الذي اعتمدت عليه الدراسة، كتاب: “الحرب الممكن تفاديها” (The Avoidable War). إذ يؤكد “راد” حقيقة الطموح الصيني نحو الهيمنة، وأن هناك تنافسًا شرسًا مع الولايات المتحدة، لكنه يعتقد بإمكانية وجود “تنافس منضبط” بين القوتين -وفق تعبير الشنقيطي- بحيث لا يصل الطرفان إلى حرب عسكرية مدمرة، لكن علاقتهم في الوقت نفسه لن تكون علاقات تعاون.
ويفسر الشنقيطي توجه “راد” ودعوته لتجنب الحرب، بأنه أسترالي يتخوف من أن تقع بلاده “في تقاطع النيران بين العملاقين”، حيث إن أستراليا أقرب جغرافيًا للصين وتربطها بها مصالح اقتصادية كبيرة، لكنها ثقافيًا وعسكريًا أقرب إلى الولايات المتحدة.
صحوة روسيا الأوراسية
وبجانب الصين، هناك روسيا التي استعرضت الدراسة جوانب الصحوة التي تعيشها، منذ صعود فلاديمير بوتين للسلطة. ويعتقد الشنقيطي أن سياسة الغرب تجاه روسيا منذ أواخر عهد الاتحاد السوفيتي سبب رئيسي في صحوتها التي تعيشها حاليًا. إذ يعتبر أن ميخائيل غورباتشوف، آخر قائد للاتحاد السوفيتي، كان به شيئًا من “السذاجة السياسية” عندما اتبع سياسة تقوم على اعتبار روسيا جزءًا من الغرب.
وترى الدراسة أن ما لم يدركه غورباتشوف هو أن “القوة الأميركية، الممسكة بالقرار الإستراتيجي الأوروبي منذ خواتيم الحرب العالمية الثانية، لن تسمح بتحول روسيا إلى دولة أوروبية، مهما يكن منطق التاريخ والجغرافيا؛ لأن انضمام روسيا إلى أوروبا يجعلها الدولة المهيمنة داخل الإقليم الأوروبي، ويُغني الأوروبيين عن المظلة الإستراتيجية الأميركية، ويُرجِّح كفة القوى البرية الكبرى على كفة القوى البحرية الكبرى، في ذلك الصراع الأبدي بينهما”.
لكن الولايات المتحدة لم تكتف بذلك، بل استمرت في توسيع حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي بدأ عام 1949 باثنتي عشرة دولة فقط، ثم توسَّع عشر مرات، ابتداء من التوسعة الأولى عام 1952 ، إلى التوسعة العاشرة عام 2023، مع انضمام فنلندا، للطوق الغربي على روسيا.
ولذا، أكد الشنقيطي على أن “بوتين” صعد إلى قيادة روسيا، عام 2000 مشحونًا بـ”روح انتقامية ساخطة” على تراجع مكانة روسيا، مشيرًا إلى تصريحه في 2005، الذي اعتبر فيه أن “انهيار الاتحاد السوفيتي كان كارثة جيوبوليتيكية في ذلك القرن (العشرين)”.
وعلى هذا، لم يراهن بوتين على الغرب كما فعل “غورباتشوف” ومن بعده بوريس يلتسن، بل راهن على إعادة بناء القوة الروسية، عبر إحياء المسيحية الأرثوذكسية، والاعتزاز بالتاريخ الروسي، وتدعيم النواة السلافية الصلبة، واستعادة ما أمكن من الغلاف الإستراتيجي الذي يحمي الاتحاد الروسي، وقد جاءت حرب أوكرانيا في هذا السياق.
ويعتقد الشنقيطي أن روسيا أفادت الصين حين شغلت الولايات المتحدة بحربها في أوكرانيا، كما يؤكد على أن الصين لن تسمح بهزيمة استراتيجية لروسيا أمام الغرب. فرغم أن بكين تستفيد من الحرب الجارية التي تستنزف طرفيها، إلا أن هزيمة روسيا أو تغيير النظام فيها يعني “انكشاف ظهر الصين أمام حصار إستراتيجي غربي في البر، مع الحصار البحري الذي تسعى واشنطن لضربه عليها، من جهة بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي”. لكن استبعدت الدراسة هزيمة روسيا، باعتبار أن المعركة بالنسبة لها “حرب وجود”، على عكس الغرب الذي يعتبرها “حرب نفوذ”.
