(مصر نموذجا)
مقدمة
الاستبداد السياسي من أقدم الظواهر التي مارستها أنظمة الحكم المختلفة شرقا وغربا، قديما وحديثا، فما زالت أغلب أنظمة الحكم في العالم يغلب عليها طابع الاستبداد بدرجات متفاوتة ، يستثنى من ذلك بعض أنظمة الحكم في الولايات المتحدة وأوربا الغربية قبل صعود اليمين المتطرف الذي يهدد الحياة الديمقراطية فيها، وبعض الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية.
وفي دولنا العربية في وقتنا المعاصر ظهرت أنظمة استبدادية بلون جديد، أسماه بعض الباحثين وهو الدكتور رفيق عبد السلام بالاستبداد الحداثي.[1]
مفهوم الاستبداد
الاستبداد لغة
ورد في لسان العرب ، وفي الصحاح : استبَدَّ بالأَمر يستبدُّ به استبداداً إِذا انفرد به دون غيره.[2]
وفي المعجم الوسيط : (استبد) بِهِ انْفَرد بِهِ وَذهب، والأمر بفلان: غَلبه فَلم يقدر على ضَبطه وبأميره: غلب على رَأْيه فَهُوَ لَا يسمع إِلَّا مِنْهُ.[3]
الاستبداد اصطلاحا
عرَّفه الكواكبي بقوله :” تصرف فردٍ أو جمعٍ في حقوق قومٍ بالمشيئة وبلا خوف تبعة”.[4]
كما عرَّفه الدكتور علي الدباغ بقوله :” هو تفرد بالرأي في شؤون تخص الجماعة وبالتالي فهو احتكار أو اغتصاب لحق الجماعة في إبداء رأيها، وفي النهاية هو طغيان واعتداء على الآخر”.[5]
ويقترب من هذا المفهوم ما ورد عند الدكتورة بان غانم أحمد الصائغ بأنه :” الانفراد بشؤون المجتمع من قبل فرد أو مجموعة من الأفراد دون بقية المواطنين”.[6]
والاستبداد كما عرفه مونتسكيو هو ذلك الحكم الفردي المطلق الذي لا يخضع لعملية ضبط أخلاقي أو رقابة دستورية، ويتأسس في جوهره على أهواء الحاكم ونزوعاته الشخصية، حيث يصف الحكومة الاستبدادية القائمة على مبدأ الخوف أثناء حديثه عن أنواع الحكومات:
” …..وذلك بدلًا مما في الحكومة المستبدة من وجود واحد بلا قانون ولا نظام؛ فيَجُرُّ الجميع على حسب إرادته وأهوائه”.[7]
والملاحظ في بعض تعريفات الاستبداد أنها ذكرت الانفراد دون ذكر الإكراه، مما يعني أن الانفراد قد لا يعني الإكراه والحرمان، وإنما قد يعني الرضا والقبول.
مفهوم الاستبداد الحداثي
أما الاستبداد الحداثي، فقد عرفه الدكتور رفيق بأنه “تلك الحالة الاستبدادية التي تؤسس شرعيتها على المدونة الحداثية السياسية”.[8]
أو بتعبير “دان سلاتر”، المنشور في مجلة السياسة الخارجية الأميركية، عدد 6 نوفمبر 2018: ” يمكن التعرف على نموذجين غير ديمقراطيين للحكم:
الأول هو نظام الاستبداد الانتخابي
يفوز فيه الحكام بالسلطة من خلال الانتخابات، لكن هذه الأخيرة يتم التلاعب بها (ساحة اللعب بين المنافسين والمعارضين في الانتخابات بعيدة من أن تكون عادلة).
الثاني هو الديمقراطية غير الليبرالية
يفوز فيها الحكام بحرية في الانتخابات ثم يسيئون إلى الأقليات بالسلطة التي يفوزون بها، أي بعبارة أكثر وضوحا: يفعل الاستبداديون ما يشاءون ليفوزوا بالانتخابات، أما الديمقراطيون غير الليبراليين يفعلون ما يشاؤون بعد الفوز بالانتخابات. فبينما يمكن أن يدمج القادة والحكومات المنتَخَبون كلا السمات عند تآكل الديمقراطية، فمن الممكن أن يكون هناك نوع فقط دون الآخر”.[9]
فالنظام في الاستبداد الحداثي يعلن أنه نظام ديمقراطي، يمتلك هياكل الأنظمة الديمقراطية من انتخابات وبرلمان، وأحزاب ونقابات مهنية وجمعيات حقوق إنسان، وصحافة- ظاهريا- حرة، لكنه أفرغ كل هذه الهياكل والمؤسسات من مضمونها، بل صارت هي نفسها أحد الأدوات التي يستخدمها النظام لممارسة استبداده على شعبه.
ويكفي للتدليل على ذلك الحزب الذي كان يحكم مصر قبل ثورة 25 يناير 2011م ، فهو يحمل اسم “الحزب الوطني الديمقراطي”، وظل يهيمن على حكم مصر ابتداءً من الرئيس أنور السادات في عام 1978م وحتى سقوط حسني مبارك إثر اندلاع ثورة 25 يناير 2011م.
وقد وَصَفَ نفسه بـ” الديمقراطي”، وكانت الكلمات التي تختصر برنامجه المعلن في عهد رئيسه محمد حسني مبارك هي: “تنمية – ديمقراطية – استقرار”.
لكن في مقابل هذه المؤسسات الصورية، كانت هناك الأذرع الثقيلة للنظام التي تضرب بقسوة كل من يمثل خطرا على بقائه في الحكم، وتمثلت تلك الأذرع في وزارة الداخلية، وعلى رأسها جهاز أمن الدولة، والمحاكم العسكرية التي يحاكم فيها المدنيون المعارضون لنظام الحكم، ومحكمة أمن الدولة العليا، وقانون الطوارئ.
