مارك لينش للإدارة الأمريكية: الربيع العربي لم ينته بعد
المحتويات
مقدمة المترجم
نص المقال: الغضب العربي القادم
- تجاهل الرأي العام تاريخيا
- مفهوم “الشارع العربي” في العقل الأمريكي
- حسابات استقرار الأنظمة
- غضب شعبي متراكم
- منطقة متخبطة
مقدمة المترجم
مع اندلاع معركة “طوفان الأقصى”، وما تلاها من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، عادت الشعوب العربية للخروج إلى الشوارع دعما لغزة، وذلك بعد نحو عِقد من تمكّن الثورات المضادة في العديد من دول الإقليم.
ولم تكتفِ التظاهرات التي خرجت في بعض العواصم العربية بالتنديد بدولة الاحتلال الإسرائيلي ومذابحها بحق الشعب الفلسطيني، بل شملت أيضا التنديد بالولايات المتحدة باعتبارها الداعم الأول لدولة الاحتلال، وبتعاون أنظمة عربية مع الاحتلال.
وفي محاولة لرصد آثار هذه التظاهرات نشرت مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية مقالا لأستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن، مارك لينش. وكان المقال الأكثر قراءة في المجلة لأيام بعد نشره.
ويتناول المقال، الذي يقع في نحو 3 آلاف كلمة، رؤية كل الولايات المتحدة والأنظمة الاستبدادية للحراك في الوطن العربي بشكل عام، بدءا من مرحلة تأسيس الجمهوريات، مرورا بالربيع العربي، ووصولا إلى الحراك الحالي الداعم للشعب الفلسطيني.
وينتقد لينش ما يصفه بـ”تجاهل الولايات المتحدة للرأي العام في بلدان الشرق الأوسط”، معتقدا أن ذلك، وإن حقق لها مصالح تكتيكية، إلا أنه قد يشكل خطرا على المصالح الاستراتيجية الأمريكية.
ويعتبر “لينش” أن واشنطن كانت دائما أكثر ارتياحا إلى التعامل مع المستبدين وكانت تعتبر الجماهير التي تخرج إلى الشوارع مجرد حشود غير عقلانية، لكن الربيع العربي غيّر قناعاتها وأكد لها خطأها في تجاهل تطلعات الشعوب وخطر ذلك على المصالح الأمريكية. لكن هذا الدرس سرعان ما نسيته واشنطن مع استعادة الأنظمة العربية سيطرتها عبر الانقلابات العسكرية.
ويعتقد “لينش” أن الولايات المتحدة، بعد الثورات المضادة، عادت إلى قناعاتها التي حركت سياساتها في مرحلة ما قبل الربيع العربي، بمعنى أنها ترى أن بإمكان الأنظمة العربية السيطرة على الشعوب، وأن الحشود التي تخرج إلى الشوارع ستعود مرة أخرى إلى ديارها، وستعود الأمور في بلدان الشرق الأوسط كما هي.
لكن المقال يحاجج بأن هذا التقييم الأمريكي قد يكون خاطئا وخطيرا في الوقت نفسه، مؤكدا أن الولايات المتحدة لم تستوعب بعد عمق ما فعله الربيع العربي. ويحذر المقال الإدارة الأمريكية من المراهنة على الحكام -الذين يسعون لمصالحهم الضيقة- وتجاهل الشعوب العربية، معتبرا أن هذا سيقود إلى إخفاق جديد يُضاف إلى سلسلة إخفاقات واشنطن في سياستها الخارجية.
وقد آثر “مركز المسار للدراسات الإنسانية” ترجمة هذا المقال، وتقديمه للباحثين والمهتمين، باعتبار أنه قد يساعد في فهم تحولات السياسة الأمريكية تجاه المنطقة ومواقفها من حراك الشعوب العربية، هذا فضلا عن الاستشراف الذي أورده الباحث لمستقبل الحراك الجماهيري في المنطقة.
نص المقال: الغضب العربي القادم
تتمحور سردية “لينش” في مقاله، حول تجاهل الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط، ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، للغضب الشعبي في العالم العربي. ويعتقد “لينش” أن ذلك سيعرّضهم للخطر في نهاية المطاف.
ويقول “لينش” إن الاحتجاجات الحاشدة التي خرجت في البلدان العربية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، هزت المنطقة. إذ تظاهر المصريون تضامنا مع الشعب الفلسطيني رغم المخاطر الكبيرة التي تعترضهم، كما نزل العراقيون والمغاربة والتونسيون واليمنيون بأعداد هائلة إلى الشوارع.
