الهجمات على الشحن البحري.. التاريخ والمخاطر واستراتيجيات مجابهة التهديد
المحتويات
- مقدمة الباحث
- تاريخ الهجمات على سفن الشحن
- الهجمات في البحر الأسود ومضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي
- هجمات الحوثيين في البحر الأحمر
- تطوير استراتيجيات التصدي للهجمات
- خاتمة الدراسة
مقدمة الباحث
يشهد الشحن البحري حول العالم أزمات متلاحقة منذ أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تتعلق بزيادة الهجمات على سفن النقل في أكثر من منطقة حول العالم. من ذلك، الهجمات المتبادلة بين إيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي على السفن المرتبطة ببعضهما بعضا، وخاصة في مضيق هرمز.
هذا علاوة على لجوء الصين إلى مضايقة السفن التجارية في بحر الصين الجنوبي، في سياق استراتيجية تهدف لفرض رؤيتها المتعلقة بترسيم الحدود البحرية مع جوارها. هذا الضرر الواقع على السفن التجارية تفاقم منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2023، عندما بدأ الحوثيون في شن هجمات على الشحن في البحر الأحمر.
الآن وبعد نحو 8 أشهر، وعلى الرغم من تدخلات البحرية الأمريكية، والبحرية الملكية البريطانية، وبحرية الاتحاد الأوروبي، وغيرها من البحريات الغربية، ما زالت الهجمات مستمرة، ما ألجأ الكثير من السفن إلى التوجه إلى طريق رأس الرجاء الصالح.
وتشكل الهجمات المتزايدة على السفن التجارية تهديدا جديا ليس للبحارة وشركات الشحن فحسب، بل وأيضا للنظام البحري العالمي الذي تقوم عليه الاقتصادات الحديثة.
وفي هذا الإطار، نشر “المجلس الأطلسي” (Atlantic Council) دراسة استعرض فيها تاريخ الهجمات على الشحن البحري، والقواعد التي تبنتها الدول للحفاظ على سلامة الشحن، والتهديد الجدي الذي يشكله الحوثيون وغيرهم من الجهات الفاعلة على السفن. كما ناقشت الدراسة الخطوات التي يمكن للحكومات الغربية والمعنيين بمجال الشحن البحري اتخاذها للحد من الضرر الناجم عن مثل هذه الهجمات.
وقد آثر “مركز المسار للدراسات الإنسانية” عرض هذه الورقة، وتقديمها للباحثين والدارسين والمهتمين، في محاولة لفهم التجارب التاريخية التي تعرض لها الشحن البحري في عدة حروب وصراعات حول العالم، والاستراتيجيات التي اتبعتها الدول الكبرى في الماضي للسيطرة على هذه الهجمات، أو التي قد تتبعها في المستقبل، خاصة وأن منطقتنا العربية تقع في القلب من هذه التطورات.
تاريخ الهجمات على سفن الشحن
“إن اعتماد اليابان على العلاقات الاقتصادية الدولية من أجل بقائها أمر معروف… لكن في السنوات الأخيرة، بات ذلك مصدر ضعف متزايد؛ بسبب اضطرابات الشحن الدولي في الشرق الأوسط”.
هكذا كانت افتتاحية ورقة بحثية في مجلة “الشؤون الباسيفيكية” (Pacific Affairs)، ليس في عام 2023، بل في 1986. فقد لجأت العراق حينها إلى مهاجمة السفن التجارية المرتبطة بإيران في الخليج، كجزء من حربها ضد إيران.
- حرب الناقلات
بدأت الهجمات في عام 1981، وهو العام الثاني للحرب، عندما هاجم العراق 5 سفن تجارية، بهدف الحد من صادرات النفط الإيرانية، والتي تمر بالكامل عن طريق البحر، وتساعد في تمويل المجهود الحربي الإيراني.
وفي العام التالي، هاجم العراق 16 سفينة تحمل النفط الإيراني؛ وفي العام الذي يليه، ارتفع العدد إلى 22 سفينة. ثم في عام 1984، بدأت إيران بالرد، ففي ذلك العام، هاجم العراق 53 ناقلة مرتبطة بإيران، بينما هاجمت إيران 16 ناقلة مرتبطة بالعراق، وبحلول عام 1987، ارتفع العدد إلى 88 هجوما من قِبل العراق و91 هجوما من قِبل إيران.
وأصبحت الهجمات الممنهجة على السفن التجارية تُعرف باسم “حرب الناقلات”، وقد أثارت قلق العالم الخارجي، الذي كان في ذلك الوقت يعتمد على إمدادات النفط عبر الخليج. ولذلك، فإن السفير الياباني لدى الأمم المتحدة، ميزو كورودا، وخلال مناقشة مجلس الأمن حول الصراع في الخليج في مايو/أيار 1984، وجه نداءً إلى إيران والعراق وجميع الدول الأخرى بممارسة أقصى درجات ضبط النفس، وطلب من البلدين احترام حق الملاحة الآمنة.
ومع ذلك، استمرت الهجمات على ناقلات الشحن المحايدة، بحسب مجلة “الشؤون الباسيفيكية”. وفي صيف عام 1987، بعد أن خلصت الكويت -التي كانت محايدة- إلى أن الناقلات التي تحمل علمها لم تعد قادرة على العبور من الخليج، وطلبت الإذن بإعادة رفع العلم الأمريكي عليها، أعيد رفع العلم الأمريكي على الناقلات، وأطلقت الولايات المتحدة عملية “إرنست ويل”، التي شهدت قيام سفن البحرية الأمريكية بمرافقة السفن الكويتية التي تحمل العلم الأمريكي بين خليج عمان وموانئها الرئيسية.
وعندما انتهت الحرب بين إيران والعراق في العام التالي، كان أكثر من 320 من رجال البحرية التجارية قد لقوا حتفهم أو أصيبوا أو فُقدوا. كما تضررت 340 سفينة تجارية، بعضها أكثر من مرة. وتضرر نحو 30 مليون طن من البضائع، بينما غرقت 11 سفينة وأعلنت 30 منها أنها خسرت خسارة كاملة.
وأوضحت الدراسة أن “حرب الناقلات” اكتسبت سمعة سيئة؛ لأنها كانت مثالا صارخا على استخدام العدوان ضد الشحن التجاري كأداة حرب، كما أنها وقعت في فترة كانت اقتصادات الدول في بداياتها للتحول نحو العولمة.
فقد كانت دول حلف وارسو تعمل بشكل موازٍ لاقتصادات السوق الغربية، وبينما كانت الصين لا تزال اقتصادا مغلقا إلى حد كبير، كانت اليابان وكوريا الجنوبية تتاجران بشكل واسع مع الاقتصادات الغربية، كما بدأت حينها اقتصادات أمريكا اللاتينية في الانفتاح، وكانت نفط الشرق الأوسط يغذي العديد من الاقتصادات النامية.