علاوة على ذلك، عرّجت الدراسة على أفكار كل من ألكسندر دوغين (Aleksandr Dugin)، وسلفه بيوتر سافيتسكي (Pyotr Savitsky). حيث دعا الأخير إلى التوجه جنوبًا وشرقًا، أي في اتجاه الشعوب التركية والصينية، بدل التعلق بالغرب، وأكد “دوغين” على التوجه ذاته.
مورفولوجية العالم الإسلامي
كما أشرنا آنفًا، فإن الدراسة تنفي أن يكون العالم الإسلامي جزءًا من الكتلة الشرقية -كما يرى محبوباني- أو الكتلة الغربية، بل تحاجج بأن العالم الإسلامي كتلة جغرافية واحدة، حافظ على وحدته المعنوية وتناصره السياسي على مدى القرون وإلى غاية العصور الحديثة، رغم تنوعه القومي والثقافي واللغوي، وانفتاحه على كل الأديان والمِلَل والنِّحَل.
وقدمت الدراسة تصورين للجغرافيا السياسية الإسلامية، الأول للمفكر المصري، جمال حمدان، الذي وصفها بأنها “قارة وسطى” تربط بين قارات العالم القديم: آسيا وأفريقيا وأوروبا. وهو وصف قال بشبيهه المفكر الجزائري مالك بن نبي، ونابليون بونابرت. وقد ذهب حمدان إلى أن العالم الإسلامي -في تشكُّله الجغرافي- هلالٌ أو قوسٌ “يتألف من قلب وجناحين”، وأن هذا الهلال/القوس موزَّع ما بين جنوب آسيا وشمال إفريقيا.
أما التصور الثاني فهو للشنقيطي نفسه، الذي اعتبر أن نظرية حمدان “يشوش عليها الانقطاع داخل الهلال الإسلامي”؛ لوجود الهند والصين بحجمهما الكبير وعدد سكانهما الضخم. وطرح الشنقيطي تصورًا بديلًا عبر تقسيمه الجغرافيا الإسلامية إلى: العالم الإسلامي البري والعالم الإسلامي البحري.
ويتكون العالم البري -وفق الشنقيطي- من كتلة متماسكة لا تفصل بينها فواصل بحرية كبرى، وشبهها بـ”طير عملاق” رأسه في الأناضول، وقلبُه في الجزيرة العربية بمعناها الواسع الذي يشمل دول الخليج واليمن والعراق والشام، وله جناحان، يمتد أحدهما في جنوب آسيا، والثاني في شمال إفريقيا”.
أما العالم الإسلامي البحري فيشمل “مناطق منفصلة عن هيكل الجغرافيا الإسلامية البري، إذ يتألف من مناطق وصَلها الإسلام “راكبًا البحر” -بتعبير جمال حمدان- لا عن طريق التمدُّد البري، الذي توقَّف أمام حاجز جبال الهملايا الشاهقة، وهو الحاجز الذي “أوقف تقدُّم الإسلام فيما بعد في هذا الاتجاه، حتى جاء راكبًا البحر من الجنوب”.
وذكر الشنقيطي أن دول الجزء البحري من العالم الإسلامي، هي بنغلاديش، وإندونيسيا، وماليزيا، وبروناي، وجزر المالديف، مشيرًا إلى أن تلك المنطقة تمتاز بضيقها الجغرافي وسعتها الديمغرافية، إذ تتركز فيها كثافة سكانية كبيرة من المسلمين.
ورغم أن الشرق الأوسط لا يحتوى على العدد الأكبر من مسلمي العالم، إلا أن له مكانة خاصة في خرائط الجغرافيا السياسية والحضارية،ـ حسب الشنقيطي. فالمقدسات الإسلامية توجد في الشرق الأوسط، حيث مكة والمدينة والقدس، كما يشتمل على أهم المضائق البحرية في العالم، التي يُعتمد عليها في التبادلات التجارية العالمية: مضيق البوسفور، ومضيق الدردنيل، وقناة السويس، وباب المندب، ومضيق هرمز.
أضف إلى ذلك أن شعوب الشرق الأوسط “شعوب فتية” -حسب وصف الشنقيطي- إذ أنها تتمتع بديناميكية كبيرة وتغلب فيها نسبة الشباب. هذا فضلًا عن أن المنطقة بها ثروات استراتيجية تعتمد عليها الصناعات العالمية، وأهمها النفط والغاز الطبيعي.
