مراجعة كتاب: نحو عمران جديد
للدكتورة هبة رؤوف عزت
عرض : عمر عابدين
مقدمة تعريفية عن الكتاب:
يأتي هذا الكتاب ضمن: سلسلة الفقه الإستراتيجي، التي تهدف إلى تقديم أطروحات تسعى لرأب الصدع بين الأساس المعرفي الإسلامي، والوعي الحضاري المعاصر بمنجزاته النظرية. والطبعة الأولى للكتاب كانت في بيروت عام 2015، وتقع في 254 صفحة، من منشورات: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
يحتوي الكتاب على مناهج وتحديات مفاهيمية وفكرية. يهدف الكتاب إلى دفع المجتمعات المحافظة والإسلامية إلى التفكير بطريقة مختلفة في منطلقات ومفاهيم العلوم الاجتماعية الإنسانية ودور الفرد في المجتمعات. كما تحاول الكاتبة دعوة الأفراد لفهم المجتمعات، وفهم العلاقة بين المجتمعات والواقع، من خلال الانفتاح على تلك المجتمعات. بمعنى آخر، تهدف الكاتبة إلى التوعية بالتكيف مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الجديدة في الوقت الحاضر، وفي نفس الوقت عدم فقدان التقاليد الإسلامية التي يمكن أن تحل العديد من كوارث المجتمعات الحضرية والريفية. ويدعو الكتاب المجتمعات الإسلامية إلى ترك نمط التفكير النموذجي والتقليدي الذي كانوا يفكرون به في القرن العشرين والألفية الجديدة؛ لذلك يمكن النظر إلى هذا الطرح بوصفه نهجًا لإعادة فتح مفاهيم المجتمع البشري وإعادة قراءتها و بنائها؛ حتى تتمكن الأجيال الجديدة من التفكير بطريقة مختلفة، بعيدة عن ما أفرزته الحداثة من أنماط وطرق تفكير.
في مقدمة الكتاب، زعمت الكاتبة أن المجتمعات الإسلامية يجب أن تتفاعل وتتواصل مع الأفكار العلمانية والغربية؛ ولكن مع عدم الوقوع في فخ تبني هذه الأفكار، لكونها مستوردة من الإرث الاستعماري في القرن العشرين. إن الكاتبة تنتقد بوضوح المفاهيم التي تم نشرها مع السياق الحداثي، مثل المجتمعات الرأسمالية التي يتم فيها استغلال المجتمعات الحضرية ومعاملتها بطريقة غير بشرية من قبل السلطة السياسية. في الواقع، يعمل الكتاب في الغالب على جانب مفاهيمي لإظهار أنه يجب إعادة صياغة المفاهيم والأفكار الحالية للحصول على مجتمعات حضرية جديدة أفضل، لتحقيق التوازن بين عاملين؛ هذان العاملان اللذان يجب موازنتهما هما: 1-احترام الإنسان وعدم استخدامه كآلة مستغلة 2-التحضر. الكتاب في تحدٍ مع الجوانب التاريخية والحضارية للعديد من الأفكار التي استخدمت لفترة طويلة. على سبيل المثال، عملت الكاتبة في كتابها على إعادة التفكير في العديد من المفاهيم مثل: الغريزة، والدولة، والاكتظاظ السكاني وآثاره على المجتمعات، ودور الأفراد والمجتمعات، والمجتمعات غير المتساوية والمادية، والأمة، والقومية، والعلمانية، والمساواة وغيرها. وقد شددت الكاتبة على الجانب الفلسفي إلى جانب البُعد المفاهيمي، وهو أن هناك حاجة للعودة الفكرية والفلسفية إلى جذور تلك المفاهيم وأصل نشأتها، وليس فقط التعامل مع حاضرها وآنيتها. وزعمت أن عدم العودة إلى الجذور هو أحد أهم أسباب وجود مجتمع غير متكافئ وانتشار أشكال معقدة من أشكال عدم المساواة في توزيع فرص الثروة بين الأغنياء والفقراء في المجتمعات الحضرية، وخاصة في تلك الأماكن النامية والصاعدة. من الواضح- وفقًا للمؤلَّف- أن هذا العمل هو محاولة ليس فقط لانتقاد الفهم العلماني للمفاهيم في الحياة الاجتماعية الحضرية؛ ولكن أيضًا لإعادة التفكير وإعادة بناء هذه المفاهيم بطريقة تجعل الإنسان يمتلك فرصًا أفضل لإصلاح ما لديه مما تضرر خلال القرنين الماضيين.