ولا زلت أذكر ما شاهدته بنفسي رأي العين ومعي الآلاف من أهالي البرلس بأقصى شمال محافظة كفر الشيخ، حينما ترشح حمدين صباحي لأول مرة لعضوية مجلس الشعب في عام 1995، بالتنسيق مع الإخوان المسلمين في دائرة البرلس والحامول، كيف أن القوات الخاصة أتت بأعداد ضخمة يوم الاقتراع، ومنعوا الناس من الذهاب إلى صناديق الاقتراع، ثم أعلنت النتيجة بفوز ساحق لعضو الحزب الوطني المنافس لحمدين، وبعد عدة أيام شاهدنا كمال الشاذلي، وزير الدولة لشئون مجلسي الشعب والشورى وقتها، و الأمين العام المساعد بالحزب الوطني وأمين التنظيم، ورئيس الكتلة البرلمانية للحزب في مجلس الشعب، يتحدث على شاشات التلفاز عن انتخابات مجلس الشعب، واصفا إياها بـ”العرس الديمقراطي” الذي يحسدنا العالم عليه!
أهم سمات وخصائص الاستبداد الحداثي
اتسمت أنظمة الاستبداد الحداثية، ومنها مصر بعدة خصائص من أهمها:
- أنها جمهوريات ملكية: فالرئيس يحكم مدى الحياة، كما أنَّ لعائلته أدوارا مؤثرة، ولعل المثال الواضح على ذلك التجديد المستمر للرئيس محمد حسني مبارك، وعدم السماح لترشح أي شخصية قوية لتنافسه في انتخابات الرئاسة، وإن ترشحت تعاقب كما حدث مع الدكتور أيمن نور، إضافة إلى الأدوار المؤثرة لزوجته وولديه علاء وجمال.
“وقد ظل النظام القانوني خلال حكم مبارك يُستخدَم أداةً للحد من إمكانية تداول السلطة، وضمان بقاء شخص مبارك وحزبه مهيمنين على المؤسسات السياسية، بل إن مبارك لم يتورع عن تعديل هذه القواعد والإجراءات كلما عنّ له ذلك، فضلًا عن هذا، وظفت السلطة في معرض حسمها للنتائج ترسانةً متنوعة من ألاعيب التزوير وتبديل النتائج وإفساد التصويت، قامت على إدارتها البيروقراطية الأمنية والحزبية للنظام”.
كما “تمثل حالة انتخابات 2018 (التي ترشح فيها السيسي أمام منافسين ليست لهم أدنى فرصة للنجاح) امتدادًا لموروث سلطوي أتاح وجود منظومة للانتخابات، تشمل قوانين وهيئات وإجراءات وعمليات، لكن بنيانها بقي يعمل على الحد من المنافسة الحرة، ومنع تعدد الخيارات من برامج ومرشحين أمام الناخبين، وفيه تتعمد السلطة إفساد الإطار القانوني للانتخابات، وتفرغه من الضمانات التي تكفل منافسة حرة، وحرية الدعوة والحركة أمام المتنافسين”.[10]
فالسياسة كما تقول الدكتورة ثناء فؤاد عبد الله :” تبدأ وتنتهي عند رئيس الجمهورية ، إذ تسمح القواعد غير المعلنة للنظام السياسي المصري بوجود رئاسة شبه “ملكية” ذات طابع شخصي، فيحتل الرئيس مركزا يسمو حتى على القانون، ويتجاوز الضوابط الإدارية، ويجعل من الرئيس مصدر الإلهام، والابتكار، والأيديولوجيا والسياسة، الرئيس من يمسك بخيوط اللعبة السياسية، وشروط المشاركة، ومن ثم فالسلطات تتركز عند الرئيس”.[11]
- أن دولة الاستبداد الحداثي تتسم بتغول مؤسسات الدولة، وبخاصة المؤسسات الأمنية، كما نجد ارتفاعا في ميزانيات وزارة الدفاع والداخلية، مقابل ميزانيات هزيلة لباقي الوزارات خصوصا الوزارات الخدمية كوزارة التربية والبحث العلمي والصحة والحكم المحلي، و” من يتابع مجريات الأمور في العالم العربي يصاب بالصدمة إزاء مستوى “الترشيد الحداثي” الذي بلغته وزارات الداخلية العربية بأقسامها التخصصية المعقدة والكثيرة وعلى رأسها أقسام الشرطة والاستعلام، مقابل ما تشهده مرافق المجتمع ومؤسساته من عطالة وتخلف هائلين، فالحاسوب الآلي وبرمجيات الكمبيوتر المتطورة مثلا وجدت طريقها إلى مختلف قطاعات الأمن والاستخبارات ولما تجد طريقها بعد إلى المدارس والجامعات والإدارات والبلديات، وغيرها من المؤسسات العلمية والمدنية التي يتعلق بها سير وظائف المجتمع”.[12]
ويقابل ذلك ضعف وتهميش مؤسسات المجتمع المدني، من أحزاب ونقابات وجمعيات أهلية، إضافة إلى ضعف الروابط التقليدية تجاه الدولة كالمؤسسة الدينية، والروابط العائلية.
- ارتفاع نسبة التوظيف الحكومي؛ مما أدى إلى اعتماد كثير من أفراد الطبقة الوسطى ماليا واجتماعيا على سلطان الدولة.
- الإسراف في استخدام العنف ضد المعارضين، رغم أن مصر تُعد – من الناحية النظرية– من بين الدول الأعلى في التصديق على الاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان، إلا أن المُتابع “للتطبيق العملي” لتلك الاتفاقيات، يجد فراغًا حقيقيًا من الأنظمة المُتعاقبة على مصر، في احترام حقوق الإنسان، كأهدافٍ سامية ومبادئ مُلزمة وتشريعاتٍ واجبة التطبيق دون أية أعذار.
وهذا البُعد التام من قبل النظام عن حقوق الإنسان، واستمرار الانتهاكات بشكلٍ مُستمر، نابع في حقيقة الأمر من ناحيتين:
الأولى: نظرة هذا النظام المصري لحقوق الإنسان، باعتباره “ترفٌ فكري”، وأن مصر تُحارب الإرهاب، وأنه “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، ومن ثمَّ استباحة مستمرة للإنسان المصري وحقوقه.
الثاني: الغياب التام لفكرة “المحاسبة والمحاكمة”، لأية تجاوزات تتم من قبل أفراد تابعين للمنظومة التنفيذية في مصر، وهو ما يعني استهتاراً بحياة المواطن، يستتبعه انتهاكات وجرائم مُستمرة دون خشية من مُسائلة.[13]
- الإسراف الشديد في الحديث عن الديمقراطية والحرص على التزام مبادئها، مهما كانت العوائق والعقبات، ونتذكر هنا خطابات الرئيس محمد حسني مبارك بعد أي حدث في مصر يتعلق بالحريات أو الانتخابات، حيث كان يقول بأن معالجة مشاكل الديمقراطية لا يكون إلا بمزيد من الديمقراطية، كما كثر الحديث عن “الأعراس الديمقراطية” في مصر، وكيف يغبطنا العالم على “ديمقراطيتنا”، والسعي إلى الاقتداء بالتجربة المصرية الفريدة.