وخلص الشنقيطي من ذلك إلى أن “الإمكان الكامن في العالم الإسلامي إمكان عظيم ومتعدد الأوجه، لو توافرت له القيادات الحازمة ذات العزائم السياسية والحاسة الاستراتيجية”.
الحزام الإسلامي المتصدع
وفي مقابل هذا “الإمكان العظيم” الذي يتمتع به العالم الإسلامي، أوردت الدراسة أن هذه المنطقة ينطبق عليها تمامًا وصف “الحزام المتصدع” (Shatterbelt)، الذي يُستخدم في علم الجغرافيا السياسية لوصف المناطق التي تتسم بالهشاشة والتمزق الداخلي واستباحة القوى العظمى لها.
واستخدمت الدراسة العديد من النظريات التي اتفقت جميعها -وإن كانت بصيغ مختلفة- على أن العالم الإسلامي ما زال جزءًا من استراتيجيات صاغها آخرون، ولم يمتلك بعد قراره الاستراتيجي. ومن هذه النظريات: نظرية “منطقة التنازع” (Debated and Debatable zone)، التي صاغها المفكر الأمريكي ألفريد ماهان (Alfred Mahan)، ونظرية قلب الأرض لـ”ماكيندر” التي أشرنا إليها آنفًا، ونظرية “حافة الأرض” لـ”سبايكمان”، ونظرية “المنطقة الوسطى” (La Région Intermédiaire) للعالم اليوناني ديميتري كيتسيكيس (Dimitri Kitsikis)، الذي “كاد يجعل العالم الإسلامي مُلحَقًا حضاريًّا وإسراتيجيًّا بالثقافة الأرثوذوكسية واليونانية”، وفق تعبير الشنقيطي.
هذا فضلًا عن نظرية “لوحة الشطرنج العظمى” (The Grand Chessboard) لـ”بريجينسكي”، الذي أشرنا إليه في مدخل هذا العرض. كذلك نجد في نظرية “صراع الحضارات” التي صاغها الأميركي، صامويل هنتنغتون، أن العالم الإسلامي ذو “حدود دامية”، لأنه في صراع ثقافي شامل مع غيره من الحضارات. وأخيرًا في النظرية “الأوراسية لـ”دوغن”، يشكِّل قسم من العالم الإسلامي -وهو آسيا الوسطى- جزءًا من الغلاف الاستراتيجي الذي تحتمي به روسيا.
وكل هذه النظريات إما أنها تعتبر العالم الإسلامي جزءًا من المنظور الجيوستراتيجي لحضارة أخرى، أو أنها تعتبره مسرحًا للتنازع بين القوى المختلفة. ما يؤكد في النهاية ما ذهبت إليه الدراسة من أن العالم الإسلامي “لم يتبوأ بعد موقع الفاعل الذي يملك نظرية جيو سياسية واضحة المعالم” ومتمايزة عن النظريات التي صاغتها حضارات أخرى.
وتُجمل الدراسة عدة أسباب لهذا الواقع الذي يعيشه العالم الإسلامي، منها:
– سقوط الدولة العثمانية مطلع القرن العشرين، فعلى إثره دخل العالم الإسلامي مرحلة صعبة من شتات الكلمة في الداخل، والانكشاف الإستراتيجي أمام الخارج.
– الاستعمار الذي لم يُتح لهذه المنطقة أن تتطور تطورًا طبيعيًا وفق قوانينها الخاصة، بل رسّم خرائطها ومزقها من داخلها.
– ثقافة التمايز القومي الموروثة عن الاستعمار الأوروبي، ما أدى إلى ابتعاد شعوب المنطقة عن بعضها، وتفريطها في أرحام الدين والثقافة والتاريخ والجغرافيا.
بناء المناعة الذاتية
وتنطلق الدراسة من التغيرات الجارية في بنية النظام الدولي لتؤكد ضرورة “البدء الفوري في بناء المناعة الذاتية، من خلال تشكيل قوة دولية إسلامية، لا شرقية ولا غربية، تدرأ عنه خطر التحول إلى ساحة مواجهة جديدة”.
ورغم إقرار الشنقيطي بأن “التحولات التاريخية الكبرى تبدأ دائمًا بأحلام عسيرة المنال”، إلا أنه أشار إلى تجربة “الاتحاد الأوروبي” كمثال على إمكانية تحقيق وحدة الرؤية الاستراتيجية للأمة الإسلامية. فالوحدة الأوروبية سارت تدريجيًا عبر توحيد بعض القطاعات الاقتصادية كالفحم والحديد عام 1951، إلى أن وصلت الوحدة مرحلة النضج ممثَّلةً في الحدود المفتوحة والتنسيق الاستراتيجي.
