العالم الإسلامي.. دراسة في المصطلح
د حمدي شاهين.. أستاذ التاريخ الإسلامي
درج المسلمون منذ بدايات الإسلام على استعمال مصطلح “دار الإسلام”، و “دار الكفر”، أو “دار الحرب”، للتعبير عن الواقع التاريخي الذي ساد عصرهم، ثم اجتهد الفقهاء في مرحلة تالية في وضع الضوابط الواصفة لتلك المصطلحات، فرأى جمهور الفقهاء أن “كل دار غلبت عليها أحكام الإسلام هي دار الإسلام، وإن غلبت عليها أحكام الكفار فدار الكفر، ولا دار لغيرهما”([1])، فدار الإسلام هي التي تحكم بشرائع الإسلام، وإن لم يكن معظم أهلها مسلمين، إذ إنه “ليس من شرط دار الإسلام أن يكون فيها مسلمون، بل يكفي كونها في يد الإمام، وإسلامه”([2])، والبلاد التي كان المسلمون يفتحونها كانت تدخل ضمن دار الإسلام بمجرد الفتح، وهذا ما حدث لخيبر بعد أن فتحها المسلمون سنة 7هـ، وإن ظل أهلها على يهوديتهم.
وقد يستغرق الأمر عدة قرون ليعتنق أغلب أهل البلد المفتوح الإسلام، كما حدث في مصر وشمالي إفريقية والأندلس، بل ظل الحكم الإسلامي للهند قرونًا، وكان معظم أهلها على غير الإسلام، حتى خرجت من أيدي المسلمين، وهي طوال تلك المدة معدودة ضمن “دار الإسلام”.. كما كانوا يعدون “دار الحرب” تلك التي “لا تجري فيها أحكام الإسلام”([3])، أي تلك التي يملكها الكفار، أو استولوا عليها من المسلمين؛ وإن ظل أكثر أهلها مستمسكين بإسلامهم، لكنهم غير قادرين على إنفاذ أحكامه([4])، كما حدث في البلاد التي احتلها نصارى الإسبان من الأندلس، وتلك التي احتلها الصليبيون في الشام، قبل أن يغيِّر هؤلاء وأولئك من التركيبة السكانية لما استولوا عليه..
هذا ما يراه جمهور علماء المسلمين([5])، وعلى ذلك تصير دار الإسلام دار حرب بظهور أحكام الكفر عليها، وغيبة أحكام الإسلام عنها، ويعارضهم قليلون يرون أن “ما حكم بأنه دار إسلام لا يصير بعد ذلك دار كفر مطلقا”([6])، وهو ما لا تنهض به الأدلة الشرعية ولا الواقع التاريخي.
لكن أبا حنيفة يضيف بعدًا آخر، إذ قال إن دار الإسلام لا تصير دار الكفر إلا بثلاثة شروط، أحدها: ظهور أحكام الكفر فيها، والثاني: أن تكون متاخمة لدار الكفر، والثالث: أن لا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمنا بالأمان الأول، وهو أمان المسلمين([7])، وذلك يعني أنه لو تخلف أحد تلك الشروط لم تكن الدار دار حرب.. فمدار الأمر عنده ليس على الإسلام والكفر، بل على الأمان والخوف([8])، فلو بقي المسلمون في بلد يغلب عليه الكفار، وتحكم فيه شرائعهم؛ وظلوا آمنين على دينهم وأنفسهم وأموالهم، على ما كانوا عليه حال مقامهم في دار الإسلام؛ وكان البلد الذي يقيمون فيه ليس مجاورًا لدار الحرب التي تحارب المسلمين؛ في هذه الحال لم تكن دارهم دار حرب، وهذا الشرط الأخير تجاوزه التطور التاريخي، إذ قد تكون الدار بعيدة كل البعد عن بلاد المسلمين، تفصل بينهما مفاوز وبحار، وهي عدوة لهم، معتدية عليهم، بعدما تطورت طرق الاتصال، ووسائل القتال([9]).