وفي الوقت نفسه، كسر الأردنيون الخطوط الحمراء التي طال أمدها، حيث تحركوا نحو السفارة الإسرائيلية في عمّان. وبدورها، رفضت السعودية استئناف محادثات التطبيع مع إسرائيل؛ نظرا للغضب العميق الذي يشعر به شعب المملكة جراء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
في ظل هذا المشهد، يعتقد “لينش” أن الولايات المتحدة لا تأخذ هذه التعبئة الشعبية على محمل الجد؛ لأن حلفاؤها من الزعماء العرب هم من بين أكثر المتمرسين خبرة بالواقعية السياسية على مستوى العالم، ولديهم سجل حافل بتجاهل خيارات شعوبهم.
وهناك سبب آخر لهذا التجاهل -وفق “لينش”- وهو أنه على الرغم من اتساع رقعة الاحتجاجات التي خرجت بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، في البلدان العربية، إلا أن بالإمكان السيطرة عليها.
- تجاهل الرأي العام تاريخيا
وأعطى الأكاديمي الأمريكي -المتخصص في شؤون الشرق الأوسط- لمحة تاريخية لكيفية تعامل الدول العربية مع الاحتجاجات الداعمة للفلسطينيين.
إذ أشار إلى أن الرئيس المصري الأسبق، محمد حسني مبارك، وغيره من الزعماء العرب، شجعوا لفترات طويلة الاحتجاجات الشعبية في بلدانهم ضد الانتهاكات التي تقع بحق الفلسطينيين؛ الأمر الذي يسمح لشعوبهم بالتنفيس عن غضبها من ناحية، ويسمح للأنظمة من ناحية أخرى بأن توجه غضب الشعوب نحو عدو أجنبي، بدلا من أن يُظهِروا هذا الغضب ضد الفساد الداخلي وانعدام الكفاءة.
في تلك اللحظة، كان هؤلاء الزعماء العرب يرون أنه بمرور الوقت سوف تنتهي جولة القتال في غزة، وسوف يعود المحتجون الغاضبون إلى منازلهم، وبهذا سيستمر حكامهم في السعي خلف مصالحهم الشخصية، الأمر الذي يتقنونه.
تجاهل التظاهرات في البلدان العربية لا يقتصر فقط على أنظمة تلك الدول، بل يشترك فيه أيضا صناع السياسة الخارجية الأمريكية، الذين لديهم تاريخ طويل من تجاهل الرأي العام في بلدان الشرق الأوسط، أو ما يسمونه “الشارع العربي”، بحسب “لينش”.
ويشير “لينش” إلى أن عقل صانع القرار الأمريكي يفكر كالتالي: إذا كان المستبدون العرب هم من يتخذون القرارات في بلدانهم، فليس من الضروري إذن أن نفكر في ما يصرخ به الناشطون الغاضبون أو في ما يقوله المواطنون العاديون في استطلاعات الرأي أو وسائل الإعلام. وبما أنه لا توجد ديمقراطيات في الشرق الأوسط، فلا داعي للاهتمام بما يفكر فيه أي شخص خارج قصور الحكم هناك.
ويرى الأكاديمي الأمريكي أنه على الرغم من كل خطابها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، كانت واشنطن دائما أكثر ارتياحا إلى التعامل مع المستبدين الواقعيين أكثر من التعامل مع الجماهير؛ التي تعتبرها حشودا متطرفة وغير عقلانية.
وهناك سبب آخر يعزز توجه الولايات المتحدة نحو تجاهل توجهات الشعوب العربية -وفق لينش- وهو ما حدث في عام 2003، عندما أظهر الرأي العام العربي معارضة شديدة للغزو الأمريكي العراق. فحينها تعاون أغلب زعماء المنطقة مع الغزو ولم يتخذ أي منهم حينها خطوات لمعارضته.
أضف إلى ذلك تلك العقود التي شهدت احتجاجات جماهيرية عديدة ضد الإجراءات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، فرغم ذلك، حافظت الأردن ومصر على معاهدات السلام مع إسرائيل، حتى أن مصر شاركت بفعالية في حصار غزة، كما يقول “لينش”.
