موقف الرئيس “مرسي” من تطبيق الشريعة
بين الإجحاف والإنصاف
محتوى الورقة:
ـ طبيعة رسالة سيدنا محمد ﷺ: |
ـ الادعاء بأن الرئيس مرسي تخلى عن تطبيق الشريعة الإسلامية |
ـ الرئيس مرسي صاحبُ مشروعٍ إصلاحيٍّ يرتكز على الإسلام |
ـ هل كان باستطاعة الرئيس مرسي أن يطبقَ الشريعة، ويمنعَ كلَّ ما يخالفها؟ |
ـ ارتباط التكليف والجزاء في الشرع بالاستطاعة. |
ـ تطبيق الشريعة في واقع بلدانِنا يحتاج إلى إعداداتٍ وجهودٍ عظيمة . |
ـ مراعاة الواقع واعتبارَ المآلات أمرٌ مطلوبٌ شرعا. |
ـ هل كان على الرئيس مرسي أن يترك الحكمَ؛ ما دام لم يستطع تطبيق الشرع؟ |
طبيعة رسالة سيدنا محمد ﷺ:
لم تكن رسالةُ سيدنا محمد مجردَ رسالة رُوحيةٍ مقصورةٍ على ما يُنظِّم علاقةَ الإنسان بربه فقط؛ بل كانت رسالةً ذات شريعةٍ رَحبةٍ، تشتمل على ما ينظم علاقة الإنسانَ بربه، وعلاقتَه بأخيه الإنسان، وعلاقتَه بالكون كلِّه، كما أنها تضمّنت جميعَ ما يُنَظِّم شئونَ الإنسان، وأمورَه المَعاشيّةَ والمَعاديّةَ على السواء.
وقد أمر الله المسلمين أن يتّبعوا شريعةَ الإسلام ويتحاكموا إليها في جميع شؤونهم.
قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [سورة الجاثية: 18].
وقال سبحانه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة النساء: 65].
والمسلمون جميعا لا يَسَعُهم إلا المسارعةُ في الاستجابة والتنفيذِ لهذا التكليف الإلهيّ {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة النور: 51].
وهناك غير هذا من النصوص القرآنية والنبوية الكثيرة، الداعية في صراحة إلى وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في كافة نواحي الحياة، من سياسية واقتصادية واجتماعية، وحربية وقضائية ونحوها، ولا يتسع المقام لسردها.
ولقد أقام الرسول ﷺ منذ أن هاجر إلى المدينة المُنوَّرة أولَ دولة تَحْكُمها شريعةُ الإسلام، وتُطبَّقُ فيها نُظُمُه ومبادئُه في كافة شئون الناس، ثم سار على هذا النهج خلفاؤه الراشدون، ثم المسلمون بعدهم قرونا من الزمن، يستظلون بِلِواء الشريعة الإسلامية، ويتحاكمون إلى نُظمِها، فسعدوا وعزُّوا وسادوا، وأقاموا حضارة زاهرة كانت ملءَ سمعِ الدنيا وبصرِها، واستحقوا قبل هذا وبعده رضا الله تعالى ورحمتَه.
الادعاء بأن الرئيس مرسي تخلى عن تطبيق الشريعة الإسلامية
منذ انقلاب الخائن “السيسي” على الرئيس الشرعي “محمد مرسي”- يرحمه الله- وجدتُ بعض الناس يسلقون الرجل بألسنةٍ حِداد، بل منهم مَن ذهب إلى تكفيره؛ بحجة أنه تخلى عن تطبيق الشريعة الإسلامية!!