الادعاء الرئيس للكتاب:
عندما نصل إلى الادعاء الرئيسي للكتاب، فإنه يدور حول فكرة أن الإنسان الفكري يجب أن يكون لديه عقلية النقد للوصول إلى أهدافه. يجب أن يعود البشر بشكل عام ، وبخاصة حاملو الأفكار الإسلامية، إلى الجذور الإسلامية والفلسفية للمفاهيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، حتى يتمكنوا من التعامل مع القضايا الحالية، وتفكيك وإعادة التفكير في تلك المفاهيم. إن كونك متلقيًا فقط للتعاليم الغربية والأفكار التي ظهرت مع ظهور الحداثة أمر غير صحي للمجتمعات، لأنَّ ذلك يجعل المجتمعات خاضعة للسلطة، مما قد يؤدي إلى فقدان السيادة. يمكن أن نفهم أن الادعاء الرئيس يفترض أن إعادة التفكير والنقد هو السبيل لخلاص الناس في حالة التمدن، وأن هذه العقلية يمكن أن تجعل الناس ينتقلون إلى مرحلة جديدة من العمران.
الجزء الأول:
في الجزء الأول من الكتاب تبدأ الكاتبة بالمفهوم الأول وهو “الغريزة”. إن مفهوم الغريزة الذي يأتي إلي فهم أن الإنسان يخلف الله في الأرض بما يفعله، وبالتالي هو الدافع نحو بناء مدن ومناطق حضرية جديدة للعيش فيها، تقوم على التعاون والرحمة والتسامح، وهذا يعمل علي تغيير شكل الإنسان كله. تقول الكاتبة بأن طبيعة الناس ليست سيئة، وأن الناس لم يكن وجودهم وتفاعلاتهم لمحاربة بعضهم البعض، ولكن لديهم وجهات نظر مشتركة لتطوير الأطر السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات المختلفة في جميع أنحاء العالم. بالاضافة إلي ذلك ترى أن فكرة “ما بعد الإنسان” قد غيرت الطريقة التي تعامل بها الانسان مع المخلوقات والمكونات الأخري بسبب نشأة الآلات والهندسة الوراثية، والعديد من العوامل التي أدخلتها الثورات الصناعية والبيولوجية والثقافية على البشرية. ولذلك، فإن الغريزة، حسب المؤلَّف، تعني خير الناس والتفاعل بينهم وليس الاعتقاد في شرهم وشرنا، علي عكس ما أطَّر له الفلاسفة الغربيِّون وتم استقباله من قبل المجتمعات الشرقية، والذي جعلهم يعيشون في حالة من اللامساواة. إنَّ الفهم الصحيح للغريزة يمكن أن يؤدي إلى تزويد السلطة السياسية الحاكمة والرأي العام بآراء مختلفة تجاه الفئات الدنيا وغير المتميزة والمحرومة. وترى الكاتبة أن هذا الفهم الجديد لطبيعة الإنسان هو السبيل لتحقيق المساواة الكاملة في المجتمعات الحضرية وغير الحضرية أيضًا.
علاوة على ذلك ، فإن المفهوم الحيوي الثاني الذي ناقشته الكاتبه في الجزء الأول كان مفهوم “الأمة”. وترى الكاتبة أنه يجب ألا يُنظر إلى الأمة كمفهوم سياسي، بل كمفهوم اجتماعي وطبيعي وإنساني. يجب تقسيم مفهوم الأمة وفصله عن مفهوم القومية والقوم. تجادل الكاتبة بأن القومية هي في الأصل مفهوم غربي يخلق بعض الأفكار “الراديكالية” حول رؤية الآخرين، والتي تخلق خطوطًا بين الناس وتمنعهم من رؤية بعضهم البعض كأشخاص متساوين، ولكن هناك تفوقًا لكل أمة على الأخرى. عندما يوضع مفهوم الأمة في السياق السياسي، يختفي الجانب الإنساني، وتظهر القومية بكل مكوناتها وتجلياتها. علاوة على ذلك، أكدت الكاتبة مفهوما مهما آخر في الحقول الحضرية (العمرانية) وهو مفهوم “العمل والعمال”. ومن المركزي في الكتاب أن الكاتبة في تحدٍ مع وجهة نظر ما بعد الحداثة والصناعية حول مجالات العمل؛ فالمجتمعات الصناعية ترى العمال كآلات مادية تعمل من أجل تراكم الثروات والأموال وتحقيق أكبر ربح، وهذا ما يصبّ في خدمة أصحاب الموارد. وعلي العكس من ذلك، من منظور إسلامي، فإن العامل بهذه الطريقة يعمل من أجل اللا شيء واللا قيمة، ولكن يجب طرح فكرة العامل المثالي، للعمل من أجل رسالة وفكرة، وليس من أجل مادة فقط. بالإضافة إلى ذلك، تنتقد الكاتبة وجهة نظر ما بعد الحداثة تجاه التاريخ، وتري أنه على عكس وجهة نظر ما بعد الحداثة، فإن التاريخ ليس في حالة تطور وتقدم، ولكنها تتبني وجهة النظر السلبية؛ حيث إنها ترى أنّ التاريخ قد أُفسِد في كثير من مراحله، ويقع على عاتق الأمم إصلاح وحل المعضلات الخاطئة التي حدثت عبر التاريخ.