وأورد الأكاديمي بعض الأحداث التي وقعت مؤخرا ولم تتبعها انتفاضات شعبية، مثل قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس الذي اتخذته الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عام 2017، وقصف الولايات المتحدة لليمن مؤخرا بعد هجمات الحوثيين على السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر. فرغم ضخامة الحدثَين وتوقع حدوث انفجارات شعبية، فإنهما لم يُسفرا عن شيء من ذلك، ما زاد من رضا الولايات المتحدة عن نفسها وسياساتها.
أما ما وقع عام 2011 من ثورات وانتفاضات عربية، فإنها بالفعل هزّت قناعات واشنطن، غير أن تلك القناعات عادت بكامل قوتها مع استعادة الأنظمة الاستبدادية سيطرتها في السنوات التالية، بحسب “لينش”.
الآن، ومع تلك الاحتجاجات التي تخرج في العالم العربي بسبب حرب غزة، يبدو أن هذا ما تتوقعه الولايات المتحدة وأغلب المحللين السياسيين هذه المرة أيضا، أي أن ما يفكرون به هو أن بانتهاء القصف الإسرائيلي للقطاع، ستعود الحشود إلى منازلها لتجد مشكلات أخرى تثير غضبها، وبهذا تعود السياسات في الإقليم إلى طبيعتها.
لكن يشدد “لينش” على أن هذه الافتراضات تعكس سوء فهم عميق لما يعنيه الرأي العام في الشرق الأوسط، كما أنها تعكس قراءة خاطئة تماما لما تغير حقا منذ انتفاضات عام 2011. فنادرا ما تتوقف واشنطن للنظر في أن سياستها هذه ربما تضيف إلى سجلها البائس من الإخفاقات السياسية إخفاقا جديدا.
- مفهوم “الشارع العربي” في العقل الأمريكي
وأوضح الأكاديمي الأمريكي أن صناع السياسات يستخدمون مصطلح “الشارع العربي” للتقليل من الرأي العام في الإقليم، باعتباره مجرد صخب جماهيري غير عقلاني وعدواني وعاطفي، ورُبما يُسترضَى أو يُقمع، ولكنه على أي حال يفتقر إلى أجندة وأفكار سياسية متماسكة.
ولتعبير “الشارع العربي” جذور عميقة ترجع إلى الاستعمار البريطاني والفرنسي، وفق المقال. وبعد ذلك، تبنته الولايات المتحدة عندما دخلت الحرب الباردة واعتقدت أن التعليم والرأسمالية قادران على تحويل الشرق الأوسط ليكون على صورة الغرب. وقد عززت هذه الأفكار سياسة واشنطن في التعاون مع الطغاة العرب الذين يستطيعون السيطرة على شعوبهم.
هذا التوجه الأمريكي جاء مناسبا لتوجهات الزعماء العرب، الذين كان بوسعهم أن يصرفوا الضغوط الغربية عنهم بشأن قضايا مثل إسرائيل أو التحول الديمقراطي، من خلال الإشارة إلى التهديد المتمثل في الانتفاضات الشعبية والبعبع الإسلامي المتحفز للإطاحة بهؤلاء الحكام وتولي الحكم مكانهم.
وأوضح “لينش” أن ذروة مفهوم “الشارع العربي” كانت خلال ما يسمى بـ”الحرب العربية الباردة” في خمسينيات العقد الماضي، عندما حقق القادة الشعبويون العرب نجاحا كبيرا في تعبئة الجماهير ضد الحلفاء الغربيين المحافظين، وذلك باسم الوحدة العربية ودعم الفلسطينيين.
وأشار “لينش” إلى مشهد الآلاف من المتظاهرين الغاضبين وهم يتجاوبون مع الخطابات الإذاعية للرئيس المصري الأسبق، جمال عبد الناصر، واجتياحهم الشوارع في بلدان عديدة، بما فيها الأردن. هذا المشهد ترك انطباعا قويا لدى صناع القرار السياسي في الغرب، واستنتجت منه واشنطن على وجه الخصوص، أن الشارع العربي خطير وهذا يخلق فرصا للسوفييت. وبالتالي، لم يكن من المفترض أن يُتفاهَم مع هذه الشعوب، بل يجب السيطرة عليها بالقوة.
وبعد فترة طويلة من انتهاء الحرب الباردة، استمر هذا التصور في توجيه السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط وتقديرات الموقف التي تتبناها حول المنطقة. لكن يشدد الأكاديمي الأمريكي على أن هذا التصور ينطوي على سوء فهم حقيقي للحالة السياسية في المنطقة العربية.