وقد حظيت حرب الناقلات باهتمام عالمي كبير لأنها كانت مثالا نادرا للغاية على استهداف الدول القومية للسفن التجارية.
وأشار سفين إيه. رينجباكن، العضو المنتدب لشركة “دن نورسك فور سكيب” للتأمين على السفن إلى أن “القوات المسلحة العراقية والإيرانية في ذلك الوقت لم تكن دقيقة دائما في استهدافها، على العكس من الحوثيين اليوم”.
ومن بين السفن التي تعرضت للهجوم، كانت 61 سفينة تُبحر تحت العلم الليبيري، و41 تحت علم بنما، و39 تحت علم قبرص، و26 تحت علم اليونان، بينما كانت 46 سفينة تحمل العلم الإيراني. وشهد عدد من الدول الغربية الأخرى هجمات مماثلة على السفن التي تبحر تحت علمها.
وأضاف “رينجباكن” أن “السفن التي كانت تبحر ذهابا وإيابا إلى [الخليج] تعرضت للهجوم عدة مرات، وبالتالي كان عدد الهجمات أعلى بكثير من 340 سفينة”.
ولو كانت السفن التجارية التي تحمل النفط والإمدادات الأخرى عبر الخليج أقل متانة، لكانت الخسائر البشرية والمادية الناجمة عن حرب الناقلات أكثر دراماتيكية، وفق الدراسة.
في هذا السياق، مثّلت حرب الناقلات صدمة كبيرة، فقد أظهرت للدول التي أصبحت مترابطة تجاريا بشكل متزايد أن الشحن العالمي -أهم أداة للتجارة العالمية- يمكن أن يكون هدفا سهلا، وأن الدول ليس لديها الكثير لتقدمه لوقف هذه الهجمات.
- ظاهرة تاريخية
ومع ذلك، فإن الهجمات على السفن التجارية بدوافع جيوسياسية تُعتبر قديمة قدم الشحن البحرية نفسه. ففي واقع الأمر، كانت السفن التجارية تتعرض لهجمات منتظمة خلال الحروب.
وكما يلاحظ “هـ. بـ. روبرتسون جونيور” (H. B. Robertson, Jr)، فـ”خلال العصر النابليوني، استخدمت كل من فرنسا وإنجلترا نقاط قوتهما المختلفة في محاولة لتقليص القدرات اللوجستية والتجارية للأخرى؛ وفي الحرب الأهلية الأمريكية، كان حصار الكونفدرالية مكونا رئيسيا لاستراتيجية الحرب التي اتبعها الاتحاد؛ وفي حربها ضد روسيا عام 1905، كان الشرط الذي لا غنى عنه لانتصار اليابان هو السيطرة على البحار، وبدون هذه الميزة، كان بإمكان روسيا، عن طريق البحر، إعادة إمداد جيوشها البرية التي تتفوق على الجيش الياباني؛ وخلال الحربين العالميتين، كان نجاح جهود الإمداد البحرية لقوى الحلفاء، وخصوصا بريطانيا العظمى، شرطا لا غنى عنه لتحقيق النصر”.
ووفق الدراسة، فحتى القرن التاسع عشر، كان “القراصنة” يهاجمون السفن التجارية نيابة عن جيوش دول أخرى، ويكافَئون بمكافآت من السفن التي يهاجمونها.
والسبب وراء تعرض السفن التجارية للهجوم الممنهج أثناء الحروب هو أنها تحمل إمدادات حيوية للعدو. ويشير “روبرتسون” إلى أنه “إذا كان منطقيا أن الشحن التجاري ربما يكون حاسما في قدرة الدولة على مواصلة جهودها الحربية، فمن المنطقي أيضا أن القوة المعادية سوف تسعى إلى منع جهود الإمدادات هذه”.
ومع ذلك، وبحلول الوقت الذي اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى، أدركت الدول أن استخدام تلك الأساليب غير المقيدة ضد السفن التجارية لم يعد قابلا للاستمرار، وسعت إلى تقييده.
وقد وُضع القانون الدولي التقليدي (أو العرفي) للتمييز بين السفن البحرية المعادية والسفن التجارية المعادية، حيث مُنحت الأخيرة الحماية من الهجمات. وتضمنت اتفاقية لاهاي (The Hague Conventions)، التي وافقت عليها 44 دولة في عام 1907، مادة حول وضع السفن التجارية بعد اندلاع الأعمال العدائية.
ونصت على أن “المحارب يجوز له احتجاز سفينة دون تعويض أصحابها ماليا عن هذا الاحتجاز، لكنه بعد انتهاء الحرب، يكون ملزما بإعادة السفينة لأصحابها أو دفع تعويض إذا استولى عليها”. ونصت الاتفاقية أيضا على أن “السفن التجارية المعادية التي غادرت آخر ميناء لها قبل بداية الحرب، والموجودة في عرض البحر ولا تعرف باندلاع الأعمال العدائية، لا يمكن مصادرتها”.
وأوضحت الدراسة أن اتفاقية لاهاي باتت بمثابة قانون عرفي دولي، وهو الأساس القانوني الفعلي الذي يحكم الشحن التجاري أثناء النزاع المسلح. وهذا يعني أن “السفن التجارية، حتى تلك التي تبحر تحت علم العدو، تُعتبر من الأغراض المدنية ويقودها طواقم مدنية، وطالما أنها تحافظ على هذا الطابع، فإنها لا تخضع إلا للمصادرة كغنيمة ثم إصدار حكم بشأنها في محاكم الغنائم التابعة للطرف المحارب الذي استولى عليها، ولا يجوز للقوة التي استولت على السفينة أن تدمر الغنيمة إلا في ظروف خاصة، وبعد نقل الركاب والطاقم ومستندات السفينة إلى مكان آمن”.
ومع ذلك، طورت ألمانيا أسطولا من الغواصات، وخلال الحرب العالمية الأولى، شرعت هذه الغواصات في مهاجمة السفن التجارية التي كانت تزود الحلفاء بالإمدادات. وفي الأشهر الأولى من عام 1917، وفي أعقاب هجمات الغواصات الألمانية على العديد من السفن التجارية الأمريكية، أعلنت الولايات المتحدة الحرب على ألمانيا.
وفي السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، سعت الدول إلى تدوين حقوق السفن التجارية بشكل أكبر، مما قاد إلى بروتوكول لندن (London Protocol) لعام 1936. وبحلول عام 1939، انضمت جميع الدول المقاتلة في الحرب العالمية الأولى -باستثناء رومانيا- إلى البروتوكول، الذي نص على أنه “لا يجوز لسفينة حربية، سواء كانت سفينة سطح أو غواصة، أن تُغرق أو تعطب سفينة تجارية دون أن تضع أولا الركاب والطاقم ومستندات السفينة في مكان آمن”.
ورغم ذلك، شهدت الحرب العالمية الثانية هجمات ممنهجة على السفن التجارية، وتجاهلت الأطراف المتحاربة القانون الدولي بكل بساطة. ونتيجة لهذا، سعت بعض السفن إلى الحد من خطر الهجوم عليها، من خلال الإبحار تحت أعلام دول محايدة، بما في ذلك علم بنما الذي أصبح شائعا حينها بشكل مضطرد.