عند النظر إلي المفهوم الأخير لهذا الجزء، وهو مفهوم “الدولة”؛ تبنت الكاتبة فكرة أن هناك علاقة جدلية وغير مستقرة بين الوحشية والخير، أو الوحدة في الدولة الحديثة. ووصفت حالة الدولة الحديثة بأنها لعبة في الحلبة، حيث يريد جميع المتسابقين الفوز ببعضهم البعض، ووصفت هذه اللعبة على وجه التحديد بأنها لعبة الشر والوحشية. إلى جانب ذلك أشارت الكاتبة إلى أنه على الدول أن تترك النزاعات، وتعود إلى الطبيعة الطيبة والتعاون. ولم تنكر أن اختلاف الثقافات والعادات والقوانين والأخلاق قد يمنع الدول من الوصول إلى هذه المكانة المثالية، لكن من الممكن التركيز على السمات المشتركة، وتبني نظرات متقاربة خيِّرة تجاه الإنسان وتجاه الدول.
الجزء الثاني:
في الجزء الثاني من الكتاب، كان هناك نهج لإظهار العلاقة بين المجتمع والدولة. تقول الكاتبة: إنّ العلاقة غير المستقرة بين الدولة ومواطنيها هي أكبر مشكلة واجهتها الدولة في القرنين الماضيين؛ تاريخيًا قبل بدء عملية التحضر، كان هناك تكامل في مرات عديدة، وحتى بعد بدء عملية التحضر، كان هناك تكامل وتفاعل بين سكان الريف والحضر والبدو. ومع ذلك، فمع ظهور الفهم الحديث للدولة، كان دائما الطرح المهيمن هو أن الدولة على استعداد للسيطرة على كل شيء في المجتمع، وهذا ما أدي إلي الاختلال الاقتصادي والفجوة بين الطبقات التي بدأت في الظهور، وبدأ دور المجتمع “المشارك” في الانخفاض بسرعة. وأكدت المؤلفة أنه بالرغم من ضعف المجتمعات الأهلية (المجتمع المدني) فإنَّ وجودها ظهرت أهميته الأصيلة للغاية في عملية التفاوض بين الحكام والمحكومين لضمان الحقوق وتوازن حالة الأمن والحرية داخل المجتمعات. كان ذلك هو الهدف من دور المجتمع. ومع ذلك ، ماذا عن الدولة نفسها؟ من الممكن أنْ نفهم أنَّ الكاتبة من خلال كتاباتها لا تنتقد -فقط -الأدوات التي تعمل بها الدول الحديثة أو الوطنية أو الرأسمالية؛ ولكنها تريد إعادة صياغة مفهوم الدولة وإعادة بنائه، ولذلك هو من المشاريع الأساسية التي يقوم عليها الكتاب. حيث ترى أن الدولة المثالية هي الدولة التي تحافظ على الارتباط الجيد بين الدولة والمجتمع من جهة واحدة. وعلي جانب آخر، يجب على الدولة الجيدة أن تضمن مسار التنمية والاستقلال والمساواة الاجتماعية والأمن وحرية الدين لمواطنيها. الموضوع الأخير الذي نوقش في الجزء الثاني من الكتاب كان موضوع “السلطة” في المجتمعات العمرانية. باختصار، يقال إن السلطة ليست تنفيذ القوة على الشعب، ولكن السلطة هي الحصول على الشرعية من الناس للحكم بطريقة ووسائل متساوية.
الجزء الأخير:
في الجزء الأخير من الكتاب، أشارت الكاتبة إلي الطريقة التي يجب أن تفكر بها المناطق الحضرية الإسلامية. وتحاجج الكاتبة في فكرة أنَّ هناك حاجةً لتغيير خريطة العلوم الاجتماعية، حيث جعلت المؤلفة الفلسفة الغربية القديمة والتعاليم الاجتماعية الغربية موضع تساؤل. وذكرت أن الفلاسفة الغربيين يمكن أن ينجحوا في شرح كل ما يتعلق بواقع الحاضر، ولكن الكتابات الاجتماعية كانت غير قادرة على إظهار نزعة التنبؤ بأفعال المستقبل. في هذا الجزء الأخير من الكتاب، تنصح المفكرين المسلمين والجمهور بأن لا يأخذوا تلك العلوم كشيء مُسلم به، بل عليهم أنْ ينتقدوا تلك التعاليم، ويعيدوا صياغتها، وفقًا لما إذا كانت مناسبة للعصر الحالي أم لا.