وقال: لقد كان من الأسهل دائما على واشنطن رفض الدعم العربي للفلسطينيين، عبر وسمه بأنه موغل في معاداة السامية ونابع من أفكار رجعية. كما كان من الأسهل عليها أن تتجاهل الغضب الشعبي في البلدان العربية تجاه سياساتها، وأن تعتبر الحديث عنه مجرد تكتيك انتهازي يستخدمه السياسيون؛ بدلا من أن تأخذ أسباب هذا الغضب على محمل الجد، وأن تتلمس السبل لمعالجة مخاوف الشعوب العربية.
لكن في التسعينيات والعِقد الذي تلاها، تغير مفهوم “الشارع العربي”، فقد برزت القنوات الفضائية، وخاصة قناة الجزيرة، في تلك العقود وشكلت الرأي العام العربي، بحسب الأكاديمي الأمريكي. علاوة على ذلك، أدى ظهور استطلاعات الرأي المنهجية والعلمية في تسعينيات القرن العشرين إلى توفير قدر كبير من الوضوح بشأن التباينات داخل الوطن الواحد، والمواقف المتغيرة التي تأتي استجابة للأحداث، والتقديرات المعقدة للظروف السياسية.
وفيما بعد، سمح ظهور وسائل التواصل الاجتماعي لمجموعة واسعة من الأصوات العربية بإنهاء سيطرة وسائل الإعلام التقليدية وتحطيم الصور النمطية، من خلال مشاركاتها التفاعلية وتحليلاتها التي تنشرها مباشرة دون واسطة.
وبعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، انخرطت واشنطن في “حرب أفكار” وبذلت جهدا كبيرا فيها، حيث هدفت إلى مكافحة الأفكار المتطرفة والإسلامية في جميع أنحاء المنطقة، وفق وصف لينش. وألمح الأكاديمي الأمريكي إلى أن هذا النهج، رغم أنه خاطئ، فإنه يتطلب استثمارا كبيرا في البحوث المسحية والاهتمام الدقيق بوسائل الإعلام العربية ووسائل التواصل الاجتماعي الناشئة.
لكن جاءت انتفاضات 2011 لتحطم الشعور العام بالرضا عن استقرار الحكام المستبدين في المنطقة، ولتُظهر أن أصوات الشعوب بحاجة إلى أن يُنصَت إليها وأن تُؤخذ في الحسبان.
- حسابات استقرار الأنظمة
“لا تزال ذكرى انتفاضات 2011 تخيم على كل حسابات استقرار الأنظمة في الشرق الأوسط حتى اليوم”، هكذا يؤكد أستاذ العلوم السياسية الأمريكي، مارك لينش.
ويقول في ذلك: إن الثورات التي شهدتها المنطقة حملت دروسا متباينة. فقد أظهر الانتشار السريع للاحتجاجات -التي هددت الأنظمة من تونس إلى جميع أنحاء المنطقة تقريبا- أن الاستقرار المزعوم للأنظمة الاستبدادية العربية كان في الغالب وهما. ولـبُرهة، لم يعد منطقيا أن تتجاهل واشنطن أبعاد الرأي العام العربي ولا أن تذعن لتأكيدات الحكام العرب المتراخين.
ومن الواضح أن الانتفاضات لم تكن مجرد فورة من شارع عربي طائش، بل إن الثوار الشباب الذين التقطوا روح العصر أظهروا نقدا رصينا وثاقبا للحكام المستبدين وتحدوهم. وحتى الإسلاميين، الذين كانوا ضمن الثوار، تحدثوا بلغة الحرية والديمقراطية.
وأبرز “لينش” الاختلاف الذي طرأ على رد فعل الحكومات الغربية تجاه تلك الانتفاضات. ففي البداية، تسابقت الحكومات الغربية للتفاعل مع هؤلاء القادة الشباب المثيرين للإعجاب، وحاولت دعم جهودهم لتحقيق التحول الديمقراطي وبناء أنظمة سياسية أكثر انفتاحا.
لكن مثل هذه الدروس سرعان ما نُسيت مع استعادة الأنظمة العربية سيطرتها، عبر الانقلابات العسكرية، والهندسة السياسية، والقمع واسع النطاق.