وقد تباينت رؤية فقهائنا المعاصرين إلى تقسيم الأولين الدور إلى دار إسلام ودار حرب؛ فمنهم من يرى أنه قائم على استقراءٍ لنصوص شرعية، ورؤية مقاصدية، ولا يُتصور منهم غير ذلك([10])، ومنهم من يرى أن “هذا التقسيم لم يرد به قرآن ولا سنة، وأن الجهاد لم يكن العلاقة الطبيعية بين المسلمين وغيرهم”([11])، وأنه “مبني على أساس الواقع، لا على أساس الشرع، ومن محض صنيع الفقهاء في القرن الثاني الهجري”([12])، وأنه “تقسيم طارئ بسبب قيام حالة الحرب، أو الحرب نفسها، فهو ينتهي بانتهاء الأسباب التي دعت إليه”([13])..
ويرجع التباين في نظرة العلماء إلى هذا التقسيم إلى رؤيتهم لأصل العلاقات الدولية في الإسلام، هل هو الجهاد أم السلام والدعوة؟ فمنهم من يرى أنه الجهاد (حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)([14])، ومنهم من يرى أنه السلام الذي يفتح أبواب دعوة الشعوب والأمم إلى الإسلام، وتعرفها عليه، وأن الجهاد إنما شُرع لحماية دار الإسلام، وأهلها، وحماية دينها، والداعين إليه، فالجهاد طريق لحماية الدعوة، وليس طريق الدعوة الذي يجبر الآخرين على الدخول فيها بقوة السلاح، فأمر الاعتقاد يقوم على الدعوة والإقناع، لا الاضطرار والجبر([15])، كما قال تعالى ( لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ )([16])، وقال (وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَآٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ)([17]).
والحق أن الأصل الذي تقوم عليه العلاقات الدولية في الإسلام هو ضمان حرية الدعوة إلى الإسلام، وسلامة دولته، وما الجهاد والدعوة السلمية إلا سبيلان لتحقيق ذلك الأصل، وإدراك هذه الغاية. فقد تنفتح سبل الدعوة السلمية للإسلام، فلا تكون ثمة حاجة للقتال، وقد توصد تلك السبل، فلا يبقى إلا الجهاد سبيلاً لتوصيل دعوة الله إلى العالمين، وقد ينفسح الزمن أمام الدعوة السلمية، أو يطول أمد الجهاد، ولا يعني ذلك أن ما طال مداه هو الأصل.
إن استقراء هذه النصوص الشرعية التي أسس عليها فقهاؤنا تقسيمهم الدور إلى دار إسلام ودار حرب([18]) يقودنا إلى ما يلي:
- إن هذه النصوص الشرعية وردت لتقيم أحكامًا فقهية تعالج حاجات الواقع القائم آنذاك الذي يتمثل في وجود دار للإسلام تقوم فيها حكومته، ودار للحرب القائمة بالفعل بين الإسلام والشرك، ودار أخرى فيها (قوم بينكم وبينهم ميثاق)، أي دار للعهد، يربطها بدار الإسلام اتفاق قبلت به دفع ضريبة الخراج للمسلمين، لذلك جعل بعض الفقهاء قسمة الدور ثلاثية، بإضافة دار العهد إلى دار الإسلام ودار الحرب. بينما نفى بعضهم ذلك، ورأى أنها بالعهد أصبحت ضمن دار الإسلام، فإن نقضته عادت دارًا للحرب([19]).
