النظام المصري وليبيا.. محطات ودوافع تحولات الموقف
المحتويات |
---|
مقدمة |
الموقف المصري من طرابلس.. تحولات سريعة |
دوافع النظام في تحولات سياسته تجاه ليبيا |
خاتمة |
مقــــــــدمــــــــــة
مر الموقف المصري من الخلاف الليبي الداخلي خلال السنوات الأخيرة بتحولات عديدة، بدءًا من دعم انقلاب الجنرال المتقاعد، خليفة حفتر، وحملته للسيطرة على العاصمة طرابلس، ثم التحول للاعتراف بالحكومة الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة، بعد انتخابها، في فبراير/ شباط 2022، مرورًا بسحب الاعتراف من حكومة الدبيبة، في يونيو/ حزيران 2022، ووصولًا إلى التقارير الأخيرة التي تشير إلى أن القاهرة تتجه لإعادة العلاقات مع حكومة الدبيبة مرة أخرى.
ونحاول خلال الأسطر القادمة رصد هذه التحولات السريعة، التي أتت في فترة قصيرة نسبيًا، كما نحاول فهم دوافعها. كذلك نشير إلى دلالات هذا التذبذب في سياسة النظام المصري، في أحد أهم الملفات التي تتعلق مباشرة بالأمن القومي المصري، وأثر ذلك على المصالح المصرية.
الموقف المصري من طرابلس … تحولات سريعة
دعم انقلاب حفتر
منذ استيلاء قائد الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، على السلطة في مصر، انتهجت القاهرة نهجًا مغايرًا فيما يخص ثورات الربيع العربي، عبر دعم ممثلي الثورات المضادة في تلك البلدان. وفي هذا السياق، جاء دعم نظام السيسي للجنرال المتقاعد، خليفة حفتر، الذي انقلب على الحكومة الليبية الشرعية في طرابلس.
وجاء هذا الدعم المصري لحفتر بشكل علني، فقد صرح السيسي أن “مصر تدعم “الجيش الوطني الليبي” ممثلًا في حفتر، لأنها ترى أن هذا هو الطريق الأمثل للتخلص من الإرهاب ودعم قيام ليبيا من جديد”. وعلل السيسي موقفه بأن “مصر تعاني بشكل مباشر من الإرهاب الموجود في ليبيا، نظرًا لأن مصر تربطها حدود ممتدة لأكثر من ألف و200 كيلو مع ليبيا” وتابع: “لو لم يستطع الجيش الليبي السيطرة على التنظيمات الإرهابية يبقى الدور علينا إحنا، لأن مصر ليها حدود ممتدة مع ليبيا”.[1]
وإبان محاولة حفتر للسيطرة على كامل الأراضي الليبية، صرح وزير خارجية النظام المصري، سامح شكري، أن بلاده “تعلن تأييدها التام لتحرك الجيش الذي يقوده حفتر نحو الهلال النفطي، وذلك من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار في البلاد، وتأمين الثروات البترولية”.[2]
وفي المقابل، أكد حفتر على دعم السيسي له، قائلًا إن “وجود مصر إلى جوارنا يبعث في نفوسنا الطمأنينة بأننا لسنا بمفردنا في هذا العالم”. كما اعترف حفتر في عدة لقاءات صحفية بالمساعدات التي تلقتها قواته من السلطات المصرية عندما قال إن مصر أمدته ببعض الدعم اللوجستي، كالتموين.[3]
هذا فضلًا عن أن هناك عدة تقارير أفادت تلقي حفتر أسلحة وذخائر مصرية لاستخدامها في “عملية الكرامة”، التي شنها في مايو/ أيار، ويوليو/ تموز 2014، بين مجلس شورى ثوار بنغازي -المدعوم من غرفة عمليات ثوار ليبيا وكتائب مصراتة- وقوات حفتر.