وكما يلاحظ “روبرتسون”، فقد هاجمت كل من قوات الحلفاء وقوات المحور السفن التجارية المعادية -وأحيانا حتى السفن التجارية المحايدة- دون ضمان سلامة الركاب أو الطواقم أو السفن نفسها، على الرغم من أن البروتوكول يلزم الأطراف المتحاربة باتخاذ مثل هذا الإجراء.
وقد برر كلا الجانبين هذه الممارسات، إما على أساس الانتقام (وهو ما يشكل في حد ذاته اعترافا بأن الممارسة غير قانونية بموجب القانون الدولي طالما أن الجانب الآخر لم ينتهك الاتفاقية أولا)، وإما على أساس تأكيدات بأن الجانب الآخر قد ضم أسطوله التجاري إلى القوة المقاتلة، وذلك من خلال تركيب أسلحة هجومية على السفن، وحراستها، وإلزامها بالإبلاغ عن مشاهداتها للغواصات المعادية، وإصدار أوامر لها باتخاذ إجراءات هجومية ضد الغواصات التي تطفو على السطح .
وفي الفترة التي تلت نهاية الحرب العالمية الثانية، حاولت دول العالم إنشاء نظام عالمي من القواعد والمؤسسات، وكان مركزه الأمم المتحدة، كما أُنشئت “منظمة الطيران المدني الدولي”، و”منظمة الأغذية والزراعة”، و”منظمة الصحة العالمية”، وسلسلة من الهيئات الأخرى.
وفي عام 1948، تبنت الدول اتفاقية “المنظمة البحرية الدولية”، واتفقت على تشكيل “المنظمة البحرية الاستشارية الحكومية” (IMCO). وغُيّر هذا الاسم فيما بعد إلى “المنظمة البحرية الدولية”، ودخلت الاتفاقية حيز التنفيذ بعد 10 سنوات من اعتمادها.
وأكدت الدراسة على أنه “كانت هناك رغبة شديدة بين دول العالم في تأمين الملاحة البحرية”، ورغم أن قواعد “المنظمة البحرية الدولية” سارية المفعول، فقد ظلت السفن تواجه تهديدات كبيرة، ولكن مثل هذه التهديدات كانت تأتي من المجرمين والإرهابيين والمتمردين.
ففي عام 1961، اختطفت مجموعة بقيادة الكابتن، هنريك جالفاو، سفينة الركاب البرتغالية “سانتا ماريا”؛ احتجاجا على نظام الديكتاتور البرتغالي، أنطونيو سالازار. وفي السنوات اللاحقة، هاجمت مجموعات المنفيين الكوبيين السفن التجارية الروسية والكوبية، وإن كانت قد أخطأت في بعض الأحيان في اختيار السفينة، كما هاجمت “جبهة التحرير الفلسطينية” السفن المتجهة إلى الموانئ الإسرائيلية.
وهكذا كان الشحن البحري هدفا ملائما لتلك المجموعات، وقد لخص باحثو “معهد راند” المشكلة، بالقول: “فضلا عن الثوار والإرهابيين، فقد نفذ الهجمات قراصنة العصر الحديث، ومجرمون، ومدافعون متعصبون عن البيئة، وطواقم متمردة، وعمال عدائيون، وعملاء أجانب”.
وتنوع نطاق هذه الهجمات -بحسب معهد راند- فمنها خطف السفن، وتدميرها بالألغام والقنابل، وشن هجمات بالقذائف، وإغراق السفن في ظروف غامضة، وسحب البضائع، واحتجاز الطواقم، وابتزاز السفن العابرة للمحيطات والمنصات البحرية، ومداهمات مرافق الموانئ، ومحاولات الاستيلاء على منصات النفط، وتخريب أحواض بناء السفن ومرافق المحطات، بل وحتى وضع خطة لسرقة غواصة نووية.
ولكن حتى في ذروة الحرب الباردة، في الستينيات والسبعينيات، لم تسعَ الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو حلف وارسو إلى إلحاق الأذى الممنهج بالسفن التجارية المرتبطة بالجانب الآخر.
وتؤكد الدراسة أنه ما من شك في أن دول حلف الناتو وحلف وارسو تصرفت بشكل غير أخلاقي في مساحات أخرى، لكنها في مساحة الشحن البحري احترمت القواعد والاتفاقيات وحياد الشحن التجاري، وكان أحد الأسباب الدافعة لذلك هو حرص هذه الدول على سلامة سفن الشحن التي تنقل البضائع إلى ومن بلادهم.
وأشارت الدراسة إلى أنه عندما استمرت الهجمات التي شنتها كيانات “إرهابية”، وغيرها من الكيانات غير الحكومية، اجتمعت دول العالم للتفاوض واعتماد “الاتفاقية الدولية لسلامة الحياة في البحر” (SOLAS).
وبعد خمس سنوات، وبالتحديد في عام 1979، تبنت الدول الاتفاقية الدولية للبحث والإنقاذ البحري، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1985. وتُحدد الاتفاقية مسؤوليات الدول الساحلية في البحث والإنقاذ البحري؛ وقسمت محيطات العالم إلى 13 منطقة للبحث والإنقاذ، وألزمت البلدان بتشغيل مراكز تنسيق عمليات الإنقاذ على مدار الساعة، مع موظفين مدربين يتحدثون الإنجليزية.
وتعتبر الدراسة أن التتويج الأعظم للاتفاقيات البحرية خلال فترة الحرب الباردة كان في عام 1982، عندما اعتمد المفاوضون من 160 دولة “اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار” (UNCLOS)، التي تُعرف بـ “دستور المحيطات”.
وتغطي الاتفاقية مجالات حيوية بما في ذلك استغلال موارد المحيط وقاع البحر، فضلا عن حقوق النقل البحري، ومن الأمور الأساسية في الاتفاقية أن الدول الساحلية تُمنح حقوقا إقليمية على المياه الممتدة حتى 12 ميلا بحريا من سواحلها؛ وتتمتع السفن الأجنبية بالحق في الإبحار عبر هذه المياه بموجب بند “المرور البريء” في الاتفاقية. كما تُمنح الدول الساحلية حقوقا محدودة في المناطق الاقتصادية الخالصة التي تمتد إلى 200 ميل بحري إضافي خارج مياهها الإقليمية.
وهناك حالة نادرة من الهجمات -الصادرة عن دول- ضد الشحن التجاري وقعت في عام 1984، عندما ضربت الألغام نحو 20 سفينة تمر عبر البحر الأحمر. وفي وقت لاحق، حددت السلطات المصرية والغربية السفينة “غات”، وهي سفينة تجارية تحمل العلم الليبي، باعتبارها الجاني.
