المحتويات
مقدمة
المحور الأول: ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا
- رفض ليبي بالإجماع
- لماذا فضل السيسي الإعلان الأحادي؟
- رد الفعل التركي على القرار
- استهداف غير مباشر لتركيا
- قراءة في البيان التركي
المحور الثاني: مستجدات التقارب المصري التركي
المحور الثالث: مستجدات الحوار الوطني
- اجتماعات دون حوار
- عدم حسم مشاركة الحركة المدنية الديمقراطية
- استمرار الاعتقالات وإغلاق الفضاء العام
المحور الرابع: القمة العربية الصينية وانعكاساتها على المشهد السياسي المصري
- إعلان الرياض
- الاتساق مع رؤية النظام
مقدمة
حفل المشهد السياسي المصري خلال الشهرين الأخيرين بعدد من الأحداث الهامة، لا سيما على الصعيد الخارجي، وهو ما سلط عدد نوفمبر-ديسمبر 2022 من تقريرنا الدوري “دفاتر مصرية، الضوء عليه.
وكان المحور الأول من عددنا هو الإجراء الأحادي الذي اتخذه النظام الانقلابي في مصر، حيث أعلن قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي ترسيم الحدود البحرية الغربية في البحر المتوسط، المحاذية للحدود الليبية، وهو ما ووجه برفض ليبي بالإجماع، حيث أعلن كافة أطراف النزاع الليبي رفضهم لإعلان السيسي أحادي الجانب.
كذلك كان لهذه الخطوة انعكاسات على المشهد الجيوسياسي في منطقة شرق البحر المتوسط، وهو ما استرعى انتباه كل من اليونان وتركيا، الدولتين المتنازعتين على حدودهما البحرية. وقد أبان “دفاتر مصرية” رد فعل كل منهما، موضحا دوافعهما والانعكاسات العائدة عليهما جراء إعلان السيسي.
كما أوضح التقرير مستجدات العلاقات المصرية التركية، مستعرضًا تصريحات الجانبين خلال الشهرين السابقين، وخلص إلى أن مسار التقارب لا يزال في طريقه، رغم استمرار غزارة التصريحات والتوضيحات التركية، وقلة تصريحات الجانب المصري. كما نفى التقرير القول بأن هناك “انتكاسة” في مسار التقارب بين البلدين.
وعلى صعيد آخر، عرج العدد على القمة العربية الصينية الأولى من نوعها، موضحا انعكاساتها على المشهد العربي بشكل كامل، وأثره على المشهد السياسي المصري، باعتبار أن القمة اعتُبرت كمقدمة لفصل جديد من العلاقات العربية الصينية، وهو ما قد ينعكس على التوازنات في المنطقة.
وأخيرًا، استعرض الملف مستجدات الحوار الوطني خلال شهري نوفمبر وديسمبر، مبينًا ما أسفر عن جلسات الحوار حتى الآن، حيث تستمر المباحثات والجلسات التحضيرية، رغم مرور أكثر من 8 شهور على بدء الدعوة للحوار. لافتًا إلى مستجدات المشهد السياسي بشكل عام، الذي لا يبدو فيه أي تغيير إيجابي حتى الآن، لا سيما في ملف المعتقلين، وهو ما دفع بعض المعارضين المشاركين في الحوار إلى التلويح بإمكانية انسحابهم منه.
المحور الأول: ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا وأثره على العلاقات المصرية التركية
في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2022، أعلن قائد الانقلاب في مصر، عبد الفتاح السيسي، ترسيم الحدود البحرية الغربية في البحر المتوسط، المحاذية للحدود الليبية.
ونشرت الجريدة الرسمية القرار، الذي نصت مادته الأولى على أن تبدأ حدود البحر الإقليمي لمصر من نقطة الحدود البرية المصرية الليبية النقطة رقم (1) ولمسافة (12) ميلًا بحريًا، وصولًا إلى النقطة رقم (8)، ومن ثم ينطلق خط الحدود البحرية الغربية لمصر من النقطة رقم (8) في اتجاه الشمال موازيًا لخط الزوال (25) شرقًا وصولًا إلى النقطة رقم (9). بينما نصت المادة الثانية على أن تعلن قوائم الإحداثيات وفقًا للقواعد المعمول بها في هذا الصدد، ويخطر بها الأمين العام للأمم المتحدة.[1]
ويحاجج نظام السيسي بأن هذا الإعلان سيضع الإطار القانوني اللازم للشركات التي تعاقد معها بغرض التنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط، المنطقة التي تسيطر عليها النزاعات البحرية. وتبع هذا القرار بأيام قليلة، طرح مصر لمزايدة عالمية جديدة للبحث عن الغاز الطبيعي والزيت الخام في 12 منطقة بالبحر المتوسط ودلتا النيل، بواقع 6 مناطق بحرية ومثلها برية.[2]
لكن ولأن منطقة شرق المتوسط لها جغرافية خاصة، تجعل من الصعب أن تحدد كل دولة حدودها البحرية، دون أن تنازعها فيها دولة أخرى، فإن إعلان السيسي الأحادي، أغضب الجانب الليبي، واستعدى تفاعلات إقليمية متباينة، صدرت عن تركيا واليونان، الدولتين صاحبتي النزاع الأكثر تعقيدًا في شرق المتوسط.
رفض ليبي بالإجماع
ترسيم الحدود البحرية لمصر، ولأنه أتى بشكل أحادي دون التفاوض مع الجارة ليبيا، فقد استدعى رفض حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، التي اعتبرت القرار المصري “انتهاكًا” لمياهها الإقليمية.
وأصدرت وزارة الخارجية الليبية بيانًا، قالت فيه إن القرار المصري “يعتبر ترسيمًا غير عادل بموجب القانون الدولي لإعلانه من جانب واحد، كما لا يعتبر الخط الحدودي البحري المعلن من جانب واحد تساوي المسافة بين السواحل الرئيسية لليبيا ومصر. ناهيك عن إخلاله بمبادئ حسن النية لمخالفته ما تدعيه مصر في كل المحافل الإقليمية والدولية باحترام سيادة ليبيا ووحدة أراضيها”.
وأشارت الوزارة إلى مبادئ ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي، مؤكدة أن “ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين الجارتين يجب أن يتم من خلال اتفاق عبر مفاوضات تضمن مصالح الطرفين وتحترم مبدأ المساواة”. كما نبهت إلى أنه “من الممكن إحالة هذا النزاع إلى الوسائل السلمية للتسوية بموجب المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة بما في ذلك محكمة العدل الدولية التي سيتم الاتفاق عليها بين الطرفين أثناء المفاوضات”.
وقالت الوزارة: “على ضوء ما ذكر فإن ليبيا ترفض القرار الرئاسي المذكور بالكامل وتحث الحكومة المصرية على النظر في إطلاق المحادثات حول الحدود البحرية مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية”.[3]
وقد تجاوز تجاهل السيسي للطرف الليبي حكومة الوحدة، التي لا يعترف بها النظام المصري كحكومة شرعية لليبيا رغم اعتراف المجتمع الدولي بها. بل تعدى ذلك ليصل إلى تجاهل الأطراف الليبية الأخرى التي يعترف بها النظام المصري، كرئيس الوزراء المعين من مجلس نواب طبرق، فتحي باشاغا، أو مجلس النواب نفسه، الذي يحتفظ نظام السيسي بعلاقات جيدة معه، فضلًا عن المجلس الرئاسي.
ولذلك، صدرت بيانات رافضة للترسيم الأحادي المصري من تلك المؤسسات. إذ دعا باشاغا كلًا من مصر وتركيا واليونان إلى “عدم اتخاذ أية خطوات أحادية فيما يخص تحديد وترسيم الحدود البحرية”، ما من شأنه “زيادة التوتر وتأزيم المواقف أكثر وتفاقم الوضع في منطقة البحر المتوسط”، مؤكدًا استعداده للتفاوض الثنائي مع هذه الدول من أجل ترسيم الحدود البحرية، بما يخدم المصالح المشتركة والعادلة للجميع.[4]
أما البرلمان الليبي، فقد عبرت لجنتا الشؤون الخارجية والدفاع التابعتان له في بيان مشترك، عن “استغرابهما لإعلان مصر هذه الخطوة”، وطالبتا الدولة المصرية بـ”التراجع الفوري عنه”. واعتبر البيان أن “ما حصل هو تجاوز لروح الأخوة وانتهاك للسيادة لا يمكن القبول به باعتباره ترسيمًا غير عادل بموجب القانون الدولي وتعديًا صريحًا على الحدود البحرية لليبيا”.