من ذلك تقرير صدر عن الأمم المتحدة، ذكر أن مصر انتهكت الحظر المفروض على شحن الأسلحة إلى ليبيا في عامي 2014 -2015.[4]
هذا الدعم المصري العلني للسيسي، جاء على حساب حكومة الوفاق الوطني، التي كان يترأسها فايز السراج، وهي الجهة المعترف بها دوليًا حينها، كممثل شرعي للشعب الليبي. لكن مع دخول تركيا على خط الأزمة لدعم حكومة الوفاق، تمكنت قوات الحكومة الشرعية من إبعاد حفتر من كامل الغرب الليبي، وتأمين حدود طرابلس.
وفي تلك الفترة استمرت مصر في دعم حفتر، حتى إن السيسي جمع شيوخ القبائل الليبية المؤيدة لحفتر في القاهرة، وأشار بوضوح إلى استعداد مصر للتدخل عسكريًا ضد حكومة طرابلس. وقال السيسي لأعيان القبائل حينها: “إن تنتصروا بنا فسننصركم”، واعتبرت النوافذ الإعلامية التابعة للنظام هذه الزيارة على أنها “تفويض جديد” للسيسي للتدخل عسكريًا في ليبيا.[5]
الانفتاح على حكومة الدبيبة
لكن في عام 2021، شهدت سياسة نظام السيسي تجاه الملف الليبي بعض التغير؛ إثر انتخاب عبد الحميد الدبيبة، كرئيس للحكومة، من جانب المشاركين في الحوار بين الفرقاء الليبيين في سويسرا برعاية الأمم المتحدة، في فبراير/ شباط من العام نفسه.
حيث نجد أن السيسي رحب بانتخاب الدبيبة، مؤكدًا أنها “خطوة تاريخية هامة في طريق تسوية الأزمة الليبية”، كما وصل السفير المصري إلى طرابلس لمواصلة العمل الدبلوماسي منها. كذلك، استأنفت اللجنة القنصلية الليبية المشتركة مع مصر أعمالها في القاهرة، في 5 مايو/أيار 2021، أي بعد نحو 8 سنوات من التوقف، وذلك لمناقشة العمل الدبلوماسي وتسهيل إجراءات دخول وخروج المواطنين بين البلدين.[6]
وفي أول زيارة لمسؤول مصري كبير إلى طرابلس بعد الثورة الليبية، زار رئيس وزراء النظام المصري مصطفى مدبولي، مع 11 وزيرًا العاصمة الليبية، لبحث ملفات التعاون المشترك. وتضمنت الزيارة، التوقيع على 11 وثيقة لتعزيز التعاون الثنائي بين البلدين في مجالات مختلفة.[7]
قطيعة مصرية مع الدبيبة
لم يكد يرصد المراقبون التحول في موقف النظام المصري من النزاع في الساحة الليبية ودلالات الانفتاح على حكومة طرابلس، إلا وتعرض موقف القاهرة لتحول جديد بعد عام واحد من وصول الدبيبة لرئاسة وزراء ليبيا.
هذا التحول تمثل في سحب نظام السيسي اعترافه بالدبيبة، والاعتراف بوزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق، فتحي باشاغا، كرئيس جديد لمجلس الوزراء، بعد أن انتخبه مجلس النواب الليبي، المنعقد في مدينة طبرق التي يسيطر عليها حفتر، في فبراير/ شباط 2022.