ويبدو أن دافع ليبيا وراء هذه الهجمات -بحسب الدراسة- كان رغبة الرئيس معمر القذافي، في إظهار كيف يمكن أن يُعاقب الأنظمة العربية الأخرى بسبب حفاظها على علاقات وثيقة مع الغرب.
ومنذ أوائل التسعينيات، أدت نهاية الحرب الباردة وبدء علاقات أكثر تناغما بين مجموعة من الدول الرئيسية إلى تقليل المخاطر الجيوسياسية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في مجال الشحن. وكانت نهاية الحرب الباردة نقطة تحول رئيسية، حيث شهدت زيادة هائلة في العلاقات التجارية بين دول كانت متصارعة في السابق.
علاوة على ذلك، بدأت الصين في فتح اقتصادها المغلق في الثمانينيات، وأصبحت بسرعة مركزا تصنيعيا هاما للشركات الغربية. وقد ساهمت التجارة المتسارعة والعولمة في تعزيز الشحن العالمي، حيث نمت حركة الشحن العالمية تقريبا ثلاث مرات بين عامي 1990 و2019، من 4008 مليون طن إلى 11076 مليون طن.
وخلال التسعينيات وأوائل الألفية الثانية، وحتى أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، واجه الشحن البحري زيادة في هجمات القراصنة، لكن الهجمات المدفوعة بأسباب جيوسياسية ظلت ضئيلة، مثل الانفجار الذي استهدف ناقلة النفط الفرنسية “ليمبورغ” قبالة سواحل اليمن، وكان من تنفيذ “تنظيم القاعدة”.
أيضا في نيجيريا خلال أوائل الألفية، اختطفت مجموعة محلية مسلحة، تُعرف بـ”حركة تنمية دلتا النيجر”، عمال النفط وشنت هجمات على منشآت النفط وخطوط الأنابيب، وذلك في احتجاج على عدم المساواة في نيجيريا.
- تصعيد منذ عام 2019
هذه الفترة التي عدّتها الدراسة بأنها كانت “سلمية”، انقضت تقريبا في عام 2019، عندما اندلعت حرب بالوكالة تستهدف السفن التجارية في مضيق هرمز، وهو ممر مائي حيوي تمر من خلاله أكثر من 20 بالمئة من تجارة النفط العالمي.
ففي عام 2018، انسحبت إدارة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي مع إيران، وبعد ذلك بفترة وجيزة، بدأت الأخيرة بمضايقة السفن التجارية بشكل ممنهج في مضيق هرمز.
وفي حادثة بارزة، استولى الحرس الثوري الإيراني على ناقلة النفط السويدية، التي تحمل العلم البريطاني “ستينا إمبيرو”، أثناء مرورها في مضيق هرمز في 19 يوليو/تموز 2019، وأخذ طاقمها كرهائن. وعلى الرغم من ادعاء الحرس الثوري الإيراني بأن الناقلة صدمت قارب صيد ولم تمتثل لتعليمات الحرس الثوري، إلا أن هذه المزاعم لم تكن مدعومة بدلائل، وفق الدراسة.
ومنذ ذلك الحين، استمرت الهجمات على السفن التجارية، حيث تعرضت سفن ترفع أعلاما -منها العلم النرويجي والعلم الإماراتي- لهجمات بواسطة الألغام والألغام المغناطيسية والطوربيدات. وفي أغسطس/آب 2023، أرسلت الولايات المتحدة قوة من البحرية ومشاة البحرية إلى المضيق “لدعم جهود الردع”.
وبحلول ذلك الوقت، كانت هناك 20 هجمة على الشحن التجاري في المضيق من بداية عام 2021، بما في ذلك هجومين في 5 يوليو/تموز 2023، عندما حاولت السفن البحرية الإيرانية الاستيلاء على ناقلتي نفط. ويبدو أن وجود البحرية الأمريكية ومشاة البحرية قد نجح في ردع العدوان، الذي تراجع بعد وصول القوة.
وتشير الدراسة إلى أنه “كما هو الحال مع جميع تدابير الردع، فمن المستحيل معرفة ما إذا كان المهاجمون قد خططوا بالفعل للحد من عدوانهم أم أن تدابير الردع هي التي دفعتهم إلى إعادة حساباتهم المتعلقة بالتكاليف والعوائد.
الهجمات في البحر الأسود ومضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي
وبعد الاستعراض التاريخي للهجمات على سفن الشحن عالميا، انتقلت الدراسة لاستعراض أهم المناطق الجغرافية التي تُشن فيها هذه الهجمات في الفترة الراهنة. وبدأت الدراسة بالهجمات في البحر الأسود ومضيق تايوان وبحر الصين الجنوبي، قبل أن تنتقل لهجمات الحوثيين.
وقالت الدراسة إن في أوائل عام 2022، ظهر تهديد آخر للشحن العالمي عندما نشرت روسيا ما يقرب من 200 ألف جندي على حدودها مع أوكرانيا، وكان من الواضح أن أي غزو روسي سوف ينطوي على هجمات على موانئ أوكرانيا وعلى الشحن في البحر الأسود.
وفي الأسابيع التي أعقبت الغزو مباشرة، تعرضت العديد من السفن التجارية في المياه والموانئ الأوكرانية لهجمات روسية. ففي 25 فبراير/شباط 2022، على سبيل المثال، أصيبت ناقلة بصواريخ، ما نتج عنه إصابة اثنين من أفراد الطاقم، الذي اضطُر إلى التخلي عن السفينة.
وفي 2 مارس/آذار، قُتل بحار من بنغلاديش عندما أصابت قذيفة سفينته في ميناء أولفيا الأوكراني. بالإضافة إلى ذلك، عندما غزت روسيا، كانت السفن -التي يستقلها حوالي 800-1000 بحار- راسية في 7 موانئ أوكرانية، وغير قادرة عمليا على المغادرة. وبطبيعة الحال، فإن رسوها في الموانئ الأوكرانية جعلها هدفا سهلا للهجمات الروسية، كما زاد من خطر تحولها إلى أضرار جانبية للهجمات ضد أهداف أخرى.
وعلى نحو مماثل، تعرضت الشحنات في مضيق تايوان لتهديدات مماثلة، لكنها لم تتعرض لهجوم مباشر حتى الآن. وعندما التقت رئيسة تايوان، تساي إنغ ون، مع رئيس مجلس النواب الأمريكي، كيفن مكارثي، في كاليفورنيا في أبريل/نيسان 2023، أعربت بكين حينها عن استيائها من اللقاء عبر إطلاق مناورة عسكرية هجومية، وإرسال “أسطول تفتيش” من خفر السواحل إلى مضيق تايوان.