وتلخص الدكتورة بان غانم أحمد سمات الدولة الاستبدادية الحداثية بقولها: “فالاستبداد يتخذ أوجها متعددة، منها الإسراف في استخدام القوة، وسيطرة الفرد التامة على الحكم من أجل تحقيق المصلحة الخاصة للحاكم وبطانته، الدولة البوليسية التي تكون السيادة فيها للحاكم وليس للقانون، الحالة التسلطية المتمثلة في امتداد قوة الدولة الحديثة واختراقها الشديد للمجتمع المدني واحتكارها لمصادر القوة والفعل والسلطة”.[14]
أسباب ظهور الاستبداد الحداثي
للاستبداد الحداثي في بلادنا العربية عامة، وبمصر خاصة أسباب عديدة متنوعة، لكن يأتي على رأس هذه الأسباب ظروف نشأة الدولة العربية الحديثة، والظروف الإقليمية والعالمية.
فالنسبة لظروف النشأة الحديثة للدولة العربية يقول الدكتور رفيق عبد السلام، بتصرف:” ثمة جملة من الأسئلة المحورية التي يحتاج كل باحث وسياسي نزيه وحصيف إلى المجازفة بطرحها، من ذلك:
- ما الذي يجعل من الدولة العربية عنيفة ومتجبرة؟
- ما الذي يجعلها عصية على الترويض والضبط؟
- ما الذي يجعلها واهنة وعاجزة عن دخول بوابة الحداثة السياسية والاقتصادية، رغم ما تثيره من جلبة وضجيج الشعارات الحداثية والتنويرية؟
الجواب عندي أن هذه الدولة العربية ولدت مأزومة وواهنة منذ تكوينها، واستمرت تحمل في ذاتها عوامل الإعاقة والخلل سواء من جهة علاقتها بالجسم المحلي الأهلي أو من جهة علاقتها بالجوار العربي، فهي دائمة التوتر والاشتباك مع مواطنيها في الداخل، وفي محاولة للتغلب على أزمة الشرعية هذه، تلجأ الدولة العربية إلى الإسراف في استخدام العنف والمبالغة في استعراض القوة، ولذلك كثيرا ما يستغرب المرء من حالة الهوس الأمني والشراسة البوليسية التي تبديها الدولة العربية في التعاطي مع مطالب المجتمع، فبمجرد رفع بعض المطالب السياسية الإصلاحية، أو بمجرد كشف اللثام عن تجاوزات وخروقات الحاكم العربي في هذا الملف أو ذاك، حتى يتحول الأمر إلى ضرب من الاتهام “بتهديد نظام الحكم”، هذا إذا لم تدمَغ هذه القوى بمحاولة الانقلاب والانقضاض على الحكم”.[15]
ومن ناحية أخرى “نتساءل عن سبب لجوء الدولة العربية الحديثة للتحديث ورفع شعارات التنمية والحداثة، مع قدرتها التامة على استعمال أدوات العنف والتحكم وإبقاء البلد في حالة تخلف مزمن؟
إن الوجه التحديثي يمنح المزيد من شرعية الدولة، وتستغني به عن المنظومات التشريعية الدينية التي تمد الدولة التقليدية بالشرعية، فأدوات العنف وحدها لا تكفي للسيطرة مهما كانت بشاعة العنف، فالتحديث في مؤسسات الدولة مع العنف يضمن شرعية قادرة على الاستمرار والبقاء، وبذلك ضمنت الدولة العربية الحديثة شرعية سياسية بالتحديث، كما ضمنت حماية دولية بالانتماء للمشروع الإمبريالي، وإمساك تام بزمام السلطة، فالدول الراعية ( العالمية) لا يمكنها التخلي عن أيدولوجيتها في إخضاع الشعوب “المستعمَرة” أو تنشيط فاعلية المؤسسات بذات القدر في دولها، فلا خيار أمامها سوى تدعيم القوى والنخب العلمانية الضامنة لقيم الهيمنة الدولية.
فالدولة العربية ترى نفسها مجرد وكيل معنوي لإدارة الشأن العام، ووصية على مجتمع قاصر وعاق لا يقدر على إدارة شؤونه وبلوغ مرحلة الرشد السياسي التي تؤهله لامتلاك ناصية أمره، ولا يمكن ائتمان جانبه أو الاطمئنان إلى ما يبديه من طاعة وسكون ظاهرَين، الأمر الذي يتطلب فرض الرقابة الأمنية والاستخباراتية عليه لاتقاء غضبته وقومته المحتملة، وهي على ذلك تعتبر نفسها صانعة ومجسدة للإرادة العامة، وكثيراً ما تتماهى الدولة العربية في شخص الحاكم ــ الزعيم، فينتهي الأمر إلى اختزال الدولة والإرادة العامة والمجتمع السياسي في شخص الحاكم”.[16]
ويستكمل الدكتور رفيق عبد السلام شرحه قائلا: ” فالدولة العربية الحداثية كثيرا ما تختار المخاتلة والمخادعة واستبدال جلود غير جلودها بحسب مصالحها وبحسب لعبة العرض والطلب، ولا يهمهما كثيرا نوعية العناوين والشعارات التي تتدثر بها بقدر ما يعنيها تثبيت مواقعها التسلطية والانفرادية وعلى رأس ذلك العصب الحي للسلطة ممثلا في أجهزة الجيش والشرطة ومصادر الثروة العامة، وفعلا وجدت النخب”.[17]
ويقول روبرت دال في كتابه الديمقراطية ونقادها:” تحظى فكرة الديمقراطية في يومنا هذا بشعبية عالمية، ومعظم الأنظمة تحاول أن تدعي بأن لها إسهاما معينا في مضمار ممارسة الديمقراطية، أما تلك التي لا تدعي ذلك، فإنها تصر على القول بأن اعتمادها نظاما غير ديمقراطي إنما يمثل مرحلة ضرورية على الطريق الذي يؤدي بالنتيجة إلى الديمقراطية، وفي أيامنا هذه، فإنه حتى المستبدين من الحكام يؤمنون على ما يبدو بأن إضفاء مسحة من لغة الديمقراطية إنما يشكل عنصرا أساسيا من العناصر المكونة لشرعية أنظمتهم”.[18]
أما الظرف الإقليمي فنجد أن الدول ذات التأثير الإقليمي، وعلى رأسها السعودية وإسرائيل لا يسمحون بوجود نظام ديمقراطي في مصر خوفا من صعود قيادات تمثل تهديدا لنموذج الحكم السعودي، أو تهديدا لأمن إسرائيل، ولعلاقاتها مع باقي دول العالم العربي والإسلامي.