والعجيب أنّ الذين قاموا بزرع هذا الفكر وتغذيتِه. وهم أدعياء السلفية ومَن يدور في فلكهم، لم يكونوا يقولون بهذا مع “حسني مبارك”، أو “القذافي”، أو “ابنْ عَلي”، أو “السيسي”، ومَن على شاكلتهم، مع أنهم كلَّهم علمانيون محادّون لله ورسوله !! بل ذهب أدعياء السلفية إلى أبعد من هذا؛ وهو التأكيد باستمرار على أن أولئك الحكامَ العلمانيين المستبدين هم “ولاة الأمر” الذين يجب السمعُ لهم والطاعة، وإن جلدوا الظهورَ، وانتهبوا الأموال، وتسلطوا على خلق الله بالقهر والإذلال!!
ولا أنكِر أنّ بعض أولئك المنتقدين للرئيس مرسي في أمر تطبيق الشريعة لديهم غيرة صادقة على الدِّين، وإخلاصٌ في حرصهم على أن يسود شرع الله ويحكم.
لكن حسن النوايا “الإخلاص” مِن غير علم وفهم لا ينفع، بل ربما أدى إلى عواقب وخيمة، كما كان حال الخوارجِ قديما، ومَن سار على دربهم حديثا.
الرئيس مرسي صاحبُ مشروعٍ إصلاحيٍّ يرتكز على الإسلام
إنه مما لا خلاف عليه أن الرئيس محمد مرسي-يرحمه الله- ليس علمانيًّا، بل أعلن أنه يحمل مشروعا إصلاحيا يرتكز على الإسلام، ويستمد تصوره ومضمونه من شريعته الغراء، وليس خافيًا على أحدٍ أنه مارس السياسة عقودًا من الزمن، وَفق برنامج كان عنوانه وشعاره “الإسلام هو الحل”، وابتُلِي بسبب هذا في عصر “مبارك”، بالإضافة إلى أنه كان في شخصه وأهله ملتزما بأحكام الإسلام، حافظا متقِنا لكتاب الله، ذا غيرة على دينه، وعلى حرمات الله، حريصا على أن تكون الكلمة العليا لشريعة الإسلام، وعلى مناصرة قضايا المسلمين في شتى المحافل وجميع المناسبات، بل إنه لولا هذا التوجّه الإسلاميّ من الرئيس مرسي ما وقع التآمر والانقلاب الأثيم عليه.
ولنا أن نسأل:
هل الرئيس مرسي لم يكن يؤمن بوجوب تطبيق الشريعة الإسلامية؟
وهل لم تكن لديه نية في أن يكون التشريع والقانون منطلِقا من الشريعة الإسلامية؟
أما السؤال الأول فالإجابة هي النفي- قطعا-، والشواهد أظهر من أن تخفى.
وأما الثاني فالرجل قَدّم برنامجَه الإصلاحيَّ، وحرَص على أن يكون دستور البلاد منسجما مع الشريعة الإسلامية، وهذا ما أهاج عليه العلمانيين والشيوعيين وفسقة المسلمين.
إذاً ليس مِن شكٍّ في أن الرجل كان يؤمِن بتطبيق الشريعة الإسلامية، ويسعى لتحقيق هذا الأمر.
هل كان باستطاعة الرئيس مرسي أن يطبقَ الشريعة، ويمنعَ كلَّ ما يخالفها؟
ثم إن هنالك سؤالا في غاية الأهمية، وهو:
هل كان الرئيس مرسي قادرا على فرض تطبيق الشريعة، ومنعِ كلِّ ما يخالفها من القوانين والأعمال، ولديه الأدوات التي تمكِّنه من ذلك؛ ثم امتنع عن التطبيق؟
الواقع أن الرجل لم يكن لديه القدرة على هذا، بل حيل بينه وبين أن يفعل شيئا في هذا الشأن، بكل الطرق.
إن الرجل قد جاء إلى الرئاسة ووجَد واقعا اجتماعيًّا ودستوريًّا وقانونيًّا وفكريًّا متجذِّرًا منذ عقود في نفوس الناس ومؤسسات الدولة، لا يمكنه تجاوزُه بسهولة، ويحتاج إلى صبر، ومعالجة حكيمة قد تطول.