والجدير بالذكر أن المضيق هو الممر الرئيسي لنقل البضائع بين جنوب شرق آسيا واليابان وكوريا الجنوبية وشمال الصين، مما يجعله أحد أكثر الطرق البحرية ازدحاما في العالم؛ إذ يمر عبر المضيق في المتوسط نحو 240 إلى 500 سفينة يوميا، بما في ذلك ما يقرب من 9 من كل 10 من أكبر سفن الحاويات في العالم. وتزعم بكين، التي تعتبر تايوان منطقة تابعة للصين، أنها تتمتع “بالسيادة والولاية القضائية” على المضيق، في حين تعتبره تايوان ودول أخرى -بما في ذلك الولايات المتحدة- مياها دولية مقسمة على طول خط الوسط غير الرسمي للمضيق.
وترى الدراسة أن التهديد بتفتيش السفن المارة عبر المضيق -استنادا إلى صلاحيات قانونية لا تعترف بها تايوان ودول أخرى في المجتمع الدولي- من شأنه أن يسمح للصين بتعطيل الملاحة في المضيق، وبالتالي التسبب في مشاكل كبيرة وخطيرة للشحن على مستوى العالم.
بالإضافة إلى ذلك، تقوم الميليشيات البحرية الصينية وخفر السواحل وأسطول الصيد بمضايقة السفن، حتى المدنية منها. وتثير هذه الأنشطة قلقا خاصا في بحر الصين الجنوبي، الذي يمر عبره ما يقرب من ثلث التجارة العالمية، حيث تدعي الصين أنها تمتلك حوالي 90 بالمئة من هذه المياه بموجب سياستها “خط القطاعات التسعة”.
هذه الممارسات ليست موجهة بشكل خاص ضد الشحن، ولكنها تستهدف بدلا من ذلك مجموعة واسعة من السفن، بما في ذلك السفن المدنية. على سبيل المثال، تعرضت سفن المسح التي تبحر تحت أعلام النرويج وفيتنام لمضايقات من قِبل مجموعة من السفن الصينية.
ومنذ بداية عشرينيات القرن الحادي والعشرين، زادت المضايقات بشكل كبير، مما خلق بيئة من عدم اليقين؛ وتتفاقم هذه الحالة لأنه من غير الواضح بتاتا كيف يمكن للدول الساحلية والحماة الفعليين للنظام البحري العالمي، وأبرزهم البحرية الأمريكية، ردع مثل هذه الأنشطة.
وكما أشار “رينجباكن”، فإن “الصين لديها قواتها البحرية، وخفر السواحل، والميليشيات، وقوارب الصيد، وهذا النوع من التداخل بين قوارب الصيد والميليشيات، أمر غريب، كما أن الصين لديها منظور طويل الأجل، ولا يُنظَر إلى هذه المناوشات الصغيرة والتجاوزات الصغيرة باعتبارها محاولة لتقويض النظام البحري العالمي، ولكنها كذلك بالفعل”.
وأطلق “رينجباكن” على هذا الأسلوب -الذي لا تستخدم فيه الصين قواتها البحرية إنما تستخدم ميليشيات- “أسلوب التعذيب بالماء على الطريقة الصينية”، معتبرا أن أي نوع من التدابير المضادة من جانب الأمريكيين أو غيرهم قد يبدو غير متناسب”.
وأوضح أن “هذا النشاط خارج عن المألوف ولا يشبه ما يفعله الحوثيون في البحر الأحمر، وهذا يجعل التعامل معه أكثر صعوبة، فلا يمكنك إرسال مجموعة بحرية لمحاولة وقف هذا النوع من السلوك لأنه يبدو بسيطا للغاية، وهكذا يستمر الأمر”.
وبحسب الدراسة، فقد توصل الجيش الأمريكي إلى نفس النتيجة تقريبا، ففي أواخر أبريل/نيسان 2024، وقبل وقت قصير من تسليمه قيادة القيادة الأمريكية في المحيطين الهندي والهادئ، قال الأدميرال جون أكويلينو لوسائل الإعلام: “لقد أصبح الأمر أكثر عدوانية وخطورة، وبات الصينيون أكثر جرأة”، وأشار إلى أن “هناك حاجة إلى التعريف المستمر بسلوك الصين السيئ الذي يتجاوز المعايير الدولية القانونية، وأنه يجب أن تتبنى هذه السردية جميع دول المنطقة”.
هجمات الحوثيين في البحر الأحمر
تتبعت الدراسة مسار استهداف الحوثيين للسفن المرتبطة بدولة الاحتلال الإسرائيلي، بداية من 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، حين اقتحمت قوات كوماندوز تابعة للحوثيين السفينة “غالاكسي ليدر”، التي كانت تُبحر عبر البحر الأحمر بالقرب من ميناء الحديدة اليمني.
وزعمت الدراسة أن الحوثيين توسعوا لاستهداف سفن أخرى لا ترتبط بدولة الاحتلال الإسرائيلي، هذا مع الإشارة إلى أنهم لا يستهدفون السفن المرتبطة بروسيا والصين، حيث ارتفعت حركة مرور السفن التجارية الصينية في البحر الأحمر بنسبة 73 بالمئة، بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ومارس/آذار 2024، مقارنة بنفس الفترة قبل عام واحد.
وتعتبر الدراسة أن الحوثيين يمثلون معضلة؛ إذ يهاجمون السفن لأسباب ظاهرها جيوسياسي، وهم مدعومون من دولة قومية، لكنهم لا يمثلون حكومة رسمية في اليمن. ولذلك، فلا ينبغي أن يكون مفاجئا أن الحكومات الغربية تجد صعوبة في صياغة استراتيجيات لردع هذه الهجمات.
وفي 18 ديسمبر/كانون الأول 2023، أعلنت الولايات المتحدة عن عملية “حارس الازدهار”، وهي قوة مهام بحرية تضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والبحرين وكندا والدنمارك وفرنسا وإيطاليا وهولندا والنرويج وسيشل وإسبانيا وعدة دول أخرى، ويبلغ مجموعها 20 دولة. واختار البعض عدم الكشف عن مشاركته؛ خوفا من أن يؤدي ذلك إلى زيادة المخاطر على بلدانهم. لكن في الواقع، وعلى الرغم من عملية “حارس الازدهار”، تسارعت وتيرة هجمات الحوثيين.
وتناولت الدراسة حسابات التكاليف والعوائد لدى الحوثيين، حيث يستخدمون في المقام الأول طائرات مسيّرة وصواريخ رخيصة، تكلفة الصاروخ الواحد غالبا ما تبلغ 2000 دولار. ولا تحتاج الصواريخ الهجومية إلى أن تكون دقيقة للغاية، على الأقل إذا لم يكن هدف المهاجم إلحاق الضرر بأهداف محددة.
وفي المقابل، يجب أن تكون الصواريخ الدفاعية -التي تتمثل مهمتها في إسقاط الصواريخ الهجومية- دقيقة للغاية، وتكلف الصواريخ الدفاعية للبحرية الأمريكية، في المتوسط، ما بين 1.5 مليون دولار و2.5 مليون دولار لكل منها.