وبالنسبة لأهمية مصر الدولية نجد في الدراسة المهمة الصادرة عن البرلمان الأوروبي للباحث عادل عبدالغفار في فبراير 2018: ” فالاتحاد الأوربي يعتبر مصر شريكا رئيسيا للاتحاد الأوروبي في مواجهة عدد من التحديات الاستراتيجية مثل السيطرة على الهجرة غير الشرعية عبر البحر الأبيض المتوسط، ومكافحة الإرهاب والسعي لحل الصراعات الكبرى التي دمرت بعض دول الشرق الأوسط مثل ليبيا وسوريا واليمن”.[19]
كما أن هناك أهداف التعاون الاستراتيجي بين مصر والولايات المتحدة في الحفاظ على السلام بين مصر وإسرائيل، ودعم عملية السلام في المنطقة، ومساندة جهود مكافحة الإرهاب، ووقف انتشار أسلحة الدمار الشامل، واحتواء إيران وبرنامجها النووي.[20]
وفي سؤال وجهه موقع الجزيرة نت إلى الدكتور محمد محسوب وزير الشؤون القانونية والبرلمانية المصري الأسبق بتاريخ 21يناير 2019م ، أي قبل أيام قليلة على حلول ذكرى ثورة 25 يناير 2011م كان هذا السؤال :
هل تعتقد أن أميركا والغرب أدركوا خطر دعمهم للسيسي والمستبدين في المنطقة؟
فأجاب: “الغرب يُدرك مخاطر الاستبداد، لكنه لا يملك الإرادة لمواجهته خارج حدوده إلا إذا اقتضت مصالحه ذلك، بل إن بعض الإدارات الغربية -كإدارة ترامب- ترى مصالحها تتحقق بشكل أفضل في ظل الحكومات التي يقودها قتلة”[21].
ولهذه الأسباب كلها تتغاضى الولايات المتحدة، وكذلك أوربا عن الانتهاكات الصارخة التي يقترفها النظام المصري في حق شعبه؛ حرصا على مصالحهما معه، هذا إن لم يكن لهما دور في الحفاظ على الطبيعة الاستبدادية له والتمكين لها.
وإضافة لما سبق، يمكن أن نعدد أسبابا أخرى عمقت من استبداد الدولة المصرية، أهمها:
- عدم التمسك بقيم ومبادئ الدين الإسلامي التي تحث على مناهضة الاستبداد ودعت إلى تحقيق العدل والمساواة والشورى في الأمر واحترام الإنسان.
- انتشار الأمية بين أفراد المجتمع والجهل المعرفي لدى قطاعات واسعة من الناس مما يفقدهم القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ ويوفر أفضل الفرص لتضليلهم وسيطرة الحكام المستبدين عليهم.
- وجود ثقافة مجتمعية مهادنة للاستبداد وقابلة للتعايش معه والعيش تحت ظلاله من قبيل تعظيم الحاكم والنظر إليه على أنه لا يخطئ أو كمن لا يجوز نقده أو محاسبته.
- تركز معظم الأنشطة الاقتصادية والتجارية في يد الدولة وضعف القطاع الخاص وقلة المشاريع الاقتصادية الأهلية مما يجعل الناس غير متحررين في نمط معيشتهم.[22]
التحيزات المتعلقة بدراسة الاستبداد الحداثي
الملاحظ بالنسبة لظاهرة الاستبداد الحداثي في مصر، أن التحيز المعرفي لم يكن في توصيف المفهوم بقدر ما كان في التمييز في التعاطي مع ضحاياه.
فقد كان الإسلاميون الأكثر اضطهادا في عهود الاستبداد الحداثي في مصر منذ حكم جمال عبد الناصر وحتى عهد السيسي، إلا أن كثيرا من منظمات المجتمع المدني وكثيرا من الكتاب والصحفيين، بل وكثيرا من الأكاديميين أظهروا تعاطفا أكثر مع التيارات غير الإسلامية.
وقد وصل الأمر بوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في زيارته للقاهرة مساء الأربعاء الموافق 9/1/2019م التي تهدف، كما قال على تويتر، إلى بحث الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وخطط واشنطن مع حلفائها وشركائها لزيادة الضغط على إيران، أنه أطلق عدة تصريحات أثناء خطابه في الجامعة الأمريكية بالقاهرة منها تصريحه عن المعتقلين في مصر بقوله: “نتطرق للقضايا التي تهم أمريكا فقط”.[23]
المفاهيم المتعلقة بالاستبداد الحداثي في مصر
ارتبطت ظاهرة الاستبداد الحداثي في مصر بمفاهيم عدة، أغلبها تم تزييفها وتغيير مضامينها، ومن هذه المفاهيم:
- مفهوم الديمقراطية الذي يعني حرية الرأي، وحرية اختيار الشعب لحكامه، وحرية تكوين المؤسسات المدنية من أحزاب ونقابات وجمعيات أهلية، بينما في الواقع تم توظيفه بمعنى فرض الحكام قسريا على الشعب، وتهميش دور الأحزاب، والتضييق على الجمعيات الأهلية …إلخ.
- مفهوم حفظ الاستقرار الذي يعني حكما عادلا، وأمنا لجميع أفراد الشعب، وتأمينا لمعاشهم، وحفاظا على صحتهم …. إلخ، بينما تم استخدامه بمعنى قمع الحريات، ومنع الشعب من حق التظاهر أو الاعتراض.