وبررت القاهرة هذا التحول بأن المدة القانونية للسلطة التنفيذية الانتقالية هي 18 شهرًا، انتهت في 22 يونيو/ حزيران 2022، الأمر الذي رفضته حكومة الدبيبة، مؤكدة أن “انتهاء المرحلة الانتقالية يكون بإجراء الانتخابات، كما أن الاتفاق “جعل المواعيد تنظيمية وليست ملزمة”، وعليه فإن شرعية حكومة الوحدة مستمرة حتى تسليم البلاد لسلطة منتخبة مباشرة من الشعب الليبي.[8]
ومع اختيار مجلس نواب طبرق لباشاغا، بادرت مصر إلى الاعتراف به كرئيس للحكومة، وقال بيان لمجلس الوزراء المصري حينها إن مصر “تثمن دور المؤسسات الليبية واضطلاعها بمسؤولياتها بما في ذلك ما اتخذه مجلس النواب من إجراءات اليوم بالتشاور مع مجلس الدولة وفقا لاتفاق الصخيرات”.[9]
وبخلاف سياسات كل حكومات العالم تقريبًا، حرصت القاهرة على إظهار رفضها لاستمرار الدبيبة في رئاسة وزراء ليبيا. وقد بدا ذلك في مغادرة “شكري” مقر انعقاد اجتماع وزراء الخارجية العرب بمقر الأمانة العامة بالقاهرة، في 6 سبتمبر/ أيلول 2022، عقب تولي وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية، نجلاء المنقوش، رئاسة الاجتماع.[10]
وبعد توقيع حكومة الوحدة مع الحكومة التركية، في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، مذكّرة تفاهم في مجال الموارد الهيدروكربونيّة (النفط والغاز الطبيعي)، رفضت القاهرة هذه الاتفاقية باعتبارها صادرة عن “حكومة غير شرعية”.[11]
هذا الموقف “المتصلب” من القاهرة بدا غريبًا نوعًا ما، لسببين رئيسيين. الأول هو أن النظام المصري تفرد بهذا الموقف دون غيره من بلدان العالم، حيث استمر الرأي العام الدولي في الاعتراف بالدبيبة كرئيس شرعي للحكومة الليبية. وقد أعربت الأمم المتحدة عن ذلك صراحة في بدايات الأزمة، ففي معرض رده على أسئلة الصحفيين بشأن ما إذا كانت الأمم المتحدة تعتقد أن الدبيبة لا يزال في منصبه رئيسًا للحكومة، قال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك: “موقفنا واضح ولم يتغير، وإجابتي المباشرة على سؤالكم هي بالإيجاب: نعم”.[12]
أما السبب الثاني فهو أن سيطرة الدبيبة على طرابلس، عاصمة البلاد، لم تُهدَّد، بل إن محاولات “باشاغا” لدخول طرابلس، ساهمت في زيادة بسط سيطرة الدبيبة عليها. فقد تمكن الدبيبة من دحر قوات باشاغا مرتين حين حاولت اقتحام العاصمة، وقد أتاح له ذلك تحجيم المجموعات المسلحة الموالية للأخير داخل العاصمة.[13]
ورغم ذلك، استمر نظام السيسي في إعلان رفضه لحكومة الدبيبة، إلى أن صدرت عدة إشارات مؤخرًا تدل على أنه يرغب في إعادة التواصل معها.
محاولة إعادة العلاقات مع الدبيبة
خلال الأسابيع الأخيرة، صدرت إشارات عدة تؤكد أن القاهرة أدركت خطأ موقفها الذي انفردت به تجاه حكومة الوحدة الوطنية الليبية خلال الفترة الماضية، من هذه الإشارات ما هو علني، وآخر نقلته عدة مصادر.
أول هذه الإشارات هي مشاركة وزير العمل والتأهيل في حكومة الوحدة الوطنية، علي العابد، في الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة الـ49 لمؤتمر العمل العربي، التي انعقدت في العاصمة المصرية القاهرة، في مايو/ أيار 2023.[14]
أما الإشارة الثانية، فهي ما كشفه المكتب الإعلامي لرئيس حكومة الوحدة الوطنية، في 18 مايو/ أيار 2023، من أن الدبيبة التقى مع “وفد مصري ومسؤولين من جهاز المخابرات المصرية” لبحث نتائج أعمال اللجنة المشتركة المصرية الليبية التي بدأت أعمالها قبل عامين.
وحسب بيان المكتب، فقد “ناقش الوفد المصري مع ممثلين لحكومة الوحدة الوطنية، في لقاء منفصل، انطلاق المشروعات التي ينفذها ائتلاف الشركات المصرية بعد تسلّم مواقع الأعمال وإنهاء إجراءات العمالة وتجهيز المقارّ الخاصة بهم، إضافة إلى مناقشة حزمة من المشاريع في مجال الكهرباء والبنية التحتية”.[15]
علاوة على ذلك، أكد مدير المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية، شريف عبد الله، أن هناك تواصلًا بين الجانب المصري وحكومة الوحدة منذ فترة على المستوى الدبلوماسي.[16]
وهناك إشارة أخرى ذكرتها عدة مصادر تتمثل في لقاء عُقد بين رئيس جهاز المخابرات العامة والمسؤول الأول عن ملف ليبيا من الجانب المصري، عباس كامل، بالدبيبة، في العاصمة الإيطالية روما، مطلع يونيو/ حزيران 2023.