- ولم يكن من الممكن تصور وجود تلك الدائرة الرمادية بين الإسلام والكفر في عصور الإسلام الباكرة، فلم تكن القبائل العربية الضاربة في البداوة حول المدينة – عاصمة الإسلام – تفهم غير منطق الغزو والقوة([20])، ولم يكن تجمُّعهم الحضري في مكة أو الطائف إلا على حد العداوة والسيف مع المسلمين، أما الشام فقد قتل أمير بُصرى رسول النبي r الذي أرسله ليدعوهم إلى الإسلام، وأما فارس فقد مزق كسرى رسالة النبي r إليه، وأمر عامله على اليمن أن يأتيه به أسيرًا([21])، فلم تعد ثمة وسيلة لإبلاغ رسالة الله تعالى إلى البشر إلا بإزاحة هذه الأنظمة الحاكمة المستبدة التي تحول دون وصول دعوة الله تعالى ورسالته الخاتمة إلى الناس، ولم يكن ثمة وسائل أخرى للاتصال والتفاعل بين الشعوب كالتي نعرفها اليوم، فلا سبيل أمام المسلمين لتعريف الناس في هذه الأنحاء من الدولتين العظميين آنذاك إلا بالجهاد.
- كان من الممكن تلافي كثير من الاختلاف بين الفقهاء لو لم نجعل المقابلة بين “دار الإسلام” و”دار الحرب”، بل بين دار الإسلام ودار الكفر، وبين دار السلام ودار الحرب. فمقابل الإسلام هو الكفر أو الشرك، وليس الحرب، وليست كل دار للكفر دارًا للحرب، فقد تكون دارًا للعهد أو الصلح أو الموادعة، وقد رَوَى الْبُخَارِيُّ عن ابن عباس، ” كان المشركون على منزلتين من النبي r والمؤمنين: كانوا مشركي أهل حرب، يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد، لا يقاتلهم ولا يقاتلونه”([22]).
- وبالرغم من انفتاح الجبهات الإسلامية للجهاد في عصر الخلفاء الراشدين فإننا نجد حالات كثيرة للهدنة، وحالات لكف القتال، ولو من غير هدنة أو صلح، بل لضرورات عسكرية وسياسية، كما حدث بعد فتح أرمينية وأذربيجان مع ما يليها، وبعد فتح تونس (إفريقية)، وحين تاخمت جيوش الإسلام بلاد الترك، في خلافة عثمان، وفي الفترة التي واكبت الفتنة في أواخر خلافة عثمان، وخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
- إن تضييق دائرة “دار العهد” لتكون تلك التي تدقع الخراج للمسلمين ينافي الواقع التاريخي، وقد ذكر القرافي أنه لا يشترط في عقود الصلح دفع جزية، إذ إن الصلح يجوز “بغير مال يعطونه”([23]). كما في حالة النوبة التي عقد أمير مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح مع أهلها صلحاً، قال عنه إمام أهل مصر الليث بن سعد: إنما الصلح بيننا وبين النوبة على أن لا نقاتلهم ولا يقاتلونا، وأن يعطونا رقيقًا، ونعطيهم بقدر ذلك طعامًا”([24]).
- إن هذه النصوص الشرعية جاءت “مخبرة” عن الحكم الشرعي لواقع تاريخي قابل للتطور والتغيير، وليست “منشئة” لذلك الواقع، مما يفتح الباب للاجتهاد إن جدت وقائع جديدة، أو تغير الواقع بفعل التطور السياسي والاجتماعي.. إن حصر الدور في هذه القسمة الثنائية أو الثلاثية أوجد اضطرارًا إلى تصنيف كل حالات الواقع السياسي ضمن ذلك الإطار، وقد يجد الفقيه نفسه أمام واقع يندُّ عن ذلك التصنيف، وينفر منه، هو ما حدث بالفعل في أزمنة تالية، وأجاب ابن تيمية (ت 728هـ) عن سؤال عن التصنيف الفقهي لبلدة ماردين التي سيطر عليها التتار، هل تدخل صمن دار الإسلام، أم دار الحرب؟ فقال: “وأما كونها دار حرب أو سلم فهي مركبة: فيها المعنيان؛ ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين؛ ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار؛ بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه”([25]).. فقد جعلها قسمًا ثالثًا، لا دار حرب، ولا إسلام، بل لم يجعلها دار عهد! فالأمر إذن مظنة اجتهاد محكوم بقواعده كلما تغير واقع العالم المحيط بالإسلام..