وأشار إلى أنّ “الترسيم يسيء للعلاقات التاريخية بين البلدين، وكان يتوقع أن تراعي القاهرة الظروف السياسية الصعبة التي تمر بها ليبيا”. وشددت اللجنتان على أنّ ترسيم الحدود “يكون عبر مفاوضات تضمن المصالح المتبادلة للبلدين، ووفقاً لمبادئ الأمم المتحدة وقوانين البحار”.[5]
وبدوره، أكّد المجلس الرئاسي الليبي، أنّ “مسألة ترسيم الحدود بين الدول ليست محل تصرف أحادي الجانب”. وقال عضو المجلس الرئاسي عبد الله اللافي، خلال اجتماعه مع رئيس لجنة الحدود البرية والبحرية، محمد الحراري، إنّ هذه “العملية تنظمها قواعد مستقرة في القانون الدولي، وتحكمها آليات متعارف عليها تحفظ حقوق جميع الدول وتمنع حدوث أي تعديات خارج تلك القواعد والآليات”.[6]
لماذا فَضّل السيسي الإعلان الأحادي؟
يمكن إجمال الأسباب التي دفعت الأطراف الليبية المختلفة لرفض ترسيم الحدود البحرية الذي أعلنه السيسي في سببين، الأول هو مبدأ أحادية الترسيم، حيث تجاهل السيسي كل الأطراف الليبية المعنية، وأعلن ترسيمه للحدود، دون النظر إلى موافقة الحكومة في طرابلس، أو حتى حكومة باشاغا، التي تتخذ من مدينة بنغازي مقرا لها، هذا فضلًا عن تجاهله أيضًا للأجسام الليبية، التي يعترف نظامه بها، كمجلسي النواب والدولة، والمجلس الرئاسي الليبي.
أما السبب الثاني فهو اعتراض الأطراف الليبية على مخرجات الترسيم نفسها، أي أن الخط الذي رسمه النظام المصري باعتباره يمثل الحدود البحرية لمصر، متداخل مع ما تعتبره ليبيا حقًا لها في البحر المتوسط، وما أقرته اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين أنقرة وطرابلس، الموقعة في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019. ووفق خبراء، فإن هذه المنطقة التي لا تقر بها الحكومة الليبية لمصر، تبلغ 6854 كيلومتر مربع.[7]
وربما هذان السببان هما ما دفعا نظام السيسي للإعلان عن ترسيم الحدود من جانب واحد، إذ أنه لا يعتبر حكومة الدبيبة شرعية من الأساس، وبالتالي فلن يتوجه إليها للتفاوض. كما أن “باشاغا”، وإن كان رئيسًا شرعيًا للحكومة وفقًا للرؤية المصرية، إلا أنه لا يمتلك سلطة توقيع اتفاقيات بالنسبة للرؤية ذاتها.
فقد اعترضت القاهرة في السابق على الاتفاقات المثيلة التي وقعتها حكومتا، فايز السراج، والدبيبة، مع الجانب التركي، باعتبار أنهما حكومتان مؤقتتان لا يحق لهما التوقيع على اتفاقيات دولية. وباعتبار أن الوصف نفسه ينطبق على حكومة باشاغا، فإن توجه القاهرة للتفاوض مع الأخير على توقيع اتفاقية لترسيم الحدود، كان من شأنه أن يجعل نظام السيسي يناقض السردية التي يتبناها منذ سنوات.
علاوة على ذلك، فإن الخلاف على 6854 كيلومتر مربع من مياه المتوسط بين نظام السيسي والسلطات الليبية كان سيطيل أمد المفاوضات أو يعطلها، في وضع يحتاج فيه النظام المصري إلى سرعة وضع إطار قانوني، يُمَكّن شركات التنقيب من ممارسة عملها. فالأزمات الاقتصادية المتتابعة والمتصاعدة في مصر، وحاجة النظام إلى العملة الصعبة، وفرصة استغلال الحرب الروسية-الأوكرانية للبروز كمُصَدِّر للغاز بديل عن روسيا، كلها أسباب دفعت السيسي لإنجاز هذا الترسيم، ولو بشكل أحادي.
وربما عوّل السيسي أيضًا على أن الوضع الداخلي لليبيا من خلافات داخلية وانقسام في المؤسسات، فضلًا عن حاجة بعض الأطراف الليبية للوساطة أو للدعم المصري في الأزمة السياسية الداخلية، ستشكل عوامل تمنع الطرف الليبي من التصادم مع مصر، وبالتالي، سيطبق قرار الترسيم بحكم الأمر الواقع، إلى حين إجراء مفاوضات مصرية-ليبية، تسفر عن اتفاقية ترسيم للحدود البحرية المشتركة، أو احتكام للقضاء الدولي.
وجدير بالذكر هنا أن قرار السيسي بترسيم الحدود البحرية الغربية أتى بعد نحو شهرين فقط من اتفاقية وقعتها حكومة الدبيبة مع نظيرتها التركية للتنقيب عن النفط والغاز في المناطق الاقتصادية الليبية، التي حددتها الاتفاقية الموقعة بين الطرفين في 2019.[8] فـبخلاف غيرها من دول المتوسط، تمتلك تركيا السفن اللازمة للتنقيب، وهكذا يُمَكنها -بشكل أو بآخر- من اتخاذ خطوات أكثر جرأة، للتنقيب عن الطاقة، سواء في مناطقها الاقتصادية في البحرين الأسود والمتوسط، أو مناطق حلفائها، كجمهورية شمال قبرص التركية، وليبيا.
وفي ظروف أخرى، فقد كان المحتمل، إن قررت ليبيا التنقيب في كامل المساحة التي تعدها مناطق اقتصادية خالصة لها، أن تتفاعل الحكومة التركية إيجابيًا مع الطرف الليبي، ففي ذلك مكاسب اقتصادية بالنسبة للطرفين.
أما الآن، فقد اجتمعت الأسباب لتمرير، أو بالأحرى عدم مجابهة القرار المصري على أرض الواقع. فمن جهة، من الصعب أن يتخذ أي من الأطراف الليبية قرار كهذا، في وقت تعاني فيه البلاد من انقسامات حادة. ومن جهة أخرى، فإن مسار التقارب التركي-المصري، سيمنع أنقرة من اتخاذ خطوات تعرقل هذا المسار.
وفي هذا السياق، صرح الكاتب والمحلل السياسي المصري، رامي شفيق، أن مسار التقارب بين الطرفين هو في الأساس محاولة من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، لاستمالة القاهرة في شرق المتوسط؛ ولذلك لا تملك تركيا أي رد فعل تجاه القرار المصري، حتى وإن كانت “متغولة” في الشأن الليبي مع حكومة الوحدة الوطنية، وفق زعمه.
وعلى هذا، يمكن القول إن حاجة نظام السيسي للطاقة باعتبارها مصدرًا لزيادة الدخل القومي من العملة الصعبة، وعدم اعتراف النظام بسلطة أي من الدبيبة أو باشاغا لتوقيع اتفاقات دولية، والانقسام الداخلي في ليبيا، ومسار التقارب مع تركيا، كل هذه أسباب دفعته في النهاية إلى تفضيل اتخاذ قرار ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا بشكل أحادي.
رد الفعل التركي على القرار
تعتبر تركيا ملف حدودها البحرية أحد أهم الملفات التي تحرك سياستها الخارجية في الإقليم منذ سنوات؛ ذلك أنه ملف يرتبط بالأمن القومي للبلاد، وبنموها الاقتصادي ارتباطًا وثيقًا. ولهذا، مرت أنقرة بفترة توتر مع بروكسل في أعوام 2019 و2020، وكادت أن تدخل في صراع مسلح مع اليونان، في الفترة ذاتها، لولا تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو).
الملف نقسه أيضًا كان أحد الدوافع الرئيسية وراء تقارب تركيا مع عدة جهات في الإقليم، وعلى رأسها النظام المصري، ودولة الاحتلال الإسرائيلي، إذ تهدف أنقرة إلى تحييد الأطراف التي قد تدعم اليونان في البحر المتوسط، وبالتالي، تبقى المشكلة تركية-يونانية فقط، ما يسهل من حلها، وفق المسؤولين الأتراك.