- مفهوم الإرهاب الذي ورد في القرآن الكريم بمعنى الردع، لكن تم وصف كل معارض لنظام الحكم به، دون التفريق بين من حمل السلاح وبين من حمل الكلمة، والتزم بالقانون في معارضته لنظام الحكم، وبين من سعى إلى السلطة، منافسا الحاكم وحزبه.
وغير ذلك من المفاهيم، كمفهوم “الأمن القومي للبلاد”، ومفهوم السيادة، ومفهوم المصالح العليا، ومفهوم المواطن الشريف، ومفهوم الانتماء القومي والانتماء الوطني، وغيرها الكثير والكثير.
وسوف أتناول أحد هذه المفاهيم بشيء من التفصيل، وهو مفهوم الديمقراطية الأكثر شهرة وتداولا على الألسن.
تطور مفهوم الديمقراطية
مر مفهوم الديمقراطية بمراحل عدة منذ تطبيقه في الدولة المدينة “أثينا” حوالي القرن الخامس قبل الميلاد وحتى يومنا هذا، وفي ذلك يقول توماس بانجل: ” إن مبادئنا الديمقراطية الحديثة، خاصة في تعبيراتها الدولية، هي نتيجة تعاقب صراعات تاريخية مليئة بالتوترات على مر القرون” ثم قال موضحا تطور الفكرة تاريخيا:” وقد نشأت في كل مرحلة من مراحل هذه العملية مفاهيم حديثة أو متجددة”، فمفهوم الديمقراطية ثابت لكن بصور متنوعة.[24]
وسوف نتناول مفهوم كل مرحلة من تلك المراحل، لنبين من خلاله مفهوم الديمقراطية، وما يرتبط به من مفاهيم، وما أضيف إليه وليس منه.
أولا: مفهوم الديمقراطية في العهد الأثيني
الديمقراطية Democracy”” عبارة عن جزأين : الأول “demos” وتعني الشعب، والثاني Xratos”” وتعني حكم، ومجموع الكلمتين يعني: حكم الشعب، وهذا ما نص عليه معجم أكسفورد السياسي، حيث عرَّف الديمقراطية بأنها “سلطة الشعب”، وهذا هو مدلول الديمقراطية ومعناها الأصلي والأساس”.[25]
واختيار الشعب للحاكم بهذا المفهوم أدى إلى أن تكون هذه الديمقراطية مباشرة، حيث يشارك جميع أفراد الشعب في اختيار الحاكم [26]، ويترتب على هذا المفهوم عدة مفاهيم أخرى، منها حرية الرأي، فاختيار الشعب للحاكم ينبغي أن يكون عن قناعة؛ مما يعني أن يقول كل فرد رأيه دون خوف أو عقاب.
كما يترتب عليه أيضا مبدأ تداول السلطة، فقد يرغب الشعب في اختيار حاكم ما لفترة محددة، وقد يختار آخر في فترة أخرى.
ومن المبادئ المترتبة على هذا المفهوم للديمقراطية أيضا هو مبدأ حكم الأغلبية، فاتفاق الشعب كله على اختيار حاكم معين أمر مستحيل لاختلاف وجهات النظر، إذن فلا بد من الاختيار بالأغلبية؛ مما يعني إهدار رأي الأقلية، وبذا صار معنى الديمقراطية هو حكم الأغلبية.
والملاحظ هنا أن مفهوم الديمقراطية ليس أكثر من كونه نظاما سياسيا مجردا، يصلح لكل مجتمع بما يتلاءم مع خصائصه الدينية والاجتماعية، لكن لم يرتبط بنظام ثقافي أو اقتصادي معين.
أسباب اختيار النظام الديمقراطي
وتطبيق الديمقراطية في أثينا بهذا المفهوم منذ عام 520 قبل الميلاد كان رد فعل طبيعي، كما يرى أفلاطون، على الحكم الأوليجاركي، فحينما يحتكر الأغنياء الحكم دون الفقراء، يتحول المجتمع إلى طبقتين، طبقة الفقراء، وطبقة الأغنياء التي تبدأ بالبطر والترف، وتبخس الفضيلة والفضلاء قدرهم؛ مما يحفز الطبقة الفقيرة على الثورة ضد الطبقة الغنية؛ فتنشأ الديمقراطية بفوز الفقراء، فيقتلون بعض خصومهم، وينفون غيرهم، ويتفقون مع الباقين على اقتسام الحقوق والمناصب المدنية بالتساوي، ويغلب في دولة كهذه أن تكون المناصب بالاقتراع”. [27]
ويتضح من خلال كلام أفلاطون أن الديمقراطية ثورة الفقراء ضد الأغنياء، أو بالتعبير الماركسي صراع البروليتاريا ضد البرجوازية، والعجيب أن نظرة أفلاطون الفيلسوف الأثيني لهذا النوع الديمقراطي للحكم كان سلبيا، كما كان أستاذه سقراط من قبل يستهزئ هو أيضا بالنظام الديمقراطي.
ويرى أفلاطون أن الديمقراطية تؤدي إلى حرية مائلة للاستباحة، وهي أيضا فوضوية، ملونة، تعامل جميع الأفراد بالمساواة سواء كانوا متساوين أم لا، وأن الحتمية التاريخية للديمقراطية تؤدي حتما إلى الاستبداد رغم أنها كانت، في الأصل، ثورة على الاستبداد.
كما أن أرسطو من بعده قسم أنواع الحكم إلى قسمين:
قسم شرعي يحكم لصالح الجميع، والآخر فاسد يحكم لمصلحة نفسه، وجعل الديمقراطية من القسم الفاسد الذي تحكم فيه الأكثرية لصالح ذاتها وليس لصالح المجتمع. [28]
التحيز في المفهوم الأثيني للديمقراطية
مما سبق من عرض لمفهوم الديمقراطية عند دولة أثينا أنه يتحيز لفئة دون أخرى.
- فهو يتحيز للأحرار ممن هم فوق سن الـ18ضد من هم تحت سن الـ18.
- وهو يتحيز للأغلبية ضد الأقلية.
- ويتحيز لملاك العقارات ضد من لا يملكونها، رغم أن الديمقراطية كانت، كما ذكر أفلاطون، ثورة الفقراء ضد الأغنياء.
- كما يتحيز للأحرار ضد النساء والعبيد.
- وكذلك يتحيز للمواطنين الأثينيين ضد الأجانب المقيمين فيها.