وقد يجد المؤرخ نفسه أمام وقائع يصعب “حشرها” داخل ذلك الإطار، وينفسح لمجال أمامه لتصور دار أخرى يمكن تسميتها “دار الدعوة”، وهي دار لا تتبنى عقيدة دينية خاصة، أو تلتزم برؤية عقدية منفتحة تجاه العقائد المخالفة، فهي دار مسالمة، لا خطر منها على المسلمين، ولا تحول بين أهلها وبين الإسلام، وقد تحقق هذا بالفعل كما في حالة الحبشة زمن النبوة وعهود الإسلام الأولى، وفي حالة بعض دول المغول حتى فشا فيهم الإسلام، وكما حدث في دول الملايو أو جنوب شرق آسيا التي انتشر الإسلام فيها بالدعوة السلمية عن طريق التجار والعلماء([26])، وكما في حالة بعض دول إفريقية جنوب الصحراء مثل دولة غانة التي تمتع المسلمون فيها بحرية دينية كاملة، وكان لهم حي إسلامي في العاصمة يقيمون فيه، ولهم مساجدهم، وكان كثير من وزرائها مسلمون، بالرغم من أن ملكها كان وثنيًا آنذاك، ولم يدخل في الإسلام مع بقية شعبه إلا في وقت تالٍ، وذلك في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي([27])،
7- ومن ذلك التطور التاريخي أنه لم تعد هناك “دار إسلام” واحدة، ولا “دار حرب” واحدة، منذ عصر طويل، فقد تفتتت الخلافة الإسلامية الواحدة منذ نهاية العصر العباسي الأول سنة 232هـ إلى دول متعددة، كل منها دار إسلام، وقامت خلافة عبيدية (فاطمية) في شمال إفريقية سنة 300هـ/912م، ثم في مصر سنة 358هـ/969م، وخلافة أموية في الأندلس سنة 316هـ/929م. وكانت هناك دور حرب متعددة في الجبهات المحيطة بدول الإسلام..
8- إن اشتراط “ظهور أحكام الإسلام” في بلد ما ليُحكم بأنه ضمن دار الإسلام عسير التحقق في زماننا هذا، بل منذ عقود متعددة، حيث تسلط الاستعمار الغربي والشيوعي على بلاد الإسلام، فكان أول ما فعله أن أبطل الحكم بشريعة الإسلام، واستبدل بها قوانينه، ثم إنه حين اضطر للانسحاب منها ترك على سدة الحكم فيها أذنابه، ووكلاءه، ليكملوا مسيرة إبعادها عن دينها، ولا يكاد يسلم من ذلك البلاء بلد إسلامي، وما بقي من شرائع الإسلام فيها لا يتجاوز غالبًا قوانين الأحوال الشخصية، وتنفيذ بعض الحدود الشرعية فيما ندر من بلادنا، أما الأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها فلا صلة بينها وبين الإسلام، أو صلتها به واهية واهنة.
واشتراط ظهور أحكام الإسلام في بلد ليُقضى بأنه بلد إسلامي يفتح مجال التكفير واسعًا للنظم الحاكمة، ويخرج جل ما يُعرف بعالمنا الإسلامي من دائرة “دار الإسلام”.. ويرى بعض مفكرينا للخروج من ذلك المأزق أن اجتهاد الإمام أبي حنيفة جدير باستصحابه في زماننا، حيث يجعل مدار الأمر في القول بأن الدار للإسلام أو للحرب على الأمن والخوف، فكل بلد يأمن المسلمون فيه على دينهم، ولا يحارب بلاد الإسلام، هي دار للإسلام.. لكن أبا حنيفة وسائر علماء المسلمين ينطلقون من وجود دار للإسلام تظهر فيها أحكامه، ثم ينضاف إليها عنده تلك التي يأمن المسلمون فيها على أنفسهم، وعلى ذلك لا بد من وجود هذه الدار في الواقع، حيث تظهر فيها أحكام الإسلام، وتعلو فيها شريعته، وتحمل لواء الدعوة إليه في العالم، ثم يأتي دخول غيرها من البلدان فيها، تلك التي يأمن المسلمون بها على دينهم، ويظهرون أحكام دينهم، وهو دخول التابع على أصله الذي ينبغي أن يظل قائمًا، وأن يسعى المسلمون إلى إقامته في حال غيابه، لتقوم أحكام الإسلام في مجتمعاتهم، بل لتقوم مجتمعاتهم على أحكام الإسلام.