وترى الدراسة أن “قضية الوحدة تتوقف على الإرادة السياسية والحيوية الثقافية أكثر مما تتوقف على أي أمر آخر”، مستشهدة بـ”وحدة الفضاء الحضاري الغربي، الذي يشمل دول أوروبا الغربية، والولايات المتحدة، وأستراليا، ونيوزيلندا، وهي دول تفصل بين بعضها مساحات شاسعة لا نظير لها في الجغرافيا الإسلامية”.
ومن هذا المنطلق، عرضت الدراسة 3 رؤى للوحدة الإسلامية قدمها مفكرون مسلمون. فـعبد الرحمن الكواكبي، استلهم فكرة الوحدة الفيدرالية الأميركية والألمانية، فنظَّر للوحدة الإسلامية في شكل “اتِّحاد إسلامي تضامني تعاوني، يقتبس ترتيبَه من قواعد اتحاد الألمانيين والأمريكانيين”. بينما دعا عبد الرازق السنهوري إلى تأسيس “عصبة أممٍ شرقية” تجمع شتات الشعوب المسلمة، وتضمن لها مكانة دولية، مع احترام الخصوصيات الثقافية واللغوية لجميع الشعوب المسلمة. في حين دعا مالك بن نبي إلى “فكرة كومنولث إسلامي” يتألف من كتل إسلامية، تجمعها منظمة دولية إسلامية.
والجدير بالذكر هنا أن دراسة “شروق الشرق وغروب الغرب” لم تستعرض هذه الحلول باستفاضة، بينما فصّل فيها الشنقيطي في كتابه “الأزمة الدستورية في الحضارة الإسلامية“، تحت عنوان “صيغ عملية للوحدة”.
غير أن الوحدة الإسلامية -كغيرها من صيغ الوحدة في الحضارات الأخرى- تحتاج إلى “مركز ثقل استراتيجي” يكون بمثابة القاطرة للوحدة المنشودة. فكما يقول صامويل هنتنغتون فإن “الحضارة أُسْرة ممتدَّة، ومثل أعضاء الأسرة الأكبر سنًّا، تقوم دول المركز بتوفير الدعم والنظام للأقارب”.
وهنا استعرضت الدراسة 3 نظريات في هذا الباب. الأولى هي نظرية مالك بن نبي الاجتماعية التي تؤمن بأن مركز ثِقَل الإسلام أصبح في جنوب شرق آسيا؛ إذ يرى أن العالم الإسلامي أصبح “يخضع لجاذبية جاكرتا، كما يخضع لجاذبية القاهرة أو دمشق. وهذا الانتقال إلى مرحلة آسيوية لابد أن يُحدث نتائج نفسية وثقافية وأخلاقية واجتماعية وسياسية، سيكون لها أن تتحكم في حركته وفي مستقبله”.
والثانية هي نظرية محمد المبارك الثقافية التي تتمسَّك بمركزية العالم العربي في الفضاء الحضاري الإسلامي؛ بحكم ارتباط اللغة العربية بالدين مصادرَ وشعائرَ. أما الثالثة فهي نظرية هنتنغتون الجيوستراتيجية التي ترشِّح تركيا لتكون دولة المحور في العالم الإسلامي. فبعد أن استعرض هنتنغتون إمكانية اضطلاع السعودية، أو إيران، أو مصر، أو باكستان، أو إندونيسيا، أو تركيا، بدور “دولة المركز” في حضارة إسلامية معاصرة، استبعد 5 منها لأسباب بنيوية مختلفة، مرجحًا أن لدى تركيا القدرة على الاضطلاع بهذا الدور.
ورغم ميل الشنقيطي إلى رأي هنتنغتون، إلا أنه لا يعتقد بوجود تناقض بين هذه النظريات الثلاث، مؤكدًا أن كل نظرية تتضمن جزءًا من حقيقة الجغرافيا السياسية الإسلامية. كما ترى الدراسة أن العالم الإسلامي أكبر من أن يتمحور حول دولة واحدة من دوله، أو إقليم واحد من أقاليمه، مستشهدة بأوروبا ذات الحجم الجغرافي والديمغرافي الصغير -مقارنةً مع العالم الإسلامي- والتي لها أكثر من دولة مركز، بل ثلاث دول هي ما يُعرف بمثلَّث القوة الأوروبي: فرنسا وألمانيا وبريطانيا.