ولا يخفى على أحد أن العسكر قاموا بالتواطؤ مع القضاء الذي تأكد تحيزُه ضد ثورة 25 يناير بحل مجلس الشعب المنتخَب قبل أن يمارس الرئيس مرسي رئاستَه، وتَسَلمَ الرجلُ الرئاسةَ بدون برلمان، وكان كلما أصدر قانونًا أو إعلانًا دستوريًّا يتم إشعالُ الأرضِ نارًا وإفسادًا، وتسييرُ مليونيات تلو الأخرى، وتدبيرُ مؤامراتٍ لا تتوقف ولا تهدأ، مع وجود سلطةٍ تنفيذيةٍ وشرطةٍ سيئة تقاعست وتوقفت عن عملها في تنفيذ الأحكام، وإعمالِ القانون، وسلطةٍ قضائيةٍ غير محايدةٍ تتربص به، وتُلغِي ما يصْدره من قوانين، وعسكرٍ متآمرين، ولاء الكثير منهم لأعداء الله والوطن، دينُهم هو دنياهم ومكاسبُهم ومشروعاتُهم الاقتصاديةُ التي تصب في جيوب وبطون ثلةٍ فاسدة، بالإضافة إلى إعلامٍ منحطٍّ متآمرٍ فاجرٍ، يحاد اللهَ ورسوله والمؤمنين.
كل هذا والرجل مثابر صامد، إلى أن تم الانقلاب عليه قبل أن يتمكن من فعل شيء.
فهل يُلام شرعا والحال كان كذلك؛ من وجود الموانع والعوائق الجبارة العاتية، وانعدامِ أسباب القدرة والتمكين ؟؟
ارتباط التكليف والجزاء في الشرع بالاستطاعة
إنّه من المعلوم في الشرع الحنيف أنّ التكليف والجزاء مرتبطان بالاستطاعة.
قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة: 286].
وقال سبحانه: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سورة التغابن: 16].
وفي هذا- أيضا- إخبار عن عدل الله تبارك وتعالى؛ حيث لا يُلزِم- سبحانه- أحدًا بما هو فوق طاقته.
ولذلك كان التكليف في الإسلام دائما بما يُطاق.
وقد اتفق الفقهاء والأصوليون على أنه لا تكليف مع العجز.
قال القرافيّ في فروقه: «واعلم أنه يشترط في خطاب التكليفِ عِلْمُ المكلَّفِ، وقدرتُه على ذلك الفعل»[1] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فافعلوا منه ما استطعتم»[2] .
وعن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: «مَن رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» [3].
وإذا كان الشخص لا يُكلَّف إلا بما يستطيع، ولا يؤاخَذ بما يعجِز عنه في الأمور الفردية أو الشخصية؛ فكيف بالأمور المتعلقة بالأحكام السلطانية والسياسة الشرعية، وأمورِ الأمة والدولة، التي تتشابك، بل تتعارض فيها المصالح مع المفاسد، وتخضع لمؤثِّراتٍ وتحدياتٍ محليةٍ وإقليميةٍ ودوليةٍ لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها ؟؟!!!
وما أحكمَ ما قاله ابنُ تيمية: «فمَن وَلِيَ ولايةً يَقصد بها طاعةَ اللهِ، وإقامةَ ما يُمْكنه مِن دينه ومصالحِ المسلمين، وأقام فيها ما يُمْكنه مِن الواجبات، واجتنابِ ما يُمكنه مِن المحرّمات: لم يؤاخَذ بما يَعْجِز عنه؛ فإنّ تولية الأبرار خيرٌ للأمة مِن تولية الفُجّار»[4].
وتأمل تكرارَ كلمةِ «يمكنه» خلالَ هذا النص القصير !!
وعلى هذا فمَن كان في مثل وضع الرئيس مرسي لا يؤاخَذ بما لم يفعله بسبب عدم الاستطاعة، وقد رأينا أن أجهزة الدولة كلَّها كانت تعمل ضدَّه سرًّا وجهرًا، فكيف يلامُ على ما لم يكن في استطاعته؟!