ملاحظات:
أولاً ، جاء الأسلوب الذي اعتمدته المؤلفة وصفيًا تحليلياً، يهدف إلي تعزيز الفكر النقدي، عكس المركزية الأوروبية في التفكير في العلوم الإنسانية، حيث وصفت المؤلفة العديد من المفاهيم الاجتماعية والسياسية التي وُلدت من قلب الحداثة من منظور تجديدي غير تقليدي، وحاولت إعطاء فكرة كيف ينبغي ترك تلك الأفكار، أو تقويمها بما يناسب أحوال العمران البشري الإسلامي. ويجب إدخال مجتمعات متجانسة أفضل. ثانيًا ، على الرغم من كون الكتاب يحمل شقًّا أكاديميًّا في طبيعته، فإنه طريق للتحدي – في الغالب- لذي التوجه الإسلامي الشرقي، مما يجعل القارئ لا يدرك الصورة بأكملها، بل يمسك جانبًا، ولا يكون على دراية بالآخر. في عبارة أخري، افتقد الكتاب في جانب من جوانبه دراسة الظواهر الاجتماعية والمصطلحات المفاهيمية من ناحية “موضوعية”، بل اعتمدت الكاتبة على الذات والتمثلات الأيديولوجية الواضحة، وهو شأن مشروع أيضاً. ثالثًا، أعطت الكاتبة أهمية في إدخال أسلوب جديد مناسب للشباب، وفي سلاسة في مخاطبة العوام، مما يعمل علي إيقاظ المجتمعات، وخاصة المجتمعات الإسلامية، حول طريقة التفكير الخاطئة بخصوص هياكل عديدة ورثناها كما هي. ومنهجياً، جاء الكتاب تأويلياً إلي حد كبير، يفند ويفكك المعاني والنشاطات الإنسانية البينية في الحياة الاجتماعية، في حين غابت بعض الدلالات الوضعية الإحصائية التي كان من الممكن أن تعزز فهم من يقرأ الكتاب.
الخاتمة:
ختاماً، كان هذا الكتاب بحثًا ومشروعاً بهدف بناء الأجيال الجديدة بطريقة تجعلهم أكثر وعيًا بواقع مدن ما بعد الحداثة الحضرية، من حيث الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تحاول الكاتبة من خلال أجزاء الكتاب إيصال الرسالة إلى المجتمعات ذات التوجه الإسلامي لترك النظرة التقليدية (العلمانية) في تلقي المعرفة، وبناء معرفة جديدة داخل الحياة الحضرية، والبدء في جعل المفاهيم موضع تساؤل، والعودة إلى الجذور التي يمكن أن تكون مفيدة في هذا السياق. من الممكن قراءة الكتاب على أنه خطاب للإنسانية لإعادة خلق المزيد من الأفكار القابلة للتكيف والبقاء في مقابل ما هو قائم بالفعل. لقد أعطت الكاتبة تفسيرات جديدة لبعض المفاهيم، مثل: الدولة، والأمة، والمجتمع، والاكتظاظ السكاني، وغيرها. تهدف المؤلفة من خلال تلك التفسيرات الجديدة إلى تحدى الأفكار الرأسمالية الليبرالية ذات التوجه الغربي، ووضع سياق جديد أكثر ملاءمة، قادر على استبدال تلك المفاهيم الديالكتيكية، للحصول على بيئة حضرية أفضل، تعطي فرصًا متساوية للجميع. بعبارة أخرى، يمكن اعتبار هذا الكتاب مشروع تحول وانتقال داخل سياق اجتماعي واسع. أخيرًا وليس آخرًا، يمكن أن يكون الكتاب بداية فترة جديدة من التفكير والتحليل المختلفين لرفع حجات حول العلم الاجتماعي بما يتضمنه من إطار مفاهيمي، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا أيضًا. في النهاية، ربما تكون قراءة الكتاب بداية قطيعة مع إرث معرفي بدأ منذ قرنين من الزمن، على حين يكون التاريخ الجديد بداية عصر كتابة التاريخ من منظور حضاري، ولغة إنسانية جديدة.