وعلى الرغم من جهود عملية “حارس الازدهار”، أصبح البحر الأحمر محفوفا بالمخاطر بالنسبة للعديد من خطوط الشحن وشركات التأمين الخاصة بها. وبحلول أواخر ديسمبر/كانون الأول 2023، انخفضت حركة الشحن عبر البحر الأحمر بنحو 20 بالمئة.
وبحلول نهاية فبراير/شباط 2024، انخفضت حركة المرور في قناة السويس (وبالتالي البحر الأحمر) بنسبة 50 بالمئة، ثم بحلول مارس/آذار 2024، كانت 40 سفينة تجارية قد تعرضت لهجمات ناجحة، ولحقت أضرار بـ 34 منها.
وتعتبر الدراسة أنه بدون الدفاع الذي يقدمه عملية “حارس الازدهار” عن السفن التجارية، فإن الضرر الذي يلحق بالسفن سيكون بالطبع أكثر اتساعا.
وأشارت إلى أن إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، يبدو أنها خلصت إلى أن الحوثيين -بحساباتهم المختلفة تماما للتكاليف والعوائد- لا يمكن هزيمتهم عسكريا. ولذلك في أبريل/نيسان 2024، بدا أن الحكومة الأمريكية تحاول إيجاد حل دبلوماسي مع الحوثيين، ويتضمن ذلك شطب الجماعة من قوائم الإرهاب، بعد أن أضافتها واشنطن في يناير/كانون الثاني 2024، في مقابل ضمان توقف الحوثيين عن هجماتهم.
وأوضحت الدراسة أن الحملة التي يشنها الحوثيون ضد الشحن البحري هي في الواقع عدوان منفّذ ببراعة في المنطقة الرمادية (يشار إليه أحيانا بالعدوان الهجين). أي أنها تسبب ضررا حقيقيا للكيانات والأشخاص والدول المستهدفة، ولكن لأنها ليست عدوانا عسكريا من قبل حكومة، فإن الدول المستهدفة تعاني للرد على هذه الهجمات.
وتعتقد الدراسة أن تجنب المياه الخطرة يشكل استراتيجية مجدية في الأمد القريب، ولكنها لا تحل مشكلة الحوثيين وغيرهم من المنظمات المرتبطة بالدولة التي تستهدف الشحن البحري على المدى البعيد.
تطوير استراتيجيات التصدي للهجمات
ناقشت دراسة “المجلس الأطلسي” عدة خطوات قد تفكر الحكومات الغربية وصناعة الشحن في اتخاذها؛ للتخفيف -ولو جزئيا- من تأثير الهجمات ضد السفن التجارية. وشملت هذه الخطوات ما يلي:
- تحويل الشحن بشكل استباقي
تقول الدراسة إن إحدى الطرق التي لم تُجرّب بعد لشلّ حركة الحوثيين ونظرائهم المحتملين هي أن تقوم مجموعة من الحكومات وشركات الشحن وشركات التأمين البحرية الغربية بالإعلان عن تحويل جميع الشحنات التجارية إلى طرق أخرى، بهدف عزل الحوثيين وإيران، أي أن “الحل للهجمات في البحر الأحمر قد يكون تحويل كل شيء وبشكل جماعي إلى الطريق الجنوبي حول رأس الرجاء الصالح”.
وتنطوي هذه الخطوة الجماعية على جهد دبلوماسي استثنائي لجمع عدد كافٍ من الدول وكذلك شركات الشحن وشركات التأمين، ولكن النجاح في تشكيل مثل هذه التحالف سيؤدي إلى جمع قوة كبيرة.
وبالتالي، سيكون تحويل سفن الشحن إلى رأس الرجاء الصالح في هذه الحالة ليس مدفوعا بالخوف، بل سيكون جزءا من قرار جماعي من قِبل مجموعة واسعة من الحكومات والشركات في صناعة الشحن. ومن شأن قرار كهذا أن يحوّل الحوثيين من قوة مناهضة للغرب ذات طابع محلي إلى قوة تدفع الأعمال التجارية بعيدا عن البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن وقناة السويس.
وبحسب الدراسة، فيجب أن يقود مثل هذا الجهد وزارة الخارجية الأمريكية، أو الحكومة المصرية، أو المفوضية الأوروبية، بالنظر إلى عدد السفن المرتبطة بالاتحاد الأوروبي المتأثرة سلبا بنشاط الحوثيين.
وفي حالة نجاح هذا الكيان الرائد في الحصول على التزام كافٍ من الحكومات والشركات، فبإمكانه تقديم الخطة كإنذار نهائي، وبما أن الخطة ستجعل الحوثيين -ومن ورائهم إيران- معزولين، فقد تستنتج إيران أن حملة الحوثيين قد حققت أهدافها وتدفعهم لإنهائها، وفق تقييم الدراسة.
- تحديث نظام الإنذار المبكر
أشارت الدراسة إلى أن ضرورة تحديث نظام الإنذار المبكر، ليس فقط في المياه المعروفة بوجود هجمات، مثل البحر الأحمر، ولكن أيضا في المياه التي قد تشهد هجمات جديدة.
وتُدير غرفة التجارة الدولية، مكتب التجارة البحرية الدولي (IMB)، الذي يُفترض أن يكون مركزا لتحديث نظام التهديدات البحرية. ومع ذلك، فإن التحديثات المسجلة لدى المكتب البحري الدولي غالبا ما يكون هناك بطء في إرسالها، بل قد لا تصل إلى السفن على الإطلاق، وفق إفادة رئيس السلامة البحرية في شركة “إنمارسات” البريطانية، بيتر برودورست.
واقترحت الدراسة أن تشكّل شركات الشحن والشركات ذات الصلة هيئة ممولة من قبل العاملين بالمجال، تعمل كمركز لمثل هذه التحديثات. ويمكن تعزيز هذا المركز باستخدام الذكاء الاصطناعي، حيث يمكن تدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي لاكتشاف التحركات المريبة في الممرات البحرية الاستراتيجية وغيرها. على أن تُرسِل هذه الأنظمة المعلومات لديها إلى المركز، الذي بدوره سيقيّم ما إذا كانت تلك التحركات تشكل تهديدا للسفن التجارية، وينبّه شركات الشحن إذا اقتضى الأمر.
- استخدام الأسلحة الموجهة بالطاقة
أوضحت الدراسة أن الأسلحة الموجهة بالطاقة تَستخدم طاقة كهرومغناطيسية مركزة من أجل “شلّ حركة أو إتلاف أو تعطيل أو تدمير معدات العدو ومنشآته أو حتى الأفراد”.
ويشير تقرير صادر عن مركز أبحاث الكونغرس (CRS) إلى أن هذه الأسلحة تشمل أشعة الليزر ذات الطاقة العالية، التي تستخدمها “القوات البرية في الدفاع الجوي قصير المدى، والتصدي للطائرات دون طيار، أو الصواريخ، أو المدفعية، أو قذائف الهاون، ويمكنها نظريا أن توفر خيارات لاعتراض الصواريخ في مراحلها الأولى”. وهذا يجعل هذه الأسلحة -إذا أمكن إنتاجها واستخدامها بسهولة- بديلا ذا جدوى اقتصادية عالية مقارنة بالصواريخ الدفاعية، بل وأكثر فعالية من حيث التكلفة من الصواريخ التي يستخدمها الحوثيون.