دار الإسلام بعد سقوط الخلافة العثمانية:
كانت الخلافة الإسلامية تمثل في العقل الجمعي للمسلمين على مدى عمر الإسلام رمز نظامه السياسي، ووحدته، وما ينضوي تحت لوائها يمثل “دار الإسلام”، غير أنه قبل سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924م كان ظلها قد تقلص عن كثير من بلاد الإسلام، وكانت مفاهيم الدولة القومية والدولة الوطنية قد تسرب إلى بلاد الإسلام من الغرب، وساد بين النخب السياسية والفكرية، كما كانت أحكام الإسلام وشريعته قد انحسرت في بلاده منذ السيطرة الاستعمارية على معظم بلدانه، وبهذا وذاك أصبحت الحاجة ملحة لإيجاد تعريف جامع مانع واصف للحالة الإسلامية الواقعة.
لقد ظهر مصطلح “العالم الإسلامي” أولاً في الكتابات الغربية الحديثة في بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، إذ صدرت مجلة “العالم الإسلامي “The Muslim World عام 1911م([28])، وكتب لوثروب ستوتدارد كتابه ” “The New World of Islam سنة 1921م، وترجم إلى العربية تحت عنوان “حاضر العالم الإسلامي”([29])، ومنها انتقل المصطلح إلى الكتابات الإسلامية.
لقد تأخر وجود إطار جامع لدول العالم الإسلامي – بعد تراجع شأن الخلافة ثم سقوطها – حتى تأسست منظمة المؤتمر الإسلامي في مؤتمر الرباط بالمملكة المغربية سنة 1389هـ/ 1969م، بعدما تزلزل العالم الإسلامي نتيجة محاولة اليهود إحراق المسجد الأقصى المبارك، ثم تغير اسمها فيما بعد إلى منظمة التعاون الإسلامي سنة 1432هـ/2011م، وهي تضم الآن في عضويتها سبعًا وخمسين دولة..
ويرى بعض الباحثين إمكان النظر إلى “العالم الإسلامي” على أنه مجموعة الدول التي تنتظم في عضوية “منظمة التعاون الإسلامي، غير أن بعض هذه الدول لا يشكل المسلمون معظم سكانها، مثل أوغندا التي انضمت إلى منظمة المؤتمر (التعاون) الإسلامي منذ سنة 1974م في أثناء حكم رئيسها الأسبق عيدي أمين، ويبلغ عدد مسلميها نحو 40%([30])، وغويانا التي انضمت إلى المنظمة منذ سنة 1998م([31])، وعدد المسلمين فيها نحو 15%، وسورينام التي يبلغ عدد المسلمين فيها نحو 33% من سكانها([32]).
بينما لا تحظى دول غالبية أهلها من المسلمين بعضوية هذه المنظمة، لرغبة هذه الدول عن ذلك، وتحكُّم الأقليات النصرانية بمقاليد الحكم فيها، مثل أريتريا وأثيوبيا ([33])، أو لأنها ما زالت تقع تحت الاحتلال كما في حال تركستان الشرقية التي تحتلها الصين، والشيشان وداغستان وعيرهما من الجمهوريات الإسلامية الداخلة ضمن الاتحاد الروسي([34]). بل إن انضمام هذه الدول الواقعة تحت الاحتلال إلى عضوية منظمة التعاون الإسلامي أمر مستبعد في الفترة الحالية، إذ ينص ميثاق المنظمة المعدل ([35]) على اشتراط اعتراف الأمم المتحدة بالدول التي تطلب الانضمام إليه ([36]).