والذي نُشهِد الله عليه أن الرئيس مرسي قد عمل على تطبيق شرع الله في خاصة نفسه وأهله، ثم حاول بقدر استطاعته العمل على تطبيق ما يمكنه من شرعِ الله في الدولة، وإعلاءِ كلمة الله في جميع الميادين والمحافل، ونصرةِ قضايا الإسلام والمسلمين، بحسب ما كان لديه من إمكانات.
تطبيق الشريعة في واقع بلدانِنا يحتاج إلى إعداداتٍ وجهودٍ عظيمة
إذا تحاورْتَ مع بعض الذين يلومون الرئيس مرسي بسبب أنه لم يطبّق الشريعة؛ وجدتَ- مع الأسف- تسطيحا للأمور، وعاطفة مجرَّدة من العلم والفقه، وتصورا ساذجا لموضوع تطبيق الشريعة.
إن بلدا مثل مصر يُزاح الدين منه وتتسلل العلمانية إليه منذ قرابة قرنين من الزمان، لا شك أنه قد ترسّخ فيه واقع فكريٌّ واجتماعيٌّ وقانونيٌّ وسياسيٌّ ابتعد كثيرا عن أحكام الشرع الحنيف، وهذا واقع لا يُنكَر.
فهل كان المطلوب من الرئيس مرسي أن يضغط على زِرٍّ فيزيلَ ذلك الواقع الضخم المغايرَ للشريعة، ويقيمَ على أنقاضه، بنفس الضغطة، أو بأخرى، واقعًا جديدًا منسجمًا انسجامًا تامًّا كاملًا مع الشريعة؟؟
أليس تطبيق الشريعة في ظل هذا الواقع يحتاج إلى جهودٍ كثيرةٍ قانونيةٍ ولجانٍ عديدة، وخبراتٍ متخصصةٍ متنوعة في شتى المجالات كي تُعدَّل القوانين، وتعالَج الآثار، وتُغيَّر المنظومةُ التشريعيةُ والقضائيةُ والتنفيذيةُ والإعلاميةُ والتربويةُ والتعليمية، وغيرُها؟؟
وقد رأينا- على سبيل المثال- أن العسكر المتآمرين قد قاموا بحل مجلس الشعب قبيل تولِّي الرئيس مرسي مهامَّ الرئاسة !!
خذ مثلا قطاع البنوك وباقي المنظومة الاقتصادية، وما تحتاجه لتعديل القوانين وإصلاحِ النظمِ المعمولِ بها، وعلاجِ الآثار المترتبةِ على هذا داخليًّا وخارجيًّا ..إلخ، كم يحتاج هذا من الجهود والترتيب والإعداد؟؟
مراعاة الواقع واعتبارَ المآلات أمرٌ مطلوبٌ شرعا
إن مراعاة الواقع واعتبارَ المآلات في الإصلاح لا يمكن إغفالُه إلا مِن جَهولٍ ساذج، ومتهوِّرٍ أحمق.
وإن لنا في رسول الله ﷺ الأسوةَ الحسنةَ، في عدم تجاهل الواقع، والنظرِ بعمقٍ إلى عواقب التغيير؛ إلامَ ستؤول.
عن عبد الله بن الزبير، قال: حدثتني خالتي ـ يعني عائشةَ ـ قالت: قال رسول الله ﷺ: «يا عائشة، لولا أنّ قومَك حديثو عهدٍ بشرك، لهدمْتُ الكعبة، فألزقتُها بالأرض، وجعلتُ لها بابين: بابًا شرقيًّا، وبابًا غربيًّا، وزدتُ فيها ستةَ أذرعٍ من الحِجْر، فإنّ قريشًا اقتصرتها حيث بَنَت الكعبة»[5] .