ثانيا: الديمقراطية في عصر التنوير
عصر التنوير حركة فكرية ظهرت في أوربا في القرن الثامن عشر الميلادي بغرض تخليص العقل الأوربي من أوهام الكنيسة وسيطرة الإقطاع، وقيود الاستعباد العقلي.
وقد أحيا رواد هذه الحركة مفهوم الديمقراطية مرة أخرى بعد أن اختفى في فترة العصور الوسطى في عهد الامبراطورية الرومانية، ثم في عهد الإقطاع، وسيطرة الكنيسة على العقل الأوربي.
ما أضيف للديمقراطية من شروط في عصر التنوير
وقد أضاف مفكرو عصر التنوير شروطا جديدة لمفهوم الديمقراطية تمثلت في:
- البعد الليبرالي القائم على الحرية المطلقة للأفراد، وذلك كرد فعل على المفكرين الذين نظَّروا للعبودية تنظيرا دينيا وعقليا، ونادوا بالسلطة المطلقة للملوك القائمة على الحق الإلهي، وهنا نجد أن الحرية التي نادوا بها تشمل الجميع، أكثرية كانوا أم أقلية، حيث يقول جون لوك: ” إذا تناولت الأحكام الجائرة عامة الشعب، أو وقع الأذى والظلم على البعض فقط، فلست أدري كيف يُحَال بينهم وبين الثورة على القوة الغاشمة التي تُسْتَخدمُ ضدهم”.
- الفصل بين السلطات، وقد ارتبطت هذه الفكرة بالفيلسوف الفرنسي “مونتسكيو”، وتقوم على الفصل بين ثلاث سلطات: السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، والهدف من هذا الفصل هو الحد من سيطرة الملك خشية تنفيذه الجائر للقوانين، حيث يقول: ” لا تكون الحرية أبدا إذا ما اجتمعت السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية في شخص واحد أو في هيئة حاكمة واحدة”.[29]
ما الذي ترتب على إضافة البعد الليبرالي إلى مفهوم الديمقراطية؟
ترتب على ذلك كما قال “جون ستيوارت ميل” أن سلطة الدولة يجب أن تكون محايدة مطلقا تجاه الدين والأخلاق والمعرفة، وأي محاولة لفرض وجهة نظرها الأخلاقية أو الدينية أو المعرفية على أفراد المجتمع، فإن الحرية ستكون معدومة حقيقة، وإن وجدت اسما.
وما ترتب على الدولة يترتب أيضا على المجتمع، فلا يجوز له أيضا أن يملي موقفه الديني أو الأخلاقي على أي فرد من أفراده، كما يقول “ستيوارت ميل” أنه إذا “انعقد إجماع البشر على رأي، وخالفهم في الرأي فردٌ واحد، ما كان حق البشرية في إخراس هذا الفرد بأعظم من حق الفرد في إخراس البشرية، ولو كان الرأي لا قيمة له إلا عند صاحبه”.[30]
تحويل الديمقراطية إلى عقيدة دولية عند “أمانويل كانت”
كانت فكرة الديمقراطية عقيدة محلية غربية منذ بدايتها في أثينا وحتى مطلع القرن التاسع عشر، حتى ظهرت فكرة ديمقراطية السلام للألماني “أمانويل كانت – Immanuel Kant” (22 أبريل 1724- 12 فبراير 1804)، وأصبحت أساسا فكريا لشن الحروب على شعوب العالم بدءًا من نابليون، وحتى وقتنا الحالي بغرض فرض فكرة الديمقراطية على تلك الشعوب، والهدف هو كي يعم السلام ؛ فلابد من وجوب فرض الديمقراطية على جميع شعوب العالم؛ بناءً على أساسين :
الأول: أن الدول الديمقراطية لا تتقاتل فيما بينها، وفق رأيه ، لسببين: الأول أن قرار الحرب لابد أن يمر من خلال مؤسسات الدولة التشريعية، وهذا مما يصعِّب الأمر، فقرار الحرب ليس سهلا، والثاني أن الديمقراطية تخلق وعيا شعبيا وثقافة سياسية من شأنهما أن يمنعا المجتمع من تقبل فكرة الصراعات والحروب العسكرية مع الدول الأخرى، بينما في الدول الدكتاتورية لا يحتاج إعلان الحرب سوى القرار الفردي التي يتخذه المستبد.
الثاني: أن العلاقات بين الدول خارج المنطقة الديمقراطية علاقات صراعية، تشمل الصراع بين الدول الديمقراطية والدول غير الديمقراطية، ورغم انحسار فكرة السلام الديمقراطي في المساحة الديمقراطية فقط، إلا أنها تبقى صالحة في التبرير الذي يستند إليه الليبراليون في تفاؤلهم تجاه النظام الدولي.
ولاتزال هذه الفكرة حية في العقل الأمريكي السياسي والعلمي، ومن أواخر من أكد عليها الخبيران الأمريكيان: لورن كارنر نائب رئيس المعهد الجمهوري الدولي، وكينيث ولاك رئيس المعهد الديمقراطي الوطني، ولعل نظرية نهاية التاريخ لفوكوياما هي أحد تجليات هذه الفكرة.
وقد سعت الولايات المتحدة لنشر الديمقراطية، أثناء الحرب الباردة، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وبقاء أمريكا قطبا أوحد، بكل ما تملك من قوة، سواء باستخدام القوة العسكرية، أو المساعدات المالية، أو العقوبات الاقتصادية، أو الضغوط الدبلوماسية، أو من خلال العمليات السرية.
التحيز في مفهوم الديمقراطية الليبرالية
من خلال المفاهيم التي أضافها فلاسفة عصر التنوير، والتي أضافها “أمانويل كانت” نجد أن هناك تحيزات واضحة في مفهوم الديمقراطية، نوجزه فيما يلي:
- ربما كانت الدعوة لحرية الأفراد فيما يختارون، وحرية الشعوب كذلك أمر إيجابي، لكن أن يتم فرض ذلك على دول وشعوب بأكملها ولو بقوة السلاح، فهو أمر انتفت فيه حرية الاختيار التي ينادون بها.