خلاصات الدراسة ومناقشات حولها
وبعد تناول الصعود الصيني والروسي وواقع العالم الإسلامي، انتقلت الدراسة إلى الحديث عن تصورات أو توصيات لمستقبل المنطقة وموقعها بين الشرق والغرب.
وهنا أكدت على أن “الشروخ التي تنفتح بين القوى الكبرى تمنح الشعوب الضعيفة هامشًا للمناورة”، وأن “الانشطار الدولي الجديد قد يفتح مزيدًا من الخيارات التكتيكية أمام العالم الإسلامي، مِن حيث القدرة على بناء مساحات ظرفية مشتركة مع هذا الطرف أو ذاك من المتنافسين الدوليين الكبار اتِّقاءً لشرِّهم”. لكن تشدد الدراسة على أن الخيار الإستراتيجي الصحيح على المدى البعيد يبقى بناء قوة إستراتيجية إسلامية، تمنح المناعة الذاتية لشعوب الحضارة الإسلامية”.
ويرى الشنقيطي أنه “ليس من الحكمة السياسية مطالبة جميع الدول الإسلامية بالانحياز المطلق للشرق أو للغرب”، لكنه يرجح أن “الاقتراب التكتيكي من الصين قد يمنح العالمَ الإسلاميَّ فُسحةً أوسعَ للمناورة في الأمد المنظور”.
ويرجع سبب ترجيح الشنقيطي للاقتراب التكتيكي من الصين إلى أن الغرب -وروسيا بدرجة أقل- اخترقا العالم الإسلامي منذ نحو قرنين، وأن الغرب يصر على تهشيم البيئة الإستراتيجية الإسلامية المحيطة بالدولة اليهودية التي أسَّسها ورعاها، وإبقاء العالم الإسلامي -خصوصًا مهده العربي- في وضع “الحزام المتصدِّع” إلى الأبد.
وعبر استغلال الغرب لمواريث نفوذه الاستعماري التي لا تملك القوى الدولية الشرقية مثلها داخل العالم الإسلامي، فإنه يعبث بالمصائر السياسية للشعوب الإسلامية، ويحرمها من أي تحول ديمقراطي يحقق لها استقلال قرارها الاستراتيجي. واستشهدت الدراسة في ذلك بما وصفته بــ”التعامل المرائي” للغرب مع ثورات الربيع العربي.
ومع هذا، تؤكد الدراسة أن “الاقتراب التكتيكي من الصين لا يعني أنها أفضلُ في ذاتها من الغرب، أو أنها أقربُ إلى الثقافة والقيم الإسلامية من الغرب. فالغرب يشترك مع الثقافة الإسلامية في بعض المواريث الدينية، وفي جوهر القيم السياسية الديمقراطية”، غير أن أدوات الغرب داخل الدول الإسلامية تجعله أكبر خطرًا على المنطقة من الصين.
ومن منطلق اتفاق جوهر القيم السياسية الديمقراطية مع الثقافة الإسلامية، فإن هناك تحديًا أمام رؤية الاقتراب التكتيكي من الصين التي تطرحها الدراسة، ربما يحتاج إلى أن يُناقَش في دراسات أخرى. ويرجع هذا التحدي إلى أن الثقافة السياسية الصينية تتقارب مع تلك السائدة داخل أروقة السلطة في العالم العربي بشكل خاص.
وبناء على ذلك، يطرح آخرون رؤية مفادها أن المصلحة الاستراتيجية للأمة الإسلامية هي في استقلالية قرارها الاستراتيجي، وامتلاك رؤية مستقلة عن الشرق والغرب، وهي في هذا تتفق مع توجه الدراسة. غير أنها تطرح للنقاش مسارًا آخر حول المصلحة التكتيكية للعالم الإسلامي؛ إذ ترى أنها قد تكون مع الغرب بشكل أكبر نسبيًا من الشرق؛ نظرًا لموقف كل طرف من مبادئ الديمقراطية والاختيار الحر من الشعوب لحكامها ومحاسبتهم.
ويقول هذا الطرح إن الاقتراب التكتيكي من الصين ربما يصح ويكون هو الأنسب بالفعل لو كانت الشعوب الإسلامية -والعربية بالأخصّ- تحكمها أنظمة نابعة منها ومعبرة عنها، حينها سيكون من المتفهم التقارب مع الصين للتحرر من النفوذ الغربي. أما الآن، ومع وجود أنظمة عربية تفرض نفسها على شعوبها، فإن التقارب مع الصين -التي لها رؤية سلبية من التعددية الحزبية والانتخابات وتداول السلطة- قد يقوي في نهاية المطاف أنظمة المنطقة لا شعوبها.