وهذا عمر بن عبد العزيز الذي كان على رأس السلطة حاكمًا ممكَّنًا، ولم يستطع أن يحمل الناس على تطبيقِ كاملِ الشريعة، ونظر إلى المآلات، وراعى الحال التي يعيش فيها، وواقعَ الشعبِ الذي يحكمه، مع أن الجميع كانوا قريبي عهدٍ بالنبوة، بل كانوا يعيشون في القرون الفاضلة.
قال عبدُ الملك بنُ عمر بنِ عبد العزيز لأبيه عمر: يا أميرَ المؤمنين ما يمنعك أن تُنْفِذ لرأيك في هذا الأمر ـ [يعني إحقاقَ الحق وإبطالَ الباطل]، فو الله ما كنتُ أبالي أن تَغْليَ بي وبك القُدُور في إنفاذ هذا الأمر.
فقال عمر: «إني أَرُوضُ الناسَ [يعني أطوِّعهم وأعوّدهم] رياضةَ الصعب، فإنْ أبقاني اللهُ مضَيتُ لرأيي، وإن عُجِّلتْ عليّ مَنيةٌ فقد علم الله نيتي.
إني أخاف إن بادَهْتُ [يعني فاجأْتُ] الناسَ بالتي تقول، أنْ يلجئوني إلى السيف، ولا خيرَ في خيرٍ لا يجيء إلا بالسيف»[6] .
وفي رواية ابن عساكر أنّ عبد الملك دخل على أبيه عمر بن عبد العزيز، فقال: يا أمير المؤمنين:
ماذا تقول لربك إذا أتيتَه وقد تركتَ حقًّا لم تُحْيِه، وباطلا لم تُمِتْه؟!
قال: اُقعُد يا بُنَيّ، إنّ آباءك وأجدادك خَدَعوا الناس عن الحق، فانتهت الأمور إليّ وقد أقبلَ شرُّها، وأدبر خيرُها.
ولكن أليس حسبي جميلًا ألا تطلعَ الشمسُ عليّ في يوٍم إلا أَحييتُ فيه حقًّا، وأمتُّ فيه باطلا، حتى يأتيَني الموتُ وأنا على ذلك؟[7] .
أي أنه يرى أنْ يعتمد على التدرّج والصبرِ في التغيير والإصلاحِ، وتطبيقِ الشرعِ الحنيف.
هل كان على الرئيس مرسي أن يترك الحكمَ؛ ما دام لم يستطع تطبيق الشرع؟
قال لي بعضهم: إذا كان مرسي لا يستطيع تطبيق الشريعة فكان عليه أن يترك الحكم. وبالمناسبة سمعتُ هذا القول أيضا في حق الرئيس “أردوغان”!!
قلت: سبحان ربي !!
إن هذا كلام لا يستقيم عقلا ولا شرعا.
تطلبون تنحيةَ حاكمٍ مسلم، وهو مُقْسطٌ يغار على دين الله، ويُلزِم نفسَه وخاصتَه بشرع الله، ويحمل برنامجًا إصلاحيًّا مرجعيتُه ومنطلقُه الشرعُ الحنيف، ويحرص ما وسعه الجهد على إعلاء كلمة الله !!
ولمن كان يتركها؟؟!!
أيتركها للعلمانيين، والفسَدة، الذين أحالوا نهار بلادنا إلى ظلام دامس دهرًا من الزمن، وعملوا جاهدين على طمس أيِّ مَعْلمٍ من معالم الدِّين فيها، وجعلوها ذيلا تابعا للغرب، ومطيةً ذَلولا في خدمة أعداء الله والأوطان !!
لقد أسلم “أصحمة” النجاشيّ- رضي الله عنه- وكان يتربع على هرم السلطة ملِكا حاكما في الحبشة، ومع هذا لم يتمكن من إقامة شرع الله في مملكته، بل لم يكن يستطيع أن يجاهر بالالتزام بدينه، وقد ثار عليه أهل الحبشة يومًا؛ لأنه ترك عقيدتَهم الضالة في المسيح، وخالَف إيمانهم بأنه إله أو ابن إله ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وما تخلّص منهم إلا بحيلة، كما روت ذلك كتب السيرة[8] ـ
فهل طلب منه الرسول ﷺ أن يترك المُلْك ويعتزلَ الحكم؛ لأنه لم يتمكن من تطبيق شرع الله في بلده؟؟
كلا؛ لم يطلب منه هذا، وأقره النبي ﷺ ولم ينكر عليه عدمَ قدرتِه على تطبيق شرع الله.