وقد نص الميثاق المعدل أيضًا على شرط جديد للعضوية، حيث أوجب أن تكون الدولة الساعية إليها ذات أغلبية مسلمة، وبذا أصبحت دولها بعد تعديل ميثاقها ذات أغلبية مسلمة، أما قبل التعديل فبعض دوله ذات أغلبية غير مسلمة كما رأينا.. مما يعبر عن قلق ماثل في تعريفه للدولة الإسلامية. وإن انتصر آخر الأمر لاعتماد المعيار الكمي لتعداد المسلمين في كل دولة.
لقد كان ثمة رأي يقول بوجوب أن تكون تلك الدولة المنضوية تحت ميثاق المنظمة قد نصت في دستورها على أنها دولة إسلامية، أو أنها تعتمد الإسلام دينًا رسميًا لها، لكنهم استبعدوا ذلك، إذ كانت بعض دوله تنص في دستورها على علمانية الحكم فيها مثل تركيا([37]).
وبناء على ما سبق نجد أن المفكرين الغربيين قد استعملوا مصطلح “العالم الإسلامي” للتعبير عن محتوى سياسي جغرافي، لا عقدي، وتبعهم في ذلك الكتاب المسلمون، ويُقصدون به – كما يبدو من خلال استعمالهم – “تلك الرقعة المتصلة من العالم التي تضم دولاً معظم سكانها من المسلمين”، أي يزيد عدد المسلمين في كل دولة منه عن نصف عدد السكان، ويتوسع فيه بعضهم، فيجعله دالاً على كل دولة تزيد أعداد المسلمين فيها عن أعداد غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، كما هو الحال في أوغندا التي يزيد عدد مسلميها عن عدد النصارى أو الوثنيين ([38]).
العالم الإسلامي والأمة الإسلامية:
يسوِّي بعض الباحثين بين مفهوم العالم الإسلامي ومفهوم الأمة الإسلامية، فيرى أن العالم الإسلامي هو “مفهوم جغرافي يشمل الدول التي تسكنها أكثرية مسلمة، أو كانت تخضع للمسلمين سابقًا، أو كانت ذات أغلبية مسلمة” ويتألف من “الشعوب والدول ذات العقيدة الإسلامية على اختلاف بيئاتها، ومناطقها، وتباين ثقافاتها، وتعدد سلالاتها البشرية، ويندرج تحت مفهوم العالم الإسلامي أيضًا الأقليات الإسلامية التي تعيش في دول غير إسلامية”، لكنه يقدر مساحته بنحو 31 مليون كيلو متر مربع ([39])، ولو كان الأمر كما يصفه لوجب أن تتضاعف مساحته، حيث سيضم الهند – وقامت بها دول إسلامية كبرى- وأجزاء واسعة من شرق أوربا حكمها العثمانيون، والأندلس وجنوبي فرنسا وغيرها.
والحق أن توسيع المصطلح على ذلك النحو لا يستند إلى أساس مكين، وأنه يجب التفريق بين الوضعية القانونية والسياسية لبلدان العالم الإسلامي التي يشكل المسلمون غالب سكانها ووضعية الأقليات الإسلامية التي تنتشر في معظم أنحاء المعمورة، وتقيم في دول لها خصوصياتها السياسية والاجتماعية، وأطرها القانونية.
إن الأقليات الإسلامية – حيث كانت – تتشارك مع بلدان العالم الإسلامي في مفهوم آخر، هو “الأمة الإسلامية” التي تضم المسلمين جميعًا، مهما تناءت ديارهم، وتباينت أحوالهم، والله تعالى يقول: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ([40])..