كما انتقد الأكاديمي الأمريكي سياسة الولايات المتحدة تجاه بعض القوى الإقليمية التي عرقلت مسار التحول الديمقراطي، مشيرا إلى أن المستبدين الذين كانت أنظمتهم مستقرة ساعدوا نظرائهم الذين تعرضوا لثورات، في حين وقف الغرب ببساطة موقف المتفرج.
فعلى سبيل المثال، لم تتحرك الولايات المتحدة عندما دعمت السعودية والإمارات ودول خليجية أخرى القمع الوحشي الذي مارسته البحرين ضد احتجاجات عام 2011، ولا عندما ضخت تلك الدول دعما ماليا وسياسيا للانقلاب العسكري في مصر عام 2013.
عودة الاستبداد التي شكّلت المرحلة التالية، جلبت مستوى من القمع تجاوز بكثير ما كان موجودا قبل عام 2011، حيث سحقت الأنظمة في جميع أنحاء المنطقة المجتمع المدني وأسكتته؛ خوفا من عودة المعارضة. كما ساعدت المراقبة الرقمية في تنفيذ هذه الإجراءات القمعية، مما أعطى الأنظمة فهما دقيقا وغير مسبوق لتوجهات مواطنيها واحتمالية ظهور حركات المعارضة.
وسرعان ما أدت عودة الاستبداد إلى عودة النموذج القديم للسياسة الخارجية للدول الغربية، الذي يقوم على التعاون مع النخب الاستبدادية وتجاهل آراء الشعوب العربية، بحسب “لينش”. وقد اتضحت هذه السياسية كأوضح ما يكون في كيفية تعاطي الولايات المتحدة مع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، بحسب “لينش”.
فمنذ عام 1991 وحتى وقت قريب، رعت واشنطن عملية السلام بطريقة أو بأخرى؛ ذلك أن القادة الأمريكيين كانوا يعتقدون أن تقديم حل عادل للفلسطينيين أمر ضروري لإضفاء الشرعية على الهيمنة الأمريكية. ومع ذلك، تجاهلت إدارة ترامب بكل بساطة الرأي العام الفلسطيني والعربي عندما توسطت في “اتفاقيات أبراهام”، التي طُبعت بموجبها العلاقات بين إسرائيل والبحرين والإمارات، وذلك دون حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وشملت الاتفاقيات أيضا السودان، والمغرب بعد أن وافقت واشنطن على الاعتراف بسيادته على الصحراء الغربية.
أما الرئيس بايدن، فعلى الرغم من الخطاب الواعد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية، فقد تبنى قلبا وقالبا نهج ترامب في التعامل مع الشرق الأوسط، بحيث دفع في مسار التطبيع العربي-الإسرائيلي، وتجاهَل الديمقراطية وحقوق الإنسان. فبعد تنصيبه في عام 2021، تخلى بايدن عن وعوده بوضع حقوق الإنسان في المقام الأول، وجعْل السعودية منبوذة؛ بسبب قتلها الصحفي جمال خاشقجي وحربها على اليمن.
وبدلا من ذلك، تصرف بايدن بيأس لا يليق، وسارع لإكمال اتفاقات التطبيع التي بدأها ترامب دون حل القضية الفلسطينية، وسعى لتقويض المكاسب الصينية في المنطقة من خلال تأمين اتفاق مع السعودية. وليس من قبيل المصادفة أن هجوم حماس على إسرائيل، في 7 أكتوبر/تشرين الأول، تزامن مع ضغوط الضخمة التي مارستها إدارة بايدن للتوصل إلى اتفاق تطبيع مع السعودية، في خضم استفزازات غير مسبوقة من المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية.
وإلى ذلك، يعتبر الأكاديمي الأمريكي أنه قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، كانت هناك مؤشرات كثيرة على الاستياء العربي من التطبيع وتحذيرات لا حصر لها من انفجار وشيك في غزة، لكن واشنطن تجاهلتها. وهذا -بحسب “لينش”- ما هو إلا مثال آخر على التقدير الخاطئ للولايات المتحدة بأن الشارع العربي مذعنا لما يحدث، وأن حلفائها المستبدين بإمكانهم السيطرة عليه.
ولذلك، كرر “لينش” تأكيده على أن الرأي العام مهم في الشرق الأوسط، وأن السياسة مهمة، حتى في ظل الأنظمة الاستبدادية.