وبحسب المصدر المصري، فإن اللقاء بين الدبيبة وكامل “كان إيجابيًا، وشهد تفاهمات بشأن مجموعة من الملفات أبرزها الملف الاقتصادي، في مقابل عدم اعتراف مصر بالحكومة التي تتخذ من مدينة شرق ليبيا مقرًا لها، بعد إدخال تعديل عليها، ليتولى رئاستها وزير المالية أسامة حماد، خلفًا لفتحي باشاغا”.[17]
وبالطبع، فإن هذه اللقاءات بمثابة إشارات من النظام المصري على تغير موقفه من حكومة الدبيبة، وإن لم يُعلن اعترافه بها بشكل رسمي حتى الآن.
دوافع النظام في تحولات سياسته تجاه ليبيا
يمكن القول إن موقف النظام المصري من الشأن الليبي تعرض لـ3 تحولات رئيسية خلال العامين الماضيين. الأول هو الانفتاح على حكومة الدبيبة، والثاني هو القطيعة مع حكومة الدبيبة ودعم حكومة باشاغا، والثالث هو الحادث مؤخرًا مع محاولات النظام المصري لمد جسور التواصل مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية مرة أخرى.
وكنا قد ذكرنا في المحور الثالث من ملف “دفاتر مصرية – سبتمبر/ أيلول 2022“، دوافع السيسي لدعم حفتر في الأساس، وكانت أبرز الأسباب في ذلك هي دعمه للثورات المضادة في المنطقة، ورغبته في استغلال سيطرة حفتر على منطقة الهلال النفطي الممتدة على أكثر من مئتي كيلومتر.
كما أشرنا في الملف نفسه بشيء من التفصيل إلى سبب انفتاح نظام السيسي على الدبيبة بعد انتخابه، معللين ذلك بأن الخيارات في يد صانع القرار في القاهرة لم تكن عديدة في هذا الوقت؛ ذلك أن الجميع اعترف بالدبيبة كرئيس للحكومة، سواء على المستوى الليبي الداخلي أو على المستوى الدولي. وبالتالي، فإن السياق المحلي والإقليمي والدولي أجبر السيسي على الاعتراف بالحكومة الليبية في طرابلس.
لكن نظام السيسي لم يكن داعمًا للدبيبة في الانتخابات التي أجريت، وذكرت تقارير في تلك الفترة أن القاهرة كانت تفضل فوز تحالف رئيس مجلس نواب طبرق، عقيلة صالح، مع باشاغا، برئاسة المجلس الرئاسي ومجلس الوزراء. وهذا ما صدقه الواقع، إذ اعترف السيسي بباشاغا، الذي اختير عبر البرلمان الذي يترأسه صالح.[18]
أما الآن، ومع التحول الثالث لسياسة النظام المصري في ليبيا، فيمكن القول إن هناك أربعة أسباب أساسية تقف خلف سعي السيسي لإعادة التواصل مع حكومة الدبيبة.
السبب الأول هو تمكن الدبيبة من الاستمرار في الحكم، سواء عبر ردع قوات باشاغا من دخول طرابلس في غير مرة، أو عبر تمكنه من الحفاظ على الاعتراف الدولي به، وعلاقاته الدبلوماسية مع مختلف الدول.
وهنا يمكن القول إن تقدير النظام المصري للأحداث كان خاطئًا، إذ ربما رأى أن “باشاغا” سيتمكن من إزاحة الدبيبة من رئاسة الحكومة، لما له من نفوذ في الغرب الليبي، بجانب الشرق الذي يتحالف معه بطبيعة الحال. وهنا يبدو أن تقدير القاهرة تمثّل في أن سرعة الاعتراف بباشاغا، ستزعزع سلطة الدبيبة، ما يعني سحب الشرعية منه، أو على الأقل، العودة إلى ما قبل حكومة الدبيبة، حين كانت تتنازع الشرعية حكومتان، إحداهما في الشرق بدعم من حفتر، وأخرى في الغرب معترف بها دوليًا.