والوشائج الوثيقة التي تربط بين أبناء الأمة الإسلامية لم تتغير منذ برزت هذه الأمة إلى الوجود بظهور دعوة الإسلام.. وتشمل وحدة العقيدة، والقرآن الكريم، ووحدة المنظومة القانونية والأخلاقية، والتشارك في الإنتاج الحضاري، والإنجاز التاريخي، واللغة العربية التي ينطق بها أو يفهمها معظم أبناء الإسلام،
المصادر:
([1]) ابن مفلح: الآداب الشرعية 1/211-212، ويرى ابن القيم (أحكام أهل الذمة 2/728) أن دار الإسلام هي التي “جرت عليها أحكام الإسلام، وما لم يجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام، وإن لاصقها”.
([2]) الرافعي: فتح العزيز بشرح الوجيز 8/14، نقلاً عن د. عبد الكريم زيدان: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 18-19، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1982م
([3]) عبد الكريم زيدان: المرجع السابق ص 20
([4]) راجع عبد القادر عودة: التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالقانون الوضعي 1/277، دار الكاتب العربي، بيروت، (د.ت)
([5]) راجع ابن مفلح: الآداب الشرعية 1/211-212، ابن القيم: أحكام أهل الذمة 2/728، ويقول سحنون (سحنون: المدونة 1/511) إن مكة قبل الفتح كانت دار حرب “لأن أحكام الجاهلية كانت ظاهرة يومئذ”، وراجع عبد الوهاب خلاف: السياسة الشرعية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية، دار القلم، 1408هـ/1988م، ص 83
([6]) ابن حجر الهيتمي: تحفة المحتاج في شرح المنهاج، 9/269، المكتبة التجارية الكبرى بمصر، سنة 1357هـ /1983م، عابد بن محمد السفياني: دار الإسلام ودار الحرب وأصل العلاقة بينهما، رسالة ماجستير من كلية الشريعة، جامعة الملك عبد العزيز، المملكة العربية السعودية، سنة 1400-1401هـ، ص 22
([7]) الكاساني: بدائع الصناع في ترتيب الشرائع 7/130، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، سنة 1406هـ/1986م
([8]) قال الإمام السرخسي: “دار الإسلام اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين، وعلامة ذلك أن يأمن فيه المسلمون شرح السير الكبير 3/ 1253، الشركة الشرقية للإعلانات، 1971م
([9]) راجع محمد أبو زهرة: العلاقات الدولية في الإسلام ص 57-58، دار الفكر العربي، القاهرة، سنة 1415هـ/1995م، د. وهبة الزحيلي: آثار الحرب في الفقه الإسلامي دراسة مقارنة ص 173-174، دار الفكر، دمشق، ط3، سنة 1419هـ/1998م
([10])راجع د. يوسف القرضاوي: فقه الجهاد 2/ 869-873، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، سنة 1435ه/2014م
([11]) د. وهبة الزحيلي: مرجع سابق ص 193
([12]) د. وهبة الزحيلي: المرجع السابق ص 194
([14]) سورة الأنفال من الآية 39
([15]) راجع عبد الوهاب خلاف: مرجع سابق ص 75-76، أبو زهرة: المرجع السابق ص 50-52
([16]) سورة البقرة من الآية 256
([18]) سورة النساء آية 92، الأنفال 72-73، مع وجود أحاديث صحيحة، وآثار صالحة، ورد فيها أوصاف مثل “دار المهاجرين”، “أرض العدو”، أرض الشرك، وورد عن بغض الصحابة وصف “دار الهجرة ودار الإسلام”… راجع د. يوسف القرضاوي: فقه الجهاد 2/ 869-873
([19]) راجع الماوردي: الأحكام السلطانية ص 216
([20]) عبر شاعوهم عن ذلك بقوله:
يُغار علينا واترين فيُشتفى بنا إن أُصبنا أو نغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا فلا ينقضي إلا ونحن على وتر (الجاحظ: البيان والتبيين 3/217، دار ومكتبة الهلال، بيروت، سنة 1423هـ)
([21])ابن سعد: الطبقات الكبرى 1/ 258، الطبري: تاريخ الرسل والملوك 2/132، وحسنه الألباني في تعليقاته على فقه السيرة للغزالي ص389.
