الفلاح والسياسة في مصر: من الإصلاح الزراعي إلى التهميش
المحتويات
- المقدمة
- المجتمع الفلاحي بعدسة سوسيو-أنثروبولوجية
- الفلاح المصري
- التحولات الفلاحية في الريف المصري منذ أواخر القرن الماضي
- مداخلة نقدية حول تطوير عدسة فهم الريف المصري
- المصادر والمراجع
المقدمة
يُشكِّلُ الفلاحون المصريون نسبة هائلة من المجتمع المصري، فهم يمثلون أكثر من نصف المجتمع، ما يجعل فحص تجربتهم الثقافية المحلية، غير المنعزلة عن المدينة، كما قضايا اجتماعية وسياسية واقتصادية أخرى، أمرا بالغ الأهمية. كحال علم الاجتماع في منطلقاته الأولى، والتي وضعت التحولات المرتبطة بالتصنيع والتحضير والتحديث في مركز تحليلها، فقد قام علماء الاجتماع المصريون، بتغريب الريف وعزله نسبيا في دراساتهم حول المجتمع المصري. ولقد عُرف الريف المصري تاريخيّا، بهامشيته في علاقته مع الدولة، وتمثل الفلاح المصري ذاته في علاقته بالمجتمع الكلي بوصفه “المنسي” أو “المُهمّش”، بالرغم من فعالية الريفيين المرتبطة بالإنتاج الزراعي، والذي يرتبط بمركزية مياه النيل. كما احتلت المياه مكانة بالغة الخطورة، ليس فقط من الناحية الكمية، تلك التي تُخبرنا بأن معظم المجتمع المصري يعيش على ضفاف النيل، ولكن أيضا من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والثقافية كذلك.
تسعى هذه الورقة إلى التعمق في سؤالين رئيسيين، الأول يتعلق بالأفكار والمفاهيم والنظريات المركزية التي تطور من خلالها علم الاجتماع الريفي في دراسته للمجتمعات الريفية وتحولاتها، ذلك الذي حاول منظّروه تعريف المجتمع الريفي وتحديد موضوع مشاهدته وعلاقاته بما يقع خارجه. أمّا السؤال الثاني، فيرتبط بفهم الفلاح والمجتمع الفلاحي في السياق المصري: ماهيته وخصائصه، والتحولات التي حدثت له بفعل عمليات التحديث وعلاقته بالمجتمع الكلّى بما في ذلك اقتصاده وسياسته. وللقيام بذلك، فإنّنا سنقوم بقراءة نقدية تحليلية لأعمال عدد من الباحثين الاجتماعيين الذين نظّروا لعلم اجتماع الريف عامة مثل هنري مندراس، وللمجتمع الفلاحي والريفي المصري خاصة، مثل هنري عيروط وحبيب عايب، اللذين أسهما في إحداث نقلة في فهم خصوصيّات الفلاح المصري، وأزمة المجتمع الريفي في مصر في علاقته بـ”المجتمع الشامل”، أي المجتمع المصري بكامل كثافته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.
المجتمع الفلاحي بعدسة سوسيو-أنثروبولوجية
بالرغم من الانطلاقة العلمية والعملية الأولى لظهور “علم الاجتماع الريفي” كمؤسسة علمية تعود فقط للربع الأول والثاني من القرن الماضي، أي بالتزامن مع نهاية الحرب العالمية الثانية، من خلال اتجاه أمريكي ميداني/كيفي، وآخر فرنسي مونوغرافي، إلّا أن الأصول الابستمولوجية للنظر في قضية الفلاح في الحياة الاجتماعية والاقتصادية، تعود إلى الفيلسوف وعالم الاجتماع كارل ماركس، وهو الذي حاول تقديم نظرية شاملة لتفسير العالم من خلال عدسة تاريخية جدلية. لم ينطلق الفكر الماركسي في دراسته للفلاح من مدخل ثقافي، ولكن قدمهم وفق نظرية الصراع conflict theory، تلك التي تتعامل بمفهوم “الطبقة”، فالفلاحين هنا طبقا لذلك المنظور السوسيو-تاريخي، يُفهمون بوصفهم “طبقة” ضمن المجتمع الكلي المتطور عبر مراحله، وهم بذلك جزء من تلك المعادلة الشاملة. لذلك، فالفلاحون حسب الطرح الماركسي يجب موضعتهم ضمن المجتمع الرأسمالي، الذي يتعامل مع طبقتي مالكين رؤوس الأموال أو العمال المُستغلين (ماركس ١٩٣٧، ٤٦- ٢٤٥). وبعبارة أخرى، فإن ذلك المجتمع الفلاحي، لم يظهر آنذاك بوصفه مجموعة أو جماعة أو ثقافة فرعية، بل بوصفه طبقة ضمن طبقات المجتمع في التاريخ وفي الحاضر كذلك. وعليه، فالفلاح هو فرد تستغله الموارد والطاقات الرأسمالية، فيما تغيب فعاليته الفردية أو الجماعية. يُمكننا القول هنا إن أول مراحل تهميش الريف، لم تكن سياسية، بل كانت علمية، فيما يُمكن أن أُسمّيه بـ”التهميش العلمي للمجتمع”، وهو نفسه النقد الذي قُدّم لكارل ماركس عندما يتعلّق الأمر بدراسة المجتمع الريفي، بما في ذلك خصائصه، وتحولاته وعلاقته بالسياسي والسياسة.
أمّا بالنسبة للفلاحين كما تعرفهم النظرية الوظيفية functionalist theory لعلم اجتماع الريف، فإنها قامت على أكتاف “المعرفة الوضعية”، التي تتعامل مع الريف بكونه يحتوي جملة من الظواهر، يجب مشاهدتها من الخارج بوصفها أشياء، أي أنها ظاهرة اجتماعية داخل “المجتمع الكلي”، إذ يحتم ذلك علينا تفسيرها من خلال مؤشرات وخصائص قابلة للقياس كما علاقتها بالظواهر الأخرى (بوب ١٩٧٥، ٣٦٠-٣٧٤). ذلك هو المنطق الفلسفي للنظرية الوظيفية، الذي ينقلنا نقلة فكرية من فهم الفلاح بوصفه طبقة إلى مجتمع، باعتباره ظاهرة اجتماعية لها خصوصيتها.
وبما أن الفرد لا يعمل إلّا من خلال إطار جغرافي-اجتماعي، فإنه ومن المهم أيضا التطرق إلى الإطار الكلي الذي يُعد الحاضنة للفرد الريفي، أي الفلاح. هنا نحن أمام مفهوم “القرية”. تتفق مختلف الاتجاهات الوظيفية الدوركايمية، على تعريف القرية باعتبار أنها الوحدات الجغرافية المكونة من مجموعة من العاملين في فلاحة الأرض، يشاركون أنماط ثقافية وعلاقات اجتماعية مشتركة، مشكلين بذلك وعي جمعي مشترك، بغية الحفاظ على “وحدتهم” و”تماسك” بناهم ومؤسساتهم وقيمهم، غير المنعزلة عن باقي مؤسسات المجتمع، التي تقع خارج ذلك التنظيم الفلاحي، أي المدينة (سيدل ٢٠١٧، ٣٩٦-٤٧٠).
لم تكن بداية التفكير في دراسة الفلاح ومجتمعه الفلاحي، من خلال علم الاجتماع، بل من خلال الأنثروبولوجيا الاجتماعية، التي كان لديها سؤال “الثقافة المحلية”. فعلم الاجتماع حاول الاحتكاك مع الريف من خلال فهم التحولات المرتبطة بالتصنيع والتحديث والتحضر، غير أن الأنثروبولوجيا، بدأت في نقل زوايا التركيز من المدينة القائمة على مرتكزات الثورة الصناعية إلى كل ما يقع خارج المدينة، أي ما هو ليس حداثي، ولهذا فقد أخذت من “المجموعات البدائية” (المجتمعات الزراعية على سبيل المثال) موضوعا للمشاهدة (سيدل ٢٠١٧، ٣٨٠-٤٧٥).
مع نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، بدأ سؤال الفلاح يأخذ مركزية في التناول عند المدرسة الأمريكية. وقد نبعت هذه المركزية من الاهتمام بسؤال “الاندماج الاجتماعي” للثقافة الفلاحية داخل المدينة. وبعبارة أخرى، فعنصر الاهتمام بالفلاحين في الربع الأول من القرن العشرين، كان نابعا من تمثل وظيفي للفلاحين، يعمل على إدماجهم ثقافيا داخل المنظومة الكاملة، بوصفهم عنصرا يعمل على إحداث توازن داخل المجتمع الشامل، وهذا الاهتمام البحثي كان من صنع مدرسة شيكاغو، وخصوصا من خلال عمل “وليام توماس” و”زنانيسكي” حول الفلاح البولوني في أوروبا وأمريكا (توماس وزنانسكي ١٩١٨، ١٨-٧٩).
إذا، واستخلاصا لهذا الاهتمام، فهناك نقلة نوعية قد أحدثتها المدرسة الأمريكية في هذا السياق تمثلت في إدخال الفلاحين بوصفهم عنصرا ثقافيّا، له كيانه الخاص، الذي يعرفهم كمجموعة أو تصنيف peasant as a category، كما أن إقحام عامل الاندماج على معادلة الريف والمدينة، تعني رفع الحالة “الغرائبية” عن الفلاح ومجتمعه، وهي الوضعية التي شهدتها التعريفات الأولى للأنثروبولوجيا الثقافية. بعبارة أخرى، تخبرنا المدرسة الأمريكية الأنثروبولوجية أن الفلاح له منظومته الاجتماعية/الثقافية الخاصة، وبذلك، فهو ليس فقط نقطة ضمن بحر.
هذا الاهتمام الثقافي، الذي يعمل على الانتقال بنا لفهم الفلاحين من خلال الاعتماد على مفاهيم السوق والعزلة واللاثقافة إلى تحليليهم بوصفهم يحملون “وظائف ثقافية” فريدة تميزهم عن غيرهم داخل المجتمع المديني. كما أن ذلك الهم البحثي ارتبط بعدد من المفاهيم التحليلية، كان أهمها: “تعريف الوضعية” و”التنظيم”. ولفهم الفلاح، فلابد من المرور عبر عدة مراحل، أولها يرتبط بالضرورة بالكيفية التي يعيد من خلالها الفلاح تعريف ذاته re-definition وجماعته ومؤسسته الفلاحية بمفاهيم ثقافة الفلاحة. أمّا ثاني المراحل ما يسميه الباحثان توماس وزنانيسكي، بـ”سوء تنظيم”، ذلك الذي ينتج بفعل الفوضى التي تتشكل في لحظة العبور من الخروج من عباءة التيه التنظيمي إلى محاولة التنظيم. ننتقل بعد ذلك إلى المرحلة الثالثة، التي تتعلق بـ”إعادة تنظيم” للوصول منها إلى مرحلة “التنظيم”. هذا “التنظيم”، يعني الوصول إلى “مرحلة التناغم الوظيفي بين ثقافتي المجتمعات الريفية والمدينية” (توماس وزناسكي ١٩١٨، ١٨-٧٩).
بالانتقال إلى مركز تفكير أنثروبولوجي آخر كان له مساهمته لفهم الريف والفلاح، روبرت ريدفيلد، وهو الذي عمل على تحليل “الجماعات المحلية”، وانتقل بفكر المدرسة الوظيفية داخل الأنثروبولوجيا الاجتماعية في فهمها للثقافة، من تعريف مالينوفسكي الذي يصفها بكونها جملة من المؤسسات والعادات والتقاليد “المنعزلة” إلى مفهمة مغايرة للثقافة، يحاجج بأن الثقافات المحلية، لا يمكن فهمها إلا من خلال فهم علاقاتها بـ”المجتمع الشامل”. وهذا بعبارة أخري، يعني أن الدراسات الريفية في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا تنتقل من تركيز محدود إلى آخر أشد شمولية، ما يحافظ على “وضعيته الوظيفية”.
وبالنسبة لردفيلد، فإن داخل المجتمع الشامل ثمة مجتمع فلاحي له خصائصه الواضحة، تلك التي تميز الفلاح عن غيره، ومن أول خصائص الفلاح أنه ذلك الفرد الذي يعمل على خدمة الأرض غير مرتبطا بالضرورة بملكيتها ownership. أمّا ثاني خصائص الفلاح، أنه يهدف إلى العيش من خلال نظام اقتصاد الكفاف، فهو لا يعمل بمفاهيم السوق التي ترتبط بالربح ومراكمة رؤوس الأموال كما الربح أو الاستثمار التجاري، لكنه يعمل على تحقيق الاكتفاء الأسري. ثالثا، أن الأسرة هي وحدة الإنتاج الرئيسية داخل المجتمع الريفي، فهي التي تُنتج وهي التي تُسيّر كافة مسارات المعيش. وبالإضافة إلى ذلك، يصوغ ردفيلد للكيفية التي يتشابك من خلالها المجتمع المحلي الفلاحي مع المجتمع الشامل، وهذا من خلال تناوله لمفهوم “الأعيان” أو النخب، وهم جملة الأفراد الذين يلعبون دورا حيويا بغية بقاء الريف في اتصال دائم مع المدينة وإدراتها السياسية (أي الأجهزة المختلفة الدولة). كما أنه يحاجج بأن غياب هذه الفئة، يعني انعزال المجتمع الفلاحي عن كل ما هو خارجه، أي ضمنيا، العودة إلى الحالة الانعزالية الأولى، وبالتالي العودة بالفلاح إلى قرون ما يُمكن أن أُسمّيه بـ”الشتات الداخلي” internal diaspora (ردفيلد ١٩٥٦، ١٦-٧٤).
وفي سياق أكثر تماسكا من الناحية “المنهجية”، وبالذهاب إلى مخبر “هنري مندراس”، والذي أحد نقلة نوعية في دراسات علم الاجتماع الريفي، من منظور “وظيفي- بنيوي”، ليجعل منه نظرية وأداة مشاهدة في الوقت نفسه، فحينما يحاول ردفيلد تقديم الفلاحين بوصفهم عناصر مميزة لها خصائصها الديموغرافية والاقتصادية والثقافية، المندمجة في الوقت نفسه داخل المجتمع الأوسع، الذي يحتوي السلطة، فإن مندراس تقدم بهذا الطرح خطوات إلى الأمام من خلال ملمحين. الأول، أنه وضع نموذجا بغية فهم الفلاح، يتضمن بداخله مؤشرات قابلة للقياس تتعامل بمفاهيم الوضعية الدوركايمية. أمّا الملمح الثاني، أنه بلور من خلال هذا النموذج “نظرية” لفهم التحولات التي تحدث داخل الريف ليتخطّى بذلك حدود المفهوم التقليدي لما هو فلاحي، من خلال وضعه مؤشرات توضح ما هو المجتمع الفلاحي، ومن هم الجماعات المنعزلة، ومن هم الفلاحون المستثمرون (أو الاستثماريون الزراعيون، كما ما هي احتمالات التغيير الاجتماعي في ذلك المجتمع. ويأخذ مندراس من عناصر: وحدة الإنتاج والاستهلاك، والعلاقة بالأرض، وتقسيم العمل، والهدف من الإنتاج، والمعرفة المتبادلة، والعلاقة بالسوق وبالآخر، وحجم الاستقلالية، والعلاقة بالمجتمع ككل، مؤشرات للتحقيق والمشاهدة بغية رصد أماكن الاستمراريات والقطيعات، لتمييز ما يعمل بمفاهيم الريف، عمّا يعمل بنمطق السوق، وما يدور بينهما.
وفي تحليله للريف والتحولات داخل الفئات الثلاث وعبر المؤشرات، فإن مندراس قد طور نموذجا تحليليّا analytical modelling يعتمدُ على عدة “نظم” (أنساق)، مثل نظام القرابة، والنظام الأسري والنظام الاقتصادي ونظام الحياة اليومية والنظام الأيديولوجي. وبمفاهيم وظيفية-بنيوية، فإن تلك الأنظمة تُعتبر بمنزلة بنى اجتماعية، تعتمد على بعضها البعض، فالنظام الأيديولوجي مثلا يشكل تصورات الفلاح تجاه الواقع والعلاقة بالآخر، ليحدد ذلك علاقة الريف بالسوق، أي أن النظام الأيديولوجي التصوراتي يرتبط بالنظام الاقتصادي، ما يعمل على توازن وديمومة النظم كاملة (مندراس ٢٠٠٢، ١٥٥-١٦٩).
وعليه، فإن القيمة المضافة الرئيسة التي يقدمها لنا مندراس تتبلور حول دراسته للمجتمعات الريفية من ناحية وصفها، وتغيرها الاجتماعي، ما ينقل منظار المشاهدة من الريف التقليدي إلى الريف الممتد، أي بعلاقاته بالمجتمع الكلي، ما يجعل نموذجه قابلا للتطوير، إن لم يكن التطبيق الحذر في سياقات مختلفة، ومنها “سياق المجتمع الريفي المصري”.
الفلاح المصري
حسب آخر الإحصائيات الصادرة عن دراسة الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري، لعام ٢٠٢٢، فإن ٥٧ بالمئة من سكان مصر يعيشون في الريف، ما يتخطى الـ ٥٤ مليون نسمة، موزعين على وجه بحري ووجه قبلي، فيما يتمركز ٤٠ مليون نسمة في المدن. بالإضافة إلى ذلك، فقد تخطت نسبة المساحات الفلاحية (أي التي يعمل أهلها حصرا بالزراعة) داخل بعض المحافظات نسبا هائلة، مقارنة بحجم التمدن داخل تلك المحافظات. فمثلا، تشغل المساحات الريفية بمحافظة المنيا ما يزيد عن ٨٠ بالمئة، فيما بلغت محافظة المنوفية ٧٨ بالمئة، بكثافة سكانية تجاوزت الثلاثة ملايين نسمة. كما بلغت مساهمة القوى العاملة بالزراعة في الناتج الإجمالي المحلي المصري حوالي ١٣ بالمئة بحلول عام ٢٠٠٨ (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري ٢٠٢٢).
ومن خلال تتبع تاريخي، فمنذ عام ١٩٦٠ وحتى اليوم بقيت كتلة الريف المصري ثابتة نسبيا، فطبقا لمؤشرات البنك الدولي World Bank، فقد تحولت نسبة الإشغال الريفي من ٦٢ بالمئة عام ١٩٦٠ إلى ٥٧ بالمئة عام ٢٠٢١. كل تلك المشاهدات/الملاحظات تجعل من المجتمع المصري، مثالا فريدا لفهم المجتمع الريفي كما تحولاته وعلاقاته بالسياسة والاقتصاد والمجتمع، وهو بذلك، مجتمع يفرض وجوده على السياق الاجتماعي المصري كمّا وكيفا/نوعا (البنك الدولي ٢٠٢١).
تشترك جميع المساحات الزراعية المُشكِّلة للريف المصري، والممثلة للـ٥٤ مليون نسمة، في بعض الخصائص، مثل أنها تشتغل بالزراعة، سواء بالتملك، أو بالعمل في فلاحة الأرض، إضافة إلى أن “الأسرة” تعد الوحدة الأساسية للإنتاج والاستهلاك في ذلك المجتمع وليس الفرد مثلما نجد في مجتمعات المدينة، وخصوصا المدن الكبرى مثل القاهرة، وهو ما يتفق مع نموذج مندراس في وصفه للأسرة داخل المجتمعات الريفية، إذ يُحاجج بأنها تُعد بمثابة كيان فريد تقوم على أرضيته ومن خلاله جملة عملية الإنتاج والاستهلاك لوحدة الإنتاج والاستهلاك.
إن تعريف الفلاح المصري كما عرّفه حبيب عايب، في كتابه: “أزمة المجتمع الريفي في مصر: نهاية الفلاح”، أنه من يعمل في الأرض، أي يفلحها، مُستخدما في ذلك قوة عمله الذاتية والعائلية. والفلاح قد يكون مالكا للأرض أو مستأجرا لها. كما ترتبط الفلاحة بشكل أساسي بمورد المياه، فيما تزداد قيمة الأرض (العنصر الأول للفلاحة) بقدر اقترابها من مياه نهر النيل (العنصر الثاني) وليس مياه الري التقليدية، التي تُقلصُ من قيمة الأرض، فبدون مياه النيل تفقد الأرض كل قيمة ومنفعة، فالمياه هي المعيار القيمي والمادي لأي أرض (عايب ٢٠١٣، ١٥-٢٤).
علاوة على ذلك، فإن الفلاحين المصريين يتشكّلون من فئات غير متجانسة، وهذا التنوع يعود للتباين بناء على حجم التملك، ففي عام ٢٠٠٠، كان ٩٠ بالمئة من الفلاحين المصريين يملكون أقل من ٥ أفدنة، فيما يملك ٨ ونصف بالمئة بين ٥-٢٠ فدان، أما من يملكون أكثر من ٢٠ فدان (كبار الملاك في هذا الوقت) يمثلون واحد بالمئة فقط (المرجع السابق). وعليه، فإن أنماط الفلاح المصري تتوزع ما بين أولا، صغار المُلّاك وثانيا، كبار الملّاك، وثالثا وأخيرا، متوسطي المُلّاك.
ويحاجج حبيب عايب بأنه على مر التاريخ فإن الفلاحين المصريين يزرعون بأنفسهم أراضيهم بمساعدة أفراد من العائلة دون اللجوء إلى أيد عاملة خارجية، أي أنه ثمة غياب نسبي لمفهوم “التوظيف” employment في سياق الريف المصري، وهذا ما يتفق مع نموذج مندراس الذي يقترح من خلاله بأن العائلة تعد وحدة الإنتاج في المجتمع الفلاحي، وهي التي يعمل أفرادها بشكل مباشر على أرضهم كما يُخبرنا عايب (المرجع السابق، ١٦). وبعبارة أخرى، فإن الأفراد في المجتمع الريفي المصري، لا يُمكن فصلهم عن أسرهم، بأي شكل من الأشكال، وهذا لأن الأسرة تُعتبر مورد التمويل الرئيسي، لعدم وجود مصدر خارجي يُموّل عملية فلاحة الأرض.
وفي توصيف مكثف لعلاقة الفلاح المصري بالأرض، يجادل عايب بأن: “الأرض لا تمثل لفلاح وادي النيل مجرد مساحة يجني منها في الأساس قوت يومه إضافة إلى بعض الإيراد بشكل عرضي. فمن الأرض تأتي المنتجات التي يطعم منها أسرته ودوابه، ومنا أيضا يستمد كرامته ومكانته داخل الجماعة المحلية. إن امتلاك الأرض يعني الحصول على إسم ووضع اجتماعي، ومن ثم دور في المجتمع. الأرض هي قبل كل شيء رأس مال اجتماعي وأمان غذائي ومالي. إذن، فالأرض لا تقيم بسعر السوق الجاري، لأنها لا تخضع حصريا لقواعد السوق. لا يعتبر بيع الأرض في المجتمع الفلاحي المصري مجرد عملية تجارية، إنه في أحسن الأحوال، يعد الحل الوحيد لمشكلة آنية وخطيرة نسبيا، وفي أسوأ الظروف يكون البيع اعترافا بالفشل، ومن ثم فهو يمثل ضياعا لهيبة الفلاح وكرامته. وتتبع ذلك الفعل عواقب اجتماعية تبدو بسيطة للوهلة الأولى بينما تتضح غالبا مأساويتها” (المرجع السابق، ١٧). هذا يعني أن الأرض بالنسبة للفلاح المصري في الماضي كما الحاضر، لا تُعبّر عن مصدر رزق رئيس فحسب، بل إنه يتمثلها بوصفها مصدرا لاحترام وقبول الآخرين، أي أنها تُكسبه مرتبة ورمزية اجتماعية في أعين الآخرين، كما ضمان كرامة الفرد والأسرة، وإن التفريط بها، يعني فقدان رمزية العائلة المالكة لتلك الأرض. لذلك، فإنّ الأرض لا تُباع إلّا في أشد الظروف، ومن خلال حسابات ليست مثل البضائع والأصول الأخرى، التي تعتمد فقط على المكسب والخسارة، بل تمتد إلى ما فوق العامل المادي، وتلك أحد خصوصيّات الفلّاح المصري.
أما فيما يتعلق بعلاقة المجتمع الريفي المصري بالمجتمع الشامل أي كل ما يتضمن المجتمعات التي لا تعمل في الزراعة، فإنه وحسب تحليل نزيه الأيوبي، ثمة ثلاث سمات رئيسية مُحددة لتلك العلاقة. أولا، سمة الاستقرار والاستمرار والثبات، المبني على قدرة الإدارة السياسية التي مركزها القاهرة على استيعاب الإثنيات والثقافات المختلفة، ومن بينها الفلاحين. ثانيا، فكرة الوحدة الشاملة، أي أن الإدارة السياسية في التاريخ المصري الحديث ظلت تتعامل مع الفئات المجتمعية المختلفة باعتبارها كتلة واحدة تُشكل المجتمع المصري. يُمكنني أن أتفق مع العنصر الأول الذي يذكره الأيوبي، إذ إن التصور الرسمي للدولة يعمل على ابتلاع الثقافات الفرعية المصرية بداخل الدولة المصرية، لكنّي لا أتفق مع العنصر الثاني، فمقولة “الكتلة الواحدة” تنفي خصوصية الفلاح المصري، كما عقود من التهميش، التي تفصله عن المدينة على مستوى التصور كما الممارسة، ولا سيما في نصيب الريف من الموازنة العامة. أمّا ثالث السمات، فتتمثل في أن مؤسسات الدولة المصرية خلال فترات حكم عبد الناصر والسادات ومبارك، تتصور الريف المصري، بوصفه “منظومة إنتاج” فحسب، وهو ما يتفق مع المفهوم الوظيفي للريف. هذا التصور الوظيفي، وبعبارة أخرى يعني أن الريف إن لم يتماشى مع فلسفة وطرائق عمل المدينة، فإنه يُناقضها، ولا يعمل بالتوازي معها، وبالتالي، فقد يقع خارج سياسات الدعم. هذا تصور السياسي لما هو “ريف”، وهو ما لا يتفق مع تصور الريفي لنفسه، أو بالأحرى يُناقضه، إذ يرى الريف منظومة اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية شاملة، وليس مصنع أو منظومة إنتاج، تعمل بمفاهيم الربح والخسارة.
لم تقف حكاية العلاقة بين الريف والمدينة عند هذا الحد، بل إننا وللتقدم بفهمنا لتلك العلاقة، علينا أن نعي بأهمية “الوسيط” Medium بين هذا وذاك، أي كيف يتواصل الفلاح المصري مع الإدارة السياسية بالقاهرة؟ وهنا يظهر أمامنا مفهوم “الأعيان”.
تُعرَّف فئة الأعيان بوصفها همزة الوصل بين المجتمع الريفي والمجتمع الشامل، أي بين الريف المصري والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المختلفة، التي تنفصل على كل المستويات عن الريف. وحسب ردفيلد ومندراس، فإن ذلك يبدو واضحا من خلال فحص حركة أفراد الأسر الذين تلقوا تعليما عاليا في المدينة، بين المدينة والريف، مثل أولئك الذين نزحوا من محافظات الأقاليم ليكملوا تعليمهم في جامعات القاهرة ثم يعودون مرة أخرى لبدء حياتهم العملية بالريف. وإنّ أحد الأشكال الإدارية التي تُترجم مفهوم الأعيان في المشهد السياسي المصري، يتبلور في ما نسمّيه بـ”العمدة”، وهو الذي ظل تاريخيّا منذ منتصف القرن الماضي، يُسيِّرُ العلاقة بين القرى وحكومة القاهرة. هذا العمدة من المفترض نظريّا أنه يُمثِّلُ وجهة نظر الريف في المدينة، لكنه في بعض الأحيان، وكما يُخبرنا فيلم “الأرض”، الذي أنتج عام ١٩٧٠، فإنه يُمكن أن يتواطأ مع السياسي في بعض القضايا التي لا تخدم مصلحة الريف في نهاية الأمر (فيلم الأرض، ١٩٧٠). لم تقف صورة الأعيان عند ذلك الحد، بل إنّ النظر في الموظفين من أصول ريفية في بعض المؤسسات والبيروقراطيات مثل الجيش والشرطة، يعد نمطا آخر للأعيان. ولذلك، فمنطق الوسيط (الأعيان) الذي يربط الريف بالمدينة في السياق المصري، حاضر من خلال ثلاثة أنماط، قائمة على، أولا، التعليم (أبناء الأسر)، وثانيا، التوظيف (موظفي البيروقراطيات)، وثالثا، المكانة (عمد القرى).
ثمة مركزية أخرى في تعريف الريف المصري، تتمثل في “التضامن الكثيف” intensive solidarity بين عناصر المجتمع الفلاحي أي بين الأسر الريفية العاملة في الأرض، ما يوفر توصيفا للـ”الفلاح الحقيقي” كما يسميه تيموثي ميتشل، وهذا ما نراه حاضرا في محافظات الشرقية والمنوفية وبني سويف والمنيا على سبيل المثال، حيث أن الجميع يرتبط بالجميع، وهو ما يتّفق مع طرح مندراس أيضا (ميتشل ١٩٩٠، ١٢٩-١٥٠).
أما بالنسبة إلى هنري عيروط، فإنه يدرس الفلاحين المصريين بكونهم “مُهمَّشين” لم ينصفهم التاريخ، ولا السلطات المركزية على مر التاريخ المصري الحديث، فعبر فصول كتابه تحت عنوان: “الفلاحون”، والذي اعتمد فيه على منهج سوسيو-تاريخي، يتتبع الحقائق التاريخية، ويعمل على تكثيف المشاهدات الميدانية الإثنوغرافية والتفاعل المباشر مع الريفيين محل الفحص، يعمل الكاتب على وصف “وظائف” الفلاح التاريخية في علاقتها بالدولة والمدينة والتنمية والتشييد والبناء، لكنه يرى أيضا بأن الفلاح بقى منعزلا حتى في حالة مساهمته داخل المجتمع الكلي. ويصف عيروط حالة التهميش التاريخية هذه بـ”البؤس” فهو يتمثل بؤس الفلاح، في صورتيه المادية المرتبطة بحرمانه من المسكن والمأكل والمشرب والتواصل مع المدينة، والمعنوية المتعلقة بالحرمان من التعليم (عيروط ١٩٣٨، ١٦-٢٧٥).
وفي لُب إضافة عيروط المعرفية لفهمنا للريف المصري، يستند الكتاب على مركزية مفهوم “التغيير” فهو ينتقل بنا من الوصف لما يُمكن أن نعني بالفلاح إلى سؤال “ماذا حدث للفلاح؟”، ومنه إلى سؤال “ما العمل؟” الذي قدمه لينين، وهنا يقترح بأنه تتشكل أرضية العمل من خلال عناصر “التعليم” و”التثقيف” بوصفها وسائل للإصلاح من داخل المنظومة، وبناء على ذلك التصور، فقد أسس عيروط “جمعية الصعيد للتربية والتنمية” عام ١٩٤١، والتي هدف من خلالها تطوير أوضاع القرى المصرية، من خلال “تنمية شاملة”، عابرة للأجيال المختلفة (عيروط ١٩٣٨، ١٦-٢٧٥).
التحولات الفلاحية في الريف المصري منذ أواخر القرن الماضي
لقد تحوّل الريف المصري على فترات مختلفة منذ تأسيس الجمهورية المصرية وإلى الآن، من خلال مراحل، حتى وصل إلى مراحل متقدمة من التهميش. وهنا يظهر سؤال: كيف وصلنا إلى تلك الوضعية التي يعيشها الفلاح المصري اليوم؟ أو كيف غيّرت تلك المراحل التاريخية من وضعية الفلاح المصري، حتى وصل إلى صورة، يُمكن أن أسميها بـ”تضخم التهميش” over-marginalization” التي هو عليها اليوم.
في المرحلة الأولى (١٩٥٢-١٩٧٠)، كان الاقتصاد مركزي، موجه نحو الداخل. عمل عبد الناصر في تلك الفترة على إدماج الفلاح المصري داخل المنظومة الاقتصادية من خلال قوانين الإصلاح الزراعي (١٩٥٢). تضمنت تلك الفترة تنشيط لمبدأ المساواة الاجتماعية، إذ سُحبت الأراضي من الإقطاعيين فيما وُزّعت على الفلاحين، لتنخفض حدة الفقر الريفي، لكن تلك الوضعية كانت قصيرة الأمد (النور، ٣٠-٣٢). في المرحلة الثانية (١٩٧٠-١٩٨٠)، وفي عصر أنور السادات، اتسمت الحياة الاجتماعية والاقتصادية بالانفتاح على الأسواق، وهي المرحلة التي شهدت إرهاصات عزل الريف عن المدينة، كما هجرات عدة داخلية وخارجية. في تلك الفترة، رُفعت الحراسة على الأراضي الزراعية التي استُردت من الإقطاعيين، لصالح الفلاحين، ما نتج عنه فقدان مئات الفلاحين للأراضي التي كانوا يعيشون على إيراداتها (المرجع السابق).
أما المرحلة الثالثة، فعُرِفت بالتكيف الهيكلي، مع سياسات نيوليبرالية، هدفها توسيع لسياسات الخصخصة، وتكثيف لمبدأ “تمدين الريف” في عصر مبارك. وشكّل القانون رقم ٩٦ الذي صدر في عام ١٩٩٢، والذي تكثّفت دلالته بحلول العام ١٩٩٦، نقطة فارقة أخرى في علاقة السياسة والقانون بالفلاح في مصر، المتعلق بسوق الأراضي الزراعية وإعادة تنظيم العلاقة بين الملاك والمستأجرين، فقد سُحبت الحيازات الزراعية للفلاح المصري، ما نتج عنه تقليص عدد الملاكين الصغار (الحائزين على أقل من فدان)، فيما زاد عدد متوسطي وكبار المُلّاك. وبالإضافة إلى ذلك، فإن ذلك القانون، قد أعاد تعريف الفلاح المستأجر والمشارك، فمن قبل كان حائزا للأرض، لكنه الآن، وبفعل هذا القانون، لم يعد حائزا لها، كما حُرم من بعض الحقوق المدنية/والسياسية والاجتماعية مثل التصويت في الجمعية والحصول على الأسمدة المدعومة والحق في الاقتراض من بنك التسليف أو التنمية والائتمان الزراعي. لم تقف تبعات ذلك القانون عند ذلك الحد، بل زادت أيضا إيجارات الأراضي الزراعية، ومن ثم خُصخصت أراضي الشركات الزراعية، كما زادت النسب الضريبية. وبما أن “الأسرة” هي قلب الريف، فعلينا النظر لما حصل للأسرة آنذاك، وهنا يجب ذكر أنه قد تضررت حوالي ٤٣١ ألف أسرة كليّا من القانون، فيما فقدت ألف أسرة ما يقارب نصف دخلها، وهذا بدوره أدى إلى أنه قد بدأت تلك الأسر في البحث عن طرق بديلة للعيش مثل إرسال الأطفال للعمل في المصانع بالقاهرة، أو تهجير أحد أفراد الأسرة للعمل في الخارج بأحد دول الخليج أو ليبيا (النور، ٣٠-٣٣). ذلك هو القانون، وتلك هي تبعاته، التي كانت بمثابة رصاصة أخرى، وليست أخيرة، في صدر الفلاح المصري. يُجادل عايب في هذا السياق، أنه، وبفعل ذلك القانون، فإن الفلاح المصري بمفهومه التقليدي في طريقه للانقراض، فهناك توجه على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، نحو “زراعة تجارية رأسمالية”، تعطي أولوية للأسواق الوطنية والتجارة الدولية، بغية توسع الأسواق الليبرالية، المرتبطة بالتجارة العالمية، على حساب اقتصاد الكفاف. كما أن الهدف الأشد راديكالية يتعلق بتغيير “نمط معيشة” المجموعات الزراعية الفلاحية، بمجموعة أقل عددا من الفلاحين المقيمين في أراضيهم، وصغار الملاك وغير المالكين والمستأجرين، لصالح متوسطي وكبار الملاك والمستثمرين الزراعيين، الذين يشغلون الأرض بغية الربح، وهذا يعني أنّ التحول الأهم الذي حدث للفلاح المصري، بفعل التحولات السياسية-الاقتصادية، خلال الحقب السياسية السالف ذكرها، يتمثل في انتقال نوعي من “المجتمع الفلاحي” إلى “المجتمع الفلاحي الاستثماري”، وهو الذي كان يقوم حتّى العقد الأخير على أكتاف الفلاحين المحليين المستثمرين، وهم الذين لا يفلحون الأرض إلا للبيع والربح بواسطة السوق المفتوح (عايب ٢٠١٣ ٦٧-١١٦، ٢٦٠-٢٧٨).
أمّا فيما يتعلق بالفلاح في المرحلة الأخيرة، حقبة ما بعد انقلاب ٢٠١٣، وهي التي تستمر إلى يومنا هذا، فإنه ثمة ترسيخ لما يُسمى بـ”اقتصاد الجيش”، وهو القديم قدم الجمهورية المصرية، وهي الفترة التي تستمر من خلالها عمليات تهميش الريف، وربما تصل بنا إلى مرحلة “انقراض الفلّاح”، بفعل التهميش نفسه الذي أدى إلى فقدان الريف خصائصه التقليدية وهجرات متعددة إلى الخليج العربي وأوروبا. تُشكِّلُ تلك الحقبة استمرارية لتاريخ التهميش، وسيطرة للجيش ومؤسساته على المنابع الاقتصادية بما فيها الاقتصاد الزراعي، وبالرغم من إطلاق نظام ما بعد الانقلاب وعود بتشريعات وسياسات اجتماعية وتأمينات تحمي حقوق الفلاح مثل تلك التي تتعلق بالتأمين الصحّي على الفلاحين، أو تلك التي تختص بالتكافل الزراعي لحماية الفلاحين من المخاطر، أو الأخرى المُسمّاة بـ”حياة كريمة”، إلّا أن تلك المخططات بقت نظرية، كما أنها لا تخضع للمراجعات و التقييمات الدورية، تلك التي تساعد الحكومة أو المواطن من مراقبة إمكانيات تطبيقها أو تحسينها في المستقبل القريب (كامل، ٢٠٢٢).
لم تقف الوضعية البائسة للفلاح المصري اليوم عند التشريعات التي لا تعمل لصالحه، بل أيضا، وعلى المستوى الامبريقي، فإن تتبع عدد من الوقائع الإمبريقية يُخبرنا بالوضعية عينها، فمثلا عند النظر إلى وقائع تسريح العمّال الزراعيين، تلك التي تكثفت في عصر مبارك، في الأعوام ١٩٩٢ وعام ١٩٩٧، أو فيما بعد عند تتبع وضعيات العاملين في الشركات المُصاحبة للزراعة، كما تُخبرنا ألفت كامل نقلا عن رئيس اتحاد الفلاحين. وسياسيا كما نقابيا، لا يُمثَّل الفلاح بشكل كُلّي، فمن ناحية، هناك عدد كبير من النقابات الفئوية التي تتحدث بإسم الفلاح، بلغ عددها ٥٢ نقابة، ما يؤدي إلى تشتت تمثيلي داخلي أو بين الفلاحين أنفسهم، ومن جانب آخر، لا تظهر أفواه في البرلمان المصري لتتبنى قضايا الفلاح المصري، وخصوصا، بعد إلغاء دستور ٢٠١٤ لمبدأ ٥٠ بالمئة عمال و٥٠ بالمئة فلاحين (المرجع السابق).
وبالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الدراسات والمقالات والتقارير الدورية التابعة لمنظمات اقتصادية مختلفة، تضع عُنصر “الاستثمار الزراعي الخارجي”، أو “الاستثمار الريفي”، في مركز تحليل علاقة النظام السياسي بالفلاح في مصر اليوم، وهو الاستثمار الذي بدأ ينشط في السوق الزراعي المحلي، وهي الاستثمارات التي تهدف إلى أمرين، أولا، ضخ أموالا للاستثمار المباشر في الزراعة والمواشي والصناعات الزراعية وخدمات التخزين، وثانيا، دعم المشاريع الريفية صغيرة ومتوسطة الحجم، والتي ليست متعلقة بالضرورة بـ”الأرض” (منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة-فاو، ٢٠١٨).
إذن، فنحن أمام أزمة جادة تتعلق بمنظومة الريف المصري، وهنا يجادل عايب بأنه ثمة “أزمة اقتصادية شاملة”، متمثلة في اضطرابات اقتصادية تعاني منها مصر في أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين، تؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم، وعجز الميزانية العامة وانخفاض الدعم على المنتجات بفعل السياسات النيوليبرالية (عايب ٢٠١٣، ٦٧-١١٦)، وارتفاع حجم الديون الخارجية مع عجز الدولة المصرية على سداد الديون كما يزعم جلال أمين (أمين، ٢٠٢٠١٢، ٣٢-٥٧)، وعليه، فإنّ تلك الحزمة من الاضطرابات لا يفلت منها القطاع الزراعي التقليدي، غير المنعزل عن المجتمع الشامل.
وبهذا، فإنّي أزعم بأن السياسات الكلية للسلطة المركزية هي المسؤول الأساس عن الموقف الراهن المتعلق بانقراض المجتمع الفلاحي، واختفاء هويته تدريجيّا. وكما ينطلق عايب من وصف الفلاح من خلال المستوى الماكرو، في ارتباطه بالأرض وحجم المياه، فإننا لا بد أن نُفسّر التحول الذي حدث للريف المصري من خلال المستوى نفسه، أي بتتبع الممارسات القانونية والسياسية-الاقتصادية، تلك التي قلّصت من قيمة “الفلاح العادي” أو صغار الفلاحين على حساب كبار الفلاحين والمستثمرين المحليين والأجانب.
ما سبق يُخبرنا بالتحولات التي حدثت في الريف المصري بفعل القوانين والإجراءات التي تم اتخاذها من قبل الدولة المصرية في لحظات تاريخية متفرقة، لكن ماذا عن الدور السياسي للفلّاح المصري، بوصفه أحد أطراف منظومة علاقات القوة داخل المعادلة السياسية/الاجتماعية الكليّة. وبعبارة أخرى، هل يثور الفلاح المصري على تلك الأشكال المتباينة من التهميش؟
حسب صقر النور في دراسته المعمقة تحت عنوان: “الفلاحون والثورة في مصر: فاعلون منسيّون”، فإنه ثمة دور سياسي تاريخي للفلاح المصري، وإنّ ذلك الدور قديم قدم الصراع على السلطة والموارد في مصر، فقد ظهر منذ بداية القرن الماضي، وتحديدا في أثناء ثورة ١٩١٩، عندما رفض الفلاحون دفع الإيجارات على الأراضي الزراعية، كما حاصروا قصور الباشوات للحصول على ما فيها من فائض (النور ٢٠١٤، ٣٤). ننتقل بعد ذلك إلى حركة الضباط الأحرار، وتحديدا عام ١٩٥٢، وهنا يُخبرنا خالد محي الدين، أحد أعضاء المكتب السياسي للضباط الأحرار، بأنه قد مثلت الانتفاضات الفلاحية أحد الجذور العميقة للحركة الوطنية. وعلى المستوى الإمبريقي، فإن محي الدين يقصد الحراك الفلاحي بين عامي ١٩٤٤-١٩٥١، وهي الفترة التي شهدت تذمُّر للفلاحون المصريون الذي أضربوا عن جمع القطن في أجا، أو الآخرون الذين امتنعوا عن سداد ديونهم للملاح، أو الإضرابات المُكثفة في جميع الرقع الريفية المصرية بالعام ١٩٥١. وبذلك، فإن الفلاح كان فاعلا منذ لحظات مُبكّرة من التاريخ السياسي والاجتماعي المصري.
مثّلت أواخر تسعينيات القرن الماضي وبالتحديد عامي ١٩٩٧ و١٩٩٨، أحد اللحظات الحاسمة في تاريخ العلاقة المتوترة بين الريف والسلطة المركزية في مصر، وهذا بفعل دخول قانون ١٩٩٦ حيّز التنفيذ، وهو الذي لحقه احتجاجات فلاحية ضد قوات الأمن والملّاك، وهنا يرصد مركز الأرض لحقوق الإنسان أنه جرت اشتباكات عنيفة في أكثر من مئة قرية مصرية، توسّطتها أكثر من ٣٠ حالة وفاة، وأكثر من ١٧٥٠ إصابة، و٢٤٠٠ حالة اعتقال، فضلا عن الاخفاءات القسرية والتعذيب (المرجع السابق).
تُشكّل ثورة يناير بالعام ٢٠١١، وما بعدها، لحظة ثورية أخرى تُظهِرُ فاعلية الفلاح المصري، فبالرغم من التناول الحضري للثورة المصرية، أي وضع المدينة والطبقة الوسطى في قلب خريطة الفاعلين، إلّا أن الفلّاح كان حاضرا بأشكال ثورية مختلفة، قبل ذلك الحدث وبعده، باعتبار أننا لا نتبنّى تحليلا آنيًّا، يضع لحظة اندلاع الثورة في مركز التحليل، فيما يُهمل ما قبلها وما بعدها وما توسّطها، كما يُجادل صقر النور (النور ٢٠١٤، ٢٩). لقد قام النور بنمذجة أشكال الحراك الفلاحي، أي الدور السياسي/المدني للفلاح من خلال أربعة أنماط مختلفة (المرجع السابق ٢٠١٤، ٣٧-٣٨):
أولا، التنظيم والانخراط في حركات نقابية فلاحية، إذ تأسست بعض النقابات والاتحادية الفلاحية منذ عام ٢٠١١، التي لم تكن راديكالية الفكر أو متجانسة التنظيم، مثل اتحاد الفلاحين المصريين، الذي جذب ٧٠ ألف من صغار ومتوسطي الفلاحين، كما ضمت النقابة العامة للفلاحين أكثر من ٥٠٠ ألف فلاح، وهم الجهة الأكثر تواصلا مع الإدارة السياسية، فيما تأسس اتحاد فلاحي مصر، الذي دمج فلاحي الإخوان المسلمين، وأكثر من ٢٠ نقابة فرعية تحت عباءته.
ثانيا، التظاهر والاعتصام، وهي التي تُظهر القوة الفعلية للشعار الفلاحي لجملة المطالب، فقد شهدت الأعوام ٢٠١١ و٢٠١٢ ما يقارب ال١٥٠ احتجاجا فلاحيّا، ليُطالب أبطاله بزيادة في مثلث الموارد: الأرض والمياه والسماد.
ثالثا، الفعل المباشر للسيطرة على الأرض والسكن. ويتجلى هذا النمط من النشاط السياسي-الاجتماعي، في محاولات الفلاح المصري للاستحواذ على الأرض لزراعتها، مثلما حصل في أكثر من خمسون قرية مصرية، أو في عمليات البناء على الأراضي الزراعية بشكل مخالف للقانون، تلك التي تكثّفت بين عامي ٢٠١١-٢٠١٤.
رابعا وأخيرا، ظهرت فعالية الفلاح وبدرجة أقل، من خلال عمليات تشكيل جماعات ضغط سياسي من أجل دسترة الحقوق، فقد نتج عن ذلك، الاعتراف ببعض الحقوق الفلاحية في المادة ٧٩ من دستور ٢٠١٤، والمتمثّلة في المياه والموارد الغذائية.
مداخلة نقدية حول تطوير عدسة فهم الريف المصري
لقد قُدّمت العديد من الانتقادات النظرية والممارساتية للمنظّرين الاجتماعيين والمهتمين بدراسة الريف عامة والريف المصري خاصة. وفي سياق فهم الفلاح المصري وعلاقاته وتحولات مجتمعه، هنالك عدد من المداخلات التي أزعم أننا بحاجة إلى النظر إليها لتطوير فهمنا للريف والفلاح المصري.
أولا، هناك تغييب لوجهة نظر الفلاحين بالرغم من كثافة حضورهم كمّا ونوعا. هذا الاتجاه الكيفي الميداني يحاجج بأن نقطة الانطلاق في دراسة الفلاحين لا بد أن تكون “وجهة نظرهم أنفسهم” (أي دراسة الفلاح والتحولات التي حدثت له من وجهة نظر الفلاح)، وليس من وجهة نظر السلطة أو الأعمال الأرشيفية، فحقل اجتماع الريف، بدأ في الربع الأول من القرن العشرين عن طريق دراسة ميدانية بامتياز، حول الفلاح البولوني في أوروبا وأمريكا. لذلك، هناك حاجة أكاديمية سوسيولوجية عامة ومصرية-عربية خاصة للتحول في فهمنا للريف من الانشغال المكتبي إلى الاشتغال بمفاهيم الإثنوغرافيا التي تتعامل بأدوات الاحتكاك المباشر مع (توماس وزنانسكي ١٩١٨، ١٢-٥٧).
ثانيا، عملت حزمة من الدراسات في سياق الدراسات السوسيولوجية للريف المصري، ومنها دراسة حبيب عايب، على دراسة الفلاحين من خلال مقاربة من الأعلى للأسفل top-down approach، أي من البنى الكلية (السياسات والمؤسسات) نحو العناصر الجزئية (الثقافة والأفراد)، ففي بعض تحليلاته لا ينطلق من الفلاح ونمط إنتاجه، ولكنه ينطلق من الدولة وهياكلها وأزماتها الكلية، ما يخدم الطبيعة البراغماتية للسلطة المركزية في فهم الفلاحين.
ثالثا، تتبلور المنطلقات النظرية التي تدرس المجتمعات الريفية العربية (ومنها المصرية)، من خلال أرضية تستند على “المركزية الأوروبية”، فهي لا ترى المجتمعات العربية من خلال فرادتها وخصوصيتها particularity، لكن، وعلى خلاف ذلك، فإن تلك المداخلات النظرية تعمل من خلال مقاربات نظرية، كما لو أنها نموذج كوني أو”موديل”، يُمكن أن يُفسِّرُ لنا مجتمعات مختلفة. وعليه، فنحن أمام تحدٍ يتعلق بجدية إنتاج وتطوير معرفة ريفية مصرية/عربية، تبني على ما اشتغل عليه باحثون عرب مثل حبيب عايب ومولدي الأحمر، الذين كرّثوا أوقاتا طويلة لفهم المجتمعات الريفية العربية.
رابعا، لقد عملت أغلب الدراسات التي درست الريف داخل المجتمع المصري (ومنها دراستي حبيب عايب وهنري عيروط)، على فهم الفلاح كجزء يجب إخضاعه أو دمجه عنوة داخل المجتمع الشامل، أي الذي له علاقات تكاملية بينه وبين المدينة، وهذا يعني أنها تتعامل بمنطلقات تهمل مقولة الثقافة، ولكنها تتعامل بمفهوم الوظيفة الصريحة والخفية (عيروط ١٩٣٨، عايب ٢٠١٣). وعوضا عن ذلك الفهم الأداتي/الوظيفي functional، يجب فهم الفلاح كمنظومة ثقافية، وليس بوصفه خط انتاج فحسب.
خامسا، أن الباحثين الذين أخذوا من الفلاح عموما (والمصري بالأخص) موضوعا للبحث، عادة ما يخلطون بين موضعة الفاعل داخل العلم بمفاهيم وأدوات مشاهدة، من ناحية، وإعطاء دلالات أخلاقية/معيارية له من جهة أخرى. فمثلا، دائما ما ارتبط الفلاح في السياق المصري، بكونهم الأكثر قابلية نحو التجارة غير الشرعية، ما هو مُسلم به عند جملة الباحثين الاجتماعيين مثل ما هو الحال عليه مثلا عند القراءة المعمقة لأيمن زهري حول الهجرة غير الشرعية وربطها حصرا بالقرى (زهري ٢٠٠٧، ٥٢-٦٠).
سادسا، هناك حاجة ملحة لمراعاة طبيعة المعرفة العابرة للتخصصات، فعلم اجتماع الريف لا يعمل بمفاهيم سوسيولوجية منعزلة عن غيرها من العلوم، فهي تتفاعل مع الجغرافيا والديموغرافيا وعلم النفس والعلوم السياسية وعلم الاقتصاد. وهو الحال نفسه في السياق المصري، فالمهتم بدراسة المجتمع المصري عامة، لا بد أن يُدرك العلاقة بين تلك العلوم في فهم قضايا المجتمع المختلفة، وهي النابعة من تداخل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية داخل ذلك السياق الكلّي.
وتبقى أمامنا عدة أسئلة مفتوحة للفحص والتحقيق المستقبلي، تتعلق بـ “السرديات الفلاحية” والذاكرة السياسية والنفسية للفلاحين، ودورها في تشكيل علاقاتهم مع تاريخهم المتمركز حول التهميش، ما يؤثر على علاقاتهم بالمجتمع الشامل. كما أن هناك أسئلة تتعلق بمستقبل الأجيال القادمة من أبناء الريف المصري، في علاقاتهم بالدولة والمجتمع المديني، خصوصا مع سيادة مقولة “الثقافة الهجين” hybrid culture التي تتشكل بمجرد هجرة أفراد الريف للدراسة أو العمل في المدينة، فهل يشكل هؤلاء طبقة للأعيان تتوسط العلاقة بين الفلاحين والمجتمع الأوسع؟ أم أن سلطة المدينة تضمن لهم البقاء داخل المنظومة الثقافية والسياسية السائدة في مقابل التخلي ثقافاتهم الزراعية الأصلانية التي أسس لها الأجداد، وهي التي تنقرض تدريجيّا بفعل تصور السياسي المديني للريف كما السياسات الاقتصادية والسياسية.
المصادر والمراجع باللغة العربية
- أمين، جلال. 2012. قصة الاقتصاد المصري في علاقته بالعالم من محمد على إلى حسني مبارك. القاهرة: دار الشروق، ٢٤-٧٦.
- الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري. 2022. “إحصاءات.” نسبة عدد السكان في الريف لإجمالي عدد السكان.
- بارث وآخرون. 2017. مدرسة الولايات المتحدة الأمريكية، الأنثروبولوجيا حقل علمي واحد وأربع مدارس. ترجمة أبو بكر باقادر وإيمان الوكيلي. الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ٣٨٠-٤٧٥.
- عايب، حبيب. 2013. أزمة المجتمع الريفي في مصر:نهاية الفلاح. ترجمة منحة البطراوي. القاهرة: المركز القومي، ٤-٢٧٩.
- عيروط، هنري. 1938. الفلاحون. ترجمة محمد غلاب. القاهرة: مطبعة كوثر، ١٦-٢٧٥.
- منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة-فاو. 2018. منهجية الاستثمار الريفي في مصر لدعم المشاريع الزراعية الصغيرة والمتوسطة.
- كامل، ألفت. 2022. بأية حال يعود عيد الفلاح: حضر الفقر وغابت وعود الرئيس، مصر ٣٦٠. https://2u.pw/rNPvoLC
- النور، صقر، 2014. الفلاحون والثورة في مصر: فاعلون منسيون. المستقبل العربي، مج 37، ع 427، 29-43.
المصادر والمراجع باللغات الأجنبية
– Marx, Karl. 1937. The Eighteenth Brumaire of Louis Bonaparte. Moscow: Progress Publishers, (Prefaces of Marx and Engels + Chap VII).
– Pope, Whitney. 1975. “Durkheim as a Functionalist.” The Sociological Quarterly 16, no. 3 360–375.
– Thomas, William and Znaniecki, Florian. 1918. The Polish Peasant in Europe and America: Monograph of an Immigrant Group. Boston: Richard Badger, 18-79.
– Redfield, Robert. 1956. Peasant Society and Culture: an anthropological approach to civilization. Chicago: the University of Chicago Press, 16-74.
– Mendras, Henri. 2002. The Invention of the Peasantry. Revue Française de Sociologie, N°43, 155-169.
– The World Bank. 2021. Rural population (% of total population), Egypt.
– Mitchell, Timothy. 1990. The Invention and Reinvention of the Egyptian Peasant, Int. J. Middle East Stud. 22 129-150.
– Zohry, Ayman. 2007. Egyptian irregular migration to Europe. Cairo: Migration letters, 52-60.