- كما أن فرض ديمقراطية السلام على شعوب العالم التي دعا لها “أمانويل كانت” لم تحقق الغرض منها، بل ما رأيناه أن الدول الأوربية استعملتها وسيلة لاحتلال أرض الغير، ونهب خيراتهم، وإقصاء أحرارهم، والتمكين لأتباع الغرب في حكم البلاد بعد خروج المحتل الغربي منها، ونزوع هؤلاء الحكام أتباع الغرب إلى الاستبداد والقهر ليتمكنوا من الاستمرار في حكم البلاد، إذ إن الحرية وفق المفهوم الغربي تعني اختيار الشعب لقيادات تعمل لصالح بلادها، وهو ما يتعارض مع مصالح الدول الكبرى التي تزعم رعايتها للديمقراطية.
- وادعاء الغرب سعيه لنشر الديمقراطية، وحاجته إلى تحقيق مصالحه على حساب شعوب المنطقة هو ما أدى إلى بروز ظاهرة الاستبداد الحداثي التي تم تناولتها في بداية الورقة.
هل الديمقراطية الغربية الليبرالية صالحة للتطبيق في مصر؟
مازال هذا السؤال مطروحا في عالمنا العربي، وخصوصا مصر.
ومازال هناك انقسام بين من يقول بوجوب تطبيق الديمقراطية الغربية بحذافيرها، وبين من يقول بالأخذ منها بما يناسب طبيعة مجتمعاتنا، وثالث يقول بأن بلادنا غير مهيأة حتى الآن على الأقل لتطبيق مفهوم الديمقراطية.
لكن الأمر المؤكد أن الاستبداد أضر بشعوبنا وببلادنا، وتسبب في تخلفنا الشامل، وفي عجزنا عن استثمار ثرواتنا الطبيعية ورصيدنا الحضاري، بما يؤدي إلى نهضة بلادنا، وأدى إلى هجرة كثير من الطاقات التي كان يمكن أن تكوِّن القاعدة الصلبة لنهضة بلادنا نهضة شاملة.
وللخروج من هذا المأزق، فنحن نحتاج إلى الحرية المفقودة في ظل الاستبداد، ونحتاج إلى العدل المفقود أيضا في ظل الاستبداد، ونحتاج إلى الإبداع، وهو مكبوت في ظل الاستبداد.
إذن لا مناص لنا من أن نعيش أحرارا في بلادنا، لا يحكمنا إلا من يرضاه الشعب؛ ليحقق آماله وتطلعاته نحو الحرية ونحو التقدم الشامل في جميع مجالات الحياة.
وإذا كانت الديمقراطية الليبرالية تجافي بعض قيم حضارتنا النابعة من ديننا، إلا أن مفهوم الديمقراطية المجرد من الأيديولوجيات السياسية أو الاقتصادية يمكن أن يكون وعاءً صالحا لتطبيق قيمنا ومبادئنا، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها، وديننا يحثنا على التمسك بقيمة الشورى في الحكم ﴿…وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ…﴾[31] ، ﴿…وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ…﴾.[32]
فالديمقراطية بالمفهوم القديم تستلزم أمرين: سلطة الشعب، والحرية الفردية، ولا تستلزم الحرية بالمفهوم الليبرالي، ولا تحقيق التنمية الاقتصادية، ولا مبدأ الفصل بين السلطات، كما يقول الدكتور نايف بن نهار في كتاب الديمقراطية كما هي :” فالديمقراطية تعني سلطة الشعب، وسلطة الشعب تعني أن يكون القرار قرار الشعب، فهو الذي يختار شكل السلطة سواء أكانت نظاما رئاسيا أو برلمانيا، وهو الذي يختار العلاقة بين السلطات، ومستوى تفتيت السلطة، وهو الذي يختار النظام الاقتصادي سواء أكان يعتمد على المِلْكِيَّة الفردية والسوق المفتوحة أم يعتمد على التخطيط المركزي والمِلِكِيَّة الجماعية ….”[33]
واستند فيما ذهب إليه إلى بعض الدراسات الغربية، منها ما قاله الاقتصادي الأمريكي الشهير جوزيف شومبيتر:” الديمقراطية هي ذلك الترتيب المؤسساتي الهادف إلى الوصول إلى قرارات سياسية تحقق الخير العام بجعل الشعب نفسه يقرر بنفسه المسائل عبر انتخاب أفراد يجتمعون لتنفيذ إرادته”.[34]
وقد اقترب من هذا التعريف صمويل هنتنجتون حين ذكر أن حقيقة الديمقراطية تتحقق إذا” اختير قادته عن طريق الانتخابات الدورية العادلة التي يتنافس خلالها المرشحون لكسب أصوات الناخبين”.[35]
وقد ذكر روبرت دال أن الحد الأدنى الضروري للحريات في الحياة الديمقراطية يشمل التعبير الحر، وانتخابات حرة ومنصفة”، أي أن هذا هو القدر اللازم من الحرية الذي يلزم وجوده في أي مجتمع يخضع للنظام الديمقراطي، أما ما زاد على ذلك فهو خاضع لأخلاق الشعب، أي السمات الفكرية والأخلاقية للإنسان ضمن مجموعة بشرية”.[36]
نستطيع إذن إذا أردنا الخروج من حالة الاستبداد أن نستخدم الآلية الديمقراطية بما يناسب قيمنا الحضارية، وأعرافنا الاجتماعية، وظروفنا السياسية، ومبادئنا المعرفية.
الهوامش
[1] د. رفيق عبد السلام، الاستبداد الحداثي العربي، انظر الرابط: https://www.aljazeera.net/specialcoverage/coverage2004/2004/10/3/.
[2] الباحث العربي ، انظر الرابط: . http://www.baheth.info/all.jsp?term=%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF.
[3] المعجم الوسيط ، مادة بدَّه ، مجمع اللغة العربية – مكتبة الشروق الدولية ،ط4، ص42.
[4] عبد الرحمن الكواكبي ، طبائع الاستبداد، بتحقيق وتقديم الدكتور محمد عمارة، دار الشروق بالقاهرة ،ط20092،ص23.
[5] د. علي الدباغ ، الجذور الدينية للاستبداد، انظر الرابط: https://www.aljazeera.net/specialcoverage/coverage2004/2004/10/3/ .
[6] د. بان غانم أحمد الصائغ ، ظاهرة الاستبداد في أنظمة الحكم العربية، مجلة جامعة تكريت للعلوم الإنسانية ، المجلد 16 ، العدد 11 ، تشرين الثاني 2009،ص275.