([23]) الفروق 3/24، عالم الكتب، بيروت، (د.ت)
([24]) الواقدي: فتوح البلدان ص 235
([26]) توماس أرنولد: الدعوة إلى الإسلام ص 401 وما يليها
([27]) راجع البكري: المسالك والممالك 2/781-782، دار الغرب الإسلامي، سنة 1992م، المقريزي: الإلمام بأخبار من بأرض الحبشة من ملوك الإسلام ص 23، القاهرة، 1895م
([28]) نشأت المجلة كنتاج لمؤتمر التبشير العالمي الذي عقد في أدنبرة عام 1910 مثلما أشار صمويل زويمر في العدد الأول. ومنذ نشأتها حتى اليوم تصدر مجلة فصلية، لكنها شهدت في تطورها عبر السنوات الماضية تحولا جذريًا في توجهاتها، بداية من اتباع الوسائل التبشيرية المباشرة والمتعصبة، إلى انتهاج الأكاديمية والصفة البحثية في محتواها، خاصة مع تغيير هيئتها التحريرية التقليدية من مبشرين متعصبين إلى كتاب ومفكرين أكاديميين، بعضهم من المسلمين، والمجلة يرأس تحريرها حاليا الدكتور يحيى محمد ميشوت Yahya Michot المحاضر بالمركز الإسلامي بكلية اللاهوت، جامعة أوكسفورد، وزميل مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية، وهو مسلم بلجيكي الجنسية وله العديد من الكتب والمقالات في الفكر الإسلامي خاصة عن ابن تيمية وابن سينا.(أمل خوري: مجلة العالم الإسلامي.. رحلة تبشير في مائة عام، مقال منشور بموقع أتباع المرسلين على الشبكة العنكبوتية بتاريخ 4/3/2011م)، على الرابط http://www.ebnmaryam.com/vb/t183216.html
([29]) راجع مقدمة المترجم عجاج نويهض ج1 ص 29، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط3، وقد ونشرت طبعته الأولى سنة 1925 بالمكتبة السلفية بالقاهرة
([30]) إسماعيل أحمد ياغي ومحمود شاكر: تاريخ العرب الحديث والمعاصر، مكتبة دار المريخ للنشر، الرياض، سنة 193م، ، 2/ 269
([31]( راجع موقع منظمة التعاون الإسلامي على الرابط: http://oic-oci.org/states/?lan=ar ، وتقع غويانا على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، ولها حدود مع دولتي فنزويلا وسورينام (راجع عنها موقع مركز الأبحاث الإحصائية والاقتصادية والاجتماعية والتدريب، التابع لمنظمة التعاون الإسلامي http://www.sesric.org/cif-ar.php?c_code=22
([32]) راجع د. محمد عوض الهزايمة: حاضر العالم الإسلامي وقضاياه السياسية المعاصرة، دار الحامد للنشر والتوزيع، ط2، ص 315
([33]) إسماعيل ياغي ومحمود شاكر: مرجع سابق ص 252،
https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/c73b7204-f2e5-4083-9476-9908b7e5bf64
([34]) https://www.alukah.net/world_muslims/0/126052/#ixzz67ov07ZQ4
([35]) تم تعديل الميثاق في المؤتمر الذي انعقد في داكار بالسنغال سنة 1429هـ/2008م
([36]) راجع ميثاق منظمة التعاون الإسلامي المادة الثالثة فقرة 2
https://www.oic-oci.org/page/?p_id=61&p_ref=27&lan=ar
([37]) راجع بلخير فؤاد: التعاون في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، رسالة ماجستير، جامعة الجزائر، كلية الحقوق، 2009-2010م، ص 33-35
([38]) د. محمد خميس الزوكة: جغرافية العالم الإسلامي ص 11، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، سنة 2000م
([39]) د. تاج السر أحمد حران: حاضر العالم الإسلامي ص 9- 10، إشبيليا للنشر والتوزيع، الرياض، ط1، سنة 1422هـ/2001م