وبقي النجاشيّ -رضوان الله عليه- في الحكم يُصلِح بقدر ما يستطيع، حتى توفاه الله في السنة التاسعة بعد الهجرة.
وقد أخبر النبيُّ ﷺ المسلمين بوفاته، ونعاه لأصـحابه نعيا رقيقا وَدُودًا مُؤثِّرا، فقال ﷺ: «إنّ أخًا لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه، ـ وفي رواية ـ فاستغفروا له»[9].
والحمد لله أولا وآخرا.
*****
هوامش
[1] الفروق (أنوار البروق في أنواء الفروق)، شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (ت 684هـ)، 1/161، عالم الكتب، (بدون طبعة وبدون تاريخ).
[2] أخرجه البخاريّ (7288)، ومسلم (1337) ـ وهذا لفظ مسلم ـ.
[3] أخرجه مسلم (49)، والنسائي (5008)، وأحمد (11460).
[4] مجموع الفتاوى، أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني (ت 728هـ)، 28/396، تحقيق عبد الرحمن بن محمد بن قاسم، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف – السعودية، 1416هـ 1995م.
[5] أخرجه مسلم (1333)، وأحمد (25463).
[6] رواه أبو نعيمٍ أحمدُ بنُ عبدِ الله بنِ أحمدَ الأصبهاني (ت 430هـ) في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 5/218، السعادة – القاهرة 1394هـ 1974م، وابن عساكر عليُّ بنُ الحسن بنِ هبة الله (ت571هـ) في تاريخ دمشق 37/45 – 47، دار الفكر، 1415هـ 1995م.
[7] تاريخ دمشق 37/45.
[8] قال ابن إسحاق: وحدثني جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: اجتمعتِ الحبشة فقالوا للنجاشي: إنك قد فارقْتَ ديننا، وخرجوا عليه. فأرسل إلى جعفر وأصحابه، فهيأ لهم سُفُنا، وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم، فإن هُزِمْتُ فامضوا فالحقوا حيث شئتم، وإن ظفِرتُ فاثبتوا. ثم عمَد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبدُه ورسوله، ويشهد أن عيسى ابنَ مريم عبدُه ورسوله، ورُوحُه وكلمتُه ألقاها إلى مريم، ثم جعله في قَبائه عند المنكب الأيمن، وخرج إلى الحبشة وصفُّوا له، فقال: يا معشر الحبشة، ألستُ أحقَّ الناس بكم؟ قالوا: بلى، قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة، قال: فما بالكم؟ قالوا: فـارقْتَ دينَنَا، وزعمْتَ أن عيسى عبدٌ، قال: فمـا تقولون أنتم في عيسى؟ قالوا: نقول هو ابن الله، فقـال النجاشيُّ – ووضع يده على صـدره على قَبائه ـ: هو يشـهد أن عيسى ابنَ مريم لم يزد على هذا شيئـا، وإنما يعني ما كتَبَ، فرضـوا وانصرفوا عنه. السيرة النبوية لابن هشام، عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعافري، (ت 213هـ) 1/340 ـ 341، تحقيق مصطفى السقا وآخرَيْ، مطبعة الحلبي بمصر، ط الثانية 1375هـ 1955م.
[9] صلاة النبيِّ ﷺ على النجاشيِّ -رضي الله عنه- واستغفاره له ثابتة بروايات صحيحة عند البخاري (1245) و (3877)، ومسلم (952)، وغيرهما من كتب السنن والمسانيد.