[7] مونتسكيو ، روح الشرائع ، ترجمة عادل زعيتر، الباب الثاني ، الفصل الأول ( طبيعة الحكومات الثلاثة) مؤسسة هندواي ، ص59.
[8] رفيق عبد السلام ، مرجع سابق.
[9] دان سلاتر، بعد الديمقراطية: ماذا يحدث عندما تتآكل الحرية؟، ترجمة د. سم سحقي ،المعهد المصري للدراسات،16 نوفمبر 2018م ، انظر الرابط: https://eipss-eg.org/.
[10] عبده موسى ، انتخابات المرشح الواحد وتجديد واجهات السلطوية في مصر، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يناير 2018م.
[11] د. ثناء فؤاد عبد الله، آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية ، 1997م، ص131 .
[12] رفيق عبد السلام ، مرجع سابق.
[13] علاء عبد المنصف ، موقف مصر من اتفاقيات حقوق الإنسان ، المعهد المصري للدراسات ، 26أبريل 2018م، انظر الرابط: https://eipss-eg.org/.
[14] د. بان غانم أحمد الصائغ ، مرجع سابق،ص278.
[15] رفيق عبد السلام، مرجع سابق.
[16] محمد العبد الكريم، الاستبداد الحداثي، موقع المقال،19فبراير 2014م ، انظر الرابط: https://www.almqaal.com/?p=3294.
[17] رفيق عبد السلام ، مرجع سابق.
[18] روبرت دال ، الديمقراطية ونقادها، ترجمة نبيل عباس مظفر ، مراجعة د. فاروق منصور، توزيع المؤسسة العربية للدراسات ، بيروت – لبنان ، ط2، 2005م،ص 14.
[19] عادل عبد الغفار ، مصر المستقرة من أجل منطقة مستقرة (الاقتصاد الاجتماعي التحديات والآفاق)، ترجمة صادرة من مركز حازم لترجمة الدراسات الاستراتيجية، مايو أيار 2018م ، ص7 .
[20] محمد ماضي، العلاقات المصرية الأمريكية بين تركة الماضي واحتمالات المستقبل، 29 مارس 2012 ، انظر الرابط : https://www.swissinfo.ch/.
[21] د. محمد محسوب، انظر الرابط: https://www.aljazeera.net/news/politics/2019/1/21/.
[22] شورى برس، الاستبداد .. مفهومه وأنواعه وأسبابه وآثاره، موقع مغرس ، محرك بحث إخباري ،2/6/2018م ، انظر الرابط: https://www.maghress.com/chourapress/3235.
[23] انظر رابط صحيفة عربي 21 : https://www2.arabi21.com/story/1151041/.
[24] د. نايف بن نهار، الديمقراطية كما هي ( من الديمقراطية المجردة إلى الديمقراطية المؤدلجة)، مؤسسة وعي للأبحاث والدراسات ، الدوحة – قطر، ط2،2015م، ص138.
[25] د. نايف بن نهار، مرجع سابق، ص58.
[26] إلا أن مفهوم جميع أفراد الشعب ممن لهم حق التصويت في أثينا كان محكوما بشروط أهمها أن من له حق التصويت يكون من الأحرار فوق سن ال18 عاما ، ويحرم من هذا الحق المرأة والعبيد ومن لا يملك عقارا والأجانب المقيمون في أثينا، وبهذا كان من يتم استثناؤهم يزيدون كثيرا عن المسموح لهم بالتصويت.
[27] د. نايف بن نهار ، مرجع سابق،ص88 .
[28] د . نايف بن نهار ، مرجع سابق، ص ص 90،91 .
[29] د . نايف بن نهار، مرجع سابق، ص ص 100،104.
[30] د . نايف بن نهار، مرجع سابق، ص 110.
[31] الآية 38 من سورة الشورى.
[32] الآية 159 من سورة آل عمران.
[33] د . نايف بن نهار، مرجع سابق، ص 133.
[34] د . نايف بن نهار، مرجع سابق، ص 138 ، نقلا عن شومبيتر، الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية ص 483.
[35] د . نايف بن نهار، مرجع سابق، ص 121.
[36] د . نايف بن نهار، مرجع سابق، ص 134 – 135 عن روبرت دال ص153.
المصادر
- موقع الباحث العربي، الرابط : http://www.baheth.info/all.jsp?term=%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%A8%D8%AF.
- المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية – مكتبة الشروق الدولية ،ط4.
- د. نايف بن نهار، الديمقراطية كما هي(من الديمقراطية المجردة إلى الديمقراطية المؤدلجة)،مؤسسة وعي للأبحاث والدراسات، الدوحة، قطر،ط2، 2015م.
- د. بان غانم أحمد الصائغ ، ظاهرة الاستبداد في أنظمة الحكم العربية، مجلة جامعة تكريت للعلوم الإنسانية ، المجلد 16 ، العدد 11 ، تشرين الثاني 2009.
- د. رفيق عبد السلام، الاستبداد الحداثي العربي، الجزيرة نت، انظر الرابط : https://www.aljazeera.net/specialcoverage/coverage2004/2004/10/3/.
- د. علي الدباغ، الجذور الدينية للاستبداد، الجزيرة نت، انظر الرابط: https://www.aljazeera.net/specialcoverage/coverage2004/2004/10/3/ .
- عادل عبد الغفار، مصر المستقرة من أجل منطقة مستقرة (الاقتصاد الاجتماعي التحديات والآفاق)، ترجمة صادرة من مركز حازم لترجمة الدراسات الاستراتيجية، مايو أيار 2018م .
- مونتسكيو، روح الشرائع، ترجمة عادل زعيتر، الباب الثاني، الفصل الأول ( طبيعة الحكومات الثلاثة) مؤسسة هنداوي ، بدون تاريخ .
- دان سلاتر، بعد الديمقراطية: ماذا يحدث عندما تتآكل الحرية؟، ترجمة د. سم سحقي، المعهد المصري للدراسات،16 نوفمبر 2018م ، انظر الرابط: https://eipss-eg.org/.
- د. محمد عفان ، ظاهرة الاستبداد، الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=jknCt_geFGU
- شورى برس، الاستبداد .. مفهومه وأنواعه وأسبابه وآثاره، موقع مغرس ، محرك بحث إخباري ،2/6/2018م ، الرابط: https://www.maghress.com/chourapress/3235.