فصعود الصين وزيادة نفوذها مقابل الولايات المتحدة قد يكون بمثابة الخبر السار للأنظمة العربية الحاكمة؛ لأنها بهذا البديل الصيني ستتعامل بأريحية أكبر من تلك التي توفرها لها الولايات المتحدة، التي تشاغلها بين الحين والآخر بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان. وعلى هذا، يرى هذا الطرح أن التقارب مع الصين قد يصح لدول تحكمها شعوبها، لكنه قد يكون سلبيًا بالنسبة لحركات تتبنى تمكين الشعوب.
وقد باتت العديد من الأنظمة العربية بالفعل تستخدم التقارب مع الصين وروسيا كورقة للضغط والمناورة مع الغرب والولايات المتحدة، للالتفاف على الضغوط والمطالبات في بعض الملفات المرتبطة بالديمقراطية وحقوق الإنسان. وبالتالي، فإن هذه الأنظمة لديها من المرونة ما يجعلها تقتطف ثمار صعود قوى الشرق للإمعان في تثبيت أركانها، الأمر الذي يعارض تطلعات الشعوب بطبيعة الحال.
ويتخوف البعض من أن صعود القوة الصينية بشكل عام، ونفوذها في الإقليم بشكل خاص، سيمد في عمر الأنظمة الاستبدادية لعقود أخرى، أو يمنحها فرصة لإعادة إنتاج نفسها، بينما سينزوي الحديث عن التحول الديمقراطي، في عالم تتلاقي فيه رغبة الأنظمة العربية مع النموذج الصيني الذي ينظر للديمقراطية نظرة ريبة.
وكما أشرنا إلى أهمية دراسة مدى صحة زعم ميرشايمر أن الصين ستتبع “واقعية هجومية”، فإن هناك العديد من الأسئلة التي تحتاج بحثًا أكاديميًا موسعًا. من هذه الأسئلة: كيف يمكن أن يتغير السلوك الأمريكي بين عالم كانت فيه الولايات المتحدة تقود عالمًا أحادي القطب أتاح لها التحرك بحرية حول العالم، واتخاذ قرارات “متهورة” بحق أمم أخرى منها الأمة الإسلامية، وبين عالم متعدد الأقطاب قد تكون فيه خطواتها أكثر حذرًا؟ وهل ستنتقل الصين -مع تصاعد قوتها ونفوذها وطموحاتها- إلى اتباع سياسات أكثر خشونة، إذا ما انتهت مستقبلًا من طور الصعود السلس ودخلت في طور الهيمنة؟ وكيف يتعامل الحزب الشيوعي الصيني مع الأطراف المختلفة معه -داخليًا وخارجيًا- حال استقرار هيمنته؟
كل هذه الأسئلة وأكثر بحاجة إلى بحث أكاديمي موسع يطرح لها إجابات انطلاقًا من فهم الصين وتاريخها السياسي، ودراسة الحزب الشيوعي الصيني وكيفية إدارته للملفات المختلفة، خاصة خلال العقود الثلاثة الماضية، التي ازدادت فيها قوة وطموح الصين بشكل لافت.
وختامًا، فإن صعود الشرق ممثلًا في روسيا والصين -وخاصة الأخيرة- بات حقيقة تتعامل معها مختلف الدول والأطراف حول العالم. وتوفر الأوساط الأكاديمية والبحثية، في شرق العالم وغربه، مساحات واسعة في محاولة لفهم أبعاد صعود الصين وروسيا ومآلاته على النظام العالمي القائم وعلى بلدانهم وكيفية التعاطي معه. وفي مقابل هذا النشاط، تقل الدراسات العربية الجادة حول موقع العالم الإسلامي والعربي من التغيرات في بنية النظام الدولي.
ومن هنا، فإن دراسة “شروق الشرق وغروب الغرب” تأتي كمشاركة جادة وجديرة بالاطلاع، حيث طرحت رؤية لتموضع مستقبلي مقترح للعالم الإسلامي، وقدمت توصيات على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي، انطلاقًا من فهم واقع الدول الإسلامية في إطار قراءة وتفسير التغيرات الحادثة في النظام العالمي الجديد.
[1] شروق الشرق وغروب الغرب، أسمار وأفكار، 12 يونيو/حزيران 2023