وكما قلنا، فإن منطقة شرق المتوسط متشابكة ومعقدة إلى حد بعيد، بسبب الخلافات المتعددة بين الدول على تعيين الحدود البحرية لكل منها. ولذا، فإن أي تحرك تأخذه دولة ما، من شأنه أن يؤثر على دولة أو عدة دول أخرى. ومن هنا تبرز أهمية قراءة تأثير قرار مصر على الدول المعنية، وعلى رأسها تركيا.
في هذا السياق، ذكرت مصادر دبلوماسية تركية لوكالة الأناضول الحكومية أن “الحدود البحرية الجانبية التي حددتها مصر من جانب واحد مع ليبيا في 11 ديسمبر/ كانون الأول 2022 بـ 9 إحداثيات جغرافية لا تتداخل مع الجرف القاري لتركيا في شرق البحر المتوسط”.
وأكدت المصادر أنه ليس من الواضح الطريقة التي تم عبرها تحديد الحدود البحرية، وما إذا كانت الظروف الجغرافية الخاصة، ذات الصلة، قد تم أخذها في عين الاعتبار، وما إذا كانت قد التزمت مبدأ الإنصاف بالكامل، مضيفة أن الجانب الليبي أصدر بيانًا في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2022 بأن حقوقه انتهكت بناء على المرسوم الرئاسي الصادر عن مصر.
وقالت المصادر إن “تركيا تحث ليبيا ومصر على بدء الحوار والمفاوضات بأسرع وقت لتحديد حدود البلدين وفقًا للقانون الدولي”. كما حثت تركيا البلدين باللجوء إلى الأساليب السلمية في تحديد حدود البلدين على أساس التفاهم المتبادل، كما هو مسجّل في المادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة، بما في ذلك محكمة العدل الدولية، وفق المصادر نفسها.[9]
ويبدو أن البيان التركي جاء دبلوماسيًا إلى حد بعيد، باعتبار أن الدولتين المعنيتين بالقرار مباشرة، مصر وليبيا، تجمع أنقرة بهما علاقات مهمة. لكن رغم ذلك، يمكن قراءة بعض النقاط التي حاولت أنقرة التأكيد عليها، والتي تمثل الرؤية التركية لأسباب الأزمات في شرق المتوسط، واستراتيجية حلها. وهي النقاط ذاتها التي تدلل على أن القرار المصري الأخير يعارض هذه الرؤية التركية، ولو لم تذكر أنقرة ذلك صراحةً في بيانها؛ لدوافع دبلوماسية.
لكن قبل الشروع في ذكر تلك النقاط، يجدر تأثير ترسيم الحدود الذي أعلنه السيسي على الجانب التركي.
استهداف غير مباشر لتركيا
من الواضح أن قرار تعيين الحدود الذي أعلنه السيسي لا يتقاطع مع الجرف القاري لتركيا في شرق البحر المتوسط، وهذا ما نص عليه البيان التركي بشكل صريح. لكن في الوقت نفسه، فإن القرار ذاته يتقاطع مع بعض المساحات التي وردت في الاتفاقية التركية-الليبية على أنها حق لطرابلس. ما يعني أن القاهرة أضافت سببًا آخر للاعتراض على الاتفاقية، بجانب السبب الذي ما فتئت تعلنه، وهو عدم أهلية حكومة السراج لتوقيع الاتفاقيات الدولية، حسب زعمها.
علاوة على ذلك، فإنه بالرغم من أن تعيين الحدود الأحادي من جانب نظام السيسي لا يتداخل مع الجرف القاري التركي، إلا أنه يقتطع من المسافة التي اعتمدت عليها تركيا في الأساس لترسيم حدودها البحرية مع ليبيا، وهذا يخدم السردية اليونانية – ولو جزئيًا- في نهاية المطاف.
فاليونان تصرح بأن تركيا وليبيا لا تربطهما حدود بحرية من الأساس، كي يكون هناك اتفاق لترسيم الحدود بينهما. وتستند أثينا على هذا الزعم في رفضها لاتفاق 2019، الذي اعترضت عليه مصر أيضًا، لكن من منطلق أن حكومة السراج لا تملك صلاحية توقيعه.
وبالرغم من أن الحدود بين تركيا وليبيا غير متوازية تمامًا – كما هو الحال بين مصر وتركيا مثلًا- إلا أن هناك منطقة تتقاطع فيها الحدود البحرية التركية-الليبية، بجوار جزيرة كريت. إذ تجمع تلك المنطقة – التي تقع شرق جزيرة كريت- جنوب غرب تركيا، بشمال شرق ليبيا، وعلى هذا، جاءت اتفاقية ترسيم الحدود بينهما عام 2019.
الآن، ومع إعلان السيسي تعيين الحدود البحرية، فقد تحرك هذا التعيين لجهة الغرب ليقتطع من المساحة التي تعدها ليبيا حقًا لها، على حدودها الشرقية. وبالتالي، جاء الترسيم بالشكل الذي يقلص من تلك المساحة التي يقوم عليها الاتفاق التركي-الليبي، وهذه هي المنطقة نفسها التي يقع عليها خلاف بين الحكومة الليبية ونظام السيسي، كما أشرنا آنفًا.
وقد أكدت صحيفة “إكاثميريني” اليونانية أن قرار السيسي صب في صالح اليونان، عن طريق التضييق على تركيا وليبيا في المساحة، التي بُني على أساسها اتفاقهما. وجاء تقرير الصحيفة اليونانية بعنوان: “إعلان السيسي البحري يحمي جزيرة كريت”، حيث ذكرت أن الاتفاق التركي-الليبي لعام 2019 تلقى ضربة أخرى بعد قرار مصر. ووصفت الصحيفة القرار بأنه “تحد خطير” لبنود مذكرة التفاهم التركية-الليبية.[10]
وقالت الصحيفة اليونانية إنه “على الرغم من أن المرسوم (المصري) لا يصل إلى الخط الوسطي (كما تراه اليونان) مما يترك مجالًا لاتفاقية ثلاثية مستقبلية بين اليونان ومصر وليبيا، إلا أنه يغطي عمليًا المزيد من جزيرة كريت ضد احتمالية أن تطالب طرابلس أنقرة بإجراء عمليات تنقيب بالقرب من شرق الجزيرة”. ونقلت الصحيفة عن أستاذ القانون الدولي، بيتروس لياكوراس، قوله إن “القرار المصري يقتطع مما اعتبره الاتفاق التركي-الليبي حقًا ليبيًا، وهذا يساعدنا (اليونان) لأنه يقطع بشكل أكبر إسقاط الساحل التركي تجاه ليبيا”.[11]
وعلى هذا، يمكن القول إن السيسي وإن لم يستهدف الحقوق التركية الخالصة في البحر المتوسط بشكل مباشر عبر هذا الترسيم، إلا أنه فعل ذلك بشكل غير مباشر من ثلاث جهات. الأولى هي أن قراره يطعن في جزء مما اعتبرته أنقرة حقًا ليبيًا عند توقيع اتفاقية 2019، وتبلغ تلك المساحة حوالي 6854 كيلومتر مربع.
والثانية هي أن قرار السيسي يمنع ليبيا وحليفها التركي من التنقيب في هذه المساحة، التي باتت متنازعة، وهذا بعد نحو شهرين فقط من اتفاقية تركية-ليبية للتنقيب عن الطاقة في المناطق الاقتصادية الليبية، عبر شركات تركية. أما الجهة الثالثة التي استهدف نظام السيسي من خلالها تركيا بهذا القرار هي اقتطاع جزء من المساحة المشتركة التي اعتمدت عليها تركيا وليبيا في ترسيم الحدود بينهما، إذ صارت تلك المساحة مع وجود نزاع مصري-ليبي عليها أضيق، وهذا يصب في صالح اليونان، بطبيعة الحال.