وأشار إلى أن القوى السياسية في الشرق الأوسط تتحرك بسلاسة بين القضايا المحلية والقضايا الإقليمية؛ ولذلك، يجب على القادة الناجحين أن يُتقنوا كلا البُعدين من اللعبة؛ إذ أن جزءا من ضمان بقائهم هو معرفة كيفية التعاطي مع الاحتجاجات، وهذا يعتمد الرد على طبيعة القضية محل الاحتجاج.
وانتقد “لينش” إنصات الدبلوماسيين الغربيين إلى الحكام العرب الذين، إذا استطاعوا، لن يضحوا حتى ولو بمصلحة بسيطة تخصهم من أجل الصالح العام.
وكمثال على ذلك، أكد “لينش” أن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، سيعقد صفقة مع إسرائيل إذا اعتقد أنها ستخدم مصالح نظامه وأن باستطاعته امتصاص الغضب الشعبي دون مخاطرة كبيرة. لكن يشدد “لينش” أنه ليس من السهل بتاتا افتراض القدرة على امتصاص الغضب الشعبي.
ويقول الأكاديمي إن ابن سلمان وغيره من القادة العرب يهتمون بالقضايا التي قد تؤدي إلى الإطاحة بهم. أي أنهم في أغلب الأحيان، يهمهم أكثر ما يهمهم البقاء في السلطة. وهذا لا يعني منع الاحتجاجات الجماهيرية التي تشكل تهديدا مباشرا للنظام فحسب، بل يعني أيضا الانتباه إلى مصادر السخط المحتملة والاستجابة لها عند الضرورة لتفاديها، بحسب “لينش”.
وأشار المقال إلى أنه في الوقت الذي تعاني فيه كل الدول العربية التي تقع خارج منطقة الخليج من مشكلات اقتصادية حادة، يتزامن معها، بطبيعة الحال، ممارسة أقصى قدر من القمع، فإنه يتعين على تلك الأنظمة أن تكون أكثر حذرا في التعاطي مع قضايا أخرى، مثل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
ومن ناحية أخرى، يركز الزعماء العرب أيضا على اللعبة السياسية الإقليمية ويتنافسون بشراسة لإظهار أنفسم كأفضل من يدافع عن هوية شعوبهم ومصالحهم العامة. ولهذا السبب، فإنهم غالبا ما يُلبسون تحركاتهم -حتى أكثرها أنانية وانتهازية- رداء الشرف العربي وخدمة مصالح الفلسطينيين.
ويعتبر الأكاديمي الأمريكي أن ما فعلته الإمارات حين طبعت مع إسرائيل مثالا واضحا على ذلك، ففي معرض تبريرها لاتفاق التطبيع، ادعت أبو ظبي أنها بذلك حالت دون خطط رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لضم الضفة الغربية.
وقال: “إن القادة العرب يهتمون بما يمنحهم أفضلية على غيرهم، أو بما يهدد سلطانهم، كل ذلك في لعبة سياسية إقليمية شديدة التنافسية، سواء كان ذلك تنافسا على النفوذ ضد عرب آخرين، أو ضد قوى أخرى، منها تركيا وإيران”.
وقد أصبح البعد الإقليمي لهذا التنافس أكثر حدة على مدى العقد الماضي، بعد أن أظهرت الانتفاضات العربية كيف أن التطورات السياسية في مختلف أنحاء المنطقة يمكنها أن تهدد بقاء أي نظام محلي.
وعلى وجه الخصوص، انخرطت قطر في منافسة شرسة مع السعودية والإمارات حول التحولات السياسية في سوريا وتونس ومناطق أخرى؛ في سعي منهم لتشكيل الرأي العام واستجابة له في الوقت نفسه.
- غضب شعبي متراكم
ويشدد “لينش” على أن ما يحدث حاليا يؤكد بشكل صارخ أن الولايات المتحدة تخطئ حين تفترض أنها قادرة على تجاهل الرأي العام العربي بشأن معاملة الفلسطينيين، فالواقع يخبرنا أن العرب لم يفقدوا اهتمامهم بهذه القضية، وأن أنظمتهم الحاكمة لم تفرض عليهم قبضة حديدية تكفي لمنعهم من التظاهر. بل إن كل الأنظمة العربية تقريبا تجد شعوبها مستنفرة بشكل استثنائي؛ بسبب ما تعتبره حرب إبادة جماعية تشنها إسرائيل ضد غزة تهدف لتهجير الفلسطينيين واحتلال غزة.
وبحسب تقييم الأكاديمي، فإن ما نراه حاليا من تعبئة وغضب الشعبي يتجاوز في قوته درجة الغضب الذي اندلع في عام 2003 بعد الغزو الأميركي للعراق، ومن الواضح أنه يؤثر على سلوك أنظمة المنطقة.
ففي الواقع، يمكن رؤية درجة وقوة التعبئة الشعبية ليس فقط في وسائل الإعلام والحشود في الشوارع فحسب، ولكن أيضا في الانتقادات غير المعهودة التي توجهها الأنظمة العربية لإسرائيل وللولايات المتحدة، حيث يحتاج هؤلاء الحكام إلى استيعاب التطورات التي تشهدها المنطقة في سبيل بقائهم في الحكم. فحتى مصر، الشريك الوثيق للولايات المتحدة، هددت بتجميد اتفاقيات “كامب ديفيد” إذا غزت إسرائيل رفح أو هجّرت سكان غزة إلى سيناء.
كما توحدت وسائل الإعلام العربية إلى حد كبير في الدفاع عن غزة، رغم أنها كانت منقسمة ومستقطبة بشدة خلال الصراعات السياسية التي عصفت بالإقليم خلال العِقد الماضي. لقد عادت قناة الجزيرة، لتعيش أيام مجدها من خلال تغطية الفظائع هناك على مدار الساعة، حتى أن صحفيين لها قُتلوا على يد القوات الإسرائيلية خلال الأحداث. كذلك، عادت وسائل التواصل الاجتماعي، ليس فقط منصات “إكس”، أو “فيسبوك” و”إنستغرام” الخاضعَين للرقابة الصارمة، بل وبقدر أكبر، التطبيقات الأحدث مثل “تيك توك”، و”واتساب”، و”تيليغرام”.
إن الصور ومقاطع الفيديو القادمة من غزة تطغى على الدعاية الإسرائيلية والأمريكية، وتتفوق بسهولة على التغطية التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية، والتي تخفف من وقع ما يحدث. فالشعوب تشاهد الدمار، وتجد أمامها يوميا مشاهد مأساوية تذهل العقل، وتتعرف على ضحايا تلك المآسي بشكل مباشر. فالناس لا يحتاجون إلى وسائل الإعلام كي يفهموا رسائل “واتساب” التي يرسلها الفلسطينيون الذين يشعرون بالفزع، ولا يحتاجون لمنافذ إعلامية كي يشاهدوا مقاطع الفيديو المرعبة التي تجتاح “تيليغرام”.
علاوة على ذلك، فقد دأب الناشطون والمثقفون العرب على تطوير حِجاجٍ قوي حول طبيعة الهيمنة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، وهم بذلك يتغلغلون في الخطاب الغربي بطرق جديدة. أضف إلى ذلك أن القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية -والتي تقول فيها بوقوع إبادة جماعية إسرائيلية في غزة- كانت وما زالت سببا في نشر العديد من هذه الأفكار في مختلف أنحاء الجنوب العالمي وداخل المنظمات الدولية.
وكما استندت جنوب إفريقيا في مرافعتها إلى تصريحات القادة الإسرائيليين، فإنها استندت أيضا إلى الأطر المفاهيمية التي طورها المثقفون العرب والفلسطينيون، حول الاحتلال والاستعمار الاستيطاني.
ولهذه الأسباب، يخلص الأكاديمي الأمريكي إلى أن حرب الأفكار التي سعت الولايات المتحدة إلى شنها في العالم الإسلامي بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، بدعوى جلب الحرية والديمقراطية إلى منطقة متخلفة، قد انقلب مسارها، بحيث أصبحت الولايات المتحدة في موقف دفاعي. ويرجع هذا -وفق لينش- إلى نفاق الولايات المتحدة، فهي من ناحية تطالب بإدانة حرب روسيا على أوكرانيا، بينما تدعم حرب إسرائيل على غزة من ناحية أخرى.
- منطقة متخبّطة
يقول “لينش” إن كل ما سرده أعلاه يحدث في عصر يتسم بتراجع التفوق الأمريكي وتزايد استقلال القوى الإقليمية، حتى من قبل الحرب بين إسرائيل وحماس.
ويظهر هذا التراجع الأمريكي في سعي الدول العربية الرائدة باضطراد إلى إظهار استقلالها عن الولايات المتحدة، وبناء علاقات استراتيجية مع الصين وروسيا، والسعي خلف أجنداتها الخاصة في الشؤون الإقليمية.
فقد كان استعداد الأنظمة العربية لتحدي التوجهات الأمريكية سمة مميزة للعقد الماضي، حيث تجاهلت دول الخليج السياسات الأمريكية تجاه التحول الديمقراطي في مصر، وأرسلت الأسلحة إلى سوريا على الرغم من تحذير واشنطن، ومارست الضغط ضد الاتفاق النووي مع إيران. وأصبح استعداد الأنظمة العربية لتجاهل رغبات الولايات المتحدة أكثر وضوحا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، إذ رفضت معظم أنظمة الشرق الأوسط، على مدار العامين الماضيين، التصويت في الأمم المتحدة مع واشنطن ضد موسكو، وأيضا رفضت السعودية اتباع خطى الولايات المتحدة بشأن تسعير النفط.
وبحسب الأكاديمي، فإن دعم واشنطن اللامحدود لإسرائيل في تدميرها لغزة، أدى إلى وصول هذا العداء طويل الأمد الذي تكنّه الشعوب العربية تجاه السياسة الأمريكية إلى ذروته، كما أثار هذا الدعم أزمة شرعية تهدد صرح التفوق التاريخي الأمريكي برمته في المنطقة.
ويشير “لينش” إلى أنه مهما تحدث عن أن العرب يحمّلون الولايات المتحدة المسؤولية عن هذه الحرب فلن يكون مُبالغا؛ ذلك أنهم يرون بأنفسهم كيف أن مبيعات الأسلحة الأمريكية وحق النقض (الفيتو) في الأمم المتحدة هما وحدهما اللذان يسمحان لإسرائيل بمواصلة حربها.
وألمح الكاتب إلى المفارقة التي يدركها العرب، وهي الولايات المتحدة تدافع عن إسرائيل في اتخاذها إجراءات بحق الفلسطينيين، هي تقريبا ذات الإجراءات التي تدين روسيا وسوريا بسببها.
ويمكن رؤية مدى هذا الغضب الشعبي -وفق المقال- في أن عددا كبيرا من الشباب العاملين في المنظمات غير الحكومية والناشطين انفصلوا عن المشاريع والشبكات المدعومة من الولايات المتحدة والتي راكمتها واشنطن على مدى عقود من الدبلوماسية الشعبية. والجدير بالذكر أن هذا التطور أشارت إليه “أنيل شيلين” في استقالتها -النابعة من موقف أخلاقي- من منصبها كمسؤولة الشؤون الخارجية في مكتب الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل بوزارة الخارجية الأمريكية، وذلك في مارس/آذار 2024.
وانتقد “لينش” تعامل البيت الأبيض وكأن لا شيء من كل ذلك يستحق الاهتمام، فالأنظمة العربية -في نظر واشنطن- سوف تنجو، والغضب الشعبي سوف يتلاشى أو يُعاد توجيهه نحو قضايا أخرى، وفي غضون أشهر قليلة، سوف تستطيع واشنطن العودة إلى ما تراه العمل الذي يستحق الاهتمام، وهو التطبيع الإسرائيلي-السعودي. فهكذا سارت الأمور تقليديا.
هكذا تنظر واشنطن للمشهد، وفق “لينش”، أما هو، فيرى أن هذه المرة قد تكون مختلفة؛ ذلك أن الفشل الذريع في غزة -الذي يتزامن مع لحظة انتقال للقوة عالميا وتغير حسابات القادة الإقليميين- يظهر مدى ضآلة ما تعلمته واشنطن من سجلها الطويل من الإخفاقات السياسية.
ويعتقد الأكاديمي أن طبيعة ودرجة الغضب الشعبي، وتراجع التفوق الأمريكي وانهيار شرعيته، وإعطاء الأنظمة العربية الأولوية لبقائها الداخلي، فضلا عن المنافسة الإقليمية، كل ذلك يشير إلى أن النظام الإقليمي الجديد سيكون أكثر اهتماما بالرأي العام من النظام القديم.
وختم بالتأكيد على أنه “إذا استمرت واشنطن في تجاهل الرأي العام، فسوف تقضي على خططها لما بعد انتهاء الحرب في غزة”.