لكن استمرار حكومة الدبيبة على رأس عملها حتى الآن في طرابلس، وباعتراف دولي، يشير إلى خطأ تقدير النظام المصري، سواء في سرعة قطع العلاقات مع الدبيبة، أو في حدة تنفيذ ذلك، كما كان في انسحاب شكري من اجتماع وزراء الخارجية العرب، أو في تجاهل الإشارات التي برزت منذ بداية الخلاف بين الدبيبة وباشاغا، والتي دلت على أن الأول في طريقه للاستمرار في السلطة.
أما السبب الثاني فهو فشل باشاغا في تقديم مشروع مقابل للدبيبة، حتى انتهى الأمر به إلى إقالته من قِبل مجلس نواب طبرق. ففي 16 مايو/ أيار 2023، نشر مجلس النواب على موقعه الإلكتروني، بيانًا أعلن فيه أنه سيناقش في جلسة مغلقة، أداء حكومة باشاغا، وما قدمته منذ نيلها الثقة من مجلس النواب.
وفي المقابل، سارع باشاغا إلى نقل كامل صلاحياته لنائبه علي القطراني، وهو أحد أفراد المنطقة الشرقية الليبية، غير أن مجلس نواب طبرق أعلن “إيقاف” باشاغا، وأحاله إلى التحقيق، وكلف وزير المالية أسامة حماد، بتسيير مهام رئيس الحكومة، ما يعني أنه لم ينتظر تنفيذ قرار باشاغا بتولي “القطراني” رئاسة الحكومة بالنيابة.
وعندما سئل المتحدث باسم مجلس النواب عبد الله بليحق، عن سبب إيقاف باشاغا، أوضح أنه “كان هناك امتعاض واعتراض على عدم تحقيق الحكومة لأي وجود على أرض الواقع سواء على المستوى الخدمي أو السياسي”. وأشار بليحق أن باشاغا، لم يفِ بالعديد من بالتزاماته، ومنها “دخول العاصمة طرابلس ومباشرة العمل منها، والحصول على اعتراف من المجتمع الدولي بالحكومة، الأمر الذي أثر على حضورها السياسي والدولي رغم نيلها الثقة من مجلس النواب”.[19]
وعلى هذا، فإن فشل مشروع “باشاغا”، والخلافات الداخلية التي برزت بينه وبين داعميه في الشرق، أكدت للقاهرة أنها تراهن على الحصان الخاسر، وأنها أخطأت حين انفردت بالاعتراف بباشاغا، وقطع العلاقات مع الدبيبة.
والسبب الثالث يكمن في الأزمة الاقتصادية التي تمر بها مصر، والتي من المتوقع لها أن تتفاقم. حيث ترى مؤسسات تمويل دولية أن معدلات التضخم سترتفع إلى 39 بالمئة، بنهاية سبتمبر/ أيلول 2023، متأثرة بزيادة أسعار الكهرباء والوقود والسلع الأساسية، مع شح الدولار وتراجع قيمة الجنيه.
وأفادت تقارير أن الحكومة ستمول المشروعات المدرجة بالموازنة الجديدة 2023/ 2024 بعجز، قدرته مبدئيا بنحو 40 بالمئة، هذا في الوقت الذي يبلغ فيه الدولار نحو 31 جنيهًا رسميًا، يتجاوز سعره 40 جنيهًا في السوق الموازية.[20]
ومع الأخذ في الاعتبار مشروعات إعادة التعمير وتأسيس البنية التحتية التي تحتاجها ليبيا، هذا فضلًا عن قدرة ليبيا على دعم الحكومة المصرية اقتصاديًا لتخفيف وطأة الأزمة، فإن هذا يدفع السيسي للانفتاح على حكومة الدبيبة.