وجدير بالذكر هنا أن وزير الخارجية اليوناني، نيكوس ديندياس، أجرى اتصالًا هاتفيًا مع وزير خارجية النظام المصري، سامح شكري، بعد أقل من يوم من إعلان السيسي للقرار. ووفق ما كتبه الأول، على حسابه في تويتر، فقد ناقش الطرفان “الاستقرار في جنوب شرق البحر الأبيض المتوسط، بما في ذلك المرسوم الصادر عن السيسي”.[12]
قراءة في البيان التركي
تحرص الدولة التركية على التفاعل مع كل المجريات في منطقة شرق البحر المتوسط، بشكل أو بآخر؛ في محاولة منها للتصدي لمحاولات تهميشها، التي تقودها اليونان، وتتعاون معها بنسب متفاوتة كل من مصر والكيان الصهيوني. هذا الحرص التركي ظهر، على سبيل المثال، في الترحيب باتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان ودولة الاحتلال الإسرائيلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
وحينها استغلت تركيا الفرصة لدعم رؤيتها للحل في شرق المتوسط، معتبرة أن نموذج التشغيل المشترك وتقاسم الإيرادات لبعض مناطق تراخيص الهيدروكربون على الجرف القاري للجانبين من قبل طرف ثالث، له أمثلة مشابهة أخرى في العالم، ويمكن أن يشكّل مثالا إيجابيًا للمنطقة وخصوصًا للقبارصة الأتراك والروم.[13]
لذلك، كان من الصعب أن تتجاهل تركيا القرار المصري، وإن كان اعتراضها العلني عليه قد يسبب تراجعًا في مسار التطبيع بين الطرفين. لذا، تعمدت الإدارة التركية أن تصدر بيانًا، لكنها في الوقت نفسه، حرصت أن يخرج هذا البيان بشكل دبلوماسي وحيادي بشكل كبير، بحيث لا يترك مجالًا للتوتر مع القاهرة، في وقت يسير فيه التقارب بينهما ببطء.
لذلك، من الملاحظ أن البيان لم يأت على لسان مسؤولين كبار، أو حتى على لسان وزارة الخارجية، وهي الجهة الطبيعية المخولة بذلك، بل نقلته وكالة الأناضول الرسمية عن مصادر دبلوماسية.
أضف إلى ذلك أن البيان بدأ بالتأكيد أن ما أعلنته مصر من حدود بحرية لها من جهة الغرب، لا يتداخل مع الحدود البحرية لتركيا. وهذا ما دأبت عليه تركيا منذ سنوات، إذ أكدت مرارًا أنه لا تعارض بين الحدود البحرية المصرية والتركية، بل على العكس منذ ذلك، أشارت أنقرة مرارًا إلى أن ترسيم الحدود معها أفضل بالنسبة لمصر من الترسيم مع اليونان، ففي حال أبرمت مصر اتفاقًا بحريًا مع تركيا، فإنها ستكسب من المجال البحري ما يقارب 21 ألف كم مربع مقارنة بما ستكسبه لو أبرمت هذا الاتفاق مع اليونان دون وضع حقوق تركيا في الاعتبار.[14]
كذلك، ألمحت أنقرة في بيانها إلى أن هناك اعتراضات على الترسيم، لكنها أحالت تلك الاعتراضات على الجانب الليبي، إذ أنه المستهدف المباشر من هذا الترسيم، وكان بالفعل قد أصدر بيانًا رسميًا يدين فيه القرار.
لكن اللافت هنا هو استخدام تركيا عبارات كـ “أخذ الظروف الجغرافية الخاصة في عين الاعتبار” و”الالتزام بمبدأ الإنصاف بالكامل”. إذ أن هاتين العبارتين قد يلخصا الرؤية التركية للنزاع مع اليونان في بحري المتوسط وإيجة، ففي حين ترى أثينا أن جزرًا صغيرة قد لا تتجاوز مساحتها 10 كيلومترات لها جرف قاري مثيل لما للدول الكبيرة كتركيا، ترى أنقرة أن ذلك يخالف “مبدأ الإنصاف”، ولا يأخذ الظروف الجغرافية الخاصة في عين الاعتبار.[15]
علاوة على ذلك، حثت تركيا كلًا من مصر وليبيا على التفاوض والحوار لتعيين حدود البلدين. وهو الأمر نفسه الذي تسعى تركيا لتحقيقه مع كل الأطراف في شرق المتوسط، بما فيها اليونان ومصر، اللتان أنشئا “منتدى غاز شرق المتوسط” – مع دول أخرى- دون دعوة تركيا له.[16]
وعلى هذا، يمكن القول إن قرار السيسي كان سلبيًا بالنسبة لتركيا، ويأتي في سياق سياسته التي تخدم اليونان على حساب تركيا، بل على حساب المصلحة المصرية كذلك. لكن أنقرة – من جانبها- اختارت أن تكون لهجتها في الاعتراض هادئة إلى حد بعيد، لحرصها على استمرار مسار التقارب مع مصر.
المحور الثاني: مستجدات التقارب التركي-المصري
في النصف الثاني من عام 2020، بدأ الحديث عن تقارب مصري-تركي، بعد أزمة عميقة في العلاقات السياسية بين الطرفين، جراء الانقلاب الذي قاده السيسي، على أول رئيس مصري منتخب في تاريخ مصر، محمد مرسي. ومنذ 2020، اتخذ الجانبان بعض الخطوات لحلحلة الأزمة بينهما، غير أن وتيرة التقارب بطيئة، مقارنة بالمسارات نفسها، مع كل من السعودية والإمارات.
وجاءت المصافحة بين السيسي، والرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، واللقاء الذي استمر نحو 45 دقيقة بينهما، كخطوة بارزة في مسار التقارب بين البلدين. وقد أشار وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، بعدها إلى إمكانية تنظيم مشاورات سياسية مجددًا مع مصر على مستوى نواب الوزراء قريبًا، وإلى إمكانية تعيين سفراء بين البلدين في الأشهر القادمة.[17]
الآن وبعد شهر ونيف على تلك التصريحات، لم تجر أي لقاءات معلنة بين الطرفين، ولم يتم تعيين سفراء، لكن صدرت عدة تصريحات كلها من الجانب التركي، حول تطور العلاقات بين البلدين. ففي 29 نوفمبر/ تشرين الثاني، تحدث الناطق باسم الرئاسة التركية وكبير مستشاريها، إبراهيم قالن، عن لقاء السيسي-أردوغان، على هامش حفل افتتاح كأس العالم في الدوحة.
وقال قالن: “كنا نعلم أن الجانب المصري سيكون هناك (افتتاح مونديال قطر) وهم يعلمون أننا سنكون أيضا هناك. هذه الصورة لها تاريخ يعود إلى عامين. إنه ليس قرار تم اتخاذه بين عشية وضحاها. أصبحت بعض المصالح لمصر وتركيا متقاربة وبدأت وجهات نظرنا ومصالحنا تتداخل أكثر”.
وتابع: “مصر أدركت أنه لا يمكن الحديث عن شرق المتوسط وخريطة الطاقة فيه دون تركيا، وعلى صعيد العلاقات الثنائية، تبدو علاقاتنا الإنسانية والتجارية والاقتصادية والسياسية واضحة للجميع. ورغم كل الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها مصر، فإن دورها المركزي في العالم العربي واضح ولا يمكن إنكاره، كل هذه العوامل ساهمت في تحقيق التقارب بين البلدين”. وأوضح قالن أنه لا يوجد وضع يستدعي وجود ممثل خاص بين تركيا ومصر، وأن العلاقات بين البلدين يمكن أن تستمر على المستوى الوزاري.[18]
وبعد هذا التصريح بنحو شهر، قال وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، خلال اجتماع تقييم نهاية العام الذي يتضمن فعاليات وزارة الخارجية التركية في العاصمة أنقرة، إن تباطؤ التطبيع مع القاهرة “مصدره ليس أنقرة”، وأضاف أن “وتيرة السرعة والبطء في التطبيع مع مصر، ليس له علاقة بالانتخابات المقبلة في تركيا”. ونفى الوزير التركي وجود أي مشاكل حاليًا في مسار التطبيع بين أنقرة والقاهرة، مؤكدًا مواصلة البلدين الحفاظ على مبدأ “عدم المعاداة في المحافل الدولية”.[19]
ومؤخرًا، وبالتحديد في 13 يناير/ كانون الثاني 2023، قال تشاووش أوغلو: “نقوم بخطوات ملموسة لتطبيع العلاقات مع مصر، وعودة العلاقات معها لسابق عهدها يحقق الاستقرار في شرق المتوسط”.[20]
وكما هو واضح، فإن التصريحات صدرت فقط من الجانب التركي، بينما هناك شبه صمت من القاهرة، وهذا ليس بجديد في مسار التقارب بين الطرفين، إذ أن التوضيحات التي يصدرها المسؤولون الأتراك حول العلاقات مع مصر، أكثر من تلك التي تصدر عن نظرائهم المصريين.