وبحسب الدراسة، يمكن تطوير هذه القدرات الدفاعية أيضا كنظم مستقلة قابلة للتصدير والتوريد التجاري، ما يسمح لأصحاب السفن التجارية بشراء وتركيب تلك الأنظمة على أساطيلهم، ويعزز من قدرتها الدفاعية، وبالتالي، يقلل من المخاطر وتكاليف التأمين. وبالنسبة للعملاء العسكريين، يمكن للمصنعين تعديل وتعزيز هذه الأسلحة لتلبية متطلبات عسكرية معينة، مثل زيادة قوة السلاح ودمجه مع أنظمة أسلحة أخرى.
وفي السنة المالية 2024، طلبت وزارة الدفاع الأميركية نحو مليار دولار لشراء أسلحة طاقة موجهة، وفي خطاب ألقاه في يناير/كانون الثاني 2024، دعا نائب الأدميرال بريندان ماكلين، قائد قوة السطح البحرية التابعة لأسطول المحيط الهادئ الأمريكي، إلى “نشر سلاح طاقة موجه على كل سفينة تابعة للبحرية”. ومع ذلك، من المرجح أن يستغرق مثل هذا التطوير واسع النطاق بعض الوقت. ففي وقت كتابة الدراسة، لم يُركّب سوى 19 سلاح طاقة موجه على السفن البحرية الأمريكية.
- الحماية الانتقائية بناء على علم السفينة
وناقشت الدراسة مقترحا يفيد بأن الدول التي ترسل قوات بحرية إلى البحر الأحمر (ونقاط التوتر المستقبلية المحتملة) للدفاع عن السفن التجارية، يمكنها أن تعلن أنها لن تحمي إلا السفن التي تُبحر تحت أعلامها.
فعلى سبيل المثال، أثناء حرب الناقلات، عندما طلبت حكومة الكويت من حكومة الولايات المتحدة السماح للناقلات التي تحمل العلم الكويتي -والتي كانت تتعرض للهجوم- بإعادة رفع العلم الأمريكي، وافقت واشنطن ووفرت للناقلات الحماية البحرية.
وترى الدراسة أن الحكومات الغربية قد تعلن أنها ستسعى فقط إلى حماية السفن التي تحمل أعلام بلدانها، على أساس أن مالكي السفن الذين لا يلتزمون بقواعد الدول الغربية لا يمكنهم أيضا انتظار حماية منها.
على سبيل المثال، لدى الصين وروسيا تاريخ في حماية السفن التجارية التي تبحر تحت أعلامهما فقط. ومع ذلك، فإن الحماية الانتقائية لن تفعل الكثير للحماية العامة للنظام البحري العالمي، وخاصة لأن العقود العديدة الماضية شهدت تسارع الاتجاه نحو “أعلام الملائمة”، بحسب الدراسة.
وعلم الملائمة هو علَمٌ ترفعه السفن أثناء ملاحتها للإشارة إلى بلد الذي جرى فيه تسجيل السفينة رغم أن الشركة العاملة والمشغلة للسفينة تكون تابعة لبلد آخر.
ففي عام 2022، سُجّل أكثر من 70 بالمئة من سعة السفن العالمية تحت علم أجنبي مع وجود المالكين المستفيدين والسجلات في بلدان مختلفة، بحسب تقارير منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد).
وتُبحر 0.9 بالمئة فقط من السفن التجارية تحت العلم الأمريكي، و0.5 بالمئة تبحر تحت العلم البريطاني، و0.3 بالمئة تبحر تحت العلم الألماني، بينما أكبر ثلاث دول لها أعلام هي بنما وليبيريا، بأكثر من 16 بالمئة لكل منهما، وجزر مارشال بنسبة 13.2 بالمئة.
وتعتقد الدراسة أن هذه الخطوة قد تكون مستحيلة؛ وفي هذا السياق، يقول أحد قادة مجموعة المهام التابعة للتحالف بقيادة الولايات المتحدة في الخليج الشمالي: “إذا نظرت إلى جميع اقتصاداتنا في الغرب، بغض النظر عن مكان تسجيل السفن، فإن البضائع التي تنقلها تعتبر أساسية لاقتصادنا”.
وأضاف: “في البحر الأحمر، والخليج العربي، ومنطقة مضيق هرمز، كنا تاريخيا نقول إننا لا نميز بين السفن التي نحميها بناءً على علمها؛ لأن الغرب وكل اقتصاداتنا تعتمد على حرية الملاحة للتجارة العالمية ورفاهية اقتصادنا، وسواء كانت السفينة ترفع علم جزر مارشال أو الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة أو اليونان أو أي علم آخر، فإننا نتعامل معها على قدم المساواة، لأن عمليات الشحن لن تعمل بشكل صحيح إلا عندما يكون النظام بأسره فعالا”.
وأشار إلى أنه “في كثير من الأحيان تكون قيمة الشحنة أكبر من قيمة السفينة، ومَن يملك الشحنة؟ إلى أين تتوجه؟ من يؤمّنها؟ من يملك السفينة؟ ومع وجود العديد من السفن، يمكنك تحديد عدة بلدان لها مصالح في السفينة وينبغي لكل منها أن تتحمل المسؤولية”.
- عمليات حرية الملاحة
يُقصد بعمليات حرية الملاحة (FONOPs، والمعروفة أيضا باسم عمليات FON)، العمليات التي تقوم بها القوات البحرية لدولة ما للتأكيد على حقوقها في المرور البريء عبر المياه الدولية، والتي قد تدعي دولة أخرى أنها تحت سيطرتها، أو تحاول التدخل في حركة المرور المدنية فيها. وتُجرى عمليات حرية الملاحة بانتظام من قبل البحرية الملكية، والبحرية الأمريكية، كإجراء أمني لحماية النظام البحري العالمي.
وتقوم الولايات المتحدة أيضا بانتظام بتنفيذ عمليات حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، لكن ترى الدراسة أنه سيكون من غير المجدي إجراء عمليات مثيلة ضد مهاجمين مثل الحوثيين؛ لأنهم لا يمثلون دولة، ولديهم حسابات مختلفة تماما للتكاليف والعوائد.
ومع ذلك، ستكون عمليات حرية الملاحة مفيدة ضد أساطيل التفتيش، إذا بدأت الصين أو دول أخرى في نشر مثل هذه الأساطيل بانتظام في المياه المتنازع عليها دوليا. وعمليا، ستحتاج مثل هذه العمليات إلى أن تشمل البحرية الأمريكية أو البحرية الملكية، حيث سيكون الحكومات الغربية الأخرى مترددة في قيادة مثل هذه العمليات.