ويبدو أن الدبيبة يرى أن حاجة مصر إلى الأموال الليبية قد تدفعها للاعتراف به والتعامل معه، ولذلك غازل الدبيبة، في مايو/ أيار 2023، النظام المصري، عبر دعوة الشركات المصرية إلى المشاركة في المشروعات التي تنفذها حكومته لإعادة الإعمار، وبناء البنية الأساسية في ليبيا، لافتًا إلى ما وصفه بالفرص المتاحة للشركات المصرية للتواجد هناك. كما تعهد الدبيبة بتقديم كامل الدعم للشركات المصرية، وقال إن الباب مفتوح لكل الشركات المصرية في المشروعات التي يجري تنفيذها حاليًا.[21]
ولذلك، فإن الملف الاقتصادي -وكما يضغط على السيسي في ملفات خارجية أخرى- فإنه هنا يمثل عامل ضغط آخر يدفع باتجاه تغيير موقفه مرة أخرى إلى التعاون مع الدبيبة.
أما السبب الرابع فيتمحور حول العلاقات التي ينسجها الدبيبة مع حكومات إقليمية لها علاقات استراتيجية مع النظام المصري كالإمارات، أو يجمعها مع القاهرة مسار تقارب كالحكومة التركية. فمن جهة، نجد أن النظام الإماراتي منفتح على التعامل مع الدبيبة، وقد استقبله في أبو ظبي، في فبراير/ شباط 2023،[22] هذا فضلًا عن الاجتماع الثلاثي الذي جمع الدبيبة بالرئيس الإماراتي محمد بن زايد، ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، على هامش نهائي دوري أبطال أوروبا لكرة القدم، الذي احتضنته مدينة اسطنبول التركية، في 10 يونيو/ حزيران 2023.[23]
وهذا بالطبع لا يعني بالضرورة دعم ابن زايد لبقاء الدبيبة في رئاسة الوزراء، بقدر ما يعكس موقفًا إماراتيًا أكثر براغماتية من الموقف المصري، رغم أن تأثير الملف الليبي اقتصاديًا وأمنيًا على مصر، أكبر منه على الإمارات.
ومن جهة أخرى، فإن التقارب التركي-المصري الجاري، ومحاولة التفاهم حول الملف الليبي، يدفع النظام المصري إلى تبني موقف أكثر مرونة، خاصة في ظل وجود الدبيبة كأمر واقع.
وقد أشار إلى ذلك مدير المركز الليبي للدراسات الأمنية والعسكرية، شريف عبد الله، الذي قال إن أحد أسباب التواصل بين القاهرة وطرابلس مؤخرًا هو “التقارب المصري التركي الذي دفع للتقارب بين القاهرة والدبيبة”، مضيفًا أن “المجتمع الدولي أصبح الآن شبه مجتمع على أن الدبيبة مستمر في الحكم في الفترة المقبلة، وعلى القاهرة أن تتعامل مع الأمر الواقع، وتحصّل ما تستطيع من مكتسبات”.[24]
خــــــــــــاتمـــــــــــــــة
اتسمت سياسة النظام المصري في ليبيا بالتذبذب خلال السنتين الماضيتين، انتقل فيها الموقف المصري من اعتراف بحكومة الوحدة الوطنية، إلى القطيعة، إلى محاولة إعادة التواصل مرة أخرى. وانفردت مصر -دون غيرها من الدول- بهذا التحول السريع في العلاقات، رغم خطورة الملف بالنسبة للأمن القومي المصري، والمصالح الاقتصادية الجوهرية للبلاد.
ورغم أن سياسة السيسي الأصيلة في ليبيا هي دعم حفتر للسيطرة على كامل التراب الليبي، إلا أن دخول تركيا على خط الأزمة، وفشل انقلاب حفتر، صعّب من موقف القاهرة. فمن جهة، يريد نظام السيسي تمكين حفتر في ليبيا لأسباب تخص النظام المصري نفسه تتعلق بعدائه لثورات الربيع العربي، ومن جهة أخرى، فإن الاستمرار في دعم مشروع حفتر المتعثر يفوت على مصر مصالح اقتصادية مهمة، مفتاحها بيد حكومة طرابلس.