وربما هذا نابع من الانفتاح النسبي الذي تتمتع به الساحة التركية مقارنة بمصر، فيما يتعلق بإخبار الرأي العام بمستجدات الملفات السياسية. كما أن تحفظ القاهرة قد يكون نابع من مراعاة الطرف اليوناني، الذي باتت ترتبط مصر معه باتفاقات اقتصادية وعسكرية متعددة.
كما أن تعدد التصريحات التركية قد يشير أيضًا إلى أن رغبة أنقرة أكبر من رغبة مصر، فيما يتعلق بتطوير مسار التقارب ليشمل التعاون في ملفات جوهرية، كشرق المتوسط، وليس الاكتفاء بما تحقق فقط، من تهدئة إعلامية، وعدم الاستهداف في المحافل الدولية.
وبالطبع، فإن أنقرة تأخذ في الحسبان أبعاد القرار المصري بترسيم الحدود البحرية مع ليبيا من جانب واحد، والتأثير السلبي لذلك على مصالحها، وقد ألمحت إلى ذلك عبر بيانها، لكن يبدو أيضًا أنها عازمة على عدم العودة إلى حالة التوتر التي سادت العلاقات لسنوات، ولذلك لم تأخذ الأمور بعيدًا بعد إصدار السيسي للقرار.
وحيث إن تشاووش أوغلو كان قد أشار إلى إمكانية تعيين سفراء بين البلدين خلال الأشهر القادمة، فنحن ما زلنا في مطلع هذه “الأشهر”، إذ لم يمر سوى نحو شهر ونصف.
وعلى هذا، لا يمكن القول إن هناك “انتكاسة” في مسار التقارب التركي-المصري، وربما تشهد الأسابيع أو الأشهر المقبلة تطورا فيما يخص تعيين السفراء، أو لقاء وزاري رسمي. وهي خطوات ضرورية وسابقة على أي تعاون محتمل بين البلدين، خاصة في ملف شرق المتوسط، الذي يتصف بالأهمية والتعقيد في الوقت نفسه.
المحور الثالث: مستجدات الحوار الوطني
بعد مرور ما يقرب من ثمانية أشهر على دعوة قائد الانقلاب المصري، عبد الفتاح السيسي، لما أسماه “الحوار الوطني”، خلال إفطار الأسرة المصرية، في إبريل/ نيسان 2022. يستعرض “دفاتر مصرية” مستجدات هذا الحوار ومخرجاته التي خلص إليها، حتى وقت كتابة هذه السطور، في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2022.
اجتماعات دون حوار
حتى نهاية سبتمبر/ أيلول 2022، عقد مجلس أمناء الحوار الوطني ثمان جلسات، كانت كلها جلسات تحضيرية ولقاءات تعارفية. وقد تعرضنا لمجريات هذه الجلسات بشيء من التفصيل في إصدارنا “دفاتر مصرية – سبتمبر/ أيلول 2022”.
وخلال الشهور الثلاثة اللاحقة، أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول، انعقدت 6 جلسات فقط لمجلس أمناء الحوار الوطني، ابتداء من الجلسة العاشرة حتى الرابعة عشرة. وتخلل ذلك جلسات أخرى متفرقة للمقررين والمقررين المساعدين للحوار الوطني. وفيما يلي تفاصيل هذه الجلسات.
في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، عُقدت أولى اجتماعات المقررين والمقررين المساعدين للحوار الوطني، وذلك بحضور رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني، المستشار محمود فوزي. وبدأ الاجتماع بلقاء تعارفي، وانتهى بعرض لما تم خلال الجلسات الثمان السابقة لمجلس أمناء الحوار الوطني.[21]
وفي 6 و8 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أصدر الحوار الوطني بيانين بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين لنصر أكتوبر[22]، وذكرى المولد النبوي الشريف[23].
وفي 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أُعلن انعقاد الاجتماعين التاسع والعاشر لمجلس أمناء الحوار. وخلص اللقاءين إلى إعلان خطة انعقاد الجلسات النقاشية للحوار الوطني، بواقع 3 أيام على الأقل أسبوعيا للمحاور الثلاثة على التوازي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي. باعتبار أن كل محور سيكون له يوم من الأيام الثلاثة، على أن تعقد له 5 جلسات في اليوم الواحد.[24]
وخلال هذا الاجتماع، أعلن ضياء رشوان، المنسق العام للحوار الوطني، أن علاقة الحوار بالمؤتمر الاقتصادي -الذي نظمته الحكومة المصرية منتصف أكتوبر/ تشرين الأول 2022- “علاقة تكاملية”، معلنا حضور مقرري المحور الاقتصادي وقيادات مجلس الأمناء للمؤتمر الاقتصادي.[25]
وفي 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، عقد مجلس الأمناء اجتماعه الحادي عشر، معتبرا إياه كذلك ضمن الاجتماعات التحضيرية لبدء الجلسات النقاشية للحوار الوطني.[26]
وبدأ الاجتماع بتوجيه الشكر لقائد الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، على “الجهود الحثيثة المبذولة في ملف العفو الرئاسي، وتوالي الإفراجات خلال الفترة الماضية”. ثم استكمل اللقاء باستعراض الأسماء المرشحة للمشاركة بجلسات الحوار، وكذلك ما تلقاه من مقترحات بخصوص العمل في محاور الحوار الثلاثة. وبنهاية اللقاء، لم ينته المجلس من جداول الأعمال للحوار الوطني وجلساته النقاشية.
وفي 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، تقدم مجلس أمناء الحوار بـ “الشكر والتقدير إلى عبد الفتاح السيسي” لصدور القرار بالعفو عن زياد العليمي.[27]
وفي 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، انعقدت فعاليات الاجتماع الثاني عشر لمجلس أمناء الحوار، “استكمالا للجلسات التحضيرية، وتمهيدا لبدء الجلسات الفعلية للحوار”. واستعرض الاجتماع مداخلات السيسي بشأن الحوار الوطني في المؤتمر الاقتصادي، إضافة إلي استعراض خطة عمل المحورين الاقتصادي والاجتماعي، والخطة المبدئية للمحور السياسي.[28]
وفي 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، عقد مجلس الأمناء اجتماعه الثالث عشر، وهنأ خلاله السيسي على “نجاح استضافة قمة المناخ”. ولم يتطرق بيان الجلسة إلى أي شيء يخص الحوار، سوى ذكر أنه استكمال للقاءات التحضيرية، وبحث خطط عمل محاور ولجان الحوار الوطني.[29]
واستكمل المجلس جلساته في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2022، وذلك بزعم “وضع اللمسات النهائية لخطط عمل لجان المحاور الثلاثة وترشيحات أسماء المشاركين والممثلين لبعض الجهات والمؤسسات… استعدادًا للبدء الفعلي للجلسات النقاشية للحوار الوطني”.[30]
مما سبق، نخلص إلى أن ما يسمى بـ “الحوار الوطني” انطلق منذ ثمانية أشهر، عُقد خلالها 14 اجتماعًا، منها 6 خلال الثلاث أشهر الأخيرة، بواقع اجتماعين شهريًا. لكن هذه الجلسات جميعها لم تُفض لشيء سوى كونها اجتماعات ينبثق عنها لجان تناقش خططا وتقترح مشاركين، لكن حتى الآن لا وجود لأثر فعلي أو نتيجة عملية.
وهو ما يشي بـ “عدم جدية” القائمين على أمر الحوار والمسيرين له، وقد تسبب ذلك في تقاذف اتهامات بين أطراف محسوبة على المعارضة ومشاركة في الحوار، وبين المحسوبين على السلطة في مجلس الأمناء، حيث تتهم المعارضة القائمين على الحوار بـ “البطء في الإعداد والغرق في التفاصيل”. كما أن التأخير يثير، وفق البعض، أسئلة حول “جدية الدعوة من الأساس والنتائج المنتظرة أمام فقدان الحالة لزخمها قبل أن تنطلق”.[31]
كما يبدو أن بعض أعضاء مجلس الأمناء ينشطون بين الفينة والأخرى لدعم توجهات النظام والإشادة بسياساته، رغم أن أيًا من أهداف الحوار لم يتحقق حتى الآن، ولو حتى بشكل جزئي أو نسبي.
عدم حسم مشاركة الحركة المدنية الديمقراطية
كل ما سبق حدا بالبعض ممن أعلنوا مشاركتهم آنفًا في الحوار الوطني إلى التراجع نسبيًا عن مواقفهم، حيث صرح حمدين صباحي، أحد قيادات الحركة المدنية الديمقراطية، أنهم لم يحسموا بعد موقفهم النهائي من المشاركة في الحوار، رابطا ذلك بتوافر الضمانات، وعلى رأسها خروج “عدد معتبر” من سجناء الرأي .
كما أكد صباحي رفضه “توجيه أي إساءة لثورة 25 يناير 2011، أو تحميلها ظلما مسؤولية الأزمة الحالية أو التلسين عليها تلميحًا أو تصريحًا”.
كما حمل مسؤولية المأزق الحالي للسلطة الحاكمة في مصر، إذ قال: “المأزق الحالي لا تعود أسبابه فقط للأزمات العالمية كالحرب والوباء، ولكن تقع المسؤولية على السلطة وما اتبعته من سياسات لا زالت مصرة عليها”، داعيا إياها إلى “شجاعة المراجعة”.
ورغم تأكيده أن “الحزن في كل بيت” جراء الأزمات الحالية، لكنه أكد في ذات الوقت أنهم لا يريدون انقلابًا أو انفجارًا، لكننا نريد “تغييرًا سلميًا شاملًا للسياسات الحالية”.[32]
وبالتالي، لا يزال موقف كتلة المعارضة المسموح لها بالمشاركة في الحوار الوطني غير واضح حتى الآن، ويبقى المشهد متسما بالضبابية، في ظل تباطؤ النظام في إحداث “حلحلة حقيقية في ملف الحبس الاحتياطي، باعتباره الملف الأكثر تشابكًا وتعقيدًا على أجندة الحوار”.[33]
استمرار الاعتقالات وإغلاق الفضاء العام
واقع الأمر يقول إن السلطة لم توقف حتى اللحظة، أو على الأقل تخفف من وتيرة حملات الاعتقالات المستمرة في صفوف المواطنين المصريين، الذين ترى السلطة أنهم معارضون لنظام حكمها.
وبالتالي فإن الأمر ليس متعلقًا بشكل فعلي بـ “حلحلة” ملف المعتقلين، بل يتعلق بـ “وقف” حملات الاعتقالات اليومية التي تطال المصريين.
منظمة “هيومان رايتس ووتش” الحقوقية أصدرت تقريرًا، في 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، تندد فيه بحملات الاعتقال التي تشنها السلطات المصرية على المصريين، حيث قالت: “إن السلطات المصرية اعتقلت المئات في حملة قمع عمّت البلاد، عقب دعوات إلى احتجاجات مناهضة للحكومة”.[34]
وقد قدمت “المفوضية المصرية للحقوق والحريات” وثائق بشأن احتجاز قرابة 700 شخص في 18 محافظة مصرية خلال 45 يومًا فقط، في الفترة ما بين 1 أكتوبر/ تشرين الأول و14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.[35]
هذا بالإضافة إلى إعلان عضو مجلس نقابة الصحفيين المصريين، محمد سعد عبد الحفيظ، مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، عن اعتقال الصحفي محمد مصطفى موسى من منزله، ليصل بذلك عدد الصحفيين المعتقلين منذ إطلاق دعوات الحوار الوطني إلى 6 صحفيين مدرجين بالنقابة. وبذلك يكون إجمالي عدد الصحفيين النقابيين المعتقلين لدى السلطات 14 صحفيًا، فضلًا عن عدد آخر يصعب حصره من الصحفيين غير المدرجين في قوائم النقابة.[36]
وعليه، لم تُحدث السلطة أي حلحلة معتبرة لملف المعتقلين، كما أنها لم تكف يدها عن بقية المصريين، فشنت حملات طالت آلاف المصريين خلال الشهور الثمانية التي ادعى فيها النظام جنوحه لإجراء حوار وطني سياسي، كما لم تشهد الساحة السياسية والإعلامية في مصر أي تغيير يشير إلى وجود نية لدى السلطات لفتح -ولو جزئي- الفضاء العام المصري، حتى لأولئك الذين كانوا جزءًا من معسكر 30 يونيو 2013، الذين كانوا بمثابة ممهد الطريق لانقلاب يوليو/ تموز 2013.
وبالتالي، يبقى الحوارُ “هزليًا” لا قيمة له،” شكليًا” تحاول السلطة تجميل صورتها من خلاله دون تنفيذ أي إجراءات إصلاح حقيقية. وحال استمرت سياسات السلطة على حالها -وهو المتوقع، فإن الحوار الوطني لن يفضي إلى شيء بأي حال من الأحوال.
ورغم تأكد غالب النخب المصرية -داخل مصر وخارجها- أن النظام المصري الحالي لا يصلح معه حوار، وذلك بسبب تعنته وإصراره على سياسات قمعية استبدادية لم يسبق لها مثيل، فإن البقية الباقية من النخب التي قبلت الحوار معه، طمعًا في الحصول على أي مكتسبات، قد تصل قريبًا إلى قناعة بأن هذا النظام لا يريد سماع سوى نفسه.
وبالتالي، المؤشرات الحالية تفيد أن الفضاء العام المصري آخذٌ في الانغلاق بشكل أكبر من ذي قبل، وأن النخبة غير المرضي عنها بشكل كامل من السلطة ستعود للانزواء والاختباء في الظل مرة أخرى. لكن التاريخ السياسي -حديثه وقديمه- يؤكد أن إغلاق الفضاء العام يضر -أول ما يضر- السلطات القمعية الحاكمة، لا سيما في ظل التدهور الاقتصادي الذي ينعكس بالسلب على الأحوال المعيشية والاجتماعية لغالب المواطنين المصريين.
ومن جانب آخر، ما سبق لا يمنع احتمالية أن يضطر النظام في الفترة القادمة -على ضوء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تشعر بها الحكومة والشعب على حد سواء- إلى تنشيط وتفعيل ما يسمى بالحوار الوطني، سعيا لامتصاص غضب بعض النخب السياسية والقطاعات الشعبية من جهة، وكذلك رغبة في إشراكهم معه في الإخفاق الذي تسببت به سياساته وإجراءاته. لكن حتى لو حدث ذلك، فلن يكون الهدف إجراء أي إصلاح سياسي حقيقي، حيث إن غاية النظام هي المراوغة في هذا الإطار.
المحور الرابع: القمة العربية الصينية وانعكاساتها على المشهد السياسي المصري
في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2022، توجه قائد الانقلاب المصري، عبد الفتاح السيسي، إلى العاصمة السعودية الرياض، للمشاركة في القمة العربية الصينية الأولى، التي عقدت في اليوم التالي لوصوله.
وحضر القمةَ الرئيسُ الصيني، شي جين بينغ، وكذلك قادة وممثلو كل من السعودية وتونس وموريتانيا وقطر والعراق والأردن وفلسطين واليمن والسودان والبحرين والإمارات، إضافة إلى سلطنة عمان والجزائر والكويت ولبنان.[37]
إعلان الرياض
واختُتمت القمة بنص ورد فيه أهم ما اتفق عليه القادة المجتمعون، وفيما يلي أبرز بنود “إعلان الرياض”:[38]
- تأكيد الحرص المشترك على تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الدول العربية والصين، بوصفها نموذجًا لعلاقات الصداقة والتعاون الودي.
- العمل على صيانة النظام الدولي القائم على أساس القانون الدولي، والعمل متعدد الأطراف، وتعزيز مبادئ التعاون والتضامن والعدالة والإنصاف في العلاقات الدولية، والحفاظ على مصالح الدول النامية والدفاع عن حقوقها.
- التأكيد على أن القضية الفلسطينية تظل قضية مركزية في الشرق الأوسط، وهي التي تتطلب إيجاد حل عادل ودائم لها على أساس حل الدولتين، من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967. وتثمين وقوف الصين إلي جانب الحق والعدالة في القضية الفلسطينية، وكذا تثمين الرؤية ذات النقاط الأربع التي طرحها الرئيس الصيني لحل القضية الفلسطينية.
- الأخذ بعين الاعتبار والتقدير المساعي الصينية في المساهمة بنشر السلام والتنمية الدوليين.
- تأكيد العزم على مواصلة التشاور السياسي وتبادل الدعم بين الجانبين في القضايا المتعلقة بمصالحهما الجوهرية، وتعزيز التضامن في المحافل الدولية المختلفة.
- التأكيد على التزام الدول العربية الثابت بمبدأ الصين الواحدة، ودعمها لجهود الصين في الحفاظ على سيادتها ووحدة أراضيها، والتأكيد مجددًا على أن تايوان جزء لا يتجزأ من الأراضي الصينية، ورفض “استقلال” تايوان بكافة أشكاله.
- تعزيز التبادل بين الصين والدول العربية في مختلف الأبعاد والمستويات.
- احترام اختيار الدول لرؤاها التنموية بإرادتها المستقلة.
- التشارك في تنفيذ مبادرة الحزام والطريق.
- تكريس القيم المشتركة للبشرية، المتمثلة في السلام والتنمية والإنصاف والعدالة والديمقراطية والحرية، واحترام حق شعوب العالم في اختيار الطرق لتطوير الديمقراطية والنظم الاجتماعية والسياسية التي تتناسب مع ظروفها الوطنية بإرادتها المستقلة. ورفض التدخل في شؤون الدول الداخلية بذريعة الحفاظ على الديمقراطية.
- التأكيد على أهمية أن يكون التعاون الدولي في مجال حقوق الإنسان قائمًا على أساس المساواة والاحترام المتبادل، ورفض تسييس قضايا حقوق الإنسان واستخدامها كأداة لممارسة الضغوط على الدول والتدخل في شؤونها الداخلية.
- التأكيد على أهمية تجنب المجتمع الدولي إقصاء مصادر طاقة رئيسية أو إهمال الاستثمار فيها، مما يؤدي إلى تحديات في أسواق الطاقة.
- تعزيز الحوار بين الحضارات واحترام الثقافات المختلفة ونبذ دعاوى الكراهية والتطرف وصراع الحضارات بين أتباع الأديان والثقافات، والتأكيد على معارضة الإسلاموفوبيا.
يتضح من لهجة الإعلان، والصياغات الواردة فيه، والعبارات المستخدمة فيه، والأفكار التي أُكّد عليها عبره، أن هناك نوعًا من التناقض والتعاكس مع تلك التي تنتقدها الحكومات العربية والصين في علاقاتها مع الولايات المتحدة والدول الغربية.
فعلى سبيل المثال، لطالما انتقد الحكام المستبدون في المنطقة الضغوطات الغربية المتكررة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والحريات، معتبرين أن ذلك تدخلًا في شؤونهم الداخلية، لكنهم في هذا الإعلان يعلنون توافقهم مع الصين بشأن رفض تسييس قضايا حقوق الإنسان واستخدامها كأداة لممارسة الضغوط على الدول والتدخل في شؤونها الداخلية.
وبالتالي، فإن الموقعون يوجهون رسالة ضمنية للغرب بأن ضغوطهم بشأن حقوق الإنسان مرفوضة وغير مقبولة داخل الأوساط الرسمية العربية، وأنهم ينظرون إلى هذه الضغوط كونها تدخلًا في شؤونهم.
كذلك كثيرًا ما حاول الحكام توسيع مفهوم حقوق الإنسان والحريات ليشمل التنمية والتطوير في قطاعات الصحة والتعليم وغيرها، رغبة في تمييع المفهوم وإبعادًا لهم عن المساءلة فيما يتعلق بحقوق الإنسان في العيش بحرية وكرامة، ولذا توافقت الصين مع الدول العربية في ضرورة احترام حق شعوب العالم في اختيار الطرق لتطوير الديمقراطية والنظم الاجتماعية والسياسية التي تتناسب مع ظروفها الوطنية بإرادتها المستقلة، ورفض التدخل في شؤون الدول الداخلية بذريعة الحفاظ على الديمقراطية.
وهو ما يعني إشارة واضحة توجه لأمريكا والدول الغربية مفادها أن دول المنطقة هي من تحدد الطريقة التي تمارس بها أصول الحكم والسياسة داخلها، ومن غير المرحب به أن تحاول الضغط باتجاه أنماط حكم معينة، لا تروق لحكومات هذه الدول.
بشكل عام، عادة ما تتشارك الحكومات العربية والصينية -لا سيما مؤخرًا- في الإيمان بمفاهيم متقاربة فيما يتعلق بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، نظرًا لأنهم جميعًا يحكمون دولًا يتدنى فيها مستوى تطبيق هذه القيم، حيث إن جلها يشهد مستويات مرتفعة للغاية من انتهاك لحقوق الإنسان وحريته وحقه في اختيار من يمثله ويحكمه، وغالب النظم السياسية الحاكمة في هذه الدول نظم استبدادية بشكل كامل، أو أنها استبدادية بلباس يبدو ديمقراطيا، حيث يتم التظاهر فيها بوجود انتخابات ومجالس تشريعية ورقابية، لكن حقيقة الأمر أن جميعها مرتبط برأس النظام بشكل أو آخر.
ودائمًا ما تصدر الصين نفسها على أن علاقاتها مع الدول الأخرى مبنية على المصالح المشتركة، والتركيز على التنمية والتطوير الاقتصادي والتبادل التجاري، واستبعاد الضغوط السياسية، وهو ما يروق للحكومات الاستبدادية في المنطقة، حيث إن ضغوط الغرب المتكررة تسبب لهم إزعاجًا وضجرًا. وفي أوقات سابقة، كان هذا الضغط يجبرهم -أحيانًا- على تنفيذ بعض الإجراءات التي لا يودون تنفيذها، وما كانوا ليفعلوها من تلقاء أنفسهم بأي حال من الأحوال.
والصينيون يدركون هذه المعادلة جيدًا، حيث تدعي الصحافة الصينية الرسمية أن دول الشرق الأوسط ترى أن الصين من أنسب الشركاء على المستوى الدولي، وعزت ذلك إلى أن الصين “لا تفرض أي شروط سياسية على شركائها”. كما أنها “لا تجبر أي شخص على الانحياز إلى جانب، لكنها تؤكد فقط على روابط التنمية الاقتصادية”. إضافة إلى أن “الصين تحترم الثقافة الإسلامية والقيم العربية، بينما يمارس الغرب ضغوطًا يهدف من خلالها إلى فرض قيمه على الدول العربية”.[39]
الاتساق مع رؤية النظام
أما بالنسبة للنظام المصري، فيسري عليه ما يسري على باقي الحكومات العربية كما ذكرنا أعلاه، لكن يزيد عن ذلك أن قائد الانقلاب قد يكون أكثرهم وضوحًا خلال الفترات الماضية، حيث كرر غير مرة انتقاداته لتركيز الغرب على جانب معين من حقوق الإنسان، وتجاهله لمتطلبات التنمية الاقتصادية، حسب زعمه.
كما أظهر -من خلال خطاباته المتكررة- انزعاجه من بيانات الانتقاد التي توجهها له الحكومات الغربية والمنظمات الحقوقية الدولية فيما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في مصر.
تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع المعسكر الشرقي، الصين وروسيا، يساعد النظام في تطوير قدرته على مقاومة الضغوط الأمريكية والأوروبية عليه، حيث إن العلاقة مع الشرق توازن علاقاتها مع الغرب.
وهذه هي السياسة التي انتهجها النظام الانقلابي منذ وصوله إلى السلطة عام 2013. حيث إنه وجه دفة علاقاته بشكل أو آخر صوب الشرق، ليس توجهًا كليًا بطبيعة الحال، لكنه توجه جزئي رمى إلى زيادة قدرته على مناورة الضغوط الأمريكية.
فبعد استخدام الولايات المتحدة لملف المعونة الأمريكية لمصر عقب الانقلاب العسكري، عبر تعليق المنحة، ثم عودتها بشكل جزئي، قرر الساسة المصريون تغيير أولوياتهم. فبعد أن كانت الولايات المتحدة مصدر السلاح الأول لمصر على مدار ما يقارب 4 عقود، باتت روسيا تحتل المرتبة الأولى، وتعقبها فرنسا، ثم تأتي الولايات المتحدة ثالثًا. ولا شك أن ذلك أثر بشكل كبير على النفوذ الأمريكي في الداخل المصري.
لكن المشهد الآن يأتي في إطار مشهد عربي شرق أوسطي كامل، متسق مع بعضه بعضًا، حيث تتبع جميعها ذات النهج تقريبًا، وهو تعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، والابتعاد عن المواقف التي يُفهم منها أنها اصطفاف كامل مع المعسكر الغربي، لكنهم في ذات الوقت لا يتخذون مواقف معادية للغرب، ويهدف هذا النهج إلى موازنة العلاقات بين القوى العظمى، وعدم الانحياز لأي منهم بشكل كامل. وقد زاد هذا النهج عقب الحرب الروسية الأوكرانية، وما تبعها من أزمات في قطاع الطاقة على وجه التحديد، ما عظم من إمكانات الدول شرق أوسطية، التي تملك ثروة كبيرة من مصادر الطاقة.
ولو نظرنا إلى الدول ذات التأثير الأكبر في المنطقة، والتي كانت تتميز بعلاقات تقليدية متينة مع الولايات المتحدة وأوروبا، مثل السعودية والإمارات وقطر وتركيا والجزائر ومصر، لوجدنا أن الخط العام للسياسة الخارجية يتسق مع النهج المذكور أعلاه.
وعليه، يبدو المشهد الآني كالتالي؛ دول شرق أوسطية كانت تتسم علاقاتها بالمتانة والموثوقية مع الدول الغربية، باتت تتخذ تدريجيا مسافة من المعسكر الغربي، وتقترب بمرور الوقت من المعسكر الشرقي.
وبالتالي، يتخذ النظام الانقلابي موقفه الحالي في مشهد يعتبر أكثر تماسكًا وصلابة من ذي قبل، مستعينًا في ذلك بوجوده ضمن مشهد إقليمي كامل، تجمع مكوناته منطلقات مشتركة نسبيا في رؤيتهم لعلاقاتهم مع الغرب. وهو ما سيزيد من قدرة النظام على مقاومة الضغوط الخارجية وتقليل أثرها إلى أقل درجة ممكنة.
وقد يكون آخر مثال يبرهن على ما سبق، هو ما حدث مع الناشط المصري علاء عبد الفتاح، فرغم أن قضيته اتخذت زخمًا دوليًا قد يكون الأكبر من نوعه منذ الانقلاب العسكري الذي يُتخذ على فرد بعينه، لكن ذلك لم يكن كافيًا لأن تتخذ السلطات الانقلابية -حتى الآن- أي إجراءات يبدو منها حدوث أدنى استجابة للنداءات الدولية بشأن عبد الفتاح.
ويتسق ذلك مع مجريات ما يسمى بـ “الحوار الوطني” الذي خلصنا منه في المحور السابق، إلى أن المشهد السياسي العام آخذٌ في الانغلاق بشكل أكبر من ذي قبل. وأن التعويل حاليًا على أي ضغوط خارجية لن ينتج -في السياق الدولي والإقليمي الحالي- شيئًا ذا بال يساهم في تحسين المشهد السياسي المصري.
لكن التغيير في المشهد يبقى مرهونًا بالتحركات والضغوط الداخلية، فهي وحدها القادرة على تغيير موازين القوة في المعادلة السياسية المصرية. وغالبًا لن يسعى النظام إلى أي إصلاحات سياسية إلا حال الاضطرار بفعل هذه العوامل الداخلية، سواء كانت هذه العوامل شعبية أو عسكرية أو مؤسساتية.
المصادر
[1] العربية، مصر تقرر ترسيم حدودها في المتوسط.. فوائد مهولة توقف أطماعا خارجية، 16 ديسمبر/ كانون الأول 2022
[2] الرؤية، مصر تعلن عن طرح مزايدة عالمية جديدة للبحث عن الغاز الطبيعي في 12 منطقة، 27 ديسمبر/ كانون الأول 2022
[3] CNN عربي، حكومة “الوحدة الوطنية” الليبية تعلن رفضها قرار مصر بترسيم حدودها الغربية، 16 ديسمبر/ كانون الأول 2022
[4] بوابة الوسط، باشاغا يدعو مصر وتركيا واليونان لعدم اتخاذ خطوات أحادية بشأن ترسيم الحدود البحرية، 14 ديسمبر/ كانون الأول 2022
[5] RT عربي، البرلمان الليبي يطالب مصر بـ”التراجع الفوري” عن قرارها بشأن الحدود البحرية، 24 ديسمبر/ كانون الأول 2022
[6] الميادين، المجلس الرئاسي الليبي: ترسيم الحدود بين الدول ليس محل تصرف أحادي الجانب، 4 يناير/ كانون الثاني 2023
[7] قناة عبد الحميد العوني، مصر: السيسي أخذ 6850 كلم مربع من مياه ليبيا،حسب الخرائط اليونانية، 14 ديسمبر/ كانون الأول 2022
[8] فرانس 24، ليبيا وتركيا توقعان اتفاقية للتنقيب عن النفط والغاز، 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2022
[9] وكالة الأناضول التركية الرسمية، تركيا تحث ليبيا ومصر على الحوار لترسيم الحدود البحرية، 18 ديسمبر/ كانون الأول 2022
[10] Ekathimerini, Sisi’s maritime declaration shields Crete, Dec 15, 2022
[11] المصدر نفسه
[12] Nikos Dendias, Phone conversation with #Egypt FM S, Dec 14, 2022
[13] الموقع الرسمي لوزراة الخارجية التركية، بيان صحفي حول توقيع اتفاقية ترسم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2022
[14] الجزيرة نت، رئيس أركان القوات البحرية التركية السابق يكتب للجزيرة نت: كواليس الاتفاق البحري الذي أشعل غضب اليونان، 1 يناير/ كانون الثاني 2023
[15] ترك برس، جزيرة ميس.. ورقة تركيا لإفشال أحلام اليونان بمحاصرة سواحلها شرق المتوسط، 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022
[16] الأناضول، تركيا: تحويل منتدى غاز شرق المتوسط لمنظمة دولية بعيد عن الواقع، 17 يناير/ كانون الثاني 2020
[17] عربي 21، تطور جديد في علاقات تركيا ومصر.. تعيين سفراء قريبا، 28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022
[18] الأناضول، قالن: مصر أدركت أنه لا يمكن الحديث عن شرق المتوسط وخريطة الطاقة فيه دون تركيا، 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022
[19] CNN عربي، وزير الخارجية التركي: تطبيع العلاقات مع السعودية جرى بسرعة.. والتباطؤ مع مصر لسنا مصدره، 29 ديسمبر/ كانون الأول 2022
[20] شبكة رصد الإخبارية، وزير الخارجية التركي: نقوم بخطوات ملموسة لتطبيع العلاقات مع مصر، 13 يناير/ كانون الثاني 2023
[21] الصفحة الرسمية للحوار الوطني على فيس بوك، بيان إعلامي حول الاجتماع الأول للمقررين والمقررين المساعدين بالحوار الوطني، 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
[22] المصدر السابق، بيان بمناسبة الذكرى التاسعة والأربعين لنصر أكتوبر العظيم، 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
[23] المصدر السابق، بيان بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف، 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
[24] المصدر السابق، بيان إعلامي حول تاسع وعاشر اجتماعات مجلس أمناء الحوار الوطني، 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
[25] المصدر السابق.
[26] المصدر السابق، بيان إعلامي حول الاجتماع الحادي عشر لمجلس أمناء الحوار الوطني، 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
[27] المصدر السابق، بيان، 24 أكتوبر/ تشرين الأول 2022.
[28] المصدر السابق، بيان، 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
[29] المصدر السابق، بيان، 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
[30] المصدر السابق، بيان، 13 ديسمبر/ كانون الأول 2022.
[31] Independent عربي، متى يتجاوز الحوار الوطني في مصر مرحلة الإعداد؟، 16 ديسمبر/ كانون الثاني 2022.
[32] الصفحة الرسمية لحمدين صباحي على الفيس بوك، 23 ديسمبر/ كانون الأول 2022.
[33] موقع رصيف 22، “الحوار الوطني” لا يزال متعثراً… ملف السجناء قد يقطع الطريق على مشاركة المعارضة، 5 ديسمبر/ كانون الثاني 2022.
[34] موقع “هيومان رايتس ووتش”، مصر: اعتقالات وقمع إثر دعوات للاحتجاج، 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
[35] المصدر السابق.
[36] العربي الجديد، اعتقال 6 صحافيين مصريين منذ بدء جلسات الحوار الوطني، 7 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022.
[37] RT عربي، الحاضرون والغائبون عن القمة العربية الصينية في السعودية، 9 ديسمبر/ كانون الأول 2022.
[38] اليوم السابع، نص إعلان الرياض فى ختام القمة العربية الصينية الأولى، 9 ديسمبر/ كانون الأول 2022.
[39] صحيفة الاستقلال، “نحترم القيم والغرب يفرضها”.. صحيفة صينية: لهذا تعمقت علاقاتنا مع العرب، 25 ديسمبر/ كانون الأول 2022.