ولكن من الوهم -بحسب الدراسة- أن يُتصور أن القوات البحرية الأمريكية والبريطانية قادرة على تنفيذ مناورات بحرية متزامنة في مختلف أنحاء العالم، فهذا من شأنه أن يستنزف موارد البحريتين إلى ما هو أبعد من نقطة الانهيار.
وفي مضيق تايوان، تنطوي هذه العمليات على خطر المواجهة مع أكبر قوة بحرية في العالم، وهي القوة البحرية الصينية، التي تضم قوة قتالية تتألف من أكثر من 370 منصة، بما في ذلك السفن الحربية السطحية الرئيسية، والغواصات، والسفن البرمائية العابرة للمحيطات، وسفن الحرب بالألغام، وحاملات الطائرات، والسفن المساعدة للأسطول.
والواقع أن الهجمات على السفن التجارية والمضايقات التي تتعرض لها وصلت إلى مستوى قد يصعب على القوى البحرية الغربية الرئيسية التعامل معه، وفق الدراسة. فعلى سبيل المثال، تمتلك البحرية الملكية البريطانية نحو 80 سفينة، ولكن 12 منها فقط فرقاطات، و8 سفن دورية بحرية، و6 منها مدمرات.
- عرقلة وصول السلاح للمهاجمين
تحاول البحرية الأمريكية منذ فترة طويلة منع شحنات الأسلحة إلى الحوثيين. والواقع أنها بدأت في القيام بذلك قبل فترة طويلة من اتضاح أن الجماعة ستستخدم الأسلحة لمهاجمة السفن. والآن بعد أن اتضح أن الأسلحة لا تُستخدم فقط في حرب اليمن، بل وأيضا لإلحاق الضرر بالشحن العالمي، فإن الولايات المتحدة وحلفاؤها ربما يكثفون هذه الجهود.
وأضافت الدراسة أنه يمكن للحكومات أن تتشاور مع شركات الذكاء الاصطناعي القادرة على تتبع تحركات الأسلحة المشتبه بها إلى المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. والواقع أن الحكومات تستطيع أن تتعاون مع شركات الذكاء الاصطناعي، وخاصة مع الشركات الناشئة التي تسعى إلى إثبات نفسها، ومن شأن مثل هذا التعاون أن يضيف إلى المعلومات التي قدمتها بالفعل أجهزة الاستخبارات.
- حماية مسلحة على متن السفن
عندما زادت أعمال القرصنة بشكل كبير قبالة سواحل الصومال في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، استجابت العديد من شركات الشحن بتعيين حراس مسلحين. وسرعان ما أثار استيلاء الحوثيين على السفينة “غالاكسي ليدر” اقتراحات بوضع حراس مسلحين على متن السفن التجارية في البحر الأحمر.
ومع ذلك، فإن الحراس على السفن التجارية مسلحون بشكل خفيف نسبيا ولن يكونوا قادرين على حماية السفينة ضد الميليشيات المدربة مثل الحوثيين، وفق الدراسة.
وأضافت: “في الواقع، حراس السفن ليسوا جنودا، وبالتالي فإنهم ممنوعون قانونا من تشغيل المعدات العسكرية ولن يكونوا قادرين على حماية السفن من الصواريخ و(معظم) هجمات الطائرات المسيّرة. ومن المرجح أيضا أن يعانوا في سبيل إحباط عملية اختطاف تُنفذ بشكل احترافي من النوع الذي شنه الحوثيون ضد “غالاكسي ليدر”.
ويؤكد ذلك أنه على الرغم من زيادة إشارات “الحراس المسلحين على متن السفن” منذ أن بدأ الحوثيون هجماتهم، إلا أن الهجمات استمرت. بالإضافة إلى ذلك، فإن المقاومة المسلحة ضد محاولة الاستيلاء على سفينة من شأنها أن تخاطر بالتصعيد إلى موقف تشعر فيه القوات البحرية نفسها بأنها مضطرة للتدخل.
لكن تقترح الدراسة أن الدول الغربية قد تعرض على السفن الحماية من قِبل ضباط إنفاذ القانون. ويمكن تعريف مهمة هؤلاء الضباط بأنها الدفاع عن الشُحنة وليس السفينة. وقد جربت الولايات المتحدة هذا المفهوم من قبل، فقد شمل طاقم البحرية ومشاة البحرية الذي نُشر في مضيق هرمز في أغسطس/آب 2023، عرض توفير ضباط إنفاذ القانون على متن السفن التجارية، إذا طلب أصحاب السفن ومديروها هذه الحماية.
خاتمة الدراسة
منذ بداية القرن التاسع عشر، عملت دول العالم تدريجيا على بناء مجموعة من القواعد والاتفاقيات التي تسمح للشحن التجاري بالعمل دون خوف دائم من هجمات الدول المعادية. وقد فعلت ذلك لأن اقتصادات الدول -على الأقل منذ الثورة الصناعية- تعتمد على الشحن العالمي.
لكن تعتبر الدراسة أن تهديد الحوثيين تهديد جديد، حيث إن له أسباب جيوسياسية -ولو على المستوى الظاهري- لكنه صادر عن جماعة مسلحة وليس عن دولة، هذا فضلا عن أن الحوثيين لديهم حسابات مختلفة للتكاليف والعوائد عن القوات المسلحة التقليدية، وهذا يجعلهم يشكلون “تهديدا شرسا” للشحن العالمي، بحسب وصف الدراسة. علاوة على ذلك، فإن الحوثيين يستخدمون أسلحة أكثر تطورا من تلك التي كانت تحت تصرف الأجيال السابقة من المجموعات المسلحة.
وترجح الدراسة أن ترغب الميليشيات الأخرى (بما في ذلك تلك التي لم تتشكل بعد) في استنساخ مفهوم الحوثيين الناجح في نقاط الاختناق البحرية الأخرى والمياه المزدحمة.
ولعدم نجاعة القوة العسكرية التقليدية في هذه الحالة، سوف تحتاج الحكومات الغربية والعاملون بمجال الشحن البحري إلى استخدام وسائل أخرى غير القوة العسكرية التقليدية للحد من الضرر الذي يسببه الحوثيون (والمهاجمون المحتملون من نفس النوع في المستقبل).
وسوف تتطلب هذه الجهود -بما في ذلك التهديد الوقائي بإعادة توجيه السفن بشكل جماعي بعيدا عن المياه الخطرة، واستخدام الأسلحة الموجهة بالطاقة- التعاون بين القطاعين العام والخاص. ويمكن للحكومات الغربية وشركات الشحن أن تبدأ بالإعلان عن زيادة تعاونها إلى ما هو أبعد من الاحتياجات الفورية في البحر الأحمر. وهذا من شأنه أن يشير إلى المهاجمين المحتملين بأن الحكومات والشركات الغربية مستعدة لعدوان بحري جديد في المنطقة الرمادية، وسوف يكون لديها استراتيجية أفضل لإحباطه مقارنة بما كانت عليه الحال في البحر الأحمر.