ولربما لو تخلى نظام السيسي عن مشروعه في تمكين ممثلي الثورة المضادة في ليبيا، وموضع نفسه كوسيط لحل الأزمة بين الشرق والغرب الليبي، لكان ذلك أفضل استراتيجيًا لمصر ومصالحها الحقيقة في ليبيا.
المصادر
[1] بوابة أفريقيا الإخبارية، “السيسي” لــ”هولاند”:ندعم حفتر لإرساء الاستقرار في ليبيا، 17 أبريل/ نيسان 2016
[2] CNN، أعلنت دعم جيشه أكثر من مرة.. لماذا تُراهن مصر على خليفة حفتر؟، 27 سبتمبر/ أيلول 2016
[3] المصدر نفسه
[4] The Washington Institute, Egypt’s Security and the Libyan Civil War, Apr 17, 2016
[5] اليوم السابع، السيسى لمشايخ وأعيان القبائل الليبية: “إن تنتصروا بنا فسننصركم بإذن الله”، 16 يوليو/ تموز 2020
[6] الأناضول، من 3 إلى 6 أشهر.. سفارة مصر بطرابلس تعود للعمل بكامل طاقتها، 16 مايو/ أيار 2021
[7] المصري اليوم، رئيس الوزراء يعود إلى أرض الوطن بعد زيارة لليبيا، 21 أبريل/ نيسان 2021
[8] الأناضول، حكومة الوحدة الليبية: اتفاق جنيف ينتهي بالانتخابات، 23 يونيو/ حزيران 2022
[9] اليوم السابع، الخارجية: نثق فى قدرة حكومة ليبيا الجديدة وحفاظها على وحدة البلاد، 10 فبراير/ شباط 2022
[10] مصراوي، شكري يغادر اجتماع وزراء الخارجية العرب بسبب وزيرة خارجية الدبيبة، 6 سبتمبر/ أيلول 2022
[11] وكالة الأنباء الليبية، وزير خارجية مصر ونظيره اليوناني يبحثان هاتفيا مستجدات الملف الليبي، 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2022
[12] الموقع الرسمي للأمم المتحدة، الأمم المتحدة تسعى للحصول على صورة أوضح بشأن ما يحدث من تطورات في ليبيا، 10 فبراير/ شباط 2022
[13] صحيفة الاستقلال، تقرير الحالة العربية: أغسطس/آب 2022، 4 سبتمبر/ أيلول 2022
[14] بوابة الوسط، العابد يشارك في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر العمل العربي بالقاهرة، 23 مايو/ أيار 2023
[15] المكتب الإعلامي لرئيس حكومة الوحدة الوطنية ، لقاء مع وفد مصري رفيع المستوى، 18 مايو/ أيار 2023
[16] الوطن، عبد الله: المشكلة التي كانت تعيق تواصل مصر مع الدبيبة علاقته بتركيا، 30 يونيو/ حزيران 2023
[17] العربي الجديد، سيناريوهات مصرية لإعلان استئناف العلاقات رسمياً مع حكومة الدبيبة، 29يونيو/ حزيران 2023
[18] العربي الجديد، مصر تدعم صالح للمجلس الرئاسي ومعيتيق للحكومة في ليبيا، 5 فبراير/ شباط 2021
[19] الأناضول، ماذا بعد “سحب” البرلمان الليبي الثقة من باشاغا؟، 25 مايو/ أيار 2023
[20] العربي الجديد، مصر: الأزمة الاقتصادية قد تدفع الحكومة نحو خفض جديد للجنيه، 18 يوليو/ تموز 2023
[21] رصيف 22، أخيراً… مصر وتركيا “حبايب” في ليبيا!، 26 يونيو/ حزيران 2023
[22] سبوتنيك عربي، زيارة الدبيبة للإمارات… ما الأهداف والفائدة التي تحققها حكومة ليبيا؟، 16 فبراير/ شباط 2023
[23] صحيفة الاستقلال، التقارب بين تركيا والإمارات.. كيف يؤثر على أزمتي سوريا وليبيا؟، تاريخ الوصول: 17 يوليو/ تموز 2023
[24] الوطن، عبد الله: المشكلة التي كانت تعيق تواصل مصر مع الدبيبة علاقته بتركيا، 30 يونيو